فكان كل رأي جديد يعرض ويدرس ويمحص ليعرف مدى تلاقيه أو تجافيه مع مصادر العقيدة الإسلامية حتى الآراء السياسية ونقد الخلفاء والولاة ، وقد قال في مجلسه وعلى جمع من تلامذته : أربع خصال في معاوية لو لم تكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة ، ففي هذا الجو من الحرية اثير الكلام في مسألة القدر التي ما كان أحد يستطيع أن يبحثها لو كان عمر حيًا ، وكان الحسن البصري متعدد جوانب المعرفة بحكم التلوين في مظاهر بيئته ، فكان يقيم بين أهل المدينة من الصحابة والتابعين وهي بيئة أثرية بحتة ثم أقام بقية حياته في العراق وهي الطينة التي نبتت بها بذور الرأي والقياس ، فكان تلامذته يجدون عنده كل شيء ، قال أبو حيان التوحيدي :
كان يجلس تحت كرسيه قتادة صاحب التفسير وعمرو وواصل صاحبا الكلام وابن أبي اسحق صاحب النحو وفرقد السنجي صاحب الرقائق وأشباه هؤلاء ونظراؤهم . هذا ما أردت بسعة الأفق في درس الحسن البصري - رحمه الله - فإذا ما أغفلنا هاتين الميزتين فلا يفوتنا أن المعتزلة هم تلامذته ثم ليكن بدهيا ما للحسن البصري من أثر في نمو واستقلال الفكر المعتزلي الذي قام أول ما قام على حرية الفكر وسعة آفاق المعرفة . ولا يحسبن أحد أنني سأتجاوز هاتين الميزتين الملحوظتين في استقلال الفكر المعتزلي دون أن استنتج استنتاجًا آخر ، هو تأرجح الفكر المعتزلي بين المدرسة الأثرية وبين المدرسة العقلية الفلسفية التي تفسر ظواهر الكون وتستخلص الحقائق النهائية القطعية في شتى أنواع المعارف ، فهل يعتز التاريخ الإسلامي بالفكر المعتزلي لأن المعتزلة فرقة إسلامية ولأن فكرها ربيب الحسن البصري وهو ثبت مأمون عند الأمة حمل لها دينها والرسول - صلى الله عليه وسلم- يقول :
«يحمل هذا الدين من كل خلف عدوله» ؟ أم أن التاريخ الإسلامي يبرأ من هذا الفكر ويشكو تبعته ؟ ثم ما مدى إعجابنا بآرائهم ، وما الذي نتمثله فيهم ؟
الحق أن الإطار المكتنف لهذا الفكر رائق وجذاب فحرية القول والفكر نحبها وندعو إليها إلى أن نصل إلى حقيقة يقينية صحيحة ، فإن تمادى النقاش إلى الشك والقول بتعادل الأدلة وسفسطة اللاأدرية كان ذلك من الجدل المذموم لأن الأمة تظل في بلبلة فكرية . أجل أننا نعشق الإطار لذلك الفكر ولكن تلك الأفكار وتلك المسلمات عند المعتزلة غير مرضية وغير صحيحة لأنهم لم يحفظوا توازنهم بين العقل والنقل ، ولأنهم دعوا إلى حرية الرأي فضلوا سبيلها ، فنخلص من هذا إلى أن الإطار جذاب ورائق ولكن الفكر ذاته ضال ومنحرف كأي مذهب هدام لا تلبث التجارب أن تكشف عن وجهه الكالح ويعلل الشيخ محمد أبو زهرة منهج المعتزلة العقلي بهذه الأسباب :
أولًا : أن مقامهم في العراق وفارس وقد كانت تتجاوب فيها أصداء مدنيات وحضارات قديمة .
ثانيًا : أنهم سلائل غير عربية ، وأكثرهم من الموالي .
ثالثًا : أن كثيرًا من آراء الفلاسفة الأقدمين سرت إليهم لاختلاطهم بكثيرين من اليهود والنصارى وغيرهم ، ومن فضل ثقتهم بالعقل أثاروا الفكر وحملوه على البحث ووجهوا نظره إلى مسائل لم تثر قبلهم ، وهم أصحاب الأسلوب العلمي الأدبي لما رزقه الكثيرون من رجاحة العقل وفصاحة اللسان والقدرة على الخطابة ، ولقد كان بشر بن المعتمر المعتزلي واضع أصول الخطابة في اللغة العربية برسالته القيمة .
قال الجاحظ عنهم : كانوا فوق أكثر الخطباء وأبلغ من كثير من البلغاء وهم تخيروا الألفاظ لتلك المعاني وهم اشتقوا لها من كلام العرب تلك الأسماء ، وهم اصطلحوا على تسمية ما لم يكن له في لغة العرب اسم ، ومن فضل ثقتهم بالعقل . أن كان لهم السبق في وضع أسس علم البحث والمناظرة بدليل هذا الذي رواه الراغب الأصفهاني في محاضرات الأدباء ، قال :
اجتمع متكلمان فقال أحدهما : هل لك في المناظرة ؟ فقال : على شرائط : ألا تغضب ولاتعجب ولاتشغب ولاتحكم ولاتقبل على غيري وأنا أكلمك ولا تجعل الدعوى دليلًا ولا تجوز لنفسك تأويل آية على مذهبك إلا جوزت لي تأويل مثلها على مذهبي وعلى أن تؤثر التصادق وتنقاد للتعارف وعلى أن كلًا منا يبغي من مناظرته على أن الحق ضالته والرشد غايته . لقد قدس المعتزلة العقل واشتطوا في ذلك حتى في باب اللغة والنحو كانوا يميلون إلى العقل فزعيم القائلين بالقياس(1) واستعمال ما لم يروه العرب قياسًا على ما رووه وذلك - من غير شك - يحتاج إلى قوة عقلية لا مجرد رواية .
وقد قال متطرفوهم :
إن حجة العقل تنسخ الأخبار كما جاء في كتاب «تأويل مختلف الحديث» لابن قتيبة ، قال جولد تسيهر :
والذين يقفون على جناح التطرف من المعتزلة يصرحون تصريحًا حاسمًا بأن ثمرات النتائج العقلية تزيل المعارف المأثورة من الطريق . أهـ .
ولهذا ، كان التأويل والتمحل في رد دلالات النصوص بأوجه يعلمون يقينًا أنها غير مرادة للشارع في تفاسيرهم ونتيجة لمنهجهم العقلي المتطرف لم يسلموا بمنهج السمعيات مصدرًا للمعرفة دون بحث عقلي يحكمون به عليها ، لأن العقل عندهم يبين ما ينبغي وما لا ينبغي قبل ورود الشرع . وصدى ذلك في قول أبي العلاء المعري :
أيهــــا الغــــر إن خصصــــت بعقل ............................ فاسألنــــه فكل عقــــل نبيّ
وهذا معنى مسألتي التحسين والتقبيح العقليتين اللتين بنى عليهما مؤمنوهم مسألتهم الأصولية بأن الناس يحاسبون بمعارف وتوجيهات عقولهم قبل ورود الشرع ، وتناسوا قول الله تعالى : «وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا» .. وقوله : «وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون» ولقد ردوا نصوصًا ثابتة قطعية الثبوت بمجرد استشكالات عقولهم ، وتصدى لمناقشتها نقاشًا علميًا محكمًا الشيخ ابن قتيبة في كتابه تأويل مختلف الحديث ، ومن آثار تحكيمهم العقل في السمعيات وإن ثبتت سندًا الأمور التالية :
أولًا : أنكروا المعجزات وبعضهم حصرها في دائرة ضيقة ، فكان النظّام يكذب الصحابة ويقول في وقاحة : زعم ابن مسعود أن القمر انشق ، وأنه رآه وهذا من الكذب الذي لا خفاء به ، لأن الله تعالى لا يشق القمر له وحده ولا لآخر معه ، وإنما يشقه ليكون آية للعالمين وحجة للمرسلين ومزجرة للعباد وبرهانًا في جميع البلاد فكيف لم تعرف بذلك العامة ولم يؤرخ الناس بذلك العام ولم يذكره شاعر ولم يسلم عنده كافر ولم يحتج به مسلم على ملحد ؟ أ هـ .
فبهذا الدليل الخطابي يتناسى النظّام آية : - وانشق القمر . فإن حملها على يوم القيامة لم يطاوعه السياق ، وكان ينكر نبع الماء من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم .
الأمر الثاني : إنكارهم كرامات الأولياء وفعالية السحر ورؤية الجن ، وللجاحظ في نفي رؤية الجن إفاضة عجيبة في كتابه «الحيوان» ونساء المعتزلة لا يخشين الجن وكذلك صبيانهم ولذا قال بعض الباحثين : من بركة المعتزلة أن صبيانهم لا يخافون الجن وقد تعرض النظّام لتوهمات الأعزاب وحللها - كما قال الدكتور أحمد أمين - تحليلًا نفسيًا فلسفيًا دقيقًا .
قال : «أصل هذا الأمر وابتداؤه أن القوم لما نزلوا ببلاد الوحش عملت فيهم الوحشة ومن انفرد وطال مقامه في البلاد والخلاء والبعد عن الناس استوحش ولا سيما مع قلة الاشتغال والمذاكرين والوحدة ولا تقطع أيامهم إلا بالمنى أو بالتفكير والفكر وبما كان من أسباب الوسوسة وإذا استوحش الإنسان مثل له الشيء الصغير في صورة الكبير وارتاب وتفرق ذهنه» وبتحكيم العقل أسسو مناهج فلسفية بارزة هي :
أولًا : مبدأ الشك فقالوا في شجاعة : ينبغي أن نبدأ في كل معرفة بالشك والتحفظ حتى إذا وصلنا إلى اليقين كان يقينًا معززًا سليمًا ، وقد كان الشرط الأول للمعرفة عندهم هو الشك ، وقال بعض أئمتهم : خمسون شكًا خير من يقين واحد . وقد قال النظّام : الشاك أقرب إليك من الجاحد ولم يكن يقين قط حتى صار فيه شك ، ولم ينتقل أحد من اعتقاد إلى اعتقاد غيره لا يكون بينهما حال شك . وقال الجاحظ تلميذ النظّام : تعلم الشك في المشكوك فيه تعلمًا فلو لم يكن من ذلك إلا تعرف التوقف والتثبت ، لقد كان ذلك مما يحتاج إليه ، والعوام أقل شكوكًا من الخواص لأنهم لا يتوقفون في التصديق ولا يرتابون بأنفسهم فليس عندهم إلا الإقدام على التصديق المجرد أو على التكذيب المجرد وألغوا الحالة الثالثة من حال الشك .
ثانيًا : أنهم قالوا حقائق العقل نهائية قطعية وهو الحكم في مصادر المعرفة كلها ومعارفه ضرورية .
ثالثًا : أنهم وضعوا تجربة الحواس في الصف الأخير من أدلة المعرفة ولم يصح دليلها لديهم إلا بسند العقل وشهادته .
رابعاً : أن النظّام استثقل أحكام الشريعة ولم يجسر على إظهار دفعها فأبطل الطرق الدالة عليها كالقياس والاجماع والخبر وقال بجرأة : إنه لا يُعلم بأخبار الله ولا بأخبار رسوله شيء على الحقيقة ، لأن المعارف عنده قسمان محسوسة وغير محسوسة والمحسوس أجسام لا تعلم إلا بالحس وغير محسوسة ولا تعلم إلا بالقياس والنظر .
__________________
(1) هو أبو علي الفارسي وتلميذه ابن جنى ، وهما من المعتزلة .