فأما موضع الاشتراك والتساوي بين المؤمن والكافر فهو:
- ما جعله الله فيهما من القدرة والإرادة المخلوقتين التي يمكن العبد بهما أن يختار ما يشاء من الخير أو الشر.
- وما هدى الله به المؤمن والكافر من الدلالة والإرشاد العام إلى تمييز الخير من الشر، والطاعة من المعصية، والهدى من الضلال.
وهذا الهدى والإرشاد العام حاصل بالحجة الرسالية التي يترتب على التكذيب بها العقاب، وهناك حجج أخرى لا تستقل عن الحجة الرسالية بترتب العقاب عليها بمجردها رغم ظهور الحجة بها، وهي حجة الفطرة، وحجة العقل، وحجة الآيات الكونية.
فجميع ذلك مشترك بين المؤمن والكافر عموما، وإذا لم يحصل للكافر ذلك فإنه لا يعاقب ولا يعذب وإنما يكون من أهل الفترة، وقد سبق الكلام فيهم هنا وفي غير هذا الموضوع كثيرا.
وموضع الاشتراك والتساوي هذا هو من مقتضى عدل الله تعالى في خلقه، فإن من عصاه وكفر به لم يفعل ذلك مكرها بغير إرادة منه ولا اختيار، وإنما فعله بإرادته واختياره، وهذا أمر يسلم به الزميل هنا، فيلزمه الإقرار بعدل الله في خلقه الكفار على هذه الصورة التي لا ظلم فيها لهم بعد أن مكنهم مما مكنهم فيه من قدرة وإرادة تامتين يترتب عليهما أفعالهم التي هي باختيارهم وإقدار الله لهم على ذلك.
وبثبوت هذا القدر المشترك بين المؤمن والكافر لا يكون هناك مجال لنفي عدل الله تعالى في خلقه هذين النوعين.
وأما موضع الافتراق والاختلاف:
فهو أن الله عز وجل خصَّ بمقتضى فضله وحكمته من شاء من عباده بقدر زائد على ما هو مشترك بينهم بمقتضى العدل، وهذا القدر الزائد هو فضل الله تعالى، والفضل زيادة على العدل، وليس هو ضدا للعدل ولا نقيضا له حتى يكون ظلما، فإذا تفضل الله على بعض عباده بالتوفيق لطاعته كان ذلك من الله كرم وجود، لا حقا أوجبه عليه أحد من خلقه، فإنه لا يوجب أحد على الله شيئا، وإنما يوجب الله على نفسه ما يشاء تكرما منه وفضلا.
فمجرد تفضل الله تعالى على من شاء من خلقه لا يترتب عليه ظلم، إذ ما يكون فيه التفضل غير ما يكون فيه العدل والتساوي، وقد ثبت أن موضع الاشتراك والتساوي واقع فيه العدل على كماله، فأما ما هو موضع الفضل فلا يتطرق إليه ظلم البتة.
فإذا علم أن مجرد تفضل الله على من شاء من عباده لا ظلم فيه، فنقول إنَّ هناك أمرا أعظم من ذلك، وهو أن فضل الله تعالى على من شاء من عباده هو من مقتضى حكمته وعلمه وقدرته ومشيئته، فظهرت هنا للناظر كمالات عظيمة في تفضل الله على من يشاء من عباده، فكيف يقال بعد ذلك إن تفضل الله على المؤمنين ظلم للكافرين؟!
ومتى كان ما هو فضل من الله حقا لعبد من عباده استحقه العبد لذاته وصفته دون ابتداء فضل من الله عليه؟! وإنما جميع ذلك فضل من الله ابتداء وانتهاء، وكل ما بالعبد من أسباب تجعله محلا لفضل الله تعالى فهو من فضل الله عليه أولا. فهذا في العبد الذي فضله الله كرما منه وجودا، لا يكون مستحقا على الله فضلا لم يتكرم الله به عليه، فكيف يُعترض بعبد آخر لم ينل فضلا أصلا مستحقا له أو غير مستحق حتى يقال أنه مستحق للفضل لذاته ولمجرد وجوده؟! فإذا كان المؤمن لا يستحق لذاته على الله فضلا من غير تكرم الله به عليه، فمن باب أولى أن لا يكون غير المؤمن مستحقا لذلك الفضل على هذه الصفة.
وما ذكرناه هنا هو موضوع مسألة (هداية التوفيق) وضدها (خذلان الله للكافر والعاصي)، والمقصود بها أن الله:
- يوفق من شاء من عباده للإيمان والطاعة فضلا منه ورحمة.
- ويخذل من شاء خذلانه من أهل الكفر والمعصية فيواقعون الكفر والمعصية بمقتضى أنفسهم الأمارة بالسوء المعارضة للشرع المخالفة لأمر الله ونهيه الشرعي.
ووقوع ذلك منهم هو باختيارهم وإرادتهم وقدرتهم رغم وجود دواعي الإيمان والهدى وقيام الحجة الرسالية عليهم، فأعرضوا عن دواعي الهدى إلى دواعي الردى والكفر والعصيان واتبعوا أهوائهم وفعلوا ما نهاهم الله عنه.
ولا تخلو هذه المسألة كلها من سر عظيم من أسرار ربوبية الله تعالى وحكمته:
فإن في تخصيص كل جنس بما هو محل له من الأفعال والأحوال حكمة لا يحيط بها غير العليم الحكيم، وقد كفانا ما علمناه من آيات حكمة الله تعالى في خلقه وشرعه دليلا وبرهانا على حكمة الله تعالى فيما لم تطقه عقولنا، ولم تبلغه مداركنا، وحكمة الله ثابتة لا تنكر، وأما تفصيل حكمة الله في كل شيء فلا يدعي أحد الإحاطة به، ومن ادعى ذلك كفر، لأنه دعوى للغيب والإحاطة به، وهذا مما يختص به من وسع علمه وحكمته كل شيء، فلا إله إلا الله، ولا حول لنا ولا قوة إلا بالله تعالى.
فإن قال قائل: إنك بذلك تلغي عقولنا، وتأمرنا بأن نسلم بما لا نعقله، وتجيبنا على أسئلتنا عن الحكمة بما لا جواب فيه إلا الإخبار بالجهل والعجز؟
قلنا: من جهل أتيت، فمن ألغى العقل هنا أو أجاب بالجهل؟! وإنما أعملنا العقل غاية الإعمال في النظر في آيات الله الكونية والشرعية، فرأينا دلائل حكمته مدَّ البصر، ورأينا منها ما لا يحصيه بشر، وتكررت براهين حكمته حتى تقرَّرت وأيقنت بها قلوب العارفين، فإذا علم العقل كل ذلك ثم خفي عليه وجه من وجوه الحكمة في دقيق الخلق وعظيم الصنع أينقلب العقل عندها عن يقينه بالحكمة التي علمها إلى جحدها وإنكارها؟! أم أنه يعرف بما علمه مما لا حصر له من براهين الحكمة أن ثَمَّ حكمة هناك في الذي قد خفي عليه أمره؟
فمن يكون هنا معملا عقله:
- أمن أنكر جميع ما قد أقره العقل من حكمة الله تعالى لأجل جزئية من غيب لم يشهده عقله ولم يصل في شأنه إلى حقيقة أمره؟!
- أم من سلَّم بما سلم به العقل من براهين حكمة الله تعالى فيما علمه مما لا حصر له ولا عد، ثم وقف عند ما لم يبلغ العقلُ نهايةَ أمره فعرف أن وراء ذلك ما يحاول العقلُ معرفتَه دون أن يقطعَ فيه بشيء إلا أن هناك حكمة مخفية تشهد عليها الحكم الظاهرة في كل مظهر من مظاهر تجلياتها في العالم العلوي والسفلي؟
بل الآخذ
بحكم العقل والمعمل له هو
الثاني بلا شك،
لأن العقل قد هداه إلى إثبات الحكمة للخالق الجليل فلم يجحد بينة ذلك، وقد
هداه عقله أيضا إلى معرفة ما للعقل من قدرة على الإدراك وما لا تتعلق به هذه القدرة مما ينقطع عن بلوغها بشهادة نفسه على نفسه،
فردَّ ما لم يبلغه عقله إلى ما عرفه من عدم كمال قدرة العقل، ولم يجحد ما أثبتته براهين الحكمة الظاهرة من عظمة الحكمة المستترة عن الأنام.
فإن قال قائل: إن حاصل كلامك أنك تجهل حكمة الله تعالى في توفيق عبد للإيمان وخذلان عبد بالكفر؟
فيقال: ليس الأمر على جميع ما توهمته، وإنما في ذلك تفصيل يتبين به الحق، وهو أننا نعلم من حكمة الله في ذلك ما نعلمه بغير إحاطة بجميع حكمة الله تعالى، فيكون علمنا بما علمناه منها شاهدا من براهين كمال حكمة الله تعالى، ويكون جهلنا لما جهلناه منها وعجزنا عن الإحاطة بها شاهدا من براهين كمال حكمة الله تعالى أيضا، فسبحان الله ما أحكمه فيما أطلعنا عليه من حكمته وفيما أخفاه عنا رحمة بعقولنا الكليلة عن شهود ما لا تطيق حمله أو النظر إليه من أسرار كماله وجماله وسلطانه.
فإذا تبين هذا ذكرنا التفصيل في المسألة:
فإن حكمة الله في توفيق عبد للإيمان وخذلان عبد بالكفر إما أن يكون من حيث حصول جنس ذلك، أو من حيث حصول ذلك في أفراد معينين من الجنسين:
فأما
من حيث الجنس فنعلم الحكمة الإجمالية من ذلك، وقد سبق ذكر بعض منها سابقا في قولنا
اقتباس:
فأما الحكمة المتعلقة بخلق جنس أهل النار فإن منها ما هو راجع إلى ثلاثة أمور:
الأول: ظهور مقتضيات وآثار كمال الله في أسمائه وصفاته وأفعاله:
فإن كمال الله عز وجل أزلي لله غير مكتسب من خلقه، ولو قدر عدم جميع المخلوقات لما نقص ذلك من كمال الله الذاتي شيء، ولكن كمال الله تعالى يترتب عليه ظهور آثاره في غيره، (ولهذا كان القول بنفي حوادث لا أول لها باطلا، لما يترتب عليه من نفي مقتضيات كمال الله تعالى في أسمائه وصفاته وأفعاله، مع التوكيد على أن كل حادث من هذه الحوادث مسبوق بعدمه، فلا يكون مع الله ما هو قديم أو أزلي الوجود، وإن قدر قدم النوع، فالنوع ليس بشيء في الخارج، وإنما هو كتقدير زمن أزلي، مع أنه لا وجود في الخارج إلا لحركات حادثة شيئا بعد شيء).
فإذا علم هذا، علم أن من كمال الله تعالى أن يخلق المتضادات في الوجود والخير والشر والجزاء، وأن في وجود كل ذلك أثرا من آثار كمال الله تعالى، فيكون في خلق أهل النار أثرا مقتضى من كمال الله تعالى في قهره وعدله، فيجري حكم قهره على من هو أهل لوقوع ذلك عليه، كما يجري حكم عدله في عقوبة من أساء وظلم من خلقه، ولا يكون الظهور الكامل لذلك بغير وجود من يستحق الجزاء بالعقوبة الملائمة لجرمه، فإذا كان فضل الله على البشر في الآخرة متمحضا لأهل الجنة، فإن العدل في عقوبة أهل النار أولى أن تتمحض لأهل النار بعد أن لم يكونوا أهلا لفضله.
والكلام على آثار كمال الله في أسمائه وصفاته وأفعاله ومقتضياتها في خلقه أهل النار كلام طويل جدا يحتاج إلى ذكر كل اسم وصفة وفعل يظهر أثرها في خلق هذا الجنس، ومن تدبر في أسماء الله وصفاته وأفعاله تبين له عظيم كمال الله تعالى في سلطانه وقهره وعدله، وعلم حقيقة قوله تعالى: {مالك يوم الدين} وما تضمنه من مقتضيات ولوازم ملك الله عز وجل في خلقه.
الثاني: ما يترتب على خلق أهل النار من الخير والصلاح لأهل الإيمان في عاقبة أمرهم:
فإن في خلق أهل النار وعداوتهم لأهل الإيمان وما بينهم من مقال وقتال خير وصلاح لأهل الإيمان بما يعقبهم إياه صبرُهم وصدق إيمانهم وثباتهم على الحق رغم فتنة الكافرين، وديمومتهم على طاعة الله تعالى مناكفة لوسواس الشياطين من الإنس والجن، وفي خلق أهل النار ابتلاء عظيم للمؤمنين حتى يميز الله الخبيث من الطيب، ويظهر من كان إيمانه عن تصديق لا عن تقليد الأسلاف بلا بينة ولا برهان، ولو لم يخلق الله أهل النار في الدنيا لما كان هناك معنى للأمانة المحمولة من الإنسان في هذه الدار، إذ لا معنى للأمانة إلا إذا قام بها صاحبها وهو يملك أن يخون إذا شاء رغم وجود دواعي الخيانة، أو كان بتلك المثابة عند بعض السامعين، فلا يقال لشخص وضع لديه مال وهو أشل أعمى أبكم أنه حافظ للأمانة، وإنما يقال للمرء أنه أمين إذا لم يخن وهو قادر على الأمرين، ودواعي الأمانة والخيانة قائمة من حوله، أو كان بمثابة ذلك عند السامع، وإذا كان لا يوجد للخيانة معنى ولا أهل، فكيف يقال أنَّ هناك أمانة وأمناء، وهل ذلك إلا كقول أن الحجر أمين لأنه لا يقدر على الخيانة!
فكان في خلق أهل النار تحقيقا لمعنى العبودية لله تعالى، وإظهار المؤمنين على الكافرين، ونصر أهل الحق على الباطل، وإعزازهم وإعظام أمرهم ورفع درجاتهم في الدنيا والآخرة، وتعظم هذه الحكمة بربطها بالحكمة السابقة حيث يكون في نصر أهل الحق على الباطل ظهورا لآثار أسماء الله تعالى وصفاته المقتضية النصر والتمكين للمؤمنين على الكافرين، وظهور رضاه ورحمته بأهل طاعته، وغضبه ونقمته على أهل معصيته.
الثالث: تسخير الله لهم كما سخر ما في الأرض لعمارة هذه الدنيا:
فكما أن الله عز وجل خلق في الدواب والهوام ما هو نافع وضار، وجعل في ذلك حياة الكائنات وتوازنها واعتدال أمرها، فكذلك كان في خلق أهل النار حكمة ظاهرة، لما يترتب عليه من سعيهم بمقتضى البشرية والطبيعة الجبلية إلى السخرة في هذه الأرض لحفظ حياتهم والتكاثر بأملاكهم وأولادهم، فيعمرون الدنيا بخراب آخرتهم، ويبنونها ليسكنها غيرهم بعد فنائهم، ولما أبوا أن يكونوا عبادا لخالقهم، جعلهم عبيدا للأرض ومن عليها، فيكدحون في هذه الدنيا كدحا يضنيهم ويشقيهم من أجل متع فانية، ولذاذات زائلة، وحظوظ ذاهبة.
فكان خلقهم في الأرض كإيجاد الخادم للدار، يعمرها بكده ونصبه وهو لا يملكها، وتعرض عليه قصورٌ خير من تلك الدار ليسكنها باسمه فيرفضها ويختار عليها البقاء في رسم الخدمة لغيره من المخلوقين الفقراء حيث لا ينتهي كده ولا يرتقي في درجته عن منصب الخادم الأجير للدار الحقيرة! هذا والدار لو قورنت بتلك القصور العظام لصارت أشبه بالخراب بل هي الخراب بعينه!
فما أنفع خلق أهل النار للأرض، مع ما سخره فيها من دواب الأرض وهوامها النافعة بضررها!
فتبين بهذه الأمور الثلاثة بعض حكمة الله تعالى في خلق جنس أهل النار، وحكمة الله أوسع من أن يحيط بها علم أحد من خلقه.
فهذا ما يتعلق بمعرفة الحكمة من توفيق من وفقه الله للإيمان، وخذلان من خذله الله فوقع في الكفر والعصيان، وذلك من حيث الجنس.
وأما حكمة ذلك فيما يتعلق بأفراد جنس أهل الإيمان وجنس أهل الكفر، فيعلم ذلك من قولنا
اقتباس:
وأما الحكمة المترتبة على خلق كل فرد فرد من هذا النوع الناري:
فهي أوسع من أن يحصى الكلام فيها، إذ أن كل فرد من هذا النوع يظهر في خلقه من حكمة الله تعالى أمور كثيرة هي تفصيل للأمور الثلاثة العامة لجنس الكفار.
فمن ذلك أننا لو مثلنا للحكمة في ذلك بخلق الله لفرعون، فسيظهر لنا من بعض حكمة الله في خلقه أمور منها:
ظهور مقتضى اسم الله تعالى (الأعلى) حيث أظهر الله علوه على خلقه بمجازاة من أنكر وجوده وعلوه بالإغراق في اليمّ، معاقبة له على قوله {أنا ربكم الأعلى} فجعله الله الأسفل.
وما في خلقه من ابتلاء واختبار لبني إسرائيل وأهل مصر، فصار سببا في زيادة ثواب المؤمنين المحسنين، وتمييزا لهم عن المفتونين الخاسرين.
وما في خلقه من إظهار لعدل الله تعالى في عقوبته على ظلمه وبغيه في الأرض، وعلم أن بطش الكافر لا يحول بينه وبين عاجل نقمة الله عليه.
كما كان في خلقه لفرعون ظهور فضيلة موسى عليه السلام في مقارعته له بالحجة والآيات، وصموده بالحق أمام كفر الكافرين من علية القوم وأرباب الكفر.
وكان فيه إظهار عجز الكافر في أمره حتى أنه يسخره لحفظ المؤمن من حيث لا يشعر، فقد ربِي موسى عليه السلام في بيت فرعون أمام عينيه وسط داره وأهله، فإذا نهاية أمره وخاتمة ملكه على يديه.
وغير ذلك من الحكم الكثيرة التي تتعلق بخلق فرعون، فضلا عن خلق كل واحد واحد من أفراد أهل الكفر.
فسبحان الله عز وجل ما أحكمه وأعلمه وأقدره، وما أعجز الإنسان عن أن يحيط ببعض حكمة الله تعالى في بعض مخلوقاته فضلا عن جميع ذلك!
نقلت هذين الاقتباسين لشدة تعلق هذا الموضع من مسألتنا بما ورد في الفرع الأول منها، ولأضيف عليه ما يخص الفرع الثاني منها، وهو:
أن
الحكمة من توفيق عبد أو خذلانه إما أن يتبين لنا شيء منها، أو لا:
فإن تبين لنا شيء منها في خصوص بعض أفراد الجنس كان ذلك
زيادة في العلم والمعرفة.
وإن لم يتبين لنا شيء منها في خصوص بعض أفراد الجنس أو جميعهم من حيث عين كل فرد منهم كان ذلك
عائدًا علينا بالعجز عن المعرفة لا لعدم حكمة الله تعالى وإنما لعدم مكنة العقل من بلوغ أسباب المعرفة في هذا الشأن.
وإذا استحضرنا
براهين حكمة الله تعالى في خلقه لم يعجزنا أن نفهم سبب قصورنا عن الإحاطة بجميع حكمته،
ولم يُزِلْ ذلك عن عقولنا حكمه القطعي بثبوت حكمة الله تعالى في جميع خلقه وشرعه، وهذا هو المطلوب.
وبهذا يعلم أن
المطالبة بإحاطتنا علما بحكمة الله تعالى في خلق أهل النار،
مطالبة مرفوضة عقلا ومناقضة لكمال حكمة الله تعالى، وإنما
يمكن أن يطلب معرفة ما يمكن العقل معرفته من الحكمة في هذا دون جحد لحكمة الله الثابتة لله ببراهين قاطعة
تفوق أعداد مخلوقاته،
فكل مخلوق يتضمن في نفسه من حكمة الله ما يعجز جميع الخلق عن أن يحيطوا بجميعه، فضلا عن
إحاطة مخلوق ضعيف عاجز بحكمة الله العظيم في
جميع مخلوقاته وشرعه!
ويعلم أيضا أن
حكمة الله من خلق أهل النار غير منكورة، بل قد
ظهر لنا من حكمة الله في خلق أهل النار أمران:
الأول: ما هو
عائد إلى الله عز وجل، وهو
حبه ورضاه لما يترتب على خلق أهل النار من
ظهور مقتضيات أسمائه وصفاته وأفعاله، وقد سبق توضيح المقصود بذلك.
الثاني: ما هو
عائد إلى بعض خلقه من الانتفاع بخلق أهل النار، لما يترتب عليه من
المجاهدة التي تكون سببا في
علو درجات المؤمنين، وظهور الصادقين والصالحين، الذين هم
حقيقة الوجود البشري وخلاصته، ويكون وجود أهل النار إلى جوارهم وجودا
كميَّا لا نوعيا، أشبه بالكثرة المردودة إلى العدم، أو الأصفار التي لا يسندها عدد.
فيكون إلى جوار
خلق أهل النار من
الحِكم العظيمة والخير الكثير والرحمة الواسعة ما يكون فيه ضرر أهل النار وشرهم وما ينالهم من العقوبة سببا لوجود ذلك الخير وشرطا لحصوله على تلك الصورة المحبوبة المرضية لله تعالى، ويكون وجود ذلك الشر إلى ذلك الخير كالعدم السلبي في مقابلة الوجود الإيجابي.
فإن قال قائل: ما الخلاص للكافر من كل هذا؟
قلنا له: هذا هو موضوع الفرع الأخير من المسألة الأولى، وهو ما سنذكره فيما بعد بإذن الله تعالى .
يتبع/ الفرع الثالث من المسألة الأولى... بعون الله تعالى وفضله