حسن حنفي.. زندقة اليسار الديني , للشيخ عمر بن محمود أبو عمر


الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين.
والصلاة والسلام على النبي وعلى آله وصحبه أجمعين..


- بعد نصر حامد أبوزيد والضجة التي رافقت قضية حكم الردة عليه والتفريق بينه وبين زوجته، الآن تدور الضجة حول حسن حنفي، وذلك بعد أن قدم فضيلة الشيخ يحيى أسماعيل حبلوش الأمين لجبهة علماء الأزهر دراسة حول مشروع حسن حنفي واعتبره مشروعا تدميريا، وقد دعا الدكتور الفاضل (حبلوش) لمعالجة هذا المشروع والوقوف ضده بكل قوة، وكالعادة وقفت الصحافة العلمانية الكافرة مطبلة مزمرة ضد الدكتور حبلوش، وبدأت جوقة الجهالة بالدفاع عن حسن حنفي وبإسباغ أوصاف التعظيم والتبجيل عليه، وقد آثرنا في هذه الصفحات أن نعرض فكر حسن حنفي كما هو ومعالجته ومواجهته كما ينبغي.

حنفي من مواليد القاهرة بمصر عام (1925) وهو أستاذ الفلسفة في جامعة القاهرة ورئيس القسم فيها وهو السكرتير العام للجمعية الفلسفية المصرية التي يرأسها وزير الأوقاف في الحكومة، كتب بالعربية: التراث والتجديد (صدرسنة1980)، ومن العقيدة إلى الثورة (صدر سنة 1988)، ومقدمة في علم الاستغراب (صدر سنة1990).

مجمل ما يريده حسن حنفي في مشروعه:

يقدم حسن حنفي نفسه مفكراً اسلامياً همه صياغة التقدم الحضاري في مجتمعاتنا من خلال التراث باعتباره عملا انسانياً لا دينياً يستند إلى المذاهب والفرق والاختيارات بينها، ولا يستدل بالنص المقدس، إذ أنه من خلال عنوان كتابه: (من العقيدة الى الثورة) يختزل كل ما يريد أن يقوله، فالعقيدة (تراث) والثورة (تجديد)، والعقيدة اهتمام بالله والرسول وهذا يجب تجاوزه، والثورة اهتمام بالإنسان وهذا الذي يجب أن ننشغل به ونركز اهتمامنا حوله.

فالنبوة عنده قد انتهت والعقل الإنساني قادر على الوصول إلى الحقائق وتحقيق الأهداف دون النظر إلى أي عامل خارجي، وأهم عامل خارجي يجب استبعاده هو الوحي.. يقول في هذا:- وهل تجب النبوة لحاجات عملية أي للتنفيذ والتحقيق وأداء الرسالة مادام الإنسان غير قادر على سن القوانين وتأسيس الشرائع وإقامة الدول أو تجنيد الجماهير وتوجيه الأمم وفتح البلدان، ألا يمكن للعقل قيادة المجتمعات مثل قيادة الإمام لها، هناك أيضا العقل الاجتماعي والعقل السياسي والعقل التاريخي لوضع القوانين وسن الشرائع.. إن العقل ليس بحاجة إلى عون، وليس هناك ما يند عن العقل.

هل استطاعت النبوة أن تخفف من نقائص الإنسان وهي أول من يعترف بها؟ (مستنكراً أن تكون النبوة قادرة على أن تملأ المجتمعات بالحركة والفاعلية) "من العقيدة إلى الثورة".

وهو يركز نقده على الأقدمين (السلف) لاحتمائهم بالوحي والرسالة والعلماء، وهذا عنده نوع من عبادة الأشخاص وتشخيص الأفكار.

ثم هو يربط هذه القضية مع تصوره لما حدث في التاريخ من اخضاع الناس لسلطان الله وسلطان الزمان، وهذا عنده قمة الإنحطاط، إذ يعتبر أن دعاء الله تعالى هو نوع تملق ونفاق وضعف لا يصح ويعادل التملق والنفاق للسلاطين.

وبالتالي مشروعه هو اسقاط هذين السلطانين إذ يمثلان العقيدة..ثم ارجاع هذا السلطان إلى الشعب أي الثورة.

يقول في هذا:

1- وأحيانا تختلط المقدمات الإيمانية التقليدية بين الحمد والثناء عليه (أي الرب سبحانه وتعالى) وبين الدعوة للسلطة والتزلف إليها.. فلا فرق بين الثناء على الله والثناء على السلطان كلاهما يصدران عن بناء نفسي واحد.. فالثناء على الله تدعيم للثناء على السلطان، والثناء على السلطان نابع من الثناء على الله. وكلاهما قضاء على الذاتية، ذاتية الأفراد وذاتية الشعوب.. (من العقيدة إلى الثورة).

2- وإذا كانت بعض المقدمات الإيمانية القديمة تبدأ فقط: (باسم الله الرحمن الرحيم)، فإننا نبدأ (باسم الأمة) فالله والأمة واجهتان لشىء واحد بنص القرآن..

ويقول:- إذن عبارات ؛ الله عالم، الله قادر، الله حي، الله سميع، الله بصير، الله متكلم، الله مريد، إنما تعكس مجتمعا جاهلاً عاجزاً ميتا لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم، مسلوب الإرادة، وبالتالي يكشف الفكر الديني الذي يجعل الله موضوعا في قضايا من هذا النوع عن الظروف الإجتماعية والسياسية التي يعيشها المجتمع الذي تطلق في أمثال هذه القضايا، فالله كموضوع في قضية خير مشجب لأماني البشر، وأصقل مرآة تعكس أحلامهم وأحباطاتهم (من العقيدة إلى الثورة).

قلت: وهو نص يعادل قولهم:- الدين أفيون الشعوب.

وهو في هدمه للعقيدة وانتصاره للأمة (كما يزعم) ينطلق في هذا كله من التراث ومن داخله لا بعيدا عنه (كذلك يزعم) مع رفضه أن يسمى هذا التراث دينا بل يعتبره نتاجا عقليا صرفا. ومن أمثلة هذا الاختيار من داخل التراث إليك هذا المثال:-

يقول تحت عنوان: إعادة الاختيار بين البدائل...
قضية (التراث والتجديد) هي أيضا قضية إعادة كل الاحتمالات في المسائل المطروحة، وإعادة الاختيار طبقا لحاجات العصر، فلم يعد الدفاع عن التوحيد بالطريقة القديمة مفيدا ولا مطلوبا، فكلنا موحدون منزهون، ولكن الدفاع عن التوحيد يأتي عن طريق ربطه بالأرض وهي أزمتنا المعاصرة. فالتجسيم (أي أن القول أن الله تعالى جسم سبحانه وتعالى) وهو الاختيار القديم المرفوض، قد يثير الأذهان حالياً في الربط بين الله وسيناء، بين التوحيد وفلسطين، فالفصل القديم بين الخالق والمخلوق كان دفاعا عن الخالق ضد ثقافات المخلوق القديمة، ولكن الحال قد تغير الآن، وأصبحت مأساتنا هي مكاسبنا القديمة، الفصل بين الخالق والمخلوق، ومطالبنا هو ما هاجمناه قديما، الربط بين الله والعالم، لقد ساد الاختيار الأشعري أكثر من عشرة قرون، وقد تكون هذه السيادة إحدى معوقات العصر لأنها تعطي الأولوية لله في الفعل وفي العلم وفي الحكم وفي التقييم، في حين أن وجداننا المعاصر يعاني من ضياع أخذ زمام المبادرة منه باسم الله مرة، وباسم السلطان مرة أخرى، ومن ثم فالاختيار البديل، الاختيار الاعتزالي.. هذا الاختيار قد يكون أكثر تعبيرا عن حاجات العصر، وأكثر تلبية لمطالبه، ما رفضناه قديما قد نقبله حديثا، وما قبلناه قديما قد نقبله حديثا، فكل الاحتمالات أمامنا متساوية. (التراث والتجديد).

وهو لا يعد هذا تراثا اسلاميا ولكنه يعده تراثا إنسانيا، فبالتالي نحن لسنا مسلمين، ولكننا إنسان كوني، يقول:- لذلك يكون من السخف البحث عن هوية فرعونية أو قبطية أو عربية أو إسلامية. (المرجع السابق).

هذا هو عماد مشروع حسن حنفي، وهو يعده يسارياً لأنه ينطلق من منطلق الرافض لسلطان السماء وسلطان الأرض، فهو رجل ثائر وكذلك اليسار معارض ثائر.

ومما يلاحظ أن قيام الثورة الإيرانية الشيعية قدم دعما عقديا للفكر اليساري/ الديني، وكذلك عمق كثير من المفكرين القادمين من الماركسية إلى الإسلام!! تنظيرات اليسار الديني من أمثال عادل حسين المصري/ حليف الإخوان المسلمين هذه الأيام في حزب العمل، ومنير شفيق الفلسطيني في الكثير من طروحاته وأفكاره التي بدت لأول وهلة سلفية الاتجاه، وسنرى فيما يأتي تأثر الثوريين في داخل صفوف الحركات الجهاديه بهذه الطروحات في خطابتهم.

وللذكر فإن حنفي لم يبدأ أفكاره بهذا الطرح إنما بدأها على قاعدة (أن نقد التراث الديني هو الشرط الضروري لنقد المجتمع وإن نقد الدين هو المقدمة الضرورية لتحريك الواقع وثورته).

هذا هو حسن حنفي خاليا من كل الحواشي التي ملأ بها كتبه، وتبجح فيها بكثرة معرفته بأسماء الكتب وأسماء المؤلفين ونقل الصفحات الكاملة منها، وادعائه معرفة الفرق والذاهب وأقوالهم في الربوبية والنبوة والشريعة، وهي معرفة وإن عدها صعالكة المثقفين وغمار الكتاب شيئا عجيبا أدت بهم إلى الإنبهار والدهشة لكنها في الحقيقة ليست من ذلك في شىء فصغار طلبة المدارس الدينية في آخر دولة بني عثمان يعرفون أكثر منها، ويحفظون أضعافها.

ولكن هل يعتبر حسن حنفي النص الديني (القرآن الكريم) إلهياً؟ وهل يعتبر النموذج النبوي صورة واقعية لهذا النص؟

حسن حنفي يعتبر أن القرآن نص إنساني (من خلال فذلكة معينة يطول شرحها كما هو قول عامة هذه الزمرة الخبيثة أمثال أركون ونصر حامد أبو زيد وغيرهم) يقول متسائلا مقررا:- ففي موضوع النبوة ما العيب في القول بأن نظم القرآن ليس بمعجز في ثقافة تقوم على الإبداع الشعري واللغوي؟؟ ليس القرآن كتاب تحليل وتحريم بل كتاب فكر وليس الغرض منه تغليف العالم بقوانين وتقييد السلوك الإنساني بقواعد بل مساعدة الطبيعة على الازدهار والحياة على النماء.. وما أسهل أن يولد الدفاع عن حق الله دفاعا مضاداً عن حق الإنسان (من العقيدة إلى الثورة)، بل ويتصور أن النبي صلى الله عليه وسلم على صورة من السياسي الذي لا يقيم شأناً للمبادىء والقيم على حساب المصالح والنتائج، ولذلك عندما سئل عن حادثة الغرانيق (وهي قصة مكذوبة مفادها أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد لأصنام قريش حتى يقربهم للإسلام) أقر هذه القضية وأيد ما قاله الزنديق سلمان رشدي في آياته الشيطانية، وصرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قبل هذا العرض، وهذا ما دفع الشيوعي الأوقح عبارة (صادق جلال العظم) في كتابه (ذهنية التحريم) أن يثني على موقف حسن حنفي هذا واعتبره قمة العلم والموضوعية. (ألا لعنة الله على الظالممين).

يقول حنفي: وما ورد بخصوص (الآيات الشيطانية) صحيح. ومن بين أسباب النزول هو أن النبي محمداً كان يحمل هم الوحدة الوطنية للقبائل العربية وتكوين دولة في الجزيرة العربية، وكانت له مشاكل مع اليهود والنصارى (مع اليهود بصورة خاصة) ومع المشركين أيضا، فجاء المشركون إليه بعرض جيد -وأنا أتكلم عن الرسول كرجل سياسة وليس كنبي- وقالوا له: نعم أيها الأخ، ما المانع أن تذكر اللات والعزى لمدة سنة واحدة وقل أنهم ليسوا آلهة.. فقال بينه وبين نفسه: إن هذا العرض يشكل بالنسبة لي كزعيم سياسي شيئا جيدا لأنه يحقق لي مصالحة مؤقتة مع العدو، وماذا يعني لو أنني ذكرت اللات والعزى لمدة سنة واحدة ثم أغير بعدئذ؟ ثم إن الوحي يتغير طبقا للظروف. (الإسلام والحداثة/ندوة مواقف ص234).

فعماد أسس حنفي في مشروعه كما شأن بقية جوقة (القول على الله بغير علم) : هو الابتعاد عن مفهوم الدين والخضوع لديان وإله غيبي، له نعمل وبأمره نمتثل، ومن أجل رضاه نسعى ونحفد، ومن أجل جنته نموت ونحيا، إن بنينا الدنيا فمن أجل الآخرة، وإن خربت دنيانا فلأن مصلحة الدين أولى وأرفع، كل هذه المفاهيم والقواعد والتصورات التي امتلأ بها القرآن الكريم وحفلت بها السنة النبوية، كل هذا لا وزن له عند حسن حنفي وزنادقة هذا العصر، بل الأمر كل الأمر -إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر- ولذلك هو ينكر انتهاء الحياة الدنيا ووجود يوم آخر لها. (انظرج4 من العقيدة الى الثورة حيث جعل الحياة الدنيا خالدة لا نهاية لها).

اما ما يخص الشريعة وتبديلها وتعديلها لموافقة روح العصر (كما يزعم) فهو موقف ينطلق من منطلق التصورات والعقائد السابق، فأنه يرى أن الشريعة يجب أن تتبدل كلما دعت الحاجة إلى ذلك.

هذا هو حسن حنفي، وهذه أفكاره وتقريراته وعقائده، وما تعظيمه وتبجيله إلا عمل جرى عليه العلمانيون مع كل رجل يريد سلب إيمان الأمة والتصاقها بدينها، وقد صار واضحا لكل ذي عينين مبصرتين أن تطبيل أزلام الفكر العلماني ما هو إلا من قبيل النفخ في رموز استمرأت الهجوم على مقدساتنا وديننا.

ومما يجدر التنبيه عليه أن الدراسات التي تقوم على تفسير ديننا وتراثنا على هذا النمط هى طريقة مستقاة من طريقة الشيوعين الأوائل في روسيا حيث دعا إمامهم الأكبرلينين الى التعامل مع التراث بالقضم والتأويل والإنتقاء لما يريد وهذا خلال مناقشات لينين مع الوطنيين الروس، حتى يكون الثوري تراثيا مع تقدميته ويكون هو -الحافظ للتراث والأكثر أمانة له- حسب تعبير لينين نفسه ، وهي كما نرى- أنجح طريقة لنبذ الدين والقضاء عليه، فإنه ليس هناك طريقة أعظم من القضاء على الدين بسيف الدين نفسه، كما يقول جمال الدين الأفغاني كما ينسب له مكسيم رودنسون.

منطلقات وأثار هذا الكفر والزندقة:

في الحقيقة ليس هناك خوف كبير من هؤلاء على مجتمعاتنا وشعوبنا لأسباب متعددة أهمها أنهم أبعد ما يكونون عن فطرة شعوبنا المسلمة، ولذلك فخطابهم في داخل المجتمعات المسلمة خطاب مرفوض مستنكر، وهم يزمزمون بكلماتهم هذه في كتب يتداولها الخاصة وطلبة الجامعات، وفي أنديتهم، وأفكارهم هذه هي عمل متأخر لما يقوم به حكام بلادنا، إذ أن حقيقة أفكارهم اسباغ لما تقوم به الدولة من تشريعات ومناهج ونظم، وما تعانيه الأمة من التطبيقات العملية لهذه الأفكار أشد وأعظم من هذه الأفكار، وما دور حنفي وأمثاله إلا دور السحرة مع فرعون، حيث يزينون له أفعاله، ويجابهون الخصوم بسيف القلم، كما تجابه السلطه هؤلاء الخصوم بسوط الأمن والمخابرات، وبقيد السجون والمعتقالات، ولذلك ادعاء حسن حنفي أنه مع الإنسان ضد الله كذب وزور، بل هو في الحقيقة مع السلطة ضد الرب جل في علاه أولا وضد الأمة المسلمة ثانيا.

ولكن يكمن خطرهم الأكبر في تلقي قادة العمل الإسلامي لمبادىء هذه الطروحات الكافرة أو دعوتهم إلى الأخذ بالأصول النظرية لهذه الزندقة.

إن أول مبدأ يرتكز عليه هؤلاء الزنادقة هو تعدد الحق ونسبيته، فعندهم كل مجتهد مصيب، وهذا المبدأ يؤمن به الكثير من المعممين وأصحاب الكلمة في داخل الجماعات الإسلامية، فهم يعتبرون أن كل قول قاله أحد في تاريخنا الإسلامي هو فقه وقول اسلامي، سواء كان هذا القول في مسائل التصور والتصديق أم في مسائل الفقه والعمل، فالمعتزلة والخوارج والمشبهة والشيعة بكل أقسامهم هم نتاج اسلامي صحيح لأصل واحد تعددت فروعه على شكل متفق الأصول ولا اختلاف فيه، هذا في مسائل التصور، أما الإختلافات الفقهية فإن كل قول قاله عالم هو قول صحيح واسلامي ويجوز للمسلم أن يتعبد به، وهذا الإعتقاد عند هؤلاء القادة أفرز هذه الفتاوى الغريبة والمتضاربة وجعل هؤلاء الزنادقة يرتكزون عليه في بنائهم لهذه المقولات.

فعندما يسأل شيخ ما عن حكم الربا في ديار الكفر فيفتي بجوازه، وعندما يسأل عن الغناء فيفتي بجوازه، وعندما يفتي يجواز مشاركة الكفار في أعيادهم وبجواز دخول البرلمانات في دول الكفر بحجة أن هذه الأقوال قال بها بعض العلماء وهي فقه إسلامي، وحيث قالها بعض العلماء فيجوز لنا أن نأخذها ونتخير بينها، ولا نجد في ذلك حرجا، حين ترى تعرف حينئذ مرتكزات حسن حنفي في نظرية الإختيار بين البدائل، ولذلك إن ما وصل إليه حنفي مرتكز على هذا الأصل وهذا الإنحراف.

ولكن لنعلم أن هذه إحدى ركائز الزندقة التي حذر منها علماؤنا حين قالوا: من أخذ بزلة كل عالم تجمع فيه الشر كله، وكقولهم: من تتبع الرخص فقد تزندق. وهي ركائز حسن حنفي في تسمية ما يقوم به من زندقة أنها بناء من داخل التراث.

ثم هذا الإقرار لهذه الطوائف بأنهم أصحاب الإسلام الصحيح الذي نسمعه من هؤلاء المعممين والمفكرين من قادة الجماعات الإسلامية كالشييعة والخوارج والصوفية وأخيرا النصيريين، ماذا سيكون الفرق النظري بينهم وبين ما يقوله حسن حنفي من اعتبار تبني أي قول لهؤلاء لا يهدم التراث بل يختار منه؟!!

إنها في الحقيقة نفس المشكاة من الوجهة النظرية. . هذه واحدة ..

أما الثانية: فهو التعامل مع الأغيار من أجل المصلحة الدنيوية دون النظر الأخروي والرضا الإلهي. وبعبارة أوضح: الإسلام النافع لا الإسلام الصحيح.

حسن حنفي ومن لف لفه يريد أن يستخدم الموروث من أجل إصلاح الواقع والنهضة به كما يزعم، وهو يعتبر أن هذا الموروث هو الأصلح لهذه الإنطلاقة. وعلى ضوء هذا فهو لا يمنع من مشاركة الآخرين في تحقيق هذا المقصد. يقول: إن الذي يريد أن يحرر فلسطين باسم الله فليتفضل، والذي يريد أن يحرر فلسطين باسم الليبرالية أو الحرية أو باسم البروليتاريا العالمية أو باسم القومية العربية فليتفضل، أما أنا فيهمني تحرير فلسطين ولا أدخل في الأطر النظرية (ندوة مواقف).

هذا الذي يقوله حسن حنفي هو عين ممارسة الكثير من الحركات الإسلامية على مستوى التطبيق العملي حينا وعلى مستوى الخطاب حينا آخر.

فما هذه التحالفات بين الحركات الإسلامية وبين ما يسمى بالوطنيين (وهوأكبر وأعظم ما وقعت فيه الحركات الإسلامية من موبقات وجرائم وللاسف قلما خلت من حركة إسلامية أو رمز إسلامي) إلا تطبيقا عملياً لما ينظر له حنفي وأمثاله.

الإخوان المسلمون في مصر، والرفاه في تركيا، والإخوان المسلمون في الأردن ومشروع الكتلة الواحدة في الإنتخابات البرلمانية، وحزب الإصلاح اليمني (إخوان وخلائط) والنهضة التونسية مع شخصيات المعارضة المهترئة، كل هذه التحالفات منطلقها تحقيق مصالح العباد دون النظر إلى قيمة الدين ومصلحته، وهو خلاف ما ورد في الشريعة أن مصلحة الدين مقدمة على كل مصالح الوجود من مال وعرض وعقل ونفس. فإن الأموال تنفق في سبيل هذا الدين، والنفوس تبذل في سبيل هذا الدين، كل هذا لا قيمة له عندهم ويرونه من التخلف الفكري والجمود السياسي والسلفية الجامدة فيا ضيعة هذا الدين على أيدي هؤلاء الورثة.

ولذلك نجدهم أبعد الناس عن مفهوم الولاء والبراء على أساس ما هو للغيب والآخرة وأبعد الناس عن قوله صلى الله عليه وسلم: (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله)، بل إن الكثير منهم يقول عين ما يقوله حسن حنفي في هذا الباب: دعونا من الخصومات حول الله وصفاته والآخرة وأهميتها ولنرجع إلى همومنا السياسية والإقتصادية والاجتماعية.

هذا على مستوى التطبيق في العمل.

أما تأثر الإسلامين بهذه العقيدة على مستوى الخطاب، فهو أمر قلما خلا منه تيار إسلامي سواء كان دعوياً أو سياسياً أو جهادياً (إلا من رحم ربي).

واختصار وصف هذه الظاهرة المبتدعة نقول:

النهضة بالأمة عندنا هي بتحقيق العبودية لله وذلك بالإيمان بالله تعالى وتصفية النفس من علائق الشهوات للوصول إلى الإخلاص الكلي للدار الآخرة ( الآخرة بمفهوم شرعي صحيح بعيد عن التأثر الصوفي الفاسد)، ومهمة الدعاة إلى الله بيان الأعمال الشرعية التي تحقق هذا الهدف، فما من عمل يطلبه الداعي من الأمة إلا وهو محتف بغلاف تحقيق الرضا الإلهي وبلوغ الجنة، وقد جعل الله الدنيا تبعا لهذا الأمر، وقد تفوت الدنيا، وفواتها لا يؤثر على إقبال المرء على العمل في شىء. وكلما ازداد المرء والشعب قربا من الله وأخلصوا أعمالهم لله وامتلأت قلوبهم بحب الدار الآخرة كلما حقق الداعي إلى الله وصاحب الكلمة هدفه. فليس المقصود ذات العمل فقط ولكن لب العمل وجوهره هو تحقق العبودية في قلب الإنسان.

على ضوء هذا فكل خطاب ينتسب إلى الإسلام ولا يملأ الأمة بهذا فهو خطاب ليس من الإسلام في شىء وإن إدعى صاحبه إسلاميته.

حين نطلب من الأمة أن ترتقي في درجات الوعي والعلم فهو من أجل هذا. وحين نطلب من الأمة أن تجاهد فهو من أجل هذا، وحين نطلب منها أن تثور على طواغيتها فهو من خلال هذا الإطار وهذا البعد.

فالداعي إلى الله لم يسق الناس إلى أهداف الإسلام وإلى تحقيق سلطان الله في الأرض من خلال شهوات زائلة، ومن أجل رغيف خبز، ولا من أجل أرض مغصوبة، لكننا نسوق الناس إلى أعمال البر والتقوى من أجل تحقيق رضا الله والدار الآخرة.

إن هناك فرقا كبيرا بين أن تدعو الناس بآية من كتاب الله تعالى فتملأ جوانحهم بالرغبة فيما عند الله تعالى وبين أن تقول لهم: إنك عاري وإنك جوعان فثر لبطنك وبدنك. وهذا الذي نقوله لا يعني أبدا أن لا نستخدم نتائج الجاهلية فيما يرى الناس ويعيشونه من أجل تبغيض الناس بها ومن أجل تنفير الناس عنها، ولكن هناك فرق بين أن يكون هذا تبعا أو أن يكون هذا الخطاب هو الأصل وفقط.

ونقطة أخرى في الفرق بين خطاب القرآن والسنة وخطاب السياسين المعاصرين، أو بمعنى آخر: الفارق بين الخطاب السلفي الصارم والخطاب السياسي المتميع، هو كشف خطاب كل واحد منهما لهم الداعي الداخلي، فالرجل الذي لا يثور ولا يتحرك عندما يرى الشرك في العبادات من عبادة قبور والتجاء إلى الأضرحة، ثم تثيره عندما يرى أعظم جرائم الوجود عنده هو اغتصاب السلطة عن طريق الغلبة والقوة، لهو دليل على أن سلم الأولويات لديه مختل جاهل بحساب الشرع والدين، ولذلك هو عدو لمعاوية رضي الله عنه، صديق وولي للصوفية والمشعوذين والقبوريين، ثم يلتقي مع الإسلاميين الذين هم ضد السلطة حتى ولو كانوا من أفسد الناس نظرا لقضايا التوحيد والعبادة، أما الخطاب السلفي فإنه يكشف هم الرضى الإلهي والنظر الأخروي، وعلى ذلك تستطيع أن ترى الفارق بين الأمرين جلياً في الكثير من الأمور والقضايا والأحكام ونوع الخطاب.

إن هذا الخطاب له مقدمات في نفوس هؤلاء الدارسين والخطباء في الصف الإسلامي -لعلنا نأتي على بعضها يوما ما- لكن أهمها هو حالة الإعجاب والإنبهار بما وصل إليه الآخرون من بناء للدول والتنظيمات والإطلاع على كتبهم من أجل المعرفة والتعلم والتلقي، وأمر آخر هو أن هؤلاء هم من أجهل الناس بحقيقة هذا الدين، والعظيم فيهم من أخذ منه شيئاً يسيرا في صباه، ثم رأى في نفسه صلاحية الحديث عن روح الدين وقواعده العامة.

إن من أمانة هذا الدين وحقه علينا وفي أعناقنا هو أن نكشف نهايات وفروع هذه الأفكار المنحرفة في داخل صفوفنا، وهو أمر شاق وعسير لأنه متقنع بلباس الإسلام وراية السلفية ودعوى الثورية والجهاد.

وأخيرا إن الخطورة من أمثال هؤلاء الزنادقة من أمثال حسن حنفي هي كخطورة الفلاسفة في تاريخنا على الفقهاء والمتكلمون فلئن عجز الفلاسفة أن يقودوا الأمة وتياراتها فإنهم لم يعدموا الشر بأن يتنشق المتكلمون والفقهاء والمفكرون زمرمة هذه الفلسفة ويعيدوا صياغة الشريعة والدين على أساسها.

والله الحافظ لدينه وقرآنه.