54 أبو الإلحاد في طور الاستقراد
رُبّ متساءل مستفسر, عن أبي الإلحاد وأحواله, في حله وترحاله, وعن سر خفوت صوته, حتى أرجف مبغضوه بموته, بعدما ملأ الشبكة ضجيجا وجلبة, حتى ظن الجاهل أن له الغلبة, فما باله تقلص وانكمش, وصار يتخبط كالأعمش؟
ما له يدور ولا يتقدم, ويركض على أرض إلحاده فيتأخر؟ بل يدبّ ملتصقا بالتراب, فالخسة بيته, والذل رداؤه, والخزي لحافه, والضّعة خُلقه, والدناءة مرتبته, والضيم أنيسه, والخنوع جليسه.
ما لي أرى أبا الإلحاد في عراك وهِراش, تهوي عليه اللكمات, يدمى قلبه دون قالبه؟ وليس له من عدو سوى نفسه, فما أعجب عدو نفسه يصارع نفسه, فبئس الصارع والمصروع.
أهذا صنيع الإلحاد بأبيه وبنيه؟ يا تُرى هل ما أصابك سحابة صيف, أم جار سوء مقيمٌ لا ضيف؟
بل هي أحوال للإلحاد لازمة, ولمن رضي به ملازمة, فأبشر بطول مهانة يا ربيب الإنكار, إنها طبيعة الإلحاد يا عبد الطبيعة, لقد لبسته فزهوت بنفسك وانتفشت, وانتفخت حتى حسبت نفسك إلها صغيرا يطير حيثما شاء, ويفعل بلا حسيب ما يشاء, لبثت كذلك حتى انجلت عنك فورة الشباب وهيجان الّصبا, ثم هويت إلى الأرض على أم رأسك, فأنت في متاهات كفرك تتدحرج.
قفل أبو إلحاد راجعا إلى جُحره, يجرجر رجليه في عنت, كأنما حشيت ساقاه رصاصا, خُيّل إليه أنه يساق إلى زنزانة مظلمة, لعن الصدفة التي رمت به في أتون هذه المعركة المستعرة التي يسمونها "حياة", وهل هذه حياة؟ لقد ظل عشر سنين يعمل في تلك الشركة, يكدح وينصب لأجل فتات لا يغنيه ولا يُرديه, كأنه فأر غبي يدير عجلة لا يغادرها إلا لينام.
اشتدت محنته هذا العام, خُيّل إليه أن عالمه يتهاوى من حوله, طالما خفف عنه العمل بعض ما به, لكنه طُرد منه اليوم, ماذا تراه يصنع الآن؟ إنه يتوقع أياما سودا. إن البطالة الإلحادية والزلازل النفسية التي تعصف به خلطة قاتلة.
مكث الفأر الإلحادي في جُحْره شهورا يبحث عن عجلة أخرى, لم يترك بابا إلا طرقه, فما سمع إلا صدى طرقه, لم يكن يحظى حتى برسائل رفض واعتذار, كانت طلباته تتلاشى كما يتلاشى في حياته معنى الأمل. يبدو أن العالم المادي بذراته ومجراته قد خذله.
هجرته زوجه إلى بيت أبيها حتى تنجلي هذه المحنة فيما تزعم. صار يخرج باكرا هربا من صاحبة الشقة التي تأتيه كل يوم لاستخلاص أجر الكراء.
انقضى الشهر الخامس, فخرج يهيم على وجهه, يحمل خيبته, ودرهمين هي كل ما يملك, اشترى بهما جريدة, وأتى حديقة.
جلس يتصفح الإعلانات في لهفة وهو يدعو في سره الطبيعة والصدفة والحظ والطالع والبخت والنصيب أن يسعفوه في محنته, وقع بصره على إعلان كتب بخط عريض:
وظيفة شاغرة
هل تحب المغامرة؟ هل تحب التغيير؟
هل تحب الطبيعة؟ هل تحب الحيوانات؟
اتصل بنا مباشرة لمزيد من المعلومات
حديقة حيوانات القارات الخمس.
كان يقرأ ويتمتم: نعم, نعم, نعم... قام مسرعا إلى بيته, استحم ولبس وتعطر وتزين, ووقف أمام المرآة يرتل تعاويذ إلحادية ويحفّز نفسه بعبارات لم يعد يذكر أين قرأها أول مرة:
" الكون كله فيك مكنون يا ابن الكون,
فبك كان وبه تكون,
ذرة أنت تمخر عباب الكون,
تذروها الطبيعة وهي في سكون,
فلا تجزع ولا تفزع أيها المغبون,
اغسل همومك بالماء والصابون,
وتفاءل فالمادة عوّدتك الإحسان,
فلا تكفر بها أيها الإنسان,
أنا موهوب, أنا محبوب,
أنا جاذب أنا مجذوب,
فيا قوانين الجذب,
اجذبيني إلى هذا الرزق واجذبيه إلي,
كما جذبت الحديد إلى المغناطيس..."
تذكر الآن, إنها ترانيم ابتكرها أحد كهنة الزملاء, وضمنها تعاليم قانون الجذب, الذي كان يومها موضة معروضة.
انتهت المقابلة بقبوله في عمله الجديد. تلقى تدريبا لمدة أسبوع ثم تم تكليفه بالقيام على أمر أسرة شيمانزية عريقة تسكن قفصا عظيما كأنه قصر يتوسط حديقة الحيوان.إنك لو رأيته لرأيت مكانا واسعا. شتان بين رحابة أرجاءه وبين ضيق شقة لحود, بل إنه أجمل وأنظف وأطيب ريحا وأعظم أُنْسا و أوفر بِشرا.
يأوي أبو الإلحاد إلى جحره فلا يؤنس وحدته إلا قرينته التي ملّته واستثقلته, ولما ضاقت به الأرض قلَتْه, ثمّ إنها لم تعد إليه وقد مضى على عمله هنا شهران.
أما هنا وما أدراك ما هنا, هنا القصر الشيمبانزي العامر, هنا الفخامة والضخامة, هنا البنيان والعمران, هنا أجيال ثلاثة, متناغمة متراحمة, هنا الأجداد والآباء والأبناء والأحفاد, يأتيهم رزقهم بكرة وعشيا, بلا كدّ ولا نصب, بل إنهم اتخذوا خادما مطيعا قنوعا اسمه أبو الإلحاد.
فرح صاحبنا بحظه, وانهمك مسرورا في عمله, كأنه حظي بخدمة ملك من الملوك, لا قطيع من القرود, وأحبّ أن يحيي مواهبه الأكاديمية, فصار يقيّد ملاحظاته الشيمبانزية في مذكرة, ويتفكر في تفاصيل التطور, كي يتبحر فيه أيما تبحّر.
ما أسعدك بالطبيعة وما أسعدها بك, لقد أتت بك إلى حيث انتماؤك, وصهرتك مع معدنك, وصنعت إليك ما أنت أهله, يبدو أن قانون الجذب صحيح من هذا الوجه, وليت دونكي يتخذ له مثل هذه الإقامة الفارهة لأيام تقاعده.
سرعان ما اعتادت القرود على أخيها الذي يلبس الثياب, وألفت ريحه, وأنِست به وأنس بها, وصار زملاؤه في العمل يدعونه فيما بينهم "زعطوط".
دخل عشية يتفقد آنسة شيمبانزية توشك أن تضع, فأخذته إغفاءة ولم ينتبه له زميله فأغلق عليه الباب. حين اكتشف صاحبكم ورطته أُسْقط في يده, فقد كان ذلك ليلة عطلة رسمية من يومين, واستيقن أنه سيقضيهما مضطرا في ضيافة أبناء العمومة.
شعر بالرعب أول وهلة, لكنه سرعان ما استأنس, بل الأفصح أن أقول إنه "استقرد", فهل يستأنس القرد حين يستقرد الإنسان؟ ما لنا ولهذا الآن؟ فلنعد إلى صاحبنا التعيس, قرر أن ينظر إلى الجانب المضيء, فرأى أنها فرصة للاحتكاك مع بني العم في خلوتهم, و مخالطتهم والسمر معهم بالليل, حين يغيب بقية البشر.
إن رواد الحديقة مزعجون, يلقون إلى إخوانه بالفاكهة كأنهم لا يفكرون بشيء سوى الطعام, هو مختلف لأنه ينظر إليهم بمنظار صنعه أبو الطفرات دارون منذ حوالي قرنين, إن المتنورين اليوم لا يجرؤون أبدا أن ينظروا إلى الحياة بدون هذا المنظار العتيق, ليس لدقّته, بل لأنهم ما أن يزيلوه حتى يبصروا حقيقة الخَلْق.
أبو الإلحاد ينظر إلى بني عمومته باحترام دارويني جمّ, ويعرف لهم فضلهم, ويقدّر سابقتهم.
إنه يدرك أن لازم مذهب الإلحاد أن المتنورين يمُتّون للقرود بأوثق العرى وأمتن الصّلات وأشد الحبال, ويعلم علم اليقين أن قطع تلك الأواصر يجعل بصر الإنسان يرتفع إلى السماء متسائلا عن الخالق.
ها قد أتيح لك يا ابن الطبيعة ونتاج الطفرات وصل تلك الأرحام البعيدة من أقرب سبيل. تذكر شريطا وثائقيا لباحث أوربي مشهور عاش بين القرود يدرس سلوكها, فشرع يصنع ما رآه يصنع:
نزع قميصه وسراويله, واكتفى بشورت رياضي, ولطخ جثمانه بالطين. أقعى وبدأ يقلد إخوانه الداروينيين ويحاكي حركاتهم وقفزاتهم وأصواتهم, وجد نفسه أخيرا بين أهله. وسرعان ما قبلوه واحتضنوه.
قضى ليلته الأولى بين أحضان القرود, ونام كالطفل كما لم ينم منذ سنين. فتح عينيه قبيل الشروق, فوجد آنسة شيمبانزية ظريفة قد وضعت كومة فاكهة عند رأسه, عجبا إنه لا يذكر أبدا أن زوجه أتته بوجبة الإفطار في سريره! تبّا له ولها, إنها لم تكن يوما ملحدة مثله.
مضى اليوم الثاني في سكينة ووئام, وضعت الحامل مولودها, وكان ذكرا, فاهتز القفص وارتجّ أركانه بصيحات الفرح, لا بد أن الجدّ جِدّ فخور بالحفيد الجديد, جلس صاحبنا طوال يومه يرقب الحفل القردي العائلي ولمساته الفنية ويتساءل: كيف يكون الإنسان أرقى ما أنتجه التطور, ثم تبدو القرود أسعد منه؟
آذنت الشمس بالمغيب فتقارب الزملاء وجلسوا يتسامرون ريثما يغلبهم النوم, قصت عليهم الجدة قصصا من طفولتها في الأدغال الإفريقية, واستند الجد على كتف أبي الإلحاد الأيمن ووضع أحد الصغار رأسه على فخذه, لم يجرؤ على الحركة, فنام على هذه الحال.
هبّ من نومه مذعورا حين أحس بشيء يقرصه, تبا إنها حشرات حادة اللسع, إنها تنفذ بوخزها عبر فرو القرود, فما بالكم بجلد لحّود الناعم المتنعم؟ مرّ بيده على شعره فوجد كتيبة كاملة من هذه الحشرات المزعجة تقوم بمناورات عسكرية, لكنه لم يستطع أن يفعل الكثير, لقد خشي من رد فعل إخوانه إن هو أيقظهم.
بدأ يحك جلده, فجأة استيقظت الجدة وأخذت تفلو رأسه في حنان دارويني لم يقرأ عنه قط في كتب شيخه دونكي, كانت تتبع البراغيث في خفة ورشاقة بأناملها, ثم تلتقطها بلسانها, شعر بدمعة حارّة تتحدر على خده, لقد مضى عليه زمان طويل لم يشعر فيه بمثل هذه المشاعر الجياشة, حاول أن يقوم لكن الجدة أمسكت به وأجلسته عند قدميها, وبدأت تنظف رأسه وجلده, يبدو أنها شعرت بضياعه وغربته, خطر في باله أنها ربما تبنّته, يا للهول, يوشك زملاؤه في العمل أن يحضروا, إنه لا يريدهم أن يروه على هذه الحال, أراد أن يصل إلى ثيابه ليلبسها, ضمته جدة القرود إليها كأنها تواسيه, يبدو أنها استشعرت غربته وضياعه.
حاول أن ينسل من بين يديها لكنها أمسكت به, جلس الآخرون من حولها ينظرون. فجأة وقف زميل له ينظر من خلال قضبان القفص, لقد دقت الساعة الثامنة, اختفى لحظات ثم عاد ومعه جميع عمال الحديقة, يقهقهون ويتعجبون ويلتقطون له الصور, لبس ثيابه وركض مسرعا لعله يحفظ قطرة من ماء وجهه, وأنهى مشواره العملي الفريد في ذلك اليوم المهين, خرج وهو يتمنى لو يستطيع أن يخترق الحجب إلى أحد العوالم المتوازية, لعله يكون هناك أوفر حظا وأحسن طالعا, لكنه علم أنه قد أمضى سنين طوالا يزرع الشوك, وأنْ قد آن أوان الحصاد.