وحدة الأديان والدعوة إلى عولمة التصوف
حديثنا عن التصوف سيتمحور حول سمة أساسية من سمات التصوف ألا وهي عمليات المزج بين الأفكار أو الفلسفات أو الأديان مهما تباينت تلك الأفكار أو حتى تناقضت لتنصهر جميعها فيما بعد في بوتقة فلسفية أو دينية واحدة ..وهذا أعتبره تعريفا جامعا لما يمكن أن يُعبَّر عنه بمصطلحاتٍ مختلفة سواءٌ بمصطلحِ وحدة الأضداد بمفهوم الجدلية الهيجلية أو بمصطلح وحدة الأديان حسب المفهوم الصوفي أو بمصطلحات من قبيل التعايش والتقارب والإيخاء والتفاعل بين الأديان والمعتقدات والفلسفات حسب معجم التمدن والحداثة في عصرنا الراهن..ومهما اختلفت المصطلحات وتعددت وتلونت فالأكيد أن أصول وجذور التعريف ترجع إلى اعتقادات صوفية خالصة كما سيأتي.
عند الحديث عن التصوف بمفهومه العام قد يتبادر للذهن ذاك المعنى الشائع الذي يُعرِّف لنا التصوف على أنه مذهب إسلامي أو على أنه ظاهرة دينية إسلامية..وهذا المفهوم هو المعنى السائد والمنتشر في عصرنا الراهن نظرا لوجود علاقة تلازم في الذهن وإن كانت غير صحيحة تربط بين التصوف والرموز الصوفية في الإسلام سواء منهم المعتدلين أو الغلاة كالفرق الباطنية أو الرموز والشخصيات المتبنية لعقيدة وحدة الوجود ووحدة الأديان..وهذا الربط مجانب للصواب تماما لأن عند استقراء واقع وأصول هذا التيار نجد جذوره ممتدة وضاربة في عمق التاريخ بدءا من أقدم ديانات العالم العضمى كالأبنشاد في الهند و بوذية زن في اليابان والطاوية الصينية مرورا بالديانات الفارسية والإغريقية والديانات السماوية..فالواقع التاريخي للتصوف يخبرنا أن هاته النزعة لم تنحصر يوما في ديانة معينة ولم تكن حكرا على ثقافة بعينها لأنه وكما يعرفه أحمد أمين في كتابه ظهر الإسلام هو: ((نزعة من النزعات لا فرقة مستقلة كالمعتزلة والشيعة وأهل السنة ولذلك يصح أن يكون الرجل معتزليا وصوفيا أو شيعيا وصوفيا أو سنيا وصوفيا بل قد يكون نصرانيا أو يهوديا أو بوذيا وهو متصوف )) (1)
أيضا من الأخطاء الشائعة أن يُعَرَّف التصوف على كونه ظاهرة دينية في المطلق سواء أكان التصوف نصرانيا..إسلاميا أو هندوسيا..ووجه الخطأ هنا أن التصوف قادر على أن يتأقلم حتى مع الفلسفات الإلحادية..يخبرنا الفيلسوف الأمريكي ولتر ستيس في كتابه التصوف والفلسفة بأن: (( أول جواب عن السؤال : هل التصوف هو أساسا ظاهرة دينية هو بالنفي فهو قد يرتبط بالدين لكنه ليس في حاجة إليه...قد يدهش بعض هؤلاء الفلاسفة إذا علموا أنه على الرغم من أن عددا كبيرا من المتصوفة كانوا مؤلهة وأن عددا آخر كانوا من أصحاب وحدة الوجود فإن هناك أيضا متصوفة ملاحدة )) (2)
وما يؤكد بالفعل هذا الحكم وهذا الرأي هو وجود التصوف بمعناه الذي نتحدث عنه أي بمعنى وحدة الوجود ووحدة الأديان وإلتماس تأثيره في كبرى الفلسفات الإلحادية المؤثرة في التاريخ الإنساني الحديث..ومن أبرز هذه المدارس تجد الأفلاطونية الحديثة والتي هي مدرسة صوفية إلحادية تأسست على يد مجموعة من المفكرين الملاحدة لعل أشهرهم أفلوطين صاحب نظرية الفيض التي أخذها عنه فلاسفة الإسلام. وهي فلسفة تؤمن بوحدة الوجود قامت بالمزج بين أفكار وفلسفات ومعتقدات وثنية إضافة لليهودية والنصرانية وأساطير أخرى تحت معتقد وفلسفة واحدة كتطبيق عملي تلقائي لمبدأ وحدة الوجود بحكم أن وحدة الأديان والمزج بينها هو من لوازم القول بوحدة الوجود ..وهذا ما يؤكده المستشرق نيكسون بقوله: (( ومن لوازم مذهبهم في وحدة الوجود : أيضا قولهم بصحة جميع العقائد الدينية ))..(3).. ثم كان لهذه الفلسفة تأثيرا كبيرا فيما بعد في التصوف الإسلامي والنصراني.
نجد أيضا الفيلسوف الشهير اسبينوزا والذي يُعتبر من فلاسفة عصر التنوير في أروبا وهو في الحقيقة لم يكن سوى متصوف ملحد قائلا بعقيدة وحدة الوجود القديمة رغم استعماله لبعض المصطلحات الدينية في كتاباته..يقول ستورات هامبشير عن فلسفته: (( لقد أساء ناقد اسبينوزا فهم ما يعنيه بالله كعلة محايثة لو انها عزلت عن سياقها في فلسفته لبدت الفكرة صوفية وغير علمية ..والواقع أن المضمون هو العكس تماما ..فالنظرية لا تظهر صوفية وغير علمية إلا في نزعتها فقط..إذا نسي المرء أن اسبينوزا في استخدامه لكلمة الله يستخدمها بالتيادل مع كلمة الطبيعة..فالقول بأن الله هو العلة المحايثة لكل شيء هو طريقة أخرى للقول بأن كل شيء ينبغي تفسيره على أنه نسق واحد يشمل كل شيء الذي هو الطبيعة وانه ليس ثمة علة ولا حتى العلة الأولى يمكن تصورها على انها خارجة أو مستقلة عن نظام الطبيعة ))..ويقول ولتر ستيس: ((إن جوهر فلسفته يتألف من الدعابة التافهة التي تسمى الكون زيد أو عمر أو الله تبعا لهوى المرء ))..(4) !
ثالث كبرى المدارس الإلحادية التي اقتحمتها الصوفية من خلال رؤيتها للوجود وإنعكاسها على الأديان هي جدلية هيجل والتي هي بدورها من أسس مادية ماركس..وقد يتعجب المرء عند سماعه هاته الأسماء التي عرفت واشتهرت بالعقلانية والعلمية ثم يدرك أن ما اشتهر عنهم قد بُنيَ وأُسِّسَ على اعتقدات صوفية خالصة. يقول ولتر ستيس في نفس هذا السياق: (( إن وحدة الوجود هي بدورها فكرة صوفية حتى لوعتنقها المفكر الذي يظن نفسه مفكرا عقلانيا على أسس منطقية خالصة ))..وخلاصة فلسفة هيجل أن الارتقاء في الحضارة الإنسانية إنما يحصل بظهور الأضداد وتصادمها ثم تمازجها!..فهو يصف لنا الوجود على أنه في حركية دائمة يتفاعل بعضه مع بعض. ثم وفق قانون وحدة الأضداد أو هوية الإختلاف كما يسميه هيجل تتحد متناقضاته لتنفي بعضها بعضا ثم لتتكون ذاتيات أرفع!..وهو عين ما فعله أفلوطين حين مزج الفلسفات والديانات المتناقضة ليخرج لنا بفلسفة موحدة هي في نظره بالتأكيد أرفع!..وهو عين ما تقوله الفلسفات القديمة المتبنية لوحدة الأديان -أو إتحاد الأضداد بمصطلح هيجل- من الهندوس إلى أفلوطين إلى إخوان الصفا وبن عربي والحلاج ..فهيجل في الحقيقة لم يأتِ لنا بفكر جديد وعند التمحيص نجد أن فلسفته ما هي إلا رسكلة حديثة لفلسفات قديمة..يقول ستيس: (( فكرة هوية الأضداد ليست من اختراع هيغل بل إن عمرها على الأقل ثلاثة آلاف سنة لأنها جزء من التصوف الذي أثر في بارمنيدس وأفلاطون وأفلوطين وكثير من الفلاسفة الآخرين قبل هيجل..وما فعله هيجل هو أنه أدركها ووضعها في مصطلحات واضحة بعد أن كانت كامنة وضمنية في كثير جدا من الفكر البشري العظيم قبل عصره ))..(5)
بناء على ما سبق يتضح لنا أن أن فكرة وحدة الوجود وما يفضي إليه من قول بوحدة الأديان هي نظرية إلحاية بامتياز لأن النظرية التي يستوي فيها الحق بالباطل والأخلاقي باللاأخلاقي ثم تلغى فيها الشرائع ويتنفي من خلالها مفهوم الثواب والعقاب الأخروي هي بالتأكيد نظرية إلحادية حتى وإن اختلفت المصطلحات وتلونت بلباس ديني كان أو فلسفي.. ولهذ يقول عبد القاهر البغدادي في وصف دين الباطنية: ( الذي يصح عندي عن دين الباطنية انهم دهرية زنادقة يقولون بقدم العالم وينكرون الرسل والشرائع كلها لميلها إلى استباحة كل ما يميل إليه الطبع ))..(6)
ولكن السؤال المطروح في هذا السياق هو هل يصح فعلا نسبة الدعوات الحديثة والحثيثة للتقارب بين الأديان إلى القائلين بوحدة الوجود..أم هي بالفعل نتاج الحضارة والتمدن ولا علاقة لها بالتصوف الإلحادي ؟
للإجابة عن هذا السؤال إجابة موضوعية (ولا أدعيها)..نحتاج إلى أن نبحث عن متى وكيف ظهرت هذه الدعوات..
المجمع الفاتيكاني الثاني (1963-1965) كان أول ظهور علني وعملي لفكرة التقريب بين الأديان لتتطور فيما بعد وتصبح دعوات إقامة صلوات مشتركة وطبع الكتب الدينية في كتاب موحد. ويكون ذلك بعد أن تستغني كل ديانة عن شريعتها وكل ما من شأنه أن يسبب خلافات أو اختلافات وهذا المبدأ يذكرنا بقانون نفي النفي أحد قوانين الفلسفة الماركسية الثلاثة وأحد أسس المنطق الجدلي!..يقول الباحث الروسي أليسكي جورافسكي في كتابه الإسلام والمسيحية: ((فللمرة الأولى منذ أربعة عشر قرنا من وجود المسيحية والإسلام يتحدث مجمع مسكوني كاثوليكي بصورة إيجابية عن المسلمين معترفا بوضعهم الديني المتميز ولهذ شبهت المطبوعات الكثوليكية التغيير الحاصل في موقف الكنيسة تجاه الإسلام بــ"الإنقلاب الكوبرنيكي" وهو تشبيه غير مبالغ فيه إذا ما أخذنا بعين الإعتبار أن رسالة البابانيوس الثاني عشر "fidei donum " الصادرة في أواخر الخمسينات 1957 رأت في انتشار الإسلام في إفريقيا خطرا على الكنيسة وأن كتاب تاريخ الإرساليات الكاثوليكية المؤلف من أربعة مجلدات والصادر في المرحلة نفسها نظر لنشاطات الإسلام وفعالياته العالمية ككارثة تضاهي خطر الشيوعية ))..(7)
ثم في البيان الختامي للمجمع سنة 1965 جاء التصريح بوحدة الأديان وتساويها وعُبر عن ذلك بمصطلحات صوفية خالصة!..فقد نص البيان على (( أن الديانات حاولت بأشكال مختلفة أن تجيب عن الأسئلة الكبيرة ذاتها وهذا ما تقصته الهندوسية بجهودها الفلسفية الثاقبة وبأساليبها الزهدية والتأملية وما حاولته البوذية على مختلف أنواعها وألوانها من بلوغ التحرر النفسي الكامل والوصول إلى الإشراق النفسي بالجهود الفردية الذاتية أما الكنيسة الكاثوليكية فلا تزال شيئا مما هو حق ومقدس في هذه الديانات بل تنظر بعين الإحترام إلى تلك الطرق وإلى تلك القواعد والتعاليم التي غالبا تحمل شعاعا من تلك الحقيقة التي تثير كل الناس وهي تحث أبناءها على ان يعرفوا ويعززوا تلك الخيور الروحية والأدبية))..(8)
السؤال المطروح هنا هو ما السر في التغير المفاجئ الذي طرأ على موقف الكنيسة الكاثوليكية خاصة وأن البعض وصفه بالإنقلاب الكوبرنيكي..يخبرنا جورافسكي أن هذا التغير المفاجئ يقف ورائه المستشرق الفرنسي الأشهر لويس ماسينيون يقول: ((وفي رأي الدارسين فإن مؤلفاته وإسهاماته العلمية ومنطلقاته الروحية ونشاطاته السياسية (أي ماسينيون) مهدت الطريق للتحول الكاثوليكي الجذري بشأن الموقف من الإسلام .... ولهذا يرى بعض دارسي مؤلفات ماسينيون والمهتمين بتحليل مواقفه العملية وأنشطته الإجتماعية والسياسية أن مراسلاته واتصالاته الواسعة مع الهيئات الكاثوليكية العليا بما في ذلك صداقته الشخصية مع جيوفاني باتيستا مونتيني الذي أصبح البابا بولس السادس مهدت التربة إلى حد معين للمناقشات التي دارت في المجمع الفاتيكاني الثاني (1963-1965) حول العلاقة بين الكنيسة الكاثوليكية والمسلمين .))..
(9)..ويقول فيكتور بيلياييف (( لويس ماسينيون شخصية إجتماعية نشيطة حملت أفكار وأحاسيس المذهب الإنساني وانتمت إلى تلك الجماعات الفرنسية التي تمثل طليعة الأنتلجنسيا "الفئات المثقفة" التي ساعدت بفاعلية كبرى النضال الشعبي لإقامة السلام والصداقة والتعاون بين الشعوب ..بين أناس ينتمون إلى أعراق وأمم وعقائد مختلفة ))..
فلويس ماسينيون إذن هو السبب الرئيسي في ظهور أولى دعوات التقارب بين الأديان في العصر الحديث..لكن الملفت للإنتباه أن ماسينون يحمل عقيدة وحدة الوجود نتيجة تأثره الشديد بعقيدة بن منصور الحلاج وذلك عند زيارته العراق ثم من خلال بحوثه التي أقامها عنه بإسطمبول..ثم جعله موضوع أطروحته للدكتوراه بالسربون والتي عنونها بــ (( مأساة الحسين بن منصور الحلاج شهيد الإسلام الزاهد ))!..واعتبره أقرب شخص مسلم إلى فكرة المسيحية حول وحدة اللاهوت والناسوت! وعبَّر في كتاباته على أن الحلاج نموذج يستوجب المحاكاة!..فجعل ماسينيون من أفكار الحلاج الإلحادية الأرضية المشتركة للحوار المسيحي الإسلامي..فاعتقاد النصارى بنظرية امتزاج اللاهوت بالناسوت يتناسب تماما مع مقولة الحلاج الشهيرة (( أنا الحق ))..في إشارة إلى كونه هو الإله !..
إذن فحتى الدعوات المعاصرة للتقارب بين الأديان لم تكن نتاج الحداثة كما تم تسويقه ولم تكن استثناءا عن باقي الفلسفات المعاصرة فجميعها إعادة إحياء ورسكلة لأقوال الذين كفروا من قبل (( يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون ))..وعلى المسلم أن ينتبه قبل أن ينساق خلف هذا التيار الجارف تحت مسميات التعايش والأخوة والمحبة وحتى لا يسقط في الإستخفاف بالأديان والشرائع وتتكون لديه ومن دون أن يدري مفاهيم دينية جديدة أسسها فلسفية لادينية ما أنزل الله بها من سلطان..فالإختلاف سنة كونية وأبدا لن يتساوى الحق بالباطل ولا المسلمين بالمجرمين..فالتعايش السلمي نعم هو هدف سامِِ وهدف منشود لكل الأمم لكن لكل أمة مفاهيمها التي تنطلق منها في التعامل والتعايش مع الآخررين (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة )) ..
1-ظهر الإسلام.. 4/149
2- التصوف والفلسفة..29-410
3-في التصوف الإسلامي وتاريخه..88
4- التصوف والفلسفة..266
5-التصوف والفلسفة ..264..
6-الفرق بين الفرق..220-265
7-د أليسكي جورافسكي الإسلام والمسيحية ص117
8- د أليسكي جورافسكي الإسلام والمسيحية ص121-122
9- د أليسكي جورافسكي الإسلام والمسيحية ص104-110-111-