صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 15 من 27

الموضوع: الفكر الإسلامي والقضايا السياسية

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    المشاركات
    1,636
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي الفكر الإسلامي والقضايا السياسية

    سلسلة حلقات في شهر رمضان المبارك ، كتبها ومازال يكتبها أحد أهل العلم من الفقهاء ، هو الشيخ أحمد الريسوني الذي كرس حياته لخدمة هذا الدين والدعوة إليه، لا طالما تصدى إلى العلمانيين وهذه الحلقات تصب في نفس المنحى ، فهي حلقات علمية فكرية تناقش علاقة الإسلام بالسياسة ،، أطرحها للإخوة الأساتذة وعلماء منتدى التوحيد بُغية قراءتها قراءة متأنية فاحصة، ومناقشة ما فيها مناقشة علمية ، ليتحقق النفع وتعم الفائدة ، هذا الرابط سوف يكون مخصصا للحلقات سوف توضع تباعا ، على أن يُفتح رابط مستقل لمن يريد أن يدلي بدلوه في الموضوع...
    بسم الله أبدأ وضع الحلقات

    الحلقة الأولى :
    الإسلام والفكر الإسلامي

    مما لاشك فيه أن الإسلام ـ بكل ما ينبثق منه من فكر وثقافة وممارسة ـ قد سجل حضورا فاعلا وتأثيرا قويا في هذا العصر، وخاصة خلال العقود الأربعة الأخيرة ( 1967/2007 ). وهو ما فرض على جميع الأطراف السياسية والفكرية والإعلامية ، أن تخصص حيزا متزايدا للإسلام ولكل ما ينبثق عنه من أفكار ومواقف ،وما يجري باسمه من أفعال وردود أفعال .
    وهكذا أصبح الإسلام والإسلاميون ، والفكر الإسلامي والتراث الإسلامي ، موضوع أبحاث ودراسات وتقارير ، لمختلف أصناف المهتمين ؛ من سياسيين وعسكريين وأمنيين وأكاديميين وإعلاميين ...حتى لقد أصبح الاهتمام بالإسلام وحركته ، ضرورةً مهنية ، بل تخصصا مهنيا لدى الكثيرين . وهكذا ـ فجأة ـ بدأنا نقرأ ونشاهد مثل هذه الصفات ، لبعض المثقفين والصحفيين والسياسيين : خبير في القضايا الإسلامية ، باحث في الحركات الإسلامية ، مستشار في الشؤون الدينية ، مستشار في التنظيمات الإسلامية ، باحث في الفكر الإسلامي ، مفكر إسلامي ، خبير في قضايا الإرهاب ... لقد ظهر جيش من " الإسلامولوجيين" ، من العرب والعجم ، ومن الشرق والغرب .
    كما ظهرت مؤسسات ومراكز ومختبرات ، مخصصة لرصد الظاهرة الإسلامية وتحليل ما يصدر عنها وكشف "خفاياها وخلفياتها"...
    وكل هذا يضاف إلى ما تعرفه الساحة الإسلامية نفسها ، من تعدد وتنوع في تياراتها وتوجهاتها ومدارسها الفكرية ، عدا الأفراد ، من دعاة ومفتين ومنظرين ...
    هذا الواقع المشار إليه ، يلزمني ـ قبل الانطلاق في هذه الحلقات عن الإسلام والفكر الإسلامي وقضايا العصر ـ أن أتوقف قليلا للتوضيح والتذكير ببعض الأوليات والمنطلقات والمصطلحات .
    الإسلام والفكر الإسلامي ؟
    ـ أعني بالإسلام أولا : القرآن الكريم .
    ـ وثانيا: ماصح من السنة النبوية . فكل سنة نبوية اتفق أهل الاختصاص على صحة ثبوتها ، فهي إسلام ، وهي من الإسلام .وكل ما اختلفوا في تصحيحه ، فهو في محل النظر والاجتهاد ، ولا يلزم إلا القائلين بصحته ، ومن اطمأنوا إلى تصحيحهم.
    ـ وأعني بالإسلام : ما دلت عليه نصوص القرآن والسنة الصحيحة ، من المعاني والأحكام ، ومن المقاصد والقواعد ، دلالة صريحة واضحة . وفي مقدمة ذلك ما وقع عليه الإجماع ، ثم ما اتفقت عليه المذاهب الإسلامية المتبَعة ، واستقر عندها على مر العصور.
    وما سوى هذا مما فيه اختلاف وأخذ ورد ، فهي اجتهادات وآراء وترجيحات ، تقدر وتحترم بقدر حجتها ووجاهتها ، ولكنها تخضع للمراجعة والتمحيص ، ويؤخذ منها ويرد ، أياً كان أصحابها ، وأياً كان مقامهم وعددهم .
    الفكر الإسلامي ؟
    وأما الفكر الإسلامي ، فأعني به كل الاجتهادات والإنتاجات والإبداعات الفكرية ، التي تلتزم بالإسلام مصدرا ومرجعا أساسيا لها.
    ـ ويكون الإسلام مصدرا ، حين يكون الاجتهاد الفكري متعلقا بالاستمداد المباشر من الإسلام ، واستنطاق نصوصه ومبادئه ، واستخراج حلوله وإجاباته ، وتركيب منظوماته ونظرياته ، بحسب ما يراه العالم المفكر.
    ـ ويكون الإسلام مرجعا ، حين يجتهد الباحث والمفكر، معتمدا على تخصصه وفكره ونظره ، مستعينا بكل الأدوات والمعطيات العلمية المتاحة له . لكنه يفعل ذلك كله في ضوء الإسلام ومقاصده وقواعده وثوابته، فيقبل ما توافق معها ، وما لم يتعارض معها ، ويرد ما سوى ذلك
    فالفكر الإسلامي إذاً ، هو جهد بشري وفكر بشري من جهة ، ولكنه يمتاز بكونه إسلامي الاستمداد والإطار، من جهة أخرى . فهو أيضا يؤخذ به ويعتمد عليه ، على قدر حجته وقوته وفائدته ، وعلى قدر تطابقه وتوافقه مع أدلة الشرع ، ويُرَد منه بقدر ما يكون على خلاف ذلك . وكما قال الإمام مالك رحمه الله : كل واحد يؤخذ من كلامه ويُرَد ، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
    وفي جميع الأحوال ، فإن الفكر الإسلامي يمثل إثراء للثقافة الإسلامية وللحياة الإسلامية ، ويمثل مدخلا ومعبرا لا غنى عنه لكل دارس للإسلام ولكل متفقه فيه .فضلا عن كونه إثراء للفكر البشري عموما.
    وعلى العموم ، فما يسمى ( العلوم الإسلامية) أو ( العلوم الشرعية ) ، من تفاسير ، وشروح للحديث النبوي ، وفقه ، وأصول فقه ، وفكر صوفي ، وفكر فلسفي ، ودراسات إسلامية تربوية أو اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية ...يدخل معظم ما فيه تحت مسمى الفكر الإسلامي . ولا نستطيع أن نجزم بشيئ منه على أنه إسلام ، أو أنه شريعة إسلامية ، إلا ما دلت عليه نصوص الشرع وأصوله ، بشكل واضح لا نزاع فيه بين جمهور العلماء.

    وظيفة الدين وحقيقته ؟

    لا شك أن الأديان المنزلة ـ في جوهرها ، ومن أولها لآخرها ـ إنما هي دين واحد . فحديثي عن الدين بصفة عامة ، وعن الإسلام بصفة خاصة ، هو حديث عن شيء واحد ، و إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ  [آل عمران/19]
    تحديد ( وظيفة الإسلام ) أو ( وظيفة الدين ) ، نقطة أساسية مركزية ، في كل مسعى لفهم الدين أو لاستنباط أحكامه ، أولمناقشة بعض قضاياه ، أو بعض القضايا المرتبطة به .خاصة بعد ظهور تضارب شديد ، يصل إلى حد التضاد والتنافي ، في هذه المسألة .
    فهل الدين أفيون الشعوب؟ أم الدين محرر الشعوب؟ وهل الدين نور وهداية ؟ أم هو ظلام وخرافة؟ وهل الدين هوداء السياسة ومفسدها؟ أم هو دواؤها ومصلحها؟ وهل الدين معضلة أمنية ؟ أم هو أمن واطمئنان؟ وهل الدين هومُشعل الحروب ووقودها؟ أم هو مطفئها ومُسَكنها؟ وهل الدين ينشر المحبة والوئام ؟ أم ينشر الكراهية والخصام؟ وهل الدين نعمة وسعادة ؟ أم هو محنة وشقاوة؟ وهل الدين يحل مشاكل الإنسان ؟ أم ينتجها وهو جزء منها؟
    والحقيقة أن كل واحدة من هذه الثنائيات المتناقضة ، يوجد من يعتقدها ويقول بها.
    ولنصطلح على تصنيف هذه الأوصاف المتضادة واختصارها في وصفين جامعين ، هما : الوجه الإيجابي ، والوجه السلبي ، للدين.
    وكذلك أسباب هذا الاختلاف والتضاد ، يمكن اختصارها وإرجاعها إلى سببين
    السبب الأول : هو الإيمان أو عدم الإيمان بالدين . فالمؤمنون بالدين يقولون بالوجه الإيجابي ، وغيرهم يقولون بالوجه السلبي.ولذلك بلغ الوجه السلبي أسوأ درجاته عند الماركسية التي وصفت الدين بأقذع النعوت ، وأشهرها (الدين أفيون الشعوب).
    السبب الثاني : هو مستند التصور للدين ووظيفته : هل هو الدين نفسه ، برسله وكتبه وتطبيقاته المرجعية النموذجية ؟ أم هو التدين الرديئ والممارسة التاريخية السيئة المسيئة؟
    فمن عول على المستند الأول ، فهو لا شك واجدٌ وجوها مُشْرقة ومُشَرفة للدين والتدين ووظائفهما الإيجابية الكثيرة.ومن عول على المستند الثاني ، فهو واجدٌ وجوها كالحة مظلمة ، لتوظيف الدين وسوء استعماله ، في مختلف الأزمان والأوطان.
    ولا شك أن الإنصاف يستوجب التعويل على الدين نفسه وعلى تطبيقاته الجيدة السليمة ، وعدمَ التعويل الانتقائي على الممارسات السلبية والتأويلات الظرفية ، التي سُطرت باسم الدين ، وهي في أحسن أحوالها اجتهادات تصيب وتخطئ .
    فإذا اعتمدنا على الدين نفسه في تحديد وظيفته ومقاصده ، فإننا نجد الوجه الإيجابي ـ بجميع تجلياته المشار إليها قبل قليل ـ لائحا واضحا لاغبار عليه.
    ـ تطالعنا أولاً سيَرُ الأنبياء ، والأدوار الفعلية التي قاموا بها في أزمانهم ، والآثار التي خلفوها بعد أزمانهم . إنهم المؤسسون للثقافات والممهدون للحضارات.وهم مصابيح الهداية والعدالة ، ورواد التربية والتزكية . وهم دعاة مكارم الأخلاق ، من محبة وتسامح وتراحم وتكافل.وهم المجاهدون ضد الجهل والظلم والفساد ...
    ـ وتطالعنا النصوص الصحيحة الصريحة ، التي تحدد رسالة الدين ووظيفته ، بما لا يقبل الالتباس أو التأويل ولا يحتاج إلى شرح أو تعليق.
    ـ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى [طه/123]
    ـ كقوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ  [الأنبياء/107]
    ـ وقوله سبحانه  لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد/25]
    ـ وبشيئ من التفصيل نجد ـ مثلا ـ قوله عز وجل:
     وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ
    وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا
    رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا
    وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ
    وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا
    إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا
    وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا
    وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا
    وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ
    وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا
    وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
    وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا
    وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا
    وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا
    وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا
    كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا  [الإسراء/23-37]
    فهذه جملة من مبادئ الإسلام وتعاليمه وأولوياته ، لا يحق لأحد تجاهلها أو تجاوزها، وهو يريد تحديد رسالته وحقيقة وظيفته في هذه الحياة . بل هي المعيار والحَكَم على كل فكر إسلامي ومدى إسلاميته.
    على أن هذه الحلقات التي أكتبها تحت عنوان ( الفكر الإسلامي وقضايانا المعاصرة) ، إنما هي بالدرجة الأولى تعبير عن فهم صاحبها وفقهه في الدين . فما وافق منها مبادئ الإسلام وأدلته فذاك المبتغى والمرمى، وما لم يوفق في ذلك فهو رأي يُعرض في سوق الآراء.
    كما أن التعبير بـ(الفكر الإسلامي) ، لا يعني أنني أعبر عن غيري من المنتسبين لهذا الفكر، بل هي اجتهادات وآراء تخص كاتبها وعلى مسؤوليته.
    وأما التعبير بـ(قضايانا المعاصرة) ، فالمراد به خاصة بعضُ القضايا التي تهم الفكر الإسلامي والعالم الإسلامي ، في عصرنا وظروفنا، وذلك مثل : الدين والدولة ـ الدين والسياسة ـ نظام الحكم في الإسلام ـ الإسلام والديموقراطية ـ العنف والإرهاب ـ تطبيق الشريعة ـ الحريات العامة ـ عقوبة الردة ـ الوحدة والتعددية ـ قضية المرأة ...
    وكل هذا ـ أوغيره أو بعضه ـ بحسب ما يتيسر.
    وما توفيقي إلا بالله ، علي توكلت وإليه أنيب.
    {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}

    وكيف يعرف فرق ما بين حق الذمام وثواب الكفاية من لا يعرف طبقات الحق في مراتبه، ولا يفصل بين طبقات الباطل في منازله‏. [ الجاحظ ]

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    المشاركات
    1,636
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي الحلقة الثانية

    أحكام الدين وأحكام الدنيا في الفكر الإسلامي

    لعل عنوان هذه الحلقة لايعبر عن حقيقة القضية التي أريد تناولها ، ولا يعكس أبعادها وأهميتها ، على نحو ما أعنيه . وذلك راجع إلى كون قضيتنا هذه ، ليست مطروقة على النحو المركب الجامع ، الذي أريد بيانه الآن . وفي إشارات سريعة إلى بعض مضامين القضية وتجلياتها ، يمكن أن أذكر من مشمولاتها:
    ـ علاقة ما هو ديني بما هو دنيوي ، والفرق بينهما في التشريع الإسلامي
    ـ الثابت والمتغير في التشريع الإسلامي ،
    ـ علاقة الدين بالسياسة ،
    ـ علاقة الدين بالدولة .
    ـ وهنا تدخل القضية الحديثة والحداثية : العلمانية وفصل الدين عن الدولة.
    في أدبيات الفكر الإسلامي الحديث ، يتردد بقوة وحسم : كل ما هو دنيوي فهو ديني ، وكل شؤون الدولة تدخل في الدين ، ولا فرق بين أحكام الصلاة والصوم ، وأحكام السياسة والحكم ، وأحكام الله ثابتة لا تتغير، والعلمانية كفر أو أخت الكفر ...
    وهذه المقولات كلها تحتاج إلى تحرير وتدقيق.
    وأماالفكر الإسلامي القديم ، فرغم أنه لم يعالج هذه القضية في أصولها وشموليتها ، إلا أنه أقرب إلى الدقة والاعتدال في مقاربة عناصرها، من الفكر الإسلامي الحديث، المتسم بالتوتر ورد الفعل، ضد التوجه العلماني المتغرب ، الذي سيطر أصحابه على مقاليد الأمور في عامة البلدان الإسلامية.
    لقد عبر العلماء القدماء ـ وخاصة منهم الفقهاء ـ عن عناصر هذه القضية بعدة تقسيمات ثنائية لأحكام الدين وشريعته ، تدل في مجملها على وجوه من التمييز والتفريق ، بين صنف وصنف ، ومجال ومجال، وخصائص وخصائص. مع أن الجميع عندهم دين وشرع . وفيما يلي عرض سريع لبعض العناصر والمصطلحات التي عبر من خلالها المتقدمون عن جوانب من هذه القضية ، قبل أن أعود للنظر في دلالاتها الإجمالية .
    1. التمييز بين ما هو ديني وما هو دنيوي
    لقد دأب العلماء على التعبير بمثل هذه الصيغ الثناءية : الدين والدنيا ، مصالح الدين ومصالح الدنيا ، المصالح الدينية والمصالح الدنيوية ، كما في قول الإمام الغزالي : " وأحكام الخلافة والقضاء والسياسات ، بل أكثر أحكام الفقه ، مقصودها حفظ مصالح الدنيا ، ليتم بها مصالح الدين"
    وكما في قول الإمام الشاطبي: " المصالح الدينية مقدمة على المصالح الدنيوية على الإطلاق"
    وكما في قول الفقيه الحنفي الكبير شمس الدين السرخسي ، عن عقد الزواج : " يتعلق بهذا العقد أنواع من المصالح الدينية والدنيوية "
    وللفقيه الشافعي المفكر أبي الحسن الماوردي كتاب نفيس سماه (أدب الدنيا والدين ) ، قال في بدايته " وأَعظم الأمور خطرا وقدرا وأَعمُّها نفعا ورِفْدًا ما استقام به الدِّين والدنيا"
    2. الضروريات الخمس: دين ودنيا
    والضروريات الخمس هي المصالح الكبرى ، التي عليها مدار الشريعة وسائر الشرائع المنزلة . ٍوهي ـ للتذكير ـ : الدين ، والنفس ، والعقل ، والنسل ، والمال.
    فها هنا أيضا نلاحظ أن العلماء ميزوا بين الدين وغيره من الضروريات الأخرى ، مع أن تلك الضروريات كلها يمكن إدراجها في حفظ الدين ، لأن أحكامه ورعايته تتضمن حفظها . ولكنهم عَنَوْا بالدين هنا : ما يشمل العقائد والعبادات والأخلاق الإيمانية، ثم وزعوا ما سوى ذلك من أحكام الشريعة على ضروريات ومصالح أخرى غير الدين.
    3. تقسيم الشريعة إلى عبادات وغيرها
    جرى كافة الفقهاء والمذاهب الفقهية على تقسيم أحكام الشريعة والفقه الإسلامي ، إلى أبواب تشريعية كثيرة مختلفة. غير أن الثابت في هذه الأبواب، هو التمييز بين العبادات ، وغير العبادات ( من معاملات، وعادات، ، وأنكحة ، وجنايات ...). وحينما يختصرون ذكر الأبواب ، يقولون : عبادات وعادات ، أو عبادات ومعاملات. المهم أن هناك ـ دائما ـ قسم للعبادات ، وقسم أو أقسام لما سوى العبادات . والتقسيم هنا ليس مجرد تبويب وتصنيف فني، بل هو يتضمن تفريقا واعيا بين أحكام العبادات ، وأحكام غيرها من الأبواب التشريعية. بل إن الفقهاء والأصوليين كثيرا ما يصرحون ويوضحون الخصائص التشريعية ، التي تفرق بين العبادات والعادات، أذكر من ذلك :
    أ ـ أن أحكام العبادات قائمة على التعبد والتوقيف ، بغض النظر عن مقاصدها وحكَمها، وأن أحكام العبادات قائمة على المعقولية والتعليل ، كما قال الغزالي:" أغلب عادات الشرع في غير العبادات اتباع المناسبات والمصالح ، دون التحكمات الجامدة"
    وقال الشاطبي : الأصل فى العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبد دون الإلتفات إلى المعانى
    وأصل العادات الإلتفات إلى المعاني
    أما الأول فيدل عليه أمور:
    منها الإستقراء ؛ فإنا وجدنا الطهارة تتعدى محل موجبها وكذلك الصلوات خصت بأفعال مخصوصة على هيآت مخصوصة إن خرجت عنها لم تكن عبادات ...
    وأما أن الأصل في العادات الالتفات إلى المعاني ، فلأمور:
    أولها الاستقراء فإنا وجدنا الشارع قاصداً لمصالح العباد ، والأحكامُ العادية تدور معه حيثما دار ، فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة ، فإذا كان فيه مصلحة جاز..."
    ب ـ ما تقدم من القول بالمعقولية والتعليل ، يفسح الباب أمام إعمال القياس والاستحسان والاستصلاح ، ودوران الأحكام مع عللها وجودا وعدما، وذلك في أبواب العادات والمعاملات دون العبادات.
    ج ـ أن الأصل في العبادات هو الحظر. فلا عبادة ، ولا زيادة ولا تغيير في العبادة ، إلا بنص. وأما العادات والمعاملات ، فالأصل فيها الإباحة ، ولا حظر إلا بنص .
    4. حقوق الله وحقوق العباد
    وهذا وجه آخر من وجوه التمييز بين صنفين من الأحكام والتكاليف الشرعية. وبغض النظر عن تعريفات الفقهاء والأصوليين ، لكل من حقوق الله وحقوق العباد ، ومعاييرهم في التمييز بين الصنفين ، فإن حقوق الله تمثل الأحكام الأساسية الضامنة لأركان الدين وأركان المجتمع، وحقوق العباد تمثل المصالح الحاجية للأفراد والجماعات . وأهم معيار متداول للتعريف والتمييز ، هو أن حقوق الله هي ما لا يقبل التغيير ولا الإسقاط ، وأن حقوق العباد هي ما يحق لهم التصرف فيه أوإسقاطه والتنازل عنه.
    وعموما ، فإن هذا التقسيم يشير إلى وجود صنفين ، يتميز أحدهما بالثبات والاستقرار، ويتميز الآخر بالمرونة والقابلية للتصرف والتعديل.
    5. تصرفات الرسول بالرسالة وتصرفاته بالإمامة
    ميز عدد من العلماء ـ قديما وحديثا ـ بين أصناف من التصرفات (الأفعال والأقوال) التي صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأهمها صنفان :
    أ ـ الصنف الأول : ما صدر عنه بصفته نبيا رسولا عن الله تعالى، وهو في هذه الحالة يبلغ الوحي وينفذه ، يبلغ الرسالة ويؤدي الأمانة.
    ب ـ الصنف الثاني : ما صدر عنه بصفته إماما ـ أي رئيسا ـ لجماعة المسلمين ولدولتهم . وهو في هذه الحالة يقوم بما يتطلبه منصبه السياسي والاجتماعي، ويقدم اجتهادات وحلولا وتدابير، مفصلة ومقدرة ، بحسب مقتضيات الزمان والمكان والحال.
    وهنا أيضا تتميز أحكام الصنف الأول باللزوم والدوام (أي بالصفة التشريعية الدينية) ، وتتميز أحكام الصنف الثاني بالظرفية والزمنية(أي بالصفة الاجتهادية السياسية ). وهذا الصنف الثاني ينبغي أن يستفاد منه ، من منهجه وحكمته، ولكن لا ينبغي الالتزام بتفاصيله وحذافيره.
    6. الأحكام الشرعية والسياسة الشرعية
    والتفريق بين الأحكام الشرعية والسياسة الشرعية ، هو ترجمة وامتداد لما سبق من التفريق بين التصرفات النبوية بالرسالة ، وبالإمامة.
    فالأحكام الشرعية ، هي تقرير واستنباط وبيان ، لما بلغه ونفذه عليه السلام ، من أحكام الشريعة المنزلة .وأماالسياسة الشرعية ، فهي اقتداء وامتداد ومواصلة ، للتصرفات النبوية الصادرة بمقتضى الإمامة والسياسة.
    ما يعنيني الآن هو أن هذا التمييز بين (أحكام شرعية)، و(سياسة شرعية) ، يعطينا أيضا صنفين من الأحكام والمقتضيات ، كلاهما شرعي ونابع من الشرع ، ولكن أحدهما يمتاز بطابع الحسم التشريعي المستقر والمنضبط ، والآخر يمتاز بسعته ومرونته وقابليته للتغيير والتكييف ، مع تعدد الاختيارات فيه.
    قال ابن القيم رحمه الله:"وجرت في ذلك مناظرة بين أبي الوفاء ابن عقيل وبين بعض الفقهاء ، فقال ابن عقيل : العمل بالسياسة هو الحزم ، ولا يخلو منه إمام ، وقال الآخر : لا سياسة إلا ما وافق الشرعَ ، فقال ابن عقيل : السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد ، وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي ؛ فإن أردت بقولك " لا سياسة إلا ما وافق الشرع" ، أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح ، وإن أردت ما نطق به الشرع فـغلط وتغليط للصحابة ..."
    وخلاصة القضية ونتيجتها : أن النظر والاجتهاد في أحكام الشريعة ومقتضياتها ، لا بد فيه من التمييز بين القضايا والمجالات . فليست كلها محكومة ومَسُوسة بنمط واحد وضوابط موحدة . وإذا كان للدين وشريعته تدخل وحكم وتوجيه ، في كل مناحي الحياة ، فإن الأحكام والقواعد والخصائص ليست واحدة في كل المناحي والمجالات.
    • فهناك مجالات نزلت فيها أحكام مفصلة ومكثفة ، وغير قابلة للزيادة أو النقصان، كالمعتقدات والعبادات والأخلاق.
    • وهناك مجالات فيها قدر من الأحكام المفصلة الثابتة ، وفيها أيضا متغيرات تراعَى فيها الأعراف والأحوال، وفق قيم وضوابط عامة ، وتدخل هنا أحكام الأسرة والجنايات والمعاملات المالية.
    • وهناك مجالات ليس فيها سوى مبادئ وقواعد ومقاصد، وتبقى مساحة الاجتهاد والاختيار، والتعديل والتطوير شاسعة فسيحة. وهذا ينطبق أكثر ما ينطبق على مجال الحكم والسياسة. ولنا فيه وقفات آتية إن شاء الله تعالى.
    {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}

    وكيف يعرف فرق ما بين حق الذمام وثواب الكفاية من لا يعرف طبقات الحق في مراتبه، ولا يفصل بين طبقات الباطل في منازله‏. [ الجاحظ ]

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    المشاركات
    1,636
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي الحلقة الثالثة

    قضية نظام الحكم في الإسلام

    لو كان للإسلام نظام سياسي معين ومحدد وثابت ، لما كان صالحا لكل زمان ومكان. فمن عظمة الإسلام وصلاحيته المتجددة ، أنه أتى بأحكام مفصلة ثابتة في المجالات الجوهرية المستقرة في حياة الإنسان ، في حين اكتفى بجملة من القواعد والمقاصد والمبادئ العامة ، فيما طبيعته التغيروالتنوع والقابلية لأكثر من وجه.
    ***

    عرضت في الحلقة الماضية عدة تجليات لوجود تمييز واضح بين صنفين من أحكام الشريعة:
    ـ صنف يتعلق بمجال العقائد والعبادات والأخلاق ، وهو يتميز بأحكامه المفصلة والمستقرة.
    ـ وصنف يتعلق بمجال العادات والشؤون الدنيوية والأحوال المتغيرة ، وهو يمتاز بقلة أحكامه التفصيلية ، واعتماده ـ بدرجة أكبر ـ على القيم والمبادئ العامة.
    وتوجد داخل كل صنف قضايا قد تقترب في طبيعتها وتتداخل في أحكامها ، مع قضايا الصنف الآخر.
    وعلى سبيل الاختصار والتبسيط ، يمكن القول : هناك صنف أحكامه مكثفة ، وصنف أحكامه مخففة . وقضايا الدولة والحكم والسياسة داخلة في هذا الصنف الثاني.
    وأما وصفي لأحكام هذا الصنف بأنها مخففة ، فأعني به أولاً التخفيف الكمي، فهي قليلة . وهي أيضا مخففة ، باعتبار المرونة في صيغها ووسائلها التنفيذية .
    ولا يدخل في هذا التخفيف ، تخفيفُ لزومها ، أو التساهل في العمل بها ، بل بالعكس ، فالمبادئ الكلية يجب أن تكون دائما موضع تشديد وتوكيد . وموجب هذا التوكيد والتشديد هو
    ـ أولا ـ كونها أصولا وأسسا ، ومن شأن التساهل والتهاون في الأسس أن يوصل إلى هدم البناء وتقويضه، بخلاف ما لو وقع ذلك في الفروع والجزئيات ، فالضرر يبقى محصورا عندها وبمقدارها. وثانيا، لأن المبادئ العامة هي أصلا تكون مرنة ـ أوفضفاضة كما يقال ـ فيكون فيها مجال للتقدير والتأويل والتوسيع والتضييق. وهذا في حد ذاته نوع من التسهيل والتوهين ، فإذا أضيف إليه شيئ من الإهمال والانتقاص والإلغاء لهذه المبادئ ، كان مؤذنا بتلاشيها وذهاب ريحها. فلذلك يجب دائما إعلاء شأن المبادئ وحمايتها والتشدد فيه.
    مجال السياسة والحكم والدولة والإدارة العامة، محكوم ـ إذاً ـ بالمبادئ والقواعد الكلية ، وليس بأحكام تفصيلية منصوصة . فليس عندنا في الإسلام "نظام" سياسي معين ، لا باسمه ولا بهياكله الدستورية ، ولا بترتيباته القانونية.
    وأنا أعرف أن هذا الكلام يغضب كثيرا من الغيورين الأعزاء ، وقد يرون فيه انتقاصا للإسلام وشريعته الكاملة الصالحة لكل زمان ومكان ...
    وأنا أقول : لو كان للإسلام نظام سياسي معين ومحدد وثابت ، لما كان صالحا لكل زمان ومكان. فمن عظمة الإسلام وصلاحيته المتجددة ، أنه أتى بأحكام مفصلة ثابتة في المجالات الجوهرية المستقرة في حياة الإنسان ، في حين اكتفى بجملة من القواعد والمقاصد والمبادئ العامة ، فيما طبيعته التغيروالتنوع والقابلية لأكثر من وجه.
    فلا وجود في الإسلام المنزل ـ أي القرآن وصحيح السنة ـ لما يسمى"نظام الخلافة الإسلامية"، بل"الخلافة" إنما تجربة تاريخية وممارسة بشرية ، لاأقل ولا أكثر. وحتى هذه التجربة التاريخية ، لا تعبر عن نظام موحد أو متشابه ، يمكن الحديث عنه وعن عناصره المشتركة الثابة. بل هي أنماط عديدة ، تختلف باختلاف الدول والأقطار والأفراد .
    وحتى الخلافة الراشدة ، كان بين عهودها الأربعة اختلافات سياسية وتنظيمية معروفة ، مع أن فترة الخلفاء الأربعة كلهم هي فترة قصيرة ، يوجد من حكامنا اليوم من تجاوزها بمفرده . فالنظام السياسي، والتدبير السياسي، والقرار السياسي، والعلاقات والمؤسسات السياسية ، هذه كلها أمور لا يجمعها في حقبة الخلفاء الراشدين ، سوى المبادئ والتوجهات العامة ، التي يعبر عنها وصف تلك الحقبة بالخلافة بالراشدة ، ووصف الخلفاء الأربعة ـ أو الخمسة ـ بالراشدين.
    وحتى الإسم ـ اسم "الخلافة والخليفة" ـ إنما هو اسم من الأسماء اللغوية التي وردت في النصوص ، للتعبير عن الحكام والرؤساء ، الذين يخلف بعضهم بعضا ، منذ أن خلف أولُهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم . وليس هناك أي لزوم شرعي لتسمية رئيس الدولة الإسلامية باسم الخليفة ، ولا لتسمية الدولة التي يرأسها باسم "دولة الخلافة" ، ولا لتسمية النظام الذي يحكم به باسم "نظام الخلافة". فهذه مجرد تسمية من بين التسميات اللغوية والتاريخية الكثيرة ، التي استُـعملت بالفعل، أو يمكن استعمالها. وحتى الحديث الضعيف الذي رواه الإمام أحمد وغيره ، وحسنه بعض المتأخرين ، وهو:« تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون خلافةٌ على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون ملكا جبرية فيكون ما شاء الله أن يكون ، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون خلافة على منهاج نبوة » ، حتى هذا الحديث لو سلمنا به ، فهو لا يحدد ولا يصف نظاما معينا جاهزا، ولا يُلزمنا بتسمية الخلافة ، وإنما يحيل على الوصف العام للخلافة الراشدة المهتدية بالنهج النبوي ، نهج الرأفة والرحمة والاستقامة... وهذا فيما لو صح الحديث.
    وعلى كل حال فليس لهذا الاصطلاح ـ في ذاته ـ أي فضل أو بركة ، ولا يُكسب أصحابَه أي شرعية أو مزية إضافية. وإنما الفضل والبركة ، والشرعية والمزية ، في الالتزام بالمبادئ والقواعد ، وتحقيق المصالح والمقاصد، ورفع الأضرار والمفاسد.
    وأهم ذلك :
    1. الشورى ابتداء وانتهاء
    قال الله تعالى عن صفات جماعة المسلمين وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ  [الشورى/38]. فمقتضى قوله وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ : أن كل أمر من الأمور المشتركة بين المسلمين ، مما يهم جماعتهم أو فئة من فئاتهم ، وليس فيه حكم منصوص ، فهو شورى بينهم . أي : يتم تدبيره والبت فيه بالتشاور والتقرير الجماعي بينهم، إما بشكل مباشر من عموم أصحاب الأمر، وإما بالوكالة منهم والنيابة عنهم.
    وأول الشورى في موضوع الحكم والسياسة، هو أن يكون اختيار الناس لحاكمهم (شورى بينهم) ، ويكون عزله إذا تعين عزله ، أو تغييره إذا تعين تغييره ، (شورى بينهم).
    وإذا احتاجوا إلى تحديد طريقتهم ـ أو تغييرها ـ لتولية حاكمهم ، أو احتاجوا لتحديد واجباته وصلاحياته ، أوصلاحيات غيره من المسؤولين معه ، أولتحديد كيفية إدارته للحكم ، بما في ذلك طريقة ممارسة الشورى أثناء الحكم ، فذلك أيضا (شورى بينهم).ولو أرادوا تحديد مدة حكم الحاكم الأعلى ، أو حتى غيره من الولاة والأمراء والوزراء ، فذلك (شورى بينهم)...
    2. المرجعية العليا للشريعة
    لا يمكن تصور نظام حكم ينتسب إلى الإسلام وإلى الشرعية الإسلامية، لا يجعل مرجعيته العليا هي الشريعة الإسلامية ، ولا يضع أحكامها الثابتة موضع التنفيذ . والآيات الآمرة بالحكم بما أنزل الله، والمحذرة من خلافه، كثيرة معلومة ، كقوله تعالى  وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ [المائدة/49] وقوله جل جلاله وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا [الأحزاب/36]
    وأقل التزام عملي بهذا المبدأ هو إقرار مرجعية الشريعة ، وعدم تبني ما يعارض قطعياتها ومسلماتها.وأما القضايا الخلافية أو القضايا المستجدة ، فـهي مجال للاجتهاد والترجيح.
    3. إقامة العدل بين الناس
    وهذا من البدهيات التي لا يجحدها أحد ، ولا يتأخر نظام أو حاكم عن إعلان تمسكه بها.
    ولأجل إقامة العدل أرسل الله رسله وأنبياءه ، وأنزل كتبه وشرائعه ، كما قال تعالى لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد/25]. والعدل مطلوب من جميع الناس وفي جميع الشؤون . ولكنه مطلوب بصفة خاصة ممن يتولون على الناس ويحكمونهم أويقضون بينهم . قال تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء/58]
    وإقامة العدل تتحقق أولا بتطبيق الأحكام الشرعية المنصوصة، ولكن ما يحتاج إلى العدل وليس فيه نص وحكم منصوص ، هو أكثر بكثير جدا مما هو منصوص عليه . وقد نجد بعض الحكام يطبقون ما هو منصوص، ولكنهم يملؤون الأرض جورا وفسادا فيما يعتبرونه ليس بمنصوص. فلذلك يظل العدل مبدأ وقاعدة عامة ملزمة ، في كل ما يصدر وما لا يصدر عن الولاة.
    4. تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة
    وهذه إحدى القواعد الفقهية الجامعة لمتطلبات الولايات والسياسة الشرعية . ومفادها أن أصحاب الولايات جميعا ، ليسوا أحرارا في تصرفهم وتدبيرهم لشؤون من تولوا عليهم . بل تصرفاتهم مشروطة ومقيدة بما فيه المصلحة لمن هم تحت ولايتهم.وإذا كان أمام أحدهم خيار بين ما هو صالح وما هو أصلح ، فلا يجوز له الأخذ بما هو صالح ، بل يلزمه الأخذ بما هو أصلح ، وإلا كان تصرفه باطلا .
    في تأصيل هذه القاعدة وبيان مضمونها ، يقول الإمام شهاب الدين القرافي :" اعلم أن كل من ولي ولايةَ الخلافة فما دونها إلى الوصية ، لا يحل له أن يتصرف إلا بجلب مصلحة أو درء مفسدة ، لقوله تعالى { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } ولقوله عليه السلام { من ولي من أمور أمتي شيئا ثم لم يجتهد لهم ، ولم ينصح ، فالجنة عليه حرام }. فيكون الأئمة والولاة معزولين عما ليس فيه بذل الجهد ، والمرجوح أبدا ليس بالأحسن بل الأحسن ضده ، وليس الأخذ به بذلا للاجتهاد ، بل الأخذ بضده . فقد حجر الله تعالى على الأوصياء التصرف فيما هو ليس بأحسن ، مع قلة الفائت من المصلحة في ولايتهم لخستها بالنسبة إلى الولاة والقضاة . فأَوْلى أن يحجر على الولاة والقضاة في ذلك . ومقتضى هذه النصوص أن يكون الجميع معزولين : عن المفسدة الراجحة ، والمصلحة المرجوحة ، والمساوية ، وما لا مفسدة فيه ولا مصلحة ، لأن هذه الأقسام الأربعة ليست من باب ما هو أحسن ، وتكون الولاية إنما تتناول جلب المصلحة الخالصة ، أو الراجحة ، ودرء المفسدة الخالصة ، أو الراجحة . فأربعة معتبرة ، وأربعة ساقطة ، ولهذه القاعدة قال الشافعي رضي الله عنه : لا يبيع الوصي صاعا بصاع لأنه لا فائدة في ذلك ، ولا يفعل الخليفة ذلك في أموال المسلمين . ويجب عليه عزل الحاكم إذا ارتاب فيه ، دفعا لمفسدة الريبة عن المسلمين . ويَـعزل المرجوح عند وجود الراجح تحصيلا لمزيد المصلحة للمسلمين." ـ الفروق 4 / 95 ـ 96
    {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}

    وكيف يعرف فرق ما بين حق الذمام وثواب الكفاية من لا يعرف طبقات الحق في مراتبه، ولا يفصل بين طبقات الباطل في منازله‏. [ الجاحظ ]

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    المشاركات
    1,636
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي الحلقة الرابعة

    الدين والسياسة

    كثيرون يريدون أن يدخلوا في الدين كل شيئ في الدين وأن يستخرجوا منه كل شيئ . حتى قال بعضهم : " لقد أحصى القرآن كل شيئ ، فلا حاجة بنا لأية معارف أخرى؛ لأن هذه المعارف الأخرى : إما أن تكون مؤيدة لما في القرآن ، فهي إذن فضول ، وإما أن تكون معارضة له ، فهي إذن ضلال."

    ***

    ما علاقة الدين بالفلسفة؟
    ما علاقة الدين بالعلم؟
    ما علاقة الدين بالسياسة؟
    ما علاقة الدين بالدنيا؟
    هذه الأسئلة وغيرها ، أسئلة قديمة جديدة .
    ـ كثيرون يريدون أن يدخلوا في الدين كل شيئ في الدين وأن يستخرجوا منه كل شيئ . حتى قال بعضهم : " لقد أحصى القرآن كل شيئ ، فلا حاجة بنا لأية معارف أخرى؛ لأن هذه المعارف الأخرى : إما أن تكون مؤيدة لما في القرآن ، فهي إذن فضول ، وإما أن تكون معارضة له ، فهي إذن ضلال."
    ـ وكثيرون آخرون يريدون إخراج الدين من كل شيئ ، وإفراغه من كل شيئ، حتى يصبح الدين نفسه مجرد مبحث تذكاري في بعض العلوم ، كالفلسفة أو التاريخ أو علم الاجتماع ...
    وقديما كتب ابن رشد(الحفيد) رسالته الشهيرة ( فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال ). وقد بين أن لكل من الفلسفة والشريعة خصوصيات منهجية ووظيفية، ولكنهما تتلاقيان وتتداخلان ، وأن الفلسفة ـ في أصلها ـ لا تناقض الشريعة بل تؤيدها وتخدمها، وأن الشريعة لاتمنع الفلسفة ، بل تأمر بها من تأهل لها.
    والحقيقة أن أبا الوليد بن رشد ، بشخصه وحياته ، هو الجواب الكامل عن كل هذه الأسئلة : لقد كان فيلسوفا عقلانيا، وكان طبيبا حكيما، وكان فقيها قاضيا . وقد تمازجت وتعايشت في فكره وحياته كل هذه الاختصاصات. ولم ينفجر عقله ولا اضطربت حياته! بل قيل عنه : "كان يُفزع إلى فتواه في الطب ، كما يُفزع إلى فتواه في الفقه"
    لقد كان ابن رشد فقيها في الطب والفلسفة ، طبيبا في الفقه والسياسة.وكثير من علماء الإسلام يشبهون الشرع بالطب ، كما في قول الشاطبي:" فإن الشارع هو الطبيب الأعظم"
    فعلاقة الدين بالسياسة ، هي كعلاقة الطب بالإنسان . فهي علاقة تطبيب وعلاج وقاية، وليست ـ وما ينبغي أن تكون ـ علاقة تنافس وصراع.
    لقد كان الأنبياء هم فضلاء السياسيين وأوائل السياسيين ، والشرائع المنزلة هي أعظم السياسات وأرقاها في تاريخ البشرية قاطبة . يقول الإمام أبوبكر الشاشي في مقدمة كتابه الرائد ( محاسن الشريعة) ، إنه ألف هذا الكتاب " للدلالة على محاسن الشريعة ودخولها في السياسة الفاضلة السمحة ولصوقها بالعقول السليمة."
    ويمكن لقائل أن يقول: إن "السياسة الفاضلة" المقصودة في هذا الكلام، هي غير السياسة التي نعنيها ونتعامل بها اليوم . وأقول : من هنا بدأت المشكلة، ومن هنا تضاعف احتياج السياسة والسياسيين إلى الشرع وسياسته وإلى الأنبياء وسياستهم .لقد اعتاد كثيرمن الناس ، واعتاد السياسيون خاصة ، أن يعتقدوا ويصرحوا بأن السياسة لا تحتمل الأخلاق والضوابط الخلقية والعقائدية.وهل للسياسة وأهلها من داء عضال سوى فقدان الحوافز الخلقية، ونبذ الضوابط الخلقية؟ وهل لهذا الداء دواء أنجع من "الطب الشرعي" ، الذي يعالج القلوب والعقول والنفوس؟
    يقول الإمام الغزالي:" والسياسة في استصلاح الخلق وإرشادهم إلى الطريق المستقيم المنجي في الدنيا والآخرة ، على أربع مراتب : الأولى وهي العليا ، سياسة الأنبياء عليهم السلام"
    إن السياسة التي بُعث بها الأنبياء ، هي أساسا سياسة تربيوية ، وسياسة تثقيفية ، وسياسة اجتماعية . واليوم أيضا تتحدث الحكومات والأحزاب السياسية ، عن السياسة التعليمية والتربوية ، وعن السياسة الاجتماعية ، وعن السياسة الثقافية ، وعن السياسة الإعلامية ، وحتى عن السياسة الدينية. ويتحدثون عن محاربة الفساد وتخليق الحياة العامة ...، فهل هناك من فرق جوهري؟
    وحتى السياسة الممثلة في رئاسة الدول وحكم الشعوب ، لم تكن خارجة عن رسالة الأنبياء وسياستهم وجهودهم الإصلاحية.ولقد كانت المشكلة الدائمة التي تواجه الرسل ودعواتهم ، هي"الملأ" ، أي الرؤساء والزعماء والسياسيون. وإذا أردنا أن تعريفا للقضايا السياسية ، نستطيع أن نقول :كل قضية يكون الزعماء والسياسيون طرفا فيها ، فهي قضية سياسية . وإذاً ، فحيثما وجدنا الزعماء والسياسيين يتصدون للأنبياء ، فمعناه أن القضية سياسية أو ذات أبعاد سياسية.فكيف إذا كان التصدي متبادلا ، أي من الطرفين معاً؟
    مثال ذلك : لقد تصدى موسى لفرعون ، وتصدى فرعون لموسى، وتواجهت السياسة النبوية مع السياسة الفرعونية...فهل يشك أحد في أن موسى كان يؤدي عملا سياسيا ، وأنه كان يواجه تحديا سياسيا ؟
    بل حينما نقرأ الآيات المتعلقة ببعثة موسى عليه الصلاة والسلام، نُـحس وكأن موسى لم تكن له إلا رسالة سياسية ، أوكأنه لم يُـبعث إلا لفرعون وبعض أصحابه المقربين ، من هذه الآيات نقرأ :
    • ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف/103]
    • وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [غافر/23-24]
    • اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [طه/24]
    • اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [طه/43]
    • إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا  [المزمل/15]
    ولم يكن موسى حالة استثنائية في عمله السياسي، فكل الأنبياء كانوا سياسيين بدرجة أو بأخرى. وسليمان النبي عليه السلام ، كان رجل دولة لا مثيل له. وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون"
    وأما خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم ، فقد مارس السياسة ، بكل ما للكلمة من معان ومضامين : من سياسة الدعوة والتربية، إلى سياسة التنظيم والتخطيط، إلى سياسة التدريب والتنفيذ، إلى تأسيس الدولة وتسييرها، إلى قيادة مجتمع وتدبير شؤونه ، إلى شؤون الحرب والسلم...
    وما أظن أحدا يطالبني بدليل أو مثال على هذا كله، فالمسألة أظهر وأشهر من أن تحتاج إلى شيئ من ذلك ، فلا أطيل فيما لا حاجة إليه.ثم إن التشريعات الإسلامية ، في القرآن والسنة والفقه الإسلامي، لم تترك مجالا سياسيا إلا ولها فيه أحكام تفصيلية ، أو قواعد كلية.
    فكيف أصبح كثير من مثقفينا وساستنا اليوم ، ينكرون أو يستنكرون الارتباط بين الدين والسياسة ، حتى كان أحد الرؤساء العرب دائم القول والصراخ : لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين ؟!
    في القرون الأخيرة ، احتدم النقاش ، بل احتدمت المعركة ، حول علاقة الدين بالسياسة.كان ذلك في أوروبا أولاً، ولفترة زمنية طويلة ، قبل أن يتم استنبات هذا النقاش وهذه المعركة في عالمنا الإسلامي.فما الذي حصل؟
    في أوروبا وعموم الدول الغربية ، تم فصل الدين عن السياسة إلى حد كبير ، وبقي ما بقي . وقد استتب هذا الوضع وأصبح مقبولا ومرضيا في الثقافة الغربية ، على تفاوت في ذلك . ثم بدأ نوع من التراجع والمراجعة في السنين الأخيرة ، لفائدة إعادة الاعتبار للدين في الحياة السياسية . ولعل آخر مظهر لهذا التوجه الجديد، هو النقاشات التي دارت في أوروبا حول صياغة الدستور الموحد للاتحاد الأوروبي وموقع الانتماء المسيحي فيه، وكذا رفض كثير من الأوروبيين انضمام تركيا إليهم لكونها مسلمة وهم مسيحيون، مما جعل كثيرا من المعلقين يصفون الاتحاد الأوروبي بالنادي المسيحي.
    أما في العالم الإسلامي، فإن محولات فصل الدين عن السياسة عموما ، وعن الدولة خصوصا ، قد عرفت ـ وما زالت ـ معارك طاحنة من جميع الأصناف. معارك طرفاها : الدول الغربية وأتباعها المحليون من جهة ، والشعوب والنخب الإسلامية من جهة أخرى.
    وعموما ، فإن جميع الخطوات والإنجازات التي نفذت في هذا الاتجاه ، كانت عبارة عن عمليات جراحية أليمة وغير ناجحة.كانت أُولى التجارب في العالم في العالم الإسلامي ، هي التجربة الانقلابية الدموية التي قادها كمال أتاتورك في تركيا ، باحتضان أوروبي تام ومستمر ، منذ ثمانين سنة وإلى الآن . ومع ذلك هل نجحت؟ هل استقرت؟ الجواب يعرفه الجميع من خلال الحراسة العسكرية المشددة الشرسة ، التي لا تنزع أصابعها عن الزناد!! وهذا هو حال كل التجارب التي نفذت في العالم الإسلامي، مع فوارق جزئية أوشكلية ، من قطر لآخر، ومن وقت لآخر.
    وإذا استثنينا النجاح الغربي النسبي ، لفصل الدين عن السياسة، وهو نجاح مستحق ومفيد ، فإن التاريخ عموما ، وتاريخ العالم الإسلامي خصوصا، يشهد ويعيد، أن هناك ترابطا لا فكاك منه بين الدين والسياسة . فلماذا لا نفعل مثلما فعل ابن رشد ، فنقوم ( بتقرير ما بين الشريعة والسياسة من الاتصال)؟
    فلنضعْ كل شيء في موضعه، ولـنُـعْط لكل شيئ حقه، ولنستفد من كل طرف ما عنده . أليست هذه هي الحكمة؟ أليس هذا ـ يامعشر الإخوة العلمانيين ـ أفضل وأفيد وأريح لأمتنا، من هذا الصراع الطويل لاستبعاد الدين عن الدولة وعن السياسة؟ وهو على كل حال هدف لن يتحقق.
    وإذا لم يعجبكم نهج ابن رشد (نهج العقل والحكمة) ، فخذوا بالنهج الديموقراطي، ودافعوا عن حق شعوبكم في الاختيار، حتى لو ظهر أنها تختار الشريعة ، وتختار الجمع بين الدين والسياسة.
    بقي أن أقول مع الكثيرين : إن تدخل الدين في السياسة له محاذير ومزالق مخوفة.ولذلك تثار حوله تحفظات واعتراضات معتبرة . وهذا هو موضوع الحلقة المقبلة بعون الله تعالى
    {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}

    وكيف يعرف فرق ما بين حق الذمام وثواب الكفاية من لا يعرف طبقات الحق في مراتبه، ولا يفصل بين طبقات الباطل في منازله‏. [ الجاحظ ]

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    المشاركات
    1,636
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي الحلقة الخامسة

    الدين والسياسة..تخوفات وتحفظات

    ربطُ السياسة بالدين ، أو إدخال السياسة في الدين ، أو تديين السياسة ، أو تسييس الدين ... أياً كان الإسم ، فالمسمى عليه اعتراضات وتحفظات كثيرة . والمعترضون تختلف درجات اعتراضهم ، كما تختلف أسباب اعتراضهم. ويمكن ـ باختصار ـ تصنيفهم إلى صنفين:
    ـ صنف رافض للدين غيرُ مؤمن به . وهؤلاء عادة ما يكون رفضهم لأي ربط بين الدين والسياسة مبدئيا وجذريا.بل هم يرون الدين نفسه سببا للتخلف والبلايا ...
    ـ صنف يؤمن بالدين وبوظيفته ومكانته ، لكن في غير المجال السياسي.ويرون أن الأفيد والأريح للدين والسياسة معاً ، هو فك الارتباط ومنع التداخل بينهما.
    والكلام الآن هو بالدرجة الأولى مع الصنف الثاني ، وإن كانت بعض التحفظات والانتقادات مشتركة بين الصنفين.

    شبح الدولة الدينية
    لعل الاعتراض الأكبر والجامع لغيره من الاعتراضات ، هو هذا الذي سميته "شبح الدولة الدينية"، الذي يخافه الكثيرون أو يُـخَوفون به الناس.
    والحقيقة أن مشكلة"الدولة الدينية" هي مشكلة أوروبية ، اسما ومضمونا.فأروبا هي التي عرفت ما سماه الدارسون الأوروبيون بالدولة الدينية ، أو الدولة الثيوقراطية، حيث الملك مقدس ، وهو ـ بزعمه ـ يستمد شرعيته وصلاحياته ، ويتلقى تشريعاته وقراراته ، من الله أو بتفويض من الله ، وإذا ما أقدم على حرب فهي بأمر الله ،كما زعم جورج بوش في غزوه للعراق!
    أما في العالم الإسلامي والتاريخ الإسلامي ، فالمصطلح غير موجود ، ومضمونه السلبي والقدحي أيضا غير موجود . ولو وُصفَتْ دولة ما في التاريخ الإسلامي بهذا الوصف ، لعُد ذلك مدحا لها ومفخرة من مفاخرها ، لأن الارتباط بالدين والاتصاف بصفاته ، كان دائما عنوان صلاح واستقامة ورشاد . وأما سوء استعمال الدين ، وارتكاب المنكرات والمظالم باسمه ، فقد كان الناس يعدونه من قلة الدين لا من الدين ، ويعدونه عملاً لادينيا وليس عملا دينيا، ويعتبرونه نفاقا وتلاعبا بالدين ، حتى ولو كان فيه تفخيم لبعض المظاهر والرموز الدينية.
    في التاريخ الإسلامي ، لو قيل مثلا : إن دولة المرابطين كانت دولة دينية أكثر من دولة الموحدين ، لكان هذا تمجيدا للأولى وانتقاصا للثانية. فليس الدين والتدين في التاريخ الإسلامي رمزا وسببا للطغيان والاستبداد ، حتى لو حصل ذلك باسم الدين أو بفتاوى دينية ملفقة، بل الدين يبقى دائما ـ في الحقيقة وفي نظر الناس ـ رمزا للحق والعدل والإحسان.
    وحتى الحديث الضعيف ( السلطان ظل الله في الأرض )، فهو ـ على ضعفه المتفق عليه ـ لا يتضمن أي قداسة أو تفويض إلهي ، أو نسب إلهي.وكل ما يعنيه : هو أن السلطان ينبغي أن يكون بمثابة الظل ، الذي يجد فيه المسافر والغريب والمشرد والمكدود ، بُـغيتهم وراحتهم .وهو(ظل الله)، لأن كل عدل وإحسان ورأفة ورحمة ، إنما أصله ومصدر العمل به ، هو الله تعالى إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ  [البقرة/143] ، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ [النحل/90]، وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ [القصص/77]
    وفي بعض روايات الحديث ما يصرح بهذا المعنى، منها : "السلطان العادل المتواضع ظل الله ورمحه فى الأرض ..." ، ومنها : "السلطان ظل الله فى الأرض يأوى إليه الضعيف ، وبه ينتصر المظلوم" ، ومنها : "الوالى العادل ظل الله ورمحه فى الأرض فمن نصحه فى نفسه وفى عباد الله، أظله الله بظله ، ومن غشه فى نفسه وفى عباد الله ، خذله الله يوم القيامة"
    فالسلطان ـ أو الولي ـ المذكور، موصوف ومقيد بكونه عادلا متواضعا . فإذا لم يكن كذلك لم يكن (ظل الله في الأرض) ، بل يكون (عدو الله في الأرض).
    والسلطان المذكور في الحديث ، محتاج إلى من ينصحه ويرشده ، ومحتاج إلى الحذر ممن يغشه ويخذله، بينما الحاكم "المفوض من الله" ، لا يحتاج إلى شيئ من ذلك.
    المهم أنه ليس في الإسلام ولا في الثقافة الإسلامية ، ما يمكن أن يسمح بظهور" دولة دينية ثيوقراطية"، باسم الإسلام . والحقيقة أن الدولة " الثوقراطية " التي يعرفها العالم الإسلامي اليوم، هي جمهورية أتاتورك العلمانية الحداثية، فهي الدولة الوحيدة التي عندها مقدسات وطقوس لاتقبل النقاش ولا المراجعة ولا التغيير، وعندها طابوهات لايسمح بنقدها ولا الاقتراب منها ، وعندها سدنة المعبد وحراس أسراره ، كلمتهم فوق الجميع وسلاحهم على رؤوس الجميع، أي فوق الشعب والبرلمان والحكومة ورئيس الجمهورية!!
    من خولهم هذا ؟ من فوضهم بهذا؟ ذلك من أسرار الثيوقراطية العلمانية!

    الظلم لادين له والدين لاظلم له
    الظلم والاستبداد والتسلط ، يمكن أن يتم باسم الإسلام ، ويمكن أن يتم باسم المسيحية أو اليهودية، ويمكن أن يتم باسم العلمانية واللادينية ، أو حتى باسم العدالة والديموقراطية ، وباسم القوانين والمواثيق . ولكن الإسلام ـ وحده اليوم ـ هو الذي يتحفظ منه ويعترض عليه ، ويدان ويقصى بفعل بعض أبنائه أو المنتسبين إليه؟!
    نعم ، لقد وقعت وتقع مظالم ومفاسد باسم الإسلام ، وأُخذت مكاسب ومغانم باسم الإسلام، وحيزت دول وممالك باسم الإسلام ، وصودرت حقوق وحريات باسم الإسلام.ولكن هذا كله لايغير من الحقيقة الدينية ولا الحقيقة التاريخية شيئا، وهي أن الإسلام بريئ من ذلك كله ، بل هو ضد ذلك كله.وهو أمر واضح ومضمون:
    ـ أولا، لأن نصوص الدين تبقى دائما متميزة متعالية ، ومن خلالها يستطيع كل من أراد ، أن يميزالمحق من المبطل والمفسد من المصلح ، حتى لو وقع خداع أو تلبيس ، جزئي أو مؤقت.
    ـ وثانيا، ما من تحريف أو تأويل، يُعتمد عليه لتسويغ الظلم أو الاستبداد ، إلا ويوجد من العلماء من يرفضه ويقول بخلافه.
    ـ وثالثا ، ما من فساد أو ظلم أو انحراف ، جرى باسم الدين أو بغير اسمه ، إلا وتجد الناس ـ خاصتهم وعامتهم ـ منكرين له بما يستحق وبأكثر مما يستحق.وللعلماء دائما دور الريادة في ذلك، تقديرا للأمانة التي يحملونها. وإذا قصر بعضهم أو فرط أومال ، بقي غيرهم  قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ [النساء/135]
    وقد بلغت اليقظة الفكرية والشجاعة العلمية عند الفقيه المالكي، الإمام شهاب الدين القرافي ( الصنهاجي) ، إلى حد الإفتاء ببطلان تصرفات الملوك في أموالهم وممتلكاتهم ، وبطلان إرثها عنهم ، لأنهم مستغرقون بالديون ، لكثرة ما أخذوه وما تصرفوا فيه بغير حق من أموال الأمة . قال رحمه الله:"الملوك فقراء مدينون ، بسبب ما جنوه على المسلمين من تصرفاتهم في أموال بيت المال، بالهواء في أبنية الدور العالية المزخرفة ، والمراكب النفيسة ، والأطعمة الطيبة ، وإعطاء الأصدقاء والمزاح بالباطل من أموال ، وغير ذلك من التصرفات المنهي عنها شرعا . فهذه كلها ديون عليهم ، فتكثر من تطاول الأيام ، فيتعذر بسببها أمران ، أحدهما: الأوقاف والتبرعات والبيوعات ، على مذهب مالك رحمه الله ومن وافقه ، فإن تبرعات المديون المتأخرة عن تقرر الدين باطلة فيتخرج ذلك على هذا الخلاف. وثانيهما: الإرث ، لأنه لا ميراث مع الديْن إجماعا ، فلا يورث عنهم شيء..."
    ولم يقتصر الفقهاء على مراقبة غيرهم ونقد تصرفاتهم ، بل كانوا نقادا رقباء حتى على أنفسهم وعلى بعضهم.
    ومما يحضرني في هذا الباب ، حالة الفقهاء المالكية بالمغرب والأندلس ، أيام دولة المرابطين. وقد كانت هذه الدولة توصف بأنها "دولة الفقهاء"، حيث كان للفقهاء فيها الكلمة العليا واليد الطولى ، فكانوا هم أصحاب المناصب وأصحاب القرار. فعظمت بذلك حظوتهم ، واشتدت سطوتهم ، وكثرت أموالهم . فخرج من بينهم من يحذر ويستنكر. من ذلك قول أحد الفقهاء ، يخاطب ويهجو الفقهاء والقضاة في زمانه :
    أهلَ الرياء لبستمو ناموسكم ... كالذئب أدلج في الظلام العاتم
    فملكتم الدنيا بمذهب مالك ... وقبضتم الأموال بابن القاسم
    وركبتمو شُهْب الدواب بأشهب ... وبأصبغ صبغت لكم في العالم
    ونظم أحدهم قصيدة خاصة في هجو قاضي قرطبة ، أبي عبد الله محمد بن حمدين ( التغلبي) ، قال في مطلعها:
    أدجالُ هذا أَوان الخروج ... فيا شمسُ لُوحي من المغرب
    يريد ابن حمدين أن يعتفي ... وجدواه أنأى من الكوكب
    إذا سئل العرف حك أسته ... ليثبت دعواه في تغلب"
    ونحن الإسلاميين اليوم ، لا علينا ـ بل يجب علينا ـ أن ننتقد كل تعسف أوشطط أوظلم يقع باسم الإسلام ، ويصدر من علماء الإسلام ، أو من الحركات الإسلامية، أو من الحكومات الإسلامية إن وُجدت.
    فلننتقد ـ مثلا ـ حزب العدالة والتنمية ، إذا أصبح قادته مهرولين للمناصب والمكاسب ، أو أصبحوا متغاضين ساكتين عن المفاسد والصائب ، أو اشتغلوا بتوظيف أبنائهم وترقية أقاربهم ، أو قاموا بظلم خصومهم ومخالفيهم.
    ولننتقد حركة حماس على حزبيتها المفرطة ، ولـنُحذرها من نزوعها الظاهر نحو الاستبداد والهيمنة.ولنستنكر عليها تحويل خُطَب الجمعة إلى نشرات إخبارية وتحليلية متحزبة...
    وأذكر مما أحفظه ـ وقرأته في بعض كتب ابن حزم ـ قول أحد العلماء : ما رأيت للشيطان أخبث من كلمتين ألقاهما على لسان كثير من الناس:
    ـ الكلمة الأولى : أُخطئُ لأن فلانا أخطأَ.
    ـ الكلمة الثانية : أُخطئُ اليوم لأني قد أخطأت بالأمس.
    وللحديث بقية
    {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}

    وكيف يعرف فرق ما بين حق الذمام وثواب الكفاية من لا يعرف طبقات الحق في مراتبه، ولا يفصل بين طبقات الباطل في منازله‏. [ الجاحظ ]

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    المشاركات
    1,636
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي الحلقة السادسة

    العمل السياسي الإسلامي


    قبل عشر سنوات سألني أحد السياسيين : هل أنتم تقبلون بالديموقراطية ؟ فقلت له : السؤال الآن ياسيدي هو: هل الديموقراطية تقبل بنا ؟ وهل تتسع ديموقراطيتكم لنا؟
    هذا نموذج للأسئلة المقلوبة والأوضاع المقلوبة التي نعيشها اليوم...
    من المفارقات العجيبة في العالم الإسلامي ، أننا نجد القوى والتيارات الإسلامية كلها تقريبا تعمل في ساحة المعارضة أو المنع ، سواء من العلماء والدعاة والمفكرين ، أومن الحركات والأحزاب الإسلامية . بل كثير من الدول العربية والإسلامية تمنع منعا قانونيا أودستوريا وجود أحزاب أو منظمات سياسية إسلامية ، بينما الوضع الطبيعي المفترض ـ حسب أي تحليل منطقي ـ هو العكس تماما.
    فالاستمرارية التاريخية أولا ،
    وبقاء الشعوب الإسلامية متمسكة بولائها للإسلام بكل مكوناته ثانيا،
    وظهور صحوة إسلامية واسعة ، لا يجادل أحد في شعبيتها وتجذرها في المجتمعات الإسلامية ثالثا، وانتشار (صحوة ديموقراطية ) عالمية ، تعيد الاعتبار للشعوب واختياراتها رابعا،
    كل هذه العوامل والاعتبارات ، كان من المفترض أن تجعل معظم القوى الإسلامية إما حاكمة وإما شريكة في الحكم ، فإذا بها ـ في غالب الأحوال ـ ما بين ممنوعة ، أومحجورة ، أو مضيق عليها. وإذا بها تحاكم بدل أن تحكم.
    ولا شك أن هذا الوصف العام ، يختلف تحققه ـ زيادة ونقصانا ـ من بلد لآخر، تبعا لحالة الحريات العامة ودرجتها في كل بلد . وعموما فهذا الوصف ينطبق أكثر ما ينطبق على الدول العربية ، بخلاف الدول الإسلامية غير العربية ، التي يضطلع فيها العلماء والدعاة والهيئات والأحزاب الإسلامية ، بدور سياسي أكثر حرية وفاعلية ، كما هو الشأن في إيران ، وباكستان ، وأفغانستان ، وماليزيا ، وإندونيسيا .
    ورغم جميع حالات المنع والتحجير والتضييق، التي لاتبقي للعمل السياسي الإسلامي إلا مساحة محصورة ـ أو محاصرة ـ فإن أصوات الرفض والتخويف من هذه المساحة الاستثنائية ، لا تكل ولا تمل!
    التبرم بالعمل السياسي الإسلامي أو رفضه كلية ، يتحجج بانتقادات وإشكالات عملية، تضاف إلى الاعتراضات والتحفظات المبدئية التي عرضتها في الحلقة الماضية.وهذه الانتقادات عادة ما يختلط فيها الحق بالباطل ، أو تكون حقا يراد به باطل.وقد تكون باطلا في باطل.
    تسخير الدين لأهداف سياسية
    هذه التهمة مفادها أن الإسلاميين السياسيين ( ما يسمى حركات الإسلام السياسي) ، لهم أهداف وطموحات سياسية لأنفسهم ولأحزابهم ، لكنهم اختاروا للوصول إليها طريقا "سهلة سالكة" ، هي ركوب الدين وتسخيره والتستر وراءه .
    ولحفظ حرمة الدين وقداسته من جهة ، ولقطع الطريق على هؤلاء القراصنة المهربين ، يجب منعهم ومنع استعمالهم للدين في المجال السياسي.
    ولا يخفى أن هذا مجرد اتهام مخترع . وهو في أحسن الأحوال رجم بالغيب ، فيما لا يطلع على حقيقته إلا الله.
    نعم حين نجد من يعلنون الغيرة الدينية ، ويرفعون الشعارات والادعاءات الإسلامية ، ثم لا يطبقون من الإسلام شيئا ، حتى في حياتهم الخاصة، قد يكون هذا دليلا علي زيف ادعاءاتهم وأنهم ربما يخفون ما لا يعلنون.
    أما حين يكون الناس باطنهم كظاهرهم ، وسلوكهم كشعاراتهم . يعيشون بالإسلام ، ويدعون للإسلام ، ويضحون بمصالحهم ومكتسباتهم ، لأجل مبادئهم وشعاراتهم ، فهاهنا لا يستطيع أحد تصديق هذه التهمة ، مهما بذل من جهد.
    على أن من الأمور الواضحة في هذا الزمان : أن أيسر طريق ، للجماعات والأفراد ، لتحقيق أهدافهم ومكاسبهم السياسية والدنيوية وحمايتها ، هو البعد عن الإسلام ومظاهره وأهله ، وخاصة ما يسمى بالإسلام السياسي.
    استعمال خطاب ديني سياسوي
    هذه التهمة مفادها أن هذه الجهات الإسلامية الممارسة للعمل السياسي ، تستغل تدين المجتمعات الإسلامية وسيادة الثقافة الإسلامية فيها ، فتمارس على الجماهير المؤمنة خطابا دينيا تعبويا ، يحرك غيرتها وعواطفها الدينية ، فتنشد إلى الشعارات الإسلامية الجذابة وأصحابها . ويتم كذلك توظيف هذا الخطاب الديني الغيبي العاطفي، للتنفير من الخصوم السياسيين ، واتهامهم بالعلمانية أو اللادينية أو بالخروج عن الشرع ، أو ما إلى ذلك من التهم التي تلقى اشـمئزازاً وكراهية لدى الجماهير المتدينة.
    والنتيجة هي أن هذا الطرف " الإسلاموي" ، يستفيد من رصيد ليس من كسبه ، ويقدم كلاما لا طائل من تحته ، لأنه مجرد شعارات فارغة لا تسمن ولا تغني من جوع . بينما الأحزاب والتيارات التي تقدم خطابا عقلانيا ، وبرامج عملية ، وحلولا حقيقية ، لا تجد إلا القليل ممن يتفهمون خطابها ويقدرون برامجها وإنجازاتها. فنحن أمام اختلال فظيع ، لا علاج له إلا بمنع أصحاب الخطاب الديني الديماغوجي من العمل السياسي.
    وأنا لا أنكر أن شيئا من هذا الكلام صحيح ، أو يصدق على بعض الحالات ، القليلة أو الكثيرة . ولكن استعمال الخطاب العاطفي التعبوي ، أو الغوغائي الديماغوجي ، أو الخطاب الفضفاض الذ ي لا يسمن ولا يغني من جوع ، أوـ على العكس ـ إطلاق هذه الأوصاف في غير محلها ، لمجرد التسفيه والتشهير... كل هذا تمارسه الأحزاب المتنافسة والخصوم السياسيون ، بدون أي أن يكون الدين ولا التدين ولا الخطاب الديني حاضرا عند أي منهم . يقول روبرت هـ ثاولس في كتابه المترجم إلى العربية بعنوان ( التفكير المستقيم والتفكير الأعوج) :" فإذا ألقى خطيب من حزبنا خطابا فصيحا متدفقا ، قلنا عنه : إنه خطيب بليغ . أما إذا خطب خطيب من الحزب المناوئ بنفس الطريقة ، فإننا نقول : إنه متفيهق... ونحن نصف اقتراحات حزب المعارضة ـ وإن كانت عملية ـ بأنها (شفاء من كل داء في لغة المشعوذين من الأطباء)، وهي عبارة ممعنة في معناها الانفعالي ، وتثير فينا انفعالات استهجان ، كتلك التي نشعر بها نحو الأدوية التي يصفها المشعوذون ، ويُفْرطون في ادعائهم بفوائدها الطبية. كما أن المتحدث يصف أولئك الذين يُبدون تحمسا في تأييدهم لبعض الاقتراحات التي لا يقرها ، بأنهم (متطرفون) ، ولو أن أناسا من جماعته أبدوا من التحمس والاهتمام ما أبداه الآخرون ، لكانوا في رأيه (أشداء في الحق) ..."
    إن مشكلة الخطاب السياسي ، وما قد يكتنفه أو يهيمن عليه ، من تهويل أو تضليل أو تحامل أو سفسطة ... ليس لها إلا حل نسبي ، يمكن الوصول إليه بأمرين متكاملين :
    1. إشاعة الخطاب المخالف ـ أي الخطاب العقلاني الموضوعي المتزن ـ والاستمساك به ، وعدم الانجرار مع الخطاب الرديئ ، لاتقليدا له ولا ردا عليه. وهذا يسهل الأمر الثاني ، وهو:
    2. رفع مستوى الوعي لدى المخاطَبين ، حتى يميزوا أكثر فأكثر، بين الغث والسمين. وحينئذ (لا يجني جان إلا على نفسه)
    استغلال المساجد والمنابرالدينية
    التيار الإسلامي له ارتباط طبيعي بالمساجد والمؤسسات الدينية ، الرسمية والأهلية ، فهو منها وإليها. فسواء للتعبد وإقامة الفرائض الدينية ، أو لمتابعة الأنشطة الدعوية أو التعليمية لهذه المؤسسات ، أو لدعمها والمساهمة فيها ...، فإن كافة المتدينين ـ ومنهم المنتمون للجماعات والأحزاب الإسلامية ـ هم جمهور هذا كله.
    كما أن القائمين على هذه المساجد والمؤسسات والأنشطة ، يجدون أقرب التيارات إليهم وأحقها بعطفهم وتأييدهم ، هو التيار الإسلامي.
    فهذا وضع طبيعي تلقائي ، ليس لأحد فيه ذنب ، بل للجميع فيه أجر . لكن ينجم عنه أن يحظى التيار الإسلامي بعدة أشكال من الاستفادة السياسية من هذ الوضع، وخاصة في بعض المناسبات التي تشهد سجالا وتنافسا ، يكون التيار الإسلامي طرفا فيه ، وأبرز ذلك المحطات الانتخابية . فقد يكون بعض المترشحين من خطباء المساجد أو من أئمتها ووعاظها. وقد يكون لبعض هؤلاء انتماء أو تعاطف مع حزب إسلامي. وقد يعمد بعض المنتمين أو المتعاطفين إلى توجيه الناس لدعم حزب كذا أو المرشح كذا ، أو توجيههم ضد كذا وكذا ...
    وهكذا تتم استفدة غير متكافئة ، من مؤسسات ومناصب لها قدسيتها ومكانتها الدينية عند الناس، لأغراض واستحقاقات سياسية ، يفترض الوصول إليها عن جدارة وتكافئ في الفرص.
    وعلى العموم ، فأنا ضد أي تسخير متعمد ، وضد أي استفادة مقصودة ومبرمجة ، من هذه المؤسسات والصفات الدينية ، لخدمة التنافس السياسي أو السباق الانتخابي.وأنا مع أي إجراء عادل يحد من هذه المشكلة ، دون إهدار الحقوق الدستورية للأفراد والهيئات.
    على أن أفضل معالجة لهذه القضية ، هو التعفف والتنزه الطوعي لمن يعنيهم هذا الأمر، عن كل شبهة في هذا المجال ، علما بأن هذه الاستفادة أو الإفادة ، بواسطة استعمال المؤسسات والمنابر والمناصب الدينية ، لا تخدم الدين والتدين ، بل تضر بهما، حتى ولو كانت ـ سياسيا ـ لصالح مرشح إسلامي أو حزب إسلامي.
    ولا يفوتني هنا أن أنبه على حالات شبيهة ، ومع ذلك لا يلتفت إليها أحد ، ولا يعترض عليها ، مادامت ليست "إسلامية" ولا يستفيد منها الإسلاميون.
    فهناك أصحاب المناصب الرسمية ، المؤثرة والمغرية للجمهور بالتأييد والدعم ، لقاء أي مكسب آني أو مرتقب ، وكثير منهم يخوضون العمل السياسي والمنافسة السياسية ، بكل ما لمناصبهم من بريق وتأثير وإغراء.
    وهناك أرباب المعامل والشركات ، الذين يتحكمون في الرقاب والأرزاق ، لمئات أوآلاف من المرتبطين بهم والعاملين عندهم ... ، فيتجند هؤلاء معهم بقضهم وقضيضهم ، حتى لا ينالهم مكروه...
    وهناك العاملون في وسائل الإعلام العمومية ، بحيث يكتسبون بفضلها شهرة وشعبية ، ثم يأتون للترشح ، مستفيدين من الظهور والشعبية لعدة سنوات ...
    وهناك أيضا بعض مشاهيرالفنانين والرياضيين ، يستفيدون من شهرتهم وشعبيتهم ، ويستثمرونها في الترشح أو دعم مرشحين وأحزاب ...
    ما أريد لفت الانتباه إليه ، هو ضرورة العدل والمساواة ، والنظر بعين واحدة ، والوزن بميزان واحد ، عسى أن تستقيم أمورنا.
    {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}

    وكيف يعرف فرق ما بين حق الذمام وثواب الكفاية من لا يعرف طبقات الحق في مراتبه، ولا يفصل بين طبقات الباطل في منازله‏. [ الجاحظ ]

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    المشاركات
    1,636
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي الحلقة السابعة

    العلماء والسياسة

    قضية (العلماء والسياسة) ، هي جزء من قضية (التخوفات والتحفظات)، التي تناولتها في الحلقة السابقة . كما أنها ـ عموما ـ جزء من قضية (الدين والسياسة) ، التي تناولتها أيضا في حلقة أسبق.
    فهي جزء من قضية الدين والسياسة ، لأنه لا تُتصور أي علاقة بين الدين والسياسة ، إلا والعلماء ـ علماء الدين ـ حاضرون فيها ، أو قائمون بها.
    وهي جزء من قضية التخوفات والتحفظات ، لأن دخول العلماء في شؤون الحكم والدولة والسياسة ، هو اليوم مثار نقمة ورفض شديدين ، عند كثير من السياسيين وعموم المثقفين العلمانيين ، وحتى عند بعض الإسلاميين.
    ثم إن دخول العلماء للسياسة وكيف تكون وكيف لاتكون ، وعلاقتهم بالحكام : سواء بمؤازرتهم والتعاون معهم ، أو بمعارضتهم والتصادم معهم ، أوتركهم والاشتغال بعيدا عنهم ، لا معهم ولا ضدهم ، هذه قضية "عُلَمائية" قديمة . أعني أنها مثار اختلاف ونقاش قديمين بين العلماء أنفسهم .
    على أن اختلاف العلماء وتفاوتهم في التعامل مع الساسة والسياسة، ليس اختلافا علميا مبدئيا ، وإنما هو اختلاف سياسي أيضا ، اختلاف في تقدير أفضل السبل وأنجعها ، للتعامل مع الواقع السياسي ، بما يحقق رسالة العالم ، ويضمن أداءها  بالتي هي أحسن . أما من حيث المبدأ ، فلا خلاف في الدور السياسي للعلماء . لأن العلماء ورثة الأنبياء. وقد بينت ـ في حلقة سابقة ـ الأبعاد السياسية ، والأداء السياسي ، في رسالة الأنبياء. فلا بد لورثة الأنبياء أن يرثوا عنهم سياستهم الراشدة ، الجامعة بين مصالح الدين ومصالح الدنيا.

    العلماء الربانيون أو العلماء السياسيون
    في مواضع متعددة ذكر القرآن الكريم "الربانيين" باعتبارهم صنفا نموذجيا رفيعا ، جامعا بين العلم والعمل.
    من ذلك ما في قوله تعالى إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ [المائدة/44]
    وقال أيضا عن بني إسرائيل  لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ [المائدة/63] . وجاءت صفة "الربانيين" بصيغة الأمر في قوله سبحانه  وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ  [آل عمران/79]
    فمن هم هؤلاء الربانيون ؟ وبأي شيء هم ربانيون ؟
    لا خلاف في أن كلمة "الربانيين" مفردها "رباني".
    والرباني : قيل: نسبة إلى الرب، لأنهم يتأسون بصفات الرب في تدبيره شؤون عباده ، بالحكمة والعدل والرحمة.
    وقيل: نسبة إلى الربان.
    وفي الحالتين فإن مرجع الكلمة إلى فعل ربّ يرب، الذي يعني الرعاية والإصلاح والتعهد.
    ولعل شيخ المفسرين واللغويين الإمام ابن جرير الطبري هو خير من يعول عليه في بيان معنى الرباني والربانيين. قال رحمه الله عند تفسير آية آل عمران المذكورة : "قال أبو جعفر: وأَوْلى الأقوال عندي بالصواب في "الربانيين" ، أنهم جمع رباني، المنسوب إلى الربان الذي يرب الناس، وهو الذي يصلح أمورهم ويربها ويقوم بها ... فالربانيون إذاً هم عماد الناس في الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا.ولذلك قال مجاهد : "وهم فوق الأحبار"، لأن الأحبار هم العلماء، والرباني: الجامع إلى العلم والفقه ، البصرَ بالسياسة والتدبير والقيامَ بأمور الرعية وما يصلحهم في دنياهم ودينهم"
    وقال رحمه الله عند الآية 44 من سورة المائدة "والربانيون.. هم العلماء الحكماء البصراء بسياسة الناس وتدبير أمورهم والقيام بمصالحهم.."
    فالربانيون الذين أشاد بهم القرآن الكريم ، هم خيرة العلماء ، الجامعون بين علم الشرع من جهة ، وسياسة الخلق وتدبير شؤونهم وإصلاح أحوالهم من جهة أخرى.

    العلماء والأمراء بين التلاقي والتنائي
    من قديم ، اختلف العلماء والفقهاء، في علاقتهم وكيفية تعاملهم مع السلاطين والأمراء، وفي موقفهم من تولي المناصب والوظائف ذات الطابع السياسي ، كالقضاء والحسبة والوزارة والشورى...ويشتد هذا الاختلاف بقدر ما تكون عليه الدولة وولاتها من انحرافات ومفاسد ، من الناحية الشرعية.
    ـ فقد وصل الأمر بعدد من العلماء إلى حد الانخراط في حركات المعارضة والمناهضة السياسية أو المسلحة، وإن كان الانخراط في عمل مسلح ضد الدولة القائمة ، ظل محدود جدا ، ولم يقع إلا في ظروف استثنائية عابرة.
    وأما عامة العلماء، فهم يحرمون حمل السلاح في وجه الدولة القائمة مهما كانت الأخطاء والانحرافات ، إلا إذا ظهر من رؤوسها الكفر الصريح. ولكنهم انقسموا إلى طرائق متعددة في التعامل أو عدم التعامل مع الحكام . ولكل من التعامل أوعدم التعامل درجات. ودون الخوض في التفاصيل والدرجات ، فإن هناك اتجاهين : اتجاه التعاون والتلاقي ، واتجاه المقاطعة والتنائي.
    ـ فالاتجاه الأول : يرى ضرورة التواصل مع الحكام ، ومعاونتهم في الخير والمعروف ، ومناصحتهم وتنبيههم ، في شأن الأخطاء والانحرافات الواقعة منهم أو من أعوانهم...، ويرون أن هذا من صميم واجبهم ، وأنه هو الذي يحقق مقتضى الشرع ومقصوده ، من جلب المصالح ودرء المفاسد ، بحسب الإمكان . ويرون أن البعد عن الحكام لا يحقق مصلحة ولا يرفع مفسدة ، بل هو لا يزيد الطين إلا بلة ...
    ـ الاتجاه الثاني : يرى أن السلامة في الدين والبعد عن الفتن والشبهات ، لا يكون إلا في البعد عن أبواب السلاطين والأمراء وتركهم ودنياهم . ويرون أن مخالطة الحكام تجر العلماء إلى استحلاء المال والجاه والتعلق بهما ، ثم يجر إلى السكوت عن المنكرات ، وربما إلى المشاركة فيها. ويرى بعض هؤلاء أيضا، أن الأموال التي بأيدي الحكام كلها أو جلها حرام ، فلا يليق بالعالم أن يأخذ منهم شيئا ولا أن يأكل عندهم شيئا. ويرون أن الأمراء إنما يستعملون هذه العلاقة في كسب سمعة ومصداقية ليسوا من أهلها ...فلذلك آثروا العمل مستقلين بأعمالهم العلمية والتربوية والإصلاحية.
    وأُقَدم فيما يلي حالة نموذجية لهذين الاتجاهين ، حكاها القاضي عياض عن عالمين صديقين ، من مدينة واحدة ومذهب واحد ، هما : أبوبكر بن مجاهد وأبو بكر الباقلاني . وذلك أن الملك عضد الدول فناخسرو بن بويه الديلمي، أراد عقد مناظرة في قصره ، بين أصدقائه المعتزلة وخصومهم الأشاعرة. فسأل عن علماء الأشاعرة ، فدلوه على رأسين من رؤوسهم بالبصرة ، " فكتب الملك من حضرته يومئذ، يشير إلى عامل البصرة، ليبعثهما. وأطلق مالاً لنفقتهما من طيب ماله. فلما وصل الكتاب إليهما، قال الشيخ وبعض أصحابه: هؤلاء قوم كفرة فسقة - لأن الديلم كانوا روافض - لا يحل لنا أن نطأ بساطهم ، وليس غرض الملك من هذا إلا أن يقال إن مجلسه مشتمل على أصحاب المحابر كلهم ، ولو كان خالصاً لله، لنهضت. قال القاضي : فقلت له: هكذا قال ابن كلاب والمحاسبي، ومن في عصرهم : إن المأمون فاسق، لا نحضر مجلسه، حتى سيق أحمد بن حنبل الى طرسوس، وجرى عليه ما عُرف. ولو ناظروه لكفوه عن هذا الأمر، وتبين لهم ما هم عليه بالحجة، وأنت أيضاً أيها الشيخ تسلك سبيلهم حتى يجري على الفقهاء ما جرى على أحمد، ويقولوا بخلق القرآن، ونفي الرؤية؟ وها أنا خارج إن لم تخرج. فقال الشيخ: أما إذا شرح الله صدرك لهذا، فاخرج..."
    وغير بعيد عن القاضي الباقلاني ، رائد المخالطة والتلاقي مع الحكام ، نجد نماذج أخرى معاكسة، كانت تفضل المقاطعة والتنائي، منهم شيخه أبوبكر الأبهري ، إمام المالكية في العراق:" قال أبو بكر الخطيب: سئل الأبهري، أن يلي القضاء ببغداد، فامتنع. فاستشير فيمن يصلح لذلك، فأشار بأبي بكر الرازي، وكان حال الرازي يزيد على حال الرهبان في العبادة، وكان حنفي المذهب، فامتنع وأشار بالأبهري . فلما لم يجب واحد منهما إلى القضاء، وليَ غيرهما..."
    وكان الأبهري يوصي أصحابه بقوله : " إن الله رضيكم لولاية ، فجمع لكم بها شرف الدنيا والآخرة، لا يعزلكم عنها أمرٌ ما طلبتم هذا العلم ، ونفرتم به عن السلطان . فإذا كنتم كذلك، تمت لكم الولاية في الدنيا والآخرة، ونلتم بها سُرورَهما، وإن لزقتم بالسلطان ، وأصبتم به الدنيا، عزلكم عن ولايته، وصغركم في الدنيا والآخرة"
    وللإمام الشاطبي رؤية محققة ومدققة في هذه المسألة ، ذهب فيها إلى أن العالم ، وغيره من أهل الدين والصلاح ، إذا دُعُوا إلى القيام بوظائف ومسؤوليات عامة تتوقف عليهم ، فلا يسعهم التهرب والاعتذار بما يمكن أن يصيبهم في دينهم وورعهم ، " كالعالم يعتزل الناس خوفا من الرياء والعُجب وحب الرياسة ، وكذلك السلطان أو الوالي العدل الذي يصلح لإقامة تلك الوظائف، والمجاهد إذا قعد عن الجهاد خوفا من قصده طلب الدنيا به أو المحمدة ، وكان ذلك الترك مؤديا إلى الإخلال بهذه المصلحة العامة ، فالقول هنا بتقديم العموم أولى ، لأنه لا سبيل لتعطيل مصالح الخلق البتة ، فإن إقامة الدين والدنيا لا تحصل إلا بذلك ، وقد فرضنا هذا الخائف مطالبا بها ، فلا يمكن إلا القيام بها ، على وجه لا يدخله في تكليف ما لا يطيقه أو ما يشق عليه"
    والضابط في ذلك عنده ، هو الموازنة بين المصالح والمفاسد ، في حالة الإقدام وفي حالة الإحجام ، " فما رجح منها غُلب"
    ومما يُستحضر في هذا السياق : حالة العلامة الفقيه أبي العباس القباب ـ وهو أحد شيوخ الشاطبي ـ حيث ولي القضاء بفاس وغيرها مدة من الزمن ، ثم تركه . فلما دعي ليكون قاضي القضاة، رفض واختفى مدة من الزمن ، ثم ظهر وتفرغ للتدريس والعمل العلمي.
    فلعله كان يوازن ويرجح ـ كما قال الشاطبي ـ بين المصالح والمفاسد ، فيقبل تارة ويرفض أخرى.
    {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}

    وكيف يعرف فرق ما بين حق الذمام وثواب الكفاية من لا يعرف طبقات الحق في مراتبه، ولا يفصل بين طبقات الباطل في منازله‏. [ الجاحظ ]

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    المشاركات
    1,636
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي الحلقة الثامنة

    حرية التعبير في الاسلام


    منذ عدة سنوات بدأت أرى وأقتنع ـ أكثر فأكثر ـ أن هناك عددا من القضايا ، تحتاج منا إلى جهاد كبيرـ علمي وفكري وتربوي ـ من أجل العودة بها إلى الوراء، وإلى أقصى وراء...
    لا أعني بالوراء لا القرون الوسطى، ولا ما بعدها ولا ما قبلها ، ولا بعد الميلاد ولا قبل الميلاد.
    أعني بالوراء : الرجوع إلى البداية ، إلى الفطرة السليمة والبداهة القويمة فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ذلك الدِّينُ القَيِّمُ  [الروم/30] . والإسلام دين الفطرة والبداهة .ولذلك فهو دين الرجوع إلى الوراء في القضايا الفطرية والبدهية.
    وفي تراثنا العلمي الإسلامية، هناك شيئ جميل ينبغي الانتباه إليه والاستفادة منه ، وهو ما يحظى به" المتقدمون" من الاعتبار والأولوية في القضايا والأصول الدينية . فحينما يقال : ذهب المتقدمون ، أو الأقدمون ، إلى كذا...، وذهب المتأخرون ، أو بعض المتأخرين ، إلى كذا... ، فإن هذا ـ في الغالب ـ يعني التزكية والمصداقية للقول الأول ، والتضعيف والانتقاص للقول الثاني.
    وما زلت أحفظ الوصية التي نقلها الإمام الشاطبي عن أحد شيوخه ، حين أوصاه باجتناب التعويل على كتب المتأخرين ، وقال : إنهم أفسدوا الفقه.
    وليس هذا راجعا إلى أفضلية زمن على زمن ، ولا أفضلية ناس على ناس ، ولا لأن القدرة العلمية والفكرية للمتقدمين ، هي أعلى وأرقى منها عند المتأخرين ، لا ليس هذا . وإنما لأن المتقدمين أقرب للفطرة وأتبع لها، وأيضا لأنهم حازوا "النسخة الأصلية" للدين والتدين ، علما وعملا ، ثم حازوا ـ على التوالي ـ النسخَ الأكثر قربا والأشد شبها بالنسخة الأصلية.بينما ظل كثير من اللاحقين ـ إلى اليوم ـ ينسخ بعضهم عن نسخة بعض . ومن حين لآخر ، يقع ـ أو يمكن أن يقع ـ شيئ من الخدش أو الخلل في عملية الاستنساخ والتلقي... ولذلك يجب الرجوع دائما دائما إلى الوراء ؛ إلى " نسخة المتقدمين" ، للأخذ عنها ، أو المقابلة عليها والتصحيح منها ...
    هذا في الأمور الدينية والأصول الدينية ، وفي الخصائص الجوهرية والأصول الفطرية للإنسان وليس في القضايا الدنوية والتجارب البشرية النامية ولمتطورة.
    وأنا لا أفهم التجديد الديني والإصلاح الديني، إلا على هذا الأساس ومن هذا المنطلق؛ أي إعادة التأسيس وإعادة الانطلاق ، من الأصول الأولى ومن المنطلقات الأولى .
    حينما هممت بكتابة هذه الحلقة في موضوع (حرية التعبير في الإسلام ) ، وجدتني أرجع إلى الوراء ، ثم إلى الوراء ... حتى لم يبق هناك وراء.
    ـ رجعت إلى البدء ، فوجدت أن أول تعليم علمه الله تعالى لآدم عليه السلام ، هو الكلام والتعبير: وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا [البقرة/31] ، نعم علمه الأسماء كلها ، ليقول كل ما يريد ، ويعبر عن كل ما يريد ، وليسمي الأشياء كلها بأسمائها ، بينما نرى اليوم أن تسمية الأشياء بأسمائها ، قد تكون لها تبعات وتجر إلى مشكلات ...
    ـ وفي البدء أيضا ، وجدت الله سبحانه يقول :  الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآَنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ  [الرحمن/1-4]. فلم يكن أول شيئ علمه الله لآدم : هو أداء صلاته ، أو كسب قوته ، أو ستر عورته ، بل أول شيئ عَلَّمَهُ إياه بعد خلقه ، أومع خلقه، هو : البيان ، والأسماء المحتاج إليها لأجل للبيان .
    ـ وفي البدء أيضا وجدت الله تعالى يقول عن الإنسان : أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ  [البلد/8، 9] .ومعلوم أن أكبر وظيفة للسان والشفتين ، هي وظيفة التعبير والبيان .
    وعلى العكس من هذا نجد نبي الله إبراهيم عليه السلام يعرِّض بالأصنام وعجزها وتفاهتها ، بكونها لاتقدر على النطق  قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ [الأنبياء/62، 63]. فالذي لاينطق ولا يعبر،لإنما هو تمثال لإنسان لا إنسان. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [البقرة/18]
    وقديما حينما أراد الفلاسفة تعريف الإنسان وتمييزه عن غيره من الكائنات، قالوا: الإنسان حيوان ناطق.
    ومعنى هذا كله أن وظيفة التعبير والبيان ، هي من أعظم الخصائص والمواهب الفطرية التي ميز الله بها الجنس البشري ، وجعلها في مُكْنَتِهِ من أول أمره . فهي تشكل جزءا من هوية الإنسان وماهيته. وهذا يدل على الأهمية البالغة التي تكتسيها وظيفة البيان في حياة الإنسان وفي حياة الجماعة البشرية.
    ولا شك أن البيان الذي يشكل جزءاً من فطرة الإنسان وهويته ، إنما يتجسد في التعبير الصادق الصريح عما في النفس وما في العقل وما في القلب . وأما الذين  يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ  [الفتح/11] والذين  يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ [آل عمران/154] ، فإنما هم منافقون ، أي زائفون مزيِّفون . ففطرة الإنسان وأصالته تتمثل في تسميته الأشياء بأسمائها الحقيقية ، أي في تعبيره الصادق والمطابق عما في قلبه وضميره.
    ومما يؤكد فطرية هذا السلوك وانحرافَ مخالفته عن هدي الفطرة ، هوكون الناس جميعا يحبون الإفصاح والصراحة ، ويحبون الإنسان الصريح ، ويحبون من يقول الحقيقة ، ويكرهون من يخفون الحقيقة ، ويكرهون أكثر من يزيفون الحقيقة . وليست الصراحة المحبوبة فطريا ، سوى التعبير الصادق السوي عما في القلب ، حينما يتطلبه المقام . وضدها يكون إما بعدم التعبير عما في النفس ، أو التعبير بخلاف ما في النفس، كما جاء في الآيتين الكريمتين.
    وقد نص عدد من العلماء على أن المعيار الذي تُمَيَّزُ به الخصال الفطرية للإنسان عن غيرها من الخصال الطارئة عليه، هو ما يشترك عامة الناس في حبه أو كراهيته ، بصورة طبيعية تلقائية. ومن هذا القبيل نجد أن جميع الناس لديهم محبة وانشراح للصراحة والصُّرَحاء ، وكراهية ونفور من ذوي الانطواء والالتواء في الكلام والبيان .
    ويؤكد العلامة ابن عاشور أن صفة الحرية كلها ـ وضمنها حرية القول ـ هي صفة فطرية وضرورية لكل تقدم بشري . قال رحمه الله :"إن الحرية خاطر غريزي في النفوس البشرية، فبها نماء القوى الإنسانية ، من تفكير وقول وعمل ، وبها تنطلق المواهب العقلية متسابقة في ميادين الابتكار والتدقيق. فلا يحق أن تسام بقيد إلا قيداً يُدفع به عن صاحبها ضر ثابت أو يجلب به نفع"
    وإذا ثبت واتضح أن خاصية البيان والتعبير، هي صفة فطرية خِلقية في الإنسان ، فمعناه أنها تفوق درجة ( الحقوق المكتسبة ) ، وترتقي إلى درجة ( الحقوق الطبيعية ) ، أو لنقلْ : إنها ليست فقط حقا من حقوق الإنسان ، بل هي صفة من صفات الإنسان . وفرق كبير بين أن يُجَرَّدَ الإنسان ـ أو يُنتَقَصَ ـ من بعض حقوقه ، وأن يجرد ـ أو ينتقص ـ من بعض صفاته الذاتية . ففي هذه الحالة الثانية يصاب الإنسان في صميم إنسانيته ، وليس فقط في حق من حقوقه. ولذلك يرى ابن عاشور "أن موقف تحديد الحرية موقف صعب و حرج ودقيق، على المشرع غير المعصوم. فواجب ولاة الأمور التريث وعدم التعجل، لأن ما زاد على ما يقتضيه درء المفاسد و جلب المصالح الحاجية ، من تحديد الحرية ، يعد ظلما" و قال في موضع آخر " و اعلم أن الاعتداء على الحرية نوع من أنواع الظلم"
    وإن الناظر الباحث عن موقع حرية التعبير في القرآن الكريم ، والسنة النبيوية ، ليندهش لهذا الإطلاق والتوسيع لها، حتى ليكاد أم يقول إنها حرية بلا حدود، لولا أن بعض الحدود على جميع الحريات تعد من البدهيات. لكن في القرآن والسنة ، لا نكاد نرى إلا حرية مطلقة للقول والتعبير.
    لقد نقل إلينا القرآن الكريم أقولا وتعبيرات من جميع الأصناف، من أقوال إبليس المعروفة ، إلى أقوال فرعون ، من مثل قوله :  يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ  [القصص/38] ، إلى الأقوال المقيتة لبعض سفهاء بني اسائيل ، كقولهم إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ  [آل عمران/181] وقولهم لموسى عليه السلاملَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة/55] ، إلى أقوال المعاصرين للرسالة المحمدية ، من مشركين ومنافقين وغيرهم ، وهي كثيرة لا أطيل بها.
    وأما النبي الكريم ـ عليه الصلاة والتسليم ـ فقد سمح لكل من شاء أن يقول ما شاء ، سواء من المؤمنين به ، أو من المكذبين له . ولم يزجر ولم يعاقب أحدا على رأي عبر عنه ، أو على اعتراض تقدم به . والسيرة النبوية مليئة بالاعتراضات التي صدرت ـ بالحق أو بالباطل ـ على مواقف وتدابير ارتآها أو أمضاها رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكان بعضها أحيانا يتسم بالخشونة وقلة الأدب . ولم يكن عليه السلام يواجهها إلا بالرفق والصفح وسعة الصدر. ومن يقرأ بداية سورة الحجرات يجد ذلك صريحا.
    وحتى زوجاته في بيته ، كان لهن معه آراء واعتراضات ومراجعات.وفي حديث لعمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : " ...وَاللَّهِ إِنْ كُنَّا فِى الْجَاهِلِيَّةِ مَا نَعُدُّ لِلنِّسَاءِ أَمْرًا ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِنَّ مَا أَنْزَلَ وَقَسَمَ لَهُنَّ مَا قَسَمَ . قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا فِى أَمْرٍ أَتَأَمَّرُهُ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتِي: لَوْ صَنَعْتَ كَذَا وَكَذَا - قَالَ - فَقُلْتُ لَهَا مَالَكِ وَلِمَا هَا هُنَا فِيمَا تَكَلُّفُكِ فِى أَمْرٍ أُرِيدُهُ ؟ فَقَالَتْ لِي: عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ مَا تُرِيدُ أَنْ تُرَاجَعَ أَنْتَ ، وَإِنَّ ابْنَتَكَ لَتُرَاجِعُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ . فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ مَكَانَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ فَقَالَ لَهَا : يَا بُنَيَّةُ إِنَّكِ لَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ ؟. فَقَالَتْ حَفْصَةُ وَاللَّهِ إِنَّا لَنُرَاجِعُهُ ..."
    إذا نحن قارنا هذا ـ ومثله في السنة والسيرة ، وسيرة الخلفاء الراشدين كثير ـ مع ما أصبحنا عليه من منع الناس من الكلام ، ومعاقبتهم على مجرد الاعتراض بالرأي ، سندرك أي هوة سحيقة بيننا وبين ما جاء به الإسلام . بل لقد دخلنا اليوم ـ أو قبل اليوم ـ في نظرية العصمة ، التي كانت من قبل خاصة بالشيعة ، وباثني عشر إماما لهم . لقد أضفيت العصمة على كثير من الملوك والرؤساء ، بل حتى على بعض الشيوخ والزعماء السياسيين والدينيين ، فلا يمكن أن يعترض عليهم أحد، ولا يمكن أن ينسب لهم خطأ ولا خلل!!
    {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}

    وكيف يعرف فرق ما بين حق الذمام وثواب الكفاية من لا يعرف طبقات الحق في مراتبه، ولا يفصل بين طبقات الباطل في منازله‏. [ الجاحظ ]

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    المشاركات
    1,636
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي الحلقة التاسعة

    حرية الاعتقاد وقضية الردة في الإسلام

    ولو كان للإكراه أن يتدخل في الدين ويُدخل الناس فيه، أو يستبقيهم فيه، لكان هو الإكراه الصادر عن الله عز وجل، فهو سبحانه وحده القادر على الإكراه الحقيقي والمُجْدي، فهو الذي يهدي من يشاء ، وهو الذي يُـحَول الإنسان ويُـحَول قلبه تحويلا حقيقيا ، فيجعل الكافر مؤمنا والمشرك موحدا والكتابي مسلما، ويمكنه أن يجعل جميع الناس مؤمنين مسلمين . ولكنه سبحانه ـ بحكمته ـ أبى ذلك ولم يفعله
    **
    هذه القضية ـ كما في العنوان ـ ذات شقين:
    ـ الشق الأول، يتعلق بحرية الاعتقاد عموما ، وبحرية الاعتقاد ابتداء ، أي قبل الدخول في الإسلام . ففي هذه الحالة لا إشكال في حرية الاعتقاد واعتناق أي دين وأي عقيدة. فمن كان يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا فله دينه، وله أن يعيش عليه بين المسلمين ، لا يجبره أحد على ترك دينه والدخول في دين الإسلام . وها هو التاريخ والواقع شاهدان بذلك . فجميع الأديان والملل التي كانت موجودة في المجتمعات التي دخلت في الإسلام ، بقي منها من أراد البقاء على دينه ، إلى الآن.
    وإذا كان هذا الحق ثابتا لغير المسلمين ، فمن باب أولى أن يُتحمل الخلاف العقدي وممارسة حرية الاعتقاد، داخل الدائرة الإسلامية . فقد عرفت الفرق الكلامية اختلافات ونقاشات عقدية شديدة ، ولم يقل أحد من العلماء بمنع طائفة ما ، أو معتقد ما. ولقد كانت هناك بعض التعديات والإذايات بسبب الاختلاف المذهبي والفكري، ولكنها لم تكن عن رأي أو فتوى لأحد العلماء أو لأحد المذاهب، وإنما هي من تعصبات العوام ، أو من تدخل بعض الحكام واستغلالهم لاختلاف المذاهب والطوائف الكلامية أو الفقهية أو الصوفية...، كالذي وقع للإمام أحمد بن حنبل وغيره في فتنة خلق القرآن ، وكما وقع للإمام ابن جرير الطبري مع عوام الحنابلة ، وكالذي وقع لفقهاء المذهب المالكي مع العبيديين ، ومع الدولة الموحدية في أول عهدها...
    ـ الشق الثاني، هو قضية من يدخل في الإسلام ، ثم يرتد عنه. وهو الشق المقصود في هذه الحلقة.
    والحقيقة أن قضية الردة وعقوبة المرتد ، هي من المعضلات في الفقه الإسلامي . وإذا كان الفقه القديم قد حل هذه المعضلة بطريقته ، وفي سياقه التاريخي وملابساته السياسية ، فإن الفقه الحديث مدعو لمزيد من النظر والمراجعة والاجتهاد لهذه القضية. وهو ما قد بدأ يحصل ، لكن على تخوف وتهيب، نظرا لوجود إجماع أو ما يشبه الإجماع ، على قتل المرتد ، عند الفقهاء المتقدمين.
    وقبل أن أبدي رأيي في الموضوع ، أقدم بين يديه بعض القضايا والبيانات التمهيدية ، وهي:
    1. القرآن الكريم ذكر الردة والمرتدين في عدة مواضع ، دون أن يذكر أي عقوبة دنيوية في الموضوع . من ذلك قوله تعالى وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة/217] ، وقوله  إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ [محمد/25]
    ونحن نعلم أن القرآن الكريم نص على عقوبات لعدد من الجنايات الأكثر خطورة في الميزان الإسلامي؛ فقد نص على عقوبات القتل والسرقة والزنى والحرابة ، فكيف لم ينص على عقوبة الردة، مع أنه ذكرها مرارا وذكر عقوبتها الأخروية ، كما تقدم ؟! وكيف لم ينص عليها وهي أخطر من سائر الجنايات النصوص على عقوباتها ؟! ألا يدل هذا إما على أنها ليست لها ـ في ذاتها ـ عقوبة دنيوية ، أو أن أمرها مختلف عن بقية الجنايات التي نص على عقوبتها في القرآن؟
    2. من الثابت أن الارتداد عن الإسلام كان أسلوبا من أساليب التلاعب والحرب النفسية، ضد الدعوة الإسلامية الفتية ، بغية فتنة أتباعها وتشتيت كيانها. وقد فضح القرآن الكريم هذا الأسلوب الماكر الذي كان يروجه بعض يهود المدينة ، ويوحون به للمشركين والمنافقين من العرب . قال الله عز وجل : وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ  [آل عمران/72]. وقد حكى القرآن من أساليب المنافقين : وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة/14]، وقال أيضا إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا [النساء/137]
    3. بعض الأحاديث والأحداث المتعلقة بالموضوع ، تكشف عن جانب آخر لحركة الردة في الصدر الأول . فلم تكن الردة مجرد انتقال من دين إلى دين ، ولم تكن مجرد تغير فكري عقدي، بل كانت انتقالا من صف إلى الصف معاد له، ومن جيش إلى جيش محارب له. وهذا ما تشير إليه بعض روايات الحديث النبوي الصحيح ( لايحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث...)، وهو أصح حديث في الموضوع.
    ففي رواية الصحيحين والترمذي ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (لايحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إلـه إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة ). فالحديث لم يقتصر على المروق من الدين( وهي الردة )، بل أضاف إليه ترك الجماعة، أو مفارقة الجماعة، أو الخروج من الجماعة، كما في روايات أخرى. وهي إضافة لا يمكن أن تكون بدون فائدة زائدة وبدون أثر في موجب الحكم .
    ومفارقة الجماعة، أو الخروج عن الجماعة، كانت تعني التمرد والمحاربة ، وربما الانضمام إلى العدو المحارِب. وهذا ما جاء صريحا في روايات أخرى لهذا الحديث. فعند أبي داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( لايحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إلـه إلا الله وأن محمدا رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: رجل زنى بعد إحصان فإنه يرجم، ورجل خرج محاربا لله ورسوله، فإنه يُقتل أويصلب أو ينفى من الأرض، أويَقتل نفسا فيُقتل بها.)
    وفي رواية النسائي، والطحاوي في مشكل الآثار، عن عائشة أيضا: (..أو رجل يخرج من الإسلام يحارب الله ورسوله، فيُقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض )
    فهذه الروايات مقيدة ومبينة للروايات التي ورد فيها قتل المرتد مطلقا دون تقييد، لأنها زيادات وتقييدات صحيحة وفي نفس الموضوع.
    ومجمل هذه الأدلة والملا بسات تؤكد أن الردة التي يحكم على صاحبها بالقتل ، كما جاء في الأحاديث والآثار ، إنما هي الردة المركبة ؛ أي الردة المحاربة ، والردة المتآمرة . فهي ردة مصحوبة بالنفاق والتلاعب بالدين ، أو مصحوبة بالتمرد والحرب على المسلمين ، أو مصحوبة بذلك كله.
    وإذا كان الأمر كذلك ، فإن العقوبة على هذه الردة المركبة ، لا ينبغي أن تكون من باب الحدود ، بل هي من باب التعازير والسياسة الشرعية ، ومن باب التصرف بالإمامة . وقد تطبق فيها عقوبة الحرابة ، كما في حديث عائشة أعلاه . وكل هذا يقدر تبعا لظروف الإسلام والدولة الإسلامية ، من استقرار أو فتنة ، أو ضعف أو قوة ... وتبعا للأفعال المصاحبة للردة ، والمخاطر والأضرار الناجمة عن هذه الردة أو الخيانة.
    وأما الردة البسيطة أو الردة المجردة ؛ أي ردة الشخص مع نفسه ومع فكره، سواء أسرها أو جهر بها ، فليست هي الردة الموصوفة في القرآن والحديث. ولذلك أرى أنها غير مشمولة بعقوبة الردة المركبة . بل هي مشمولة بنصوص وأدلة أخرى ، أبرزها وأصرحها قوله تعالى  لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ  [البقرة/256]
    فهذه الآية تقرر بصورة قاطعة شاملة، أن الدين لا مجال فيه للإكراه، ولا يقوم على الإكراه، ولا ينفع فيه الإكراه. وهذه حقيقة يقينية لا تخفى على أحد ؛ فالدين إيمان ، والإيمان اعتقاد إرادي طوعي، يأتي عن تصديق واقتناع واطمئنان يستقر في العقل والقلب، كما قال تعالى وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات/7] وكما جاء في الحديث الشريف"رضيتُ بالله ربا وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا ورسولا"
    وهذاكله لا مدخل للإكراه فيه وفي إنشائه . بل الإكراه لا يأتي إلا بالكره.
    ولو كان للإكراه أن يتدخل في الدين ويُدخل الناس فيه، أو يستبقيهم فيه، لكان هو الإكراه الصادر عن الله عز وجل، فهو سبحانه وحده القادر على الإكراه الحقيقي والمُجْدي، فهو الذي يهدي من يشاء ، وهو الذي يُـحَول الإنسان ويُـحَول قلبه تحويلا حقيقيا ، فيجعل الكافر مؤمنا والمشرك موحدا والكتابي مسلما، ويمكنه أن يجعل جميع الناس مؤمنين مسلمين . ولكنه سبحانه ـ بحكمته ـ أبى ذلك ولم يفعله: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] {قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149]، {وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 107].
    فإذا كان الله عز وجل لم يكره الناس على الإيمان به، وهو الذي يملك ذلك ظاهرا وباطنا، وكذلك لم يأذن بشيئ منه لرسوله صلى الله علي وسلم ، حيث قال له: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ [الغاشية/21، 22] وقال له أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ، فكيف يأذن ، بل يأمر ولاة المسلمين ، بإكراه أحد على البقاء في الإسلام ، أو الرجوع إليه بعدما خرج منه ، تحت طائلة القتل؟!
    {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}

    وكيف يعرف فرق ما بين حق الذمام وثواب الكفاية من لا يعرف طبقات الحق في مراتبه، ولا يفصل بين طبقات الباطل في منازله‏. [ الجاحظ ]

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    المشاركات
    1,636
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    الإسلاميون والديموقراطية

    يذكر كثير من علماء الأصول والمقاصد أن القضايا والمبادئ الكلية التي تأتي بها الشرائع المنزلة هي مما تدركه عقول الناس، ويشتركون في فهمه وتقبله والاتفاق عليه، حتى قبل مجيء الشرائع بها، وذلك كاتفاقهم على حسن العدل وقبح الظلم، وحسن الوفاء وقبح الخيانة، وكاتفاقهم على حسن الاعتدال وقبح الغلو، وحسن الجود والإيثار وقبح الشح والاستئثار...
    ومن هذا الباب، لا نجد اليوم ـ ولا قبل اليوم ـ اختلافا يذكر بخصوص مجمل المبادئ التي تعد هي التعبير العملي عن الديموقراطية والنظام الديموقراطي؛ مثل :
    ـ الشعب مصدر السلطة والشرعية والسيادة
    ـ الحق في اختيار الناس لمن يحكمهم ومن ينوب عنهم في تدبير شؤونهم العامة
    ـ التداول السلمي على السلطة بواسطة الانتخابات
    ـ حق تأسيس الأحزاب وغيرها من المنظمات، للتعبير الجماعي والعمل الجماعي
    ـ الحق في حرية الصحافة وحرية التعبير
    ـ الحق في مراقبة الحكام والمنتخبين ومحاسبتهم
    ـ الفصل بين السلط وصلاحياتها، وخاصة استقلالَ السلطتين التشريعية والقضائية عن السلطة الأقوى، التي هي السلطة التنفيذية ...
    فكل هذه الحقوق والقواعد الدستورية، هي مبادئ ومُثُل جميلة متحضرة، لا ينازع فيها أحد، ولا يتردد أحد في قبولها والمطالبة بها . ولكن ما يقع الاختلاف في إدراكه، ويحتاج إلى الشرائع لحسمه، ويحتاج إلى العلماء المجتهدين والخبراء المتخصصين لإدراك وجه صوابه وحكمته ومدى مطابقته للحكم الكلي، هو التفاصيل الجزيئة والصور التطبيقية.
    واليوم يردد السياسيون المثل القائل : الشيطان يسكن في التفاصيل.
    وأنا أضيف : الشيطان يسكن في التطبيق أيضا .
    فكلنا مسلمون، آمين، ولكن الشيطان يأتي هناك، في التفصيل والتطبيق .
    وكلنا معتدلون ومنفتحون، آمين، ولكن المشكلة آتية في التفاصيل والتطبيقات.
    وكلنا نريد ونحب قيم الحوار والتسامح والتساكن وحسن الجوار ... لكن ..؟؟؟
    وكلنا مع السلام والحلول السلمية، وبعد ...؟؟
    وكلنا ديموقراطيون، ولكن لندخل في التفصيلات والتطبيقات، وسنرى العجب . بل قد نتفق أو نتوافق حتى في التفاصيل القانونية للعملية الديموقراطية، ولكن يبقى الشيطان والشيطنة في التطبيق والتنفيذ.
    فالديموقراطية اليوم ـ من حيث هي مبادئ وقواعد ونظم ـ تحظى بقبول وتَوافق واسعين في العالم كله، وفي عموم العالم الإسلامي أيضا، وبصفة خاصة لدى عامة العلماء والحركات الإسلامية . فكل الحركات الإسلامية ذات الاهتمام السياسي هي إما مشاركة في النظم والعمليات الديموقراطية، وإما ساعية إلى ذلك في انتظار أن يفتح لها الباب أو النافذة. وكلها ـ على تفاوت ـ تمارس الديموقراطية في نظامها الداخلي، ولم يبق لأحد ما يزايد به عليها في هذا الباب .
    وحتى القلائلُ من الإسلاميين، الرافضون للديموقراطية أو المتحفظون منها، نجد أن كثيرا من حججهم إنما تتعلق بالتطبيق والممارسة الفعلية، لا بالفكرة والمبدأ . فهم يرون ـ كما يرى الناس جميعاـ أن الديموقراطية المعمول بها في العالم العربي والإسلامي هي شعار جديد وأسلوب أثير لشرعنة الاستبداد والإقصاء والفساد.
    ففي العراق حكومة منتخبة ديموقراطيا، أليس كذلك !
    وفي أفغانستان حكومة منتخبة، ديموقراطيا أيضا !
    وفي أطراف فلسطين هناك حكومة منتخبة، ولكنها مطاح بها ديموقراطيا! وبجانبها حكومة أخرى أكثر ديموقراطية، مادام العالم الديموقراطي»الحقيقي»، يعترف بها ويدعمها!
    وفي تونس والجزائر ومصر وباكستان وسوريا والسودان واليمن، يوجد رؤساء دول منتخبون ديموقراطيا مدى الحياة!!، فيا موتُ زُرْ ...
    ما أردت أن أقوله بهذه الإشارات هو أن الإشكالات والتحديات والإساءات التطبيقية التي تواجه الديموقراطية والفكر الديموقراطي هي أكبر بكثير وأخطر بكثير من الاعتراضات والتحفظات النظرية، التي قد تكون عند بعض الإسلاميين أو غيرهم، من قبيل الآتي ذكره:

    قضية الشورى والديموقراطية

    بعض علماء الإسلام ودعاته وبعض الجماعات الإسلامية يرفضون فكرة الديموقراطية لسبب بسيط، وهو أن المسلمين عندهم ما يغني عنها، وهو الشورى .
    ومادامت الشورى من الإسلام ومن شريعة الإسلام فهي ـ بدون شك ـ أفضل وأكمل . فالذين يتركون نظام الشورى ويأخذون بالنظام الديموقراطي، يصدق فيهم ما جاء في القرآن الكريم (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) [البقرة/61].
    والجواب عن هذا هو أن الشورى في الإسلام أساس وركن ونهج، وليست نظاما، فهي كما قال القاضي ابن عطية الأندلسي:«والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام»، فهي من القواعد العامة والأحكام الأساسية، ولكن شأن نظامها أو تنظيمها متروك للاجتهاد والتجربة والتكيف مع الأحوال والتطورات.
    ومن التطورات أننا نجد أمامنا اليوم هذه الثروة من التجارب والنظم الديموقراطية. فلنا أن نأخذ بها أو نأخذ منها. وهنا أذكّر بما بينته في حلقات سابقة من ضرورة التمييز بين أحكام العبادات وأحكام المعاملات، ومن كون الإسلام وضع الأسس والمبادئ العامة للنظام السياسي، ولكنه لم يضع لنا نظاما سياسيا محددا، فهذه من تلك.
    منذ بضع سنوات، ألقيت محاضرة في هذ الموضوع، وأوضحت أن المضامين الديموقراطية مقبولة ومعتبرة إسلاميا ولا إشكال فيها ... وفي النهاية، جاءني أحد الإخوة السلفيين، وقال لي : لقد اقتنعت الآن..، ولكن بقي عندي شيء واحد، هو: لماذا تصر على استعمال مصطلح الديموقراطية ؟ أليس اسم الشورى كافيا وأفضل؟ فقلت له : الآن هان الأمر، فالمهم هو أن نعرف المسمى ومضمونه ومقصوده، ونتفق عليه، وأما الاسم فمسألة هينة . وقلت له: إن القرآن الكريم عبر عن العدل بكلمة «القسط والقسطاس»، وهي كلمة رومية، كما في صحيح البخاري...

    الديموقراطية بين الوثنية والعلمانية

    يعترض مفكرون إسلاميون آخرون على الديموقراطية بكونها ولدت في أحضان ثقافة وثنية يونانية، ثم ترعرعت وازدهرت في بيئة علمانية أوربية، فهي قد جمعت بين وثنية الأقدمين وعلمانية المحدثين، ولذلك فالديموقرطية ثقافة وفلسفة حياة وليست مجرد نظام سياسي.
    والحقيقة أن هذا الاعتراض يحمل جوابه في نفسه. فإذا كانت الديموقراطية وثنية، فكيف قبلت أن تصبح علمانية؟ وإذا كانت بطبيعتها علمانية فكيف يصح وصفها بالوثنية؟ وإذا كانت قد قبلت التغير من وثنية قديمة إلى علمانية حديثة، فلمَ لا تكون قابلة للتغير إلى شيء آخر والتكيف مع ثقافة أخرى ؟
    والحقيقة الأخرى هي أن هذا الإشكال كله ومن أصله هو مجرد فضول وتكلف؛ لأن الديموقراطية التي نتحدث عنها اليوم ونتعامل معها هي شيء معيش ومشاهد، فهي ليست شيئا في أعماق التاريخ أو في بطون كتب الفلسفة، وما هو معيش ومشاهد هو نظم وأنماط ديموقراطية تـنْـبُتُ وتتلاءم وتتعايش في مجتمعات وثقافات وديانات مختلفة متعددة، ولم تفرض على الناس دينا ولا رفضت لهم دينا. فلماذا الرجوع والاحتكام إلى نسبها وأصلها وفصلها؟ أليس هذا مجرد فضول ليس تحته عمل؟

    الكلمة العليا للشريعة أم للديموقراطية

    يقول بعض السلفيين : الديموقراطية تعطي السيادة والكلمة العليا للشعب وللناخبين، فتجعل كلمة البشر فوق كلمة الله وتجعل تشريعاتهم فوق شريعة الله . فالديموقراطية تحل ما حرم الله وتحرم ما أحل الله وتلغي ما فرض الله، وهذا كله مرفوض. ويزيد بعضهم : بل هو كفر. فلذلك لا يمكن قبول الديموقراطية بحال.
    ويقول بعض العلمانيين: الإسلاميون يحتكمون إلى الشريعة ويعطونها الكلمة العليا. وما حكمت فيه الشريعة فلا نقاش فيه ولا ديموقراطية فيه عندهم، وهذا نقض للديموقراطية، بل هو كفر بها. ولهذا لا يمكن للإسلاميين أن يكونوا ديموقراطيين حقيقيين، فلا ينبغي قبولهم في رحاب الديموقراطية بحال، لأنهم خطر على الديموقراطية.
    والذي أراه أن هذه الإشكالية «العويصة»، ميسور حلها والجواب عليها : إسلاميا وديموقراطيا.
    ـ فأما إسلاميا، فهذا لا يتصور إلا في حالة افتراض استفتاء شعبي عام في بلد إسلامي، ويتعلق بشيء صريح في الدين، ليقبله الناس أو يرفضوه، فيسفر الاستفتاء عن رفض الحكم الشرعي وتبني ما يخالفه . وهذا ما لن يقع في يوم من الأيام، لا من حيث إجراء مثل هذا الاستفتاء، ولا من حيث نتيجته المذكورة.
    أما حين يرفض الناس حزبا إسلاميا أو مرشحين إسلاميين، لسوء أدائهم أو لضعف أهليتهم أو حين لا يقبلون اجتهاداتهم الفقهية أو برامجهم الاجتماعية أو مواقفهم السياسية، فإن هذا لا يكون ـ أبدا ـ رفضا للإسلام أو لشيء منه . فالإسلام وشريعته شيء، والمسلمون واجتهاداتهم وتصرفاتهم شيء آخر.
    ـ وأما ديموقراطيا، فإن من بدهيات الديموقراطية القبول بما تختاره الشعوب وتتمسك به. والديموقراطي الحق ـ حتى لو فرضناه ليس مسلما ـ هو من يحترم اختيار شعبه وجمهوره . ولا أحد يجادل في تمسك جميع المسلمين، وليس أغلبيتهم، بالأحكام الثابتة الصريحة في دينهم . فهذا خيار ديموقراطي محسوم ومعلوم ولا غبار عليه . فعلى جميع الديموقراطيين احترامه والعمل بمقتضاه. فحتى لو قيل : حكم الديموقراطية فوق حكم الدين، فهذا يمكن أن يُتصور إذا تعلق الأمر بدين تدين به الأقلية، أما ما تؤمن به وتتمسك به الأغلبية الساحقة من الشعب، أو الشعب كله، فإن الالتزام به هو عين الديموقراطية.
    ولهذه النقطة الأخيرة علاقة بقضية الأغلبية في الإسلام والفكر الإسلامي، ولذلك أخصص لها الحلقة المقبلة بعون الله تعالى.
    {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}

    وكيف يعرف فرق ما بين حق الذمام وثواب الكفاية من لا يعرف طبقات الحق في مراتبه، ولا يفصل بين طبقات الباطل في منازله‏. [ الجاحظ ]

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    المشاركات
    1,636
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي الحلقة 11

    العمل بالأغلبية

    «العمل بالأغلبية» ـ أو الأكثرية ـ يراد به : ترجيحُ الرأي الذي قال به أكثر المشاركين برأيهم في مسألة من المسائل المتداول بشأنها، والأخذُ به.
    وأما «الأغلبية» نفسها، فهي العدد الغالب من ذوي الرأي في المسألة، أي ما زاد على نصفهم، وهذا ما يعرف بالأغلبية المطلقة. فإذا قيل:»الأغلبية» بدون تقييد، فهي المقصودة. وأما الأغلبية المحددة بنسبة معينة، فهذه تذكر عادة بنسبتها المحددة، كأنْ يقال:أغلبية الثلثين، أو أغلبية ثلاثة أرباع، أو نحو ذلك.
    العمل بالأغلبية المطلقة ـ وأحيانا بأغلبية محددة ـ شائع ومسلم اليوم في مجالات واسعة وكثيرة، كالاستفتاءات والانتخابات العامة والخاصة واتخاذ القرارات داخل الهيئات الجماعية، سواء في مؤسسات الدول والحكومات أو في الهيئات الأهلية، وحتى في الهيئات الخاصة كالشركات.
    فما هو موقع الأغلبية وحكمها في الإسلام، وفي الثقافة الإسلامية؟
    أول ما يسجل بهذا الصدد هو أن هذه القضية لم تبحث بشكل واسع جامع، بمعنى أنها ليس لها موضع معلوم تعالج فيه، كبعض أبواب الفقه أو في مباحث معينة من علم أصول الفقه، أو في كتب السياسة الشرعية. وإنما تذكر بشكل مقتضب، مع تطبيقات متفرقة لها، فيعدد من العلوم الإسلامية. ولعل أول بحث جامع لها ـ نسبيا ـ هو الذي جاء في أطروحتي للدكتوراه (نظرية التقريب والتغليب وتطبيقاها في العلوم الإسلامية)، التي نوقشت سنة 1992، ففيها فصل خاص عن هذه القضية.

    الترجيح بالكثرة
    في الفكر الإسلامي

    لعل مصطلح «الترجيح بالكثرة»، الوارد في عدد من العلوم الإسلامية، هو الأكثر استعمالا والأكثر تعبيرا عن قضيتنا.
    ـ ففي علوم الحديث، نجد مناقشات وتطبيقات، حول الترجيح بالكثرة بين الأحاديث المتعارضة، الواردة في الموضوع الواحد، أو بين الروايات المختلفة للحديث الواحد، إذ اختلفت بالزيادة والنقص أو غيرهما من وجوه الاختلاف. وفي المسألة نقاش حول أي الترجيحين مقدم على الآخر : الترجيح بالأحفظية أم الترجيح بالأكثرية؟ بمعنى: إذا اختلف الرواة، هل نرجح رواية من هو أحفظ وأضبط أم نرجح الرواية التي عليها الأكثرية من الرواة؟ وهذه الموازنة والمفاضلة بين الترجيحين، إنما يُلجأ إليها إذا كان جميع الرواة من أهل الحفظ والأمانة، ولكن بعضهم أحفظ من بعض، فحينئذ تجري المفاضلة بين ترجيح عنصر الحفظ أو عنصر الكثرة، أما الرواة الضعفاء فلا يمكن ترجيح روايتهم على رواية الثقة الواحد، مهما كثر هؤلاء الضعفاء.
    والذي يعنيني الآن هو أن الترجيح بالكثرة أو بالأكثرية، بين الروايات الحديثية، موجود ومعمول به لدى علماء الحديث. وأساسه أن زيادة عدد الرواة الثقات لها مزية ورجحان على رواية الواحد الثقة، وعلى رواية العدد الأقل من الثقات.
    ـ وفي المجال الفقهي أيضا، يُعتمد الترجيح بالكثرة عند اختلاف الأقوال الفقهية الاجتهادية. وينطبق هذا ابتداء من الصحابة رضي الله عنهم. قال أبو إسحاق الشيرازي: «وإذا كان على أحد القولين أكثر الصحابة، وعلى الآخر الأقل، قُدّم ما عليه الأكثر، لقوله صلى الله عليه وسلم «عليكم بالسواد الأعظم». وقال ابن القيم: «فإن كان الأربعة ـ يقصد الخلفاء الراشدين ـ في شق، فلا شك أنه صواب، وإن كان أكثرهم في شق، فالصواب فيه أغلب».
    وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: «استشارني عمر في أمهات الأولاد (يعني الإماء)، فأجمعت أنا وهو على عتقهم، ثم رأيت بعدُ أن أُرقَّهم. فقال له عبيدة (هو عبيدة السلماني، تابعي): رأيُ ذَوَيْ عدل أحب إلينا من رأي عدل واحد».
    وفي مسألة أخرى مماثلة قيل له : لَأمْرٌ جامعتَ عليه أمير المؤمنين، و تركت رأيك، أحب إلينا من أمر تفردت به، فضحك.
    قال البزدوي : «وإنما اختار أبو عبيدة أن يكون قول علي منضما إلى قول عمر رضي الله عنهما، لأنه كان يرجح قول الأكثر على قول الأقل، وعلي لا يرى الترجيح بالكثرة بل بقوة الدليل».
    على أن الاختلاف ـ أحيانا ـ في الترجيح بالكثرة أو عدمه لا يلغي كون هذا المبدأ قد عُمل به عند عامة الفقهاء، وأن لكل فقيه أن يأخذ به إذا لم يظهر له وجه الصواب في المسألة ،«لأن الأغلب أن الصواب يكون مع الأكثر»، كما يقول أبو الحسين البصري .
    ولذلك قرر شمس الأئمة السرخسي أن «الترجيح بالكثرة... أصل في الفقه، فإن للأَكثر حكم الكمال».
    وذهب بعض الفقهاء إلى الترجيح بالكثرة في شهادة الشهود أمام القضاء، فتقدم شهادة الشهود الأكثر عددا على الأقل عددا، غير أن هذا القول يجد اعتراضا أكثر لدى الفقهاء، لما يمكن أن يشوب تكثير الشهود من تلاعب وحشد للمأجورين أو التابعين أو المتحيزين.
    وعموما يمكن القول : إن العلماء قد أخذوا بالأكثرية العددية، واعتبروها مرجحا، فيما ليس فيه مانع معتبر. وقد عملوا بهذا المبدأ في مجال الرواية ومجال الدراية معا.
    ـ وأما في المجال السياسي، فقد نص العلماء على فكرة الأغلبية، لكن بصيغ وعبارات مختلفة في معظم الأحيان. ويتجلى ذلك في اشتراطهم لانعقاد البيعة الصحيحة، أن يؤيدها ويلتف حولها من الناس، ما تحصل به الشوكة والمنعة والانقياد العام.
    غير أن الإمام الغزالي كان أكثر تصريحا وتوضيحا في التنصيص على اشتراط الأغلبية لذلك. فهو يرى ـ كشيخه الجويني ـ أن مبايعة عمر لأبي بكر لم تصبح لازمة نافذة، إلا بالتأييد الواسع والفوري، الذي حظيت به، « ولو لم يبايعه غيرُ عمر، وبقى كافة الخلق مخالفين، أو انقسموا انقساما متكافئا لا يتميز فيه غالب عن مغلوب، لما انعقدت الإمامة».
    ثم يضيف : «فإن شرط ابتداء الانعقاد قيامُ الشوكة، وانصرافُ القلوب إلى المشايعة، ومطابقة البواطن والظواهر على المبايعة، فإن المقصود الذي طلبنا له الإمام جمعُ شتات الآراء، في مصطدم تعارض الأهواء. ولا تتفق الإرادات المتناقضة والشهوات المتباينة المتنافرة على متابعة رأي واحد إلا إذا ظهرت شوكته وعظمت نجدته وترسخت في النفوس رهبته ومهابته، ومدار جميع ذلك على الشوكة، ولا تقوم الشوكة إلا بموافقة الأكثرين من مـعْـتَـبَـري كل زمان».

    السيرة النبوية
    والأخذ بالأغلبية

    نبي الله ـ كما هو معلوم ـ مؤيد بالوحي معصوم. فلو أنه لم يستشر قط في حياته أحدا، لكان الأمر واضحا لا غبار عليه. ولكنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يتصرف ليَسُن لأمته، وليرسم النهج للأئمة من بعده. فلذلك كان يستشير ويكثر الاستشارة، حتى قال أبو هريرة رضي الله عنه : (ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه و سلم ).
    لكن هل كان يلتزم ـ في مشاوراته مع الصحابة ـ الأخذ برأي أكثريتهم، أم يُمضي ما يراه حتى لوكان على خلاف مستشاريه؟
    الحقيقة أنه لم يثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار الصحابة في أمر، ثم خالف رأيهم أو رأي أكثريتهم فيه، بل الثابت هو العكس. وفي ما يلي نماذج من ذلك:
    في غزوة بدر:
    لما علم النبي صلى الله عليه وسلم بأن قريشا قد تجهزت لقتال المسلمين، استشار الصحابة في شأن الاستعداد لملاقاة قريش ومناجزتها. فتكلم أبو بكر وعمر والمقداد بن عمرو، وكلهم أيدوا الرأي النبوي لمواجهة قريش، ولكن هؤلاء الثلاثة كانوا كلهم من المهاجرين، وكان عليه السلام يريد أساسا معرفة رأي الأنصار، فاستمر يقول: «أشيروا علي أيها الناس». قال ابن إسحاق: «وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم عدد الناس»، أي أكثريتهم.
    فقد كان عليه السلام حريصا على معرفة رأي الأكثرية، ومدى استعدادهم للقتال ضد قريش. فلذلك أراد أن يسمع رأي زعماء الأنصار بالذات. فلما علموا هذا وفهموه، قاموا فأعلنوا تأييدهم وجاهزيتهم للمعركة. فلما ضمن ذلك وتأكد منه، بتصريح سادتهم وزعمائهم أمر بالانطلاق قائلاً: «سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم».
    وفي غزوة أُحُد :
    لما علم المسلمون بتجهز قريش وتحركها لمقاتلتهم بالمدينة، استشار عليه السلام عموم الصحابة، فكان رأي أكثرهم الخروج لمناجزة المشركين خارج المدينة، حتى لا يظن الأعداء وعموم العرب أن المسلمين ضعفوا وجبنوا. وكان رأي النبي وجماعةٌ من شيوخ الصحابه هو الـمُـكث في المدينة، فإذا دخلها المشركون سهُل على جميع المسلمين الانخراط في قتالهم، ومع ذلك فقد أخذ عليه الصلاة والسلام برأي الأكثرية المخالفة لرأيه.
    وفي غزوة الأحزاب
    لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحالف المشركين واليهود والمنافقين وحصارهم للمدينة قد أوقع المسلمين في خطر ماحق، فكر في خطة يكسر بها هذا الحصار المطبق، فلجأ إلى أضعف حلقاته، قبيلة غطفان، ففاوض زعماءهم وعرض عليهم الخروج من هذا الحلف مقابل ثلث ثمار المدينة لتلك السنة، فقبلوا. لكنه اشترط مشاورة أهل الثمار، وهم الأنصار أهل المدينة. فلما عرض الأمر على زعماء الأنصار، سألوه إن كان هذا وحيا من الله فيطيعوه، أو هو شيء يحبه النبي ويرغب فيه فيلبوا رغبته، أم هو شيء يصنعه رفقا بهم وتخفيفا عليهم؟ فلما أخبرهم أنه اجتهاد منه ليخفف عنهم وطأة الحصار، قالوا ـ على لسان سعد بن معاذ ـ : «يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا إليه، وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟! والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأنت وذاك» فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب ثم قال: ليجهدوا علينا».
    لقد كان بإمكان النبي الأمين ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جميع هذه الحالات، وغيرها مما لم أذكره، أن يستعمل صلاحيته النبوية، أو صلاحيته القيادية، فينفذ ما يراه بمفرده، أو ما يراه وقلة من الصحابة، ولكنه لم يكن يفعل. وإن في ذلك لمغزى ومنهجا، يجب فهمه واتباعه.
    {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}

    وكيف يعرف فرق ما بين حق الذمام وثواب الكفاية من لا يعرف طبقات الحق في مراتبه، ولا يفصل بين طبقات الباطل في منازله‏. [ الجاحظ ]

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    المشاركات
    1,636
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي الحلقة 12

    مفهوم الشريعة قبل تطبيق الشريعة

    جدل كثير وصراع مرير يدوران اليوم في عموم الدول والمجتمعات الإسلامية، حول قضية الشريعة وتطبيق الشريعة. والقضية، في جزء منها، تعود إلى ما تعيشه النخب الثقافية والسياسية من انقسام إلى تيارين كبيرين، يتجاذبان الساحة الثقافية والسياسية، يمكن وصفهما بالتيار الديني والتيار المدني(أو ما يعرف بالتيار العلماني الحداثي). ولكن جزءا من هذا الصراع يرجع إلى الالتباس الحاصل في مفهوم الشريعة وتطبيق الشريعة.
    وسواء عند المتبنين لتطبيق الشريعة المدافعين عنه أو عند المناوئين لهذا الهدف الخائفين منه، فإن هناك مفاهيم وتصورات قاصرة أو مشوهة لمفهوم الشريعة ولتطبيق الشريعة. وهو ما تترتب عنه مشاكل وصراعات عدة، يمكن تلافيها أو تقليصها بالمعرفة الصحيحة للشريعة ومضامينها.
    فبسبب هذا الالتباس نجد عددا من الناس تصوروا الشريعة وتطبيق الشريعة على طريقتهم، فقالوا بناء على ذلك : إن الشريعة لم تطبق إلا في العهد النبوي، ونسبيا في عهد الخلفاء الراشدين. وهذا معناه ـ في نظرهم ـ أن هذه الشريعة غير قابلة للتطبيق في هذا الزمان، لمثاليتها أو لقصورها أو لغير ذلك من الأسباب. المهم أن تطبيقها توقف في وقت مبكر، ولم يصمد أمام التطورات والتغيرات إلا زمنا يسيرا. فكيف يراد تطبيقها اليوم، بعد أربعة عشر قرنا من توقف تطبيقها ؟!
    وبسببه أيضا، رأى آخرون أن الشريعة تتسم بالبدائية والتخلف والهمجية، فكرهوها وكرهوا من يريد إحياءها ؛ فهي ـ في ما سمعوا وفهموا ـ عبارة عن قصاص وحدود، وسيوف ودماء. فالعودة إلى الشريعة عودة إلى الوحشية والهمجية، ونحن في زمن الحضارة والحداثة وحقوق الإنسان!
    وبسبب ذلك أيضا، ظهر لبعض المتدينين والدعاة أن جميع الحكومات والمجتمعات ـ الإسلامية «سابقا» ـ قد نبذت اليوم شريعة الله وعطلتها وتنكرت لها، وقد غلا بعضهم فتحدثوا عن ردة واسعة، قد عمت معظم البلدان الإسلامية، شعوبا وحكومات. ومن هنا، ارتفعت درجة الكراهية والغليان ... وهو ما نجمت عنه إلزامات وتداعيات وردود فعل خطيرة، ما زلنا نعيش آثارها.
    لذلك ـ وقبل الحديث عن قضية الشريعة وتطبيق الشريعة اليوم ـ لا بد من الحديث عن معنى الشريعة ومفهوم الشريعة.

    مفهوم الشريعة من بدايته

    ذكرت في حلقة سابقة أننا نحتاج ـ في كثير من القضايا والمفاهيم الأساسية ـ إلى أن نرجع إلى الوراء، وأن نرجع إلى البدايات...، فلنرجع الآن إلى البداية أيضا.
    مادة «ش ر ع» ـ ومنها الشريعة والشرعة والشرع ـ في القرآن الكريم يشمل معناها كل ما أنزله الله لعباده، من معتقدات وعبادات وأخلاق وآداب وأحكام عادات ومعاملات. وتأتي العقائد والعبادات في طليعة ما شرعه الله وجعله شريعة للعباد، كما هو واضح في قوله تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى/13]، (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) [الشورى/21]، «وعن السديّ، في قوله شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ) قال: هو الدين كله».
    أما لفظ «شريعة»، فقد ورد في القرآن الكريم مرة واحدة، في قوله تعالى (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)[الجاثية/18].
    وورد شقيقه، لفظ «شرعة»، في قوله تعالى (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) [المائدة/48].
    قال الإمام الطبري: «والشِّرْعة: الشريعة بعينها، تجمع الشِّرعة شِرَعًا، والشريعة شرائع، ولو جمعت الشرعة شرائع كان صوابا، لأن معناها ومعنى الشريعة واحد».
    وقال القرطبي: «والشِّرعة والشريعة : الطريقة التي يُتوصل بها إلى النجاة. والشريعة في اللغة: الطريق الذي يتوصل منه إلى الماء. والشريعة ما شرع الله لعباده من الدين، وقد شرع لهم يشرع : أي سن. والشارع: الطريق الأعظم».
    فالشريعة في اللغة، تعني الطريق العظيم والصراط المستقيم.
    والشريعة في استعمال القرآن مساوية لمعنى الدين، الذي هو الصراط المستقيم .كل ما في الأمر أن استعمال «الشريعة» هو باعتبار واضعها وهو الله تعالى، فهو الذي (شَرَعَ لَكُمْ ...)، وأما استعمال «الدين» فباعتبار من يدين به، وهو الإنسان.
    وبهذا المعنى الواسع الجامع للشريعة، ألف الإمام أبو بكر الآجري (المتوفى سنة 360هـ) كتابه الذي سماه ( الشريعة)، مع أن أكثر ما فيه مسائل عقدية وتربوية.
    وبعده ألف المفكر الفيلسوف الراغب الأصفهاني (المتوفى سنة 500 أو 502 هـ)، كتابه الشهير (الذريعة إلى مكارم الشريعة)، وهو كتاب في فلسفة الأخلاق والتربية. فالراغب يعتبر ـ بحق ـ أن تهذيب النفوس والعقول والأخلاق من صميم الشريعة ومكارمها. وهو يُعرف مكارم الشريعة فيقول : «ومكارم الشريعة هي : الحكمة، والقيام بالعدالة بين الناس، والحلم، والإحسان، والفضل. والقصد منها أن تبلغ إلى جنة المأوى , وجوار رب العزة تعالى».
    وقبل الوصول إلى جنة المأوى، فإن مكارم الشريعة تتلخص في تحقيق الغايات الثلاث الكبرى للوجود الإنساني، وهي: العمارة، والعبادة، والخلافة. يقول : « ومن لم يصلح لخلافة الله تعالى، ولا لعبادته، ولا لعمارة أرضه، فالبهيمة خير منه».
    فهذه هي الشريعة، وهذه هي مكارمها ومقاصدها، وهذا هو المفهوم الأول لها.
    ومع التوسع العلمي وتشعب التخصصات العلمية، ظهر استعمال الشريعة استعمالا اصطلاحيا. والاستعمال الاصطلاحي عادة ما يضيق من مدلولات الألفاظ، ويقصُرُها على بعض مدلولاتها اللغوية.
    ومن المعاني الاصطلاحية الخاصة التي استُعمل بها لفظ الشريعة، المعنى الذي يعنيه الصوفية عندما يقابلون بين «الحقيقة والشريعة». فالشريعة هنا، صُرف معناها إلى التكاليف والضوابط الشرعية الظاهرة، الموجهة إلى»عامة» المكلفين. وأما الحقيقة، فهي الجواهر والبواطن والأسرار التي يدركها «الخاصة» من العباد والزهاد والعارفين...ومن هنا، نشأ القول بعلوم الظاهر وعلوم الباطن، وتم على هذا الأساس التفريق بين وظيفة الفقه ووظيفة التصوف. وهي كلها اصطلاحات وتقسيمات طارئة، ينبغي ألا تحجب عنا المعاني والمفاهيم الشرعية، كما هي في نصوص الشرع، وكما هي عند المتقدمين.
    على أن أشهر استعمال اصطلاحي للفظ الشريعة هو استعمالها للدلالة ـ بصفة خاصةـ على الأحكام العملية في الدين، أي كل ما سوى العقائد، لكن مع الاحتفاظ في هذه الدلالة بجميع المجالات التشريعية العملية الواردة في الدين، ومنها العبادات الظاهرة والباطنة والأخلاق والآداب. فالشريعة، بهذا المعنى، تشمل الدين كله إلا العقيدة. ومن هنا، جاء استعمال عبارة «الإسلام عقيدة وشريعة»، على أساس أن العقيدة غير الشريعة.
    ومنذ قرون طويلة، أصبح هذا المعنى هو الأكثر شيوعا واستعمالا لدى العلماء، ولكنه لم يُلغ المعنى الأول والأعم للشريعة والشرع، كما أنه ظل واسعا وشاملا لكل المجالات التشريعية. فمجال الشريعة هنا أصبح تقريبا هو نفسه مجال «الفقه»، بمعناه الاصطلاحي المعروف. ويبقى الفرق بينهما هو أن الشريعة تطلق على ما هو منزل ومنصوص وصريح من الأحكام ومن القواعد الشرعية، بينما الفقه ـ أو علم الفقه ـ يراد به خاصة ما هو مستنبط ومجتهَد فيه.
    وفي العصر الحديث، اتجه استعمال اسم الشريعة نحو مزيد من التخصيص والتقليص، وخاصة حينما بدأ التعبير بلفظ « التشريع الإسلامي»، على غرار « التشريع» بمعناه القانوني. وهكذا بدأ لفظ الشريعة والتشريع الإسلامي، يطلقان على التشريعات المنظمة للحياة العامة. وهو اصطلاح العلامة ابن عاشور، الذي يقول: « فمصطلحي إذا أطلقت لفظ التشريع أني أريد به ما هو قانون للأمة، ولا أريد به مطلق الشيء المشروع. فالمندوب والمكروه ليسا بمرادَيْن لي، كما أرى أن أحكام العبادات جديرة بأن تسمى بالديانة».
    وبهذا، أصبح معنى الشريعة مماثلا ـ أو مقابلا ـ لمعنى القانون. ومن هنا، جاءت المقابلة والمقارنة بين (الشريعة الإسلامية) و(القوانين الوضعية). وقد تعززت هذه المقابلة وتحولت إلى خصومة ومنافسة، بسبب ما تعرضت له أحكام الشريعة ـ المدنية والجنائية ـ من إزاحة قسرية، لفائدة القوانين المستوردة من الغرب. وهذا ما جعل العلامة الأستاذ علال الفاسي يتحدث عن صراع بين (الشريعة الإسلامية) و(الشريعة الاستعمارية)، وذلك في كتابه القيم (دفاع عن الشريعة) .
    في خضم عملية «التطهير التشريعي»، التي سهرت عليها ـ وما زالت ـ الدول الاستعمارية، ارتفعت درجة الحساسية ضد هذا المسار، بل أصبحت هذه الحساسية جزءا من الصحوة الإسلامية ومحركا من محركاتها. وهنا، رُفع شعار «تطبيق الشريعة» الذي اتجه أساسا إلى الشريعة بأضيق معانيها، أي الشريعة الممثلة في قوانين الدولة ومحاكمها، باعتبار أن هذا المعنى هو«محل النزاع وميدان الصراع».
    وبما أن أول وأبرز ضحايا «التطهير التشريعي» كان هو المجال الجنائي، فإن رد الفعل قد تركز على هذا المجال وعلى تضخيمه. وهكذا، بدأت عملية اختزال لمفهوم الشريعة ولتطبيق الشريعة في تطبيق العقوبات الجنائية الإسلامية، وأصبحت «الحدود الشرعية» رمزاً لتطبيق الشريعة أو رمزا لتعطيل الشريعة.
    والخلاصة أن المعاني الخاصة والمضيقة لمفهوم الشريعة ينبغي أن توضع وتفهم في سياقها ومجالها، وينبغي ألا تحجبنا أو تحجب عنا المعنى الأصلي والكامل للشريعة. وعلى هذا الأساس، يمكننا التحدث عن تطبيق الشريعة..

    فلنتابع.
    {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}

    وكيف يعرف فرق ما بين حق الذمام وثواب الكفاية من لا يعرف طبقات الحق في مراتبه، ولا يفصل بين طبقات الباطل في منازله‏. [ الجاحظ ]

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    المشاركات
    1,636
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي الحلقة 13

    شريعة .. بلا حدود


    رأينا من قبل أن الشريعة الإسلامية هي كل ما أنزله الله وأرسله إلى عباده، تنفيذا لوعده القديم : ) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ...( «سورة طـه:123»
    فالقرآن الكريم وكل ما تضمنه، من فاتحته إلى نهايته، هو الشريعة الإسلامية . والسنة النبوية الصحيحة كلها، وكل ما فيها، هي الشريعة الإسلامية.
    فالإيمان بالله، والخوف من الله، والحياء من الله، وتقوى الله، كلها شريعة الله.
    وعبادة الله، والتوكل عليه، والإخلاص له، وذكره وشكره، كلها شريعة الله.
    والتخلق بمكارم الأخلاق والآداب، من عدل وإحسان وصدق ووفاء ورفق وتواضع ... كل هذا من شريعة الله، وكذلك التنزه والتخلص من سفائف الأخلاق ورذائلها.
    والتعفف عن الخبائث والمحرمات والوقوف عند المباحات الطيبات، جزء من الشريعة ومن تطبيق الشريعة.
    وطلب العلم ـ أي علم نافع ـ وبذله ونشره والمساعدة عليه، عبادة وشريعة.
    وكل ما يحقق ويخدم مقاصد الشريعة، في حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، فهو من صميم الشريعة ومن مصالح الشريعة، كما قال الإمام الغزالي : «ومقصود الشرع من الخلق خمسة : وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعه مصلحة».
    والزواج وحسن العشرة الزوجية شريعة، وإنجاب الأولاد وتربيتهم وتعليمهم شريعة.
    وكل ما يجلب أو يحقق أو يعزز كرامة الإنسان ورفعته، المادية أو المعنوية، فهو من الشريعة ومن إقامة الشريعة.
    وكل عمل أو مجهود يرفع عن الناس الظلم والقهر والتسلط والاستبداد، فهو من صميم الشريعة .
    والحكم بين الناس بما أنزل الله وبكل ما هو عدل وإحقاق للحق هو جزء كبير من شريعة الله، كما قال العلامة ابن القيم: «فإن الله أرسل رسله وأنزل كتبه، ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض. فإذا ظهرت أمارات الحق، وقامت أدلة العقل، وأسفر صُبحه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه ورضاه».
    والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ركن من أركان الشريعة، ومثله التعاون على البر والتقوى.
    وكل إصلاح ونفع على وجه الأرض، وكذلك كل إزالة أو إعاقة لأي فساد أو ضرر في الأرض، فهو من الشريعة.
    وإسداء النفع والإحسان إلى الحيوان هو تطبيق للشريعة، كما جاء في الحديث النبوي الشريف: «بينما رجل يمشي بطريق، اشتد عليه العطش، فوجد بئرا فنزل فيها، فشرب، ثم خرج، فإذا كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل : لقد بلغ هذا الكلبَ من العطش مثلُ الذي بلغ بي، فنزل البئرَ، فملأ خفه ماءً، ثم أمسكه بفيه حتى رَقيَ، فسقَى الكلب، فشكر الله له، فغفر له . فقالوا : يا رسول الله، إن لنا في البهائم لأجراً ؟!، فقال صلى الله عليه وسلم : « في كل ذات كبد رطبة أجر».
    ومن هذا المعين الشريف استقى الإمام عز الدين بن عبد السلام ـ وهو يعدد صنوف الإحسان التي جاءت بها الشريعة ـ قوله: «الإحسان إلى الدواب المملوكة ؛ وذلك بالقيام بعلفها، أو رعيها بقدر ما تحتاج إليه، وبالرفق في تحميلها ومسيرها، فلا يكلفها من ذلك ما لا تقدر عليه، وبأن لا يحلُب من ألبانها إلا ما فضل عن أولادها، وأن يهنأ جرباها، ويداوي مرضاها، وإن ذبحها : بأن يحد شفرته ويسرع جرته، مع إضجاعها برفق، وأن لا يتعرض لها بعد ذبحها حتى تبرد . وإن كان بعضها يؤذي بعضا بنطح أو غيره، فليفرق بينها وبين ما يؤذيها، فـ(في كل كبد رطبة أجر)...وإن رأى مَن حمل الدابة أكثر مما تطيق، فليأمره بالتخفيف عنها، فإن أبى فليطرحه بيده، فـ(مَن رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) . وقال عليه السلام إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض، وإذا سافرتم في السنة، فبادروا بها نـقيها)، وقد غُفر لبغي بسقي كلب».
    ولو ذهبنا نستعرض تشعبات الشريعة وامتداداتها، لما بقي شيء أو فعل، إلا وجدنا له مكانه فيها، فهي شريعة الإنسان ظاهرا وباطنا، فردا وجماعة . وهي شريعة الدنيا والآخرة، وشريعة الدولة والمجتمع.
    ومن أجمع التعبيرات عن معنى الشريعة وطبيعتها ومضامينها، حديثْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ - أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ - شُعْبَةً ؛ أَعْلَاهَا: قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا: إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَان ِ».
    ولا شك أن هذه الشعَب ـ أو الأبواب كما بعض روايات الحديث ـ تغطي الدين كله، والشريعة كلها. ولكن الحديث لم يعين منها إلا أولَها وآخرها، وثالثةً بينهما.
    غير أن الشعب الثلاث التي سماها الحديث ـ وهي: لا إلـه إلا الله، وإماطة الأذى عن الطريق، والحياء ـ تنبئ عما سواها، وعما بينها.
    فشهادة (لا إله إلا الله)، هي رأس الإيمان والإسلام، وهي رأس هذه الشعب . فمنها تتفرع وتنحدر بقية الشعب، حتى نصل إلى إماطة الأذى عن الطريق. وبين الأولى والأخيرة تقع شعبة الحياء.
    ومعنى هذا أننا أمام تصنيف إجمالي ثلاثي للشريعة:
    صنف العقائد والأسس، وبدايته ورأسه: (لا إلـه إلا الله).
    صنف الأخلاق، ومثاله ونموذجه، الخلق الفطري الرقيق: الحياء.
    صنف المعاملات والتكاليف العملية، ومثاله بأدنى درجاته: إماطة الأذى عن الطريق.
    وداخل هذه الأصناف الثلاثة، تتوزع وتترتب سائر توابع الإيمان ومضامين الشريعة . وقد اجتهد العلماء وتفننوا في البحث عن هذه الشعب البضع والسبعين (أو البضع والستين)، وتصنيفها وترتيبها. وألف بعضهم كتبا خاصة في بيان (شعب الإيمان)، منهم الفقيهان الشافعيان الكبيران: أبو عبد الله الحليمي (المتوفى سنة403) وأبو بكر البيهقي (المتوفى سنة458)، ومنهم العلامة المالكي عبد الجليل القصري (القرطبي)، دفين مدينة القصر الكبير بالمغرب (توفي سنة 608).
    وإنما ذكرت هؤلاء العلماء ومصنفاتهم في هذا الموضوع، لأن هذه المصنفات هي خير ما يعكس لنا مضمون الشريعة الإسلامية، كما هي، وانطلاقا من حديث نبوي لا شك في صحته. وإن أي نظرة على فهارس هذه المصنفات لَتكشفُ لنا عن المعنى الشمولي، الجامع المتوازن، للشريعة: بعقائدها، وعباداتها، ومعاملاتها، وأخلاقها، ورقائقها، وآدابها، ومحرماتها، وعقوباتها ...
    فكل من عمل بشيء من هذا كله فهو عامل بالشريعة وقائم بتطبيق الشريعة، سواء كان فردا أو كان جماعة أو دولة أو حكومة، أو رئيسا أو مرؤوسا، أو أمة أو مجتمعا. وأيٌ من هؤلاء خالف وخرق شيئا مما ذكر من الشريعة فهو يعطل من الشريعة بقدر مخالفته وخرقه.
    فالكذب تعطيل للشريعة، مثلما أن الصدق تطبيق لها.
    والغش في الدراسة أو التدريس، أو الصناعة أو التجارة، أو في الخدمات أو في الانتخابات، تعطيل للشريعة، مثلما أن إتقان العمل وإكماله بنزاهة وإخلاص هو تطبيق للشريعة.
    وإخلاف الوعود تعطيل للشريعة، والوفاء بها عمل بالشريعة.
    وهكذا حتى نمر على كل شُعَب الشريعة وكل مضامينها...
    إن من يدرك هذا المعنى الحقيقي للشريعة لا يمكنه أن يقول اليوم : إن الشريعة معطلة، أو إن تعطيل الشريعة أو تطبيق الشريعة هو بيد الدولة ومن اختصاص الدولة، أو يحتاج إلى قيام «الدولة الإسلامية»، أو قيام الخلافة...كما لا يمكنه السقوط في حصر الشريعة في عدد محدود من أحكامها، أو من نظامها العقابي بوجه أخص.
    إن مقولات : «تعطيل الشريعة، وإلغاء الشريعة، والمطالبة بتطبيق الشريعة»، كلها تصبح نسبية الصحة، بل قليلة الصحة..
    فتعطيل أحكام من الشريعة صحيح، لكن ما نسبتها من مساحة الشريعة؟ ما عدد الشعَب المعطلة من مجمل شُعَب الشريعة؟ وما نسبة التعطيل في كل شعبة؟ وهل التعطيل خاص بالحكام والمحاكم؟
    وأيضا لا يمكن ـ بعد تصحيح مفهوم الشريعة ـ القول: إن الشريعة لم تطبق ـ عبر التاريخ ـ إلا لفترة محدودة، هي الفترة النبوية وفترة الخلفاء الراشدين . لقد ظل المجتمع يعمل ويعيش بالشريعة . وظل القضاة والمحتسبون يطبقون الشريعة. وظل العلماء يفتون الناس بالشريعة. وظلت ثقافة الناس وأفكارهم وقيمهم تتغذى بالشريعة، وتتنفس الشريعة.
    هذه الأيام سمعت محللا «إسلامولوجيا» مغربيا، يتحدث بحسرة وأسف، عما سماه «عملية الأسلمة» الجارية في المجتمع المغربي! وبغض النظر عن هذا الاستلاب والاغتراب الأليم، فإني أستنتج من هذه الشهادة أن منسوب الشريعة في المجتمع آخذ في الارتفاع والتحسن، بدون دولة ولا حكومة ولا خلافة!
    ومثل هذا الاستنتاج خطر لي وأنا أسمع ـ هذه الأيام أيضا ـ أخبارا عن مظاهرات غريبة، يراد تنظيمها ببعض الدول الأوربية، ضد «أَسْلَمة أوروبا»!!، مع أننا ـ نحن العرب والمسلمين ـ لم نتظاهر يوما، ضد فرْنَـسة المغرب العربي، ولا ضد تغريب العالم الإسلامي أو علمنته، ولم نتظاهر ضد الأَوْرَبة ولا ضد الأمركة ولا ضد التلتين ...
    {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}

    وكيف يعرف فرق ما بين حق الذمام وثواب الكفاية من لا يعرف طبقات الحق في مراتبه، ولا يفصل بين طبقات الباطل في منازله‏. [ الجاحظ ]

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    المشاركات
    1,636
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي الحلقة 14

    تطبيق الشريعة بين الدولة والمجتمع

    لقد اتضح من خلال الحلقتين الماضيتين ، مدى اتساع الشريعة وامتدادها وتنوع مضامينها ، وأنها ليست بذلك الضيق الذي يتصوره أولئك الذين يرهنون الشريعة بيد القضاة والولاة ، أو بيد المحاكم والحكومات ، فإن هم طبقوها فقد طُبقت وعاشت ، وإن هم نبذوها ، فقد عطلت وماتت!
    فالشريعة أكبر شأنا من أي يكون مصيرها ، وتطبيقها وتعطيلها ، بيد حفنة من الحكام والولاة ، وتحت رحمتهم وتقلباتهم.
    نعم للشريعة أحكام جنائية ومدنية ، ولكن هذه الأحكام جزء من الشريعة ، وليست كل الشريعة ، وليست رمزا للشريعة.
    نعم أيضا ، فإن الله يزع بالسلطان ما لايزع بالقرآن ، ولكن هذا من قبيل قولهم : يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر، ويوجد في البئر ما لا يوجد في النهر.
    فمعنى أن الله يزع بالسلطان ما لايزع بالقرآن : أن هناك حالات وأصنافا من الناس يجدي معهم السلطان ، أكثر مما يجدي معهم القرآن ، ويخضعون للسلطان أكثر مما يخضعون للقرآن ، كما هو حال بعض العتاة والمنافقين والمتهورين . ولذلك قال العلامة الشنقيطي في تفسيره :" فإن لم تنفع الكتب تعينت الكتائب ، والله تعالى قد يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن."
    ولكن وازع الضمير والتقوى والإيمان ، يبقى دائما قبل وازع السلطان ، ويبقى هو الأصل وهو المعول عليه في الدين ؛ إذْ وازع السلطان إنما يحكم بعض الظواهر ، أما وازع الإيمان فيحكم الظواهر والسرائر. وفي الحديث الصحيح : " إِن الله لا ينظر إِلى أجسادكم ، ولا إِلى صُوَرِكم ، ولكن ينظر إِلى قلوبكم وأَعمالكم" . فالدين الحق ، والتطبيق الحق للدين وشريعته ، إنما هو أساسا ما جاء عن إقناع وترغيب ، وطواعية ورضى . وما سوى ذلك ، فهي ضرورات تقدر بقدرها ، وآخر الدواء الكي.
    على أن ما يَـزَعُه الله تعالى بواسطة السلطان لا يعني دائما القوة والعقوبة . بل السلطان نفسه ، يجب أن يدفع وينفع بالتي هي أحسن ، قبل أن يفعل ذلك بالتي هي أخشن . فالسلطان إذا كانت له مشروعيته ومصداقيته ، هو نفسه تكون له كلمته المسموعة والمطاعة ، من غير قوة ولا بطش . وفي متناوله من الأساليب التعليمية والتربوية والتوجيهية الشيئ الكثير ، مما يمكنه من أن يخدم الشريعة ويحقق الكثير من أحكامها ومقاصدها ، دون قوانين ولا محاكم ، ودون سلطة ولا شرطة.
    وأياً ما كانت أهمية السلطة والدولة في إقامة الدين وتطبيق الشريعة ، فإنها تبقى ـ ويجب أن تبقى ـ دون أهمية الأمة والمجتمع.وذلك لعدة أسباب.
    1. أولا ، لأن الدين الذي يطبق بدون ضغط ولا إكراه ، هو الدين الحقيقي المقبول عند الله تعالى . وأما ما سواه ، فإنما هو تنظيم دنيوي وتدبير سلطوي.
    2. وثانيا ، لأن ما يطبق برغبة وطواعية ، يكون أجود وأدوم ، بخلاف التطبيق بالقوة والسلطة ، فإنه يكون رديئا سطحيا ، ينحسر وينقلب عند كل فرصة لذلك .
    3. وثالثا ، لأن التطبيق الذي يكون بمبادرة ذاتية من الأفراد ، أو بحركية المجتمع نفسه ، يعطي من السمو والارتقاء في وعي المجتمع وفاعليته ، ما لا سبيل إليه بدونه.
    وإذا كانت هناك مجالات وأحكام شرعية ، لا بد فيها من الحكام ومؤسساتهم ووسائلهم ، كالقضاء وما يصدر عنه من إكراهات وعقوبات ، فإن للأفراد وللمجتمع إمكانات واسعة للتدخل والإسهام ، حتى في هذه المجالات أيضا .
    فإذا كانت إقامة الحدود وغيرها من العقوبات الشرعية ، جزءاً مهما من تطبيق الشريعة تختص به الدولة ، فلا شك أن كل عمل دعوي أو تربوي أو اقتصادي أو اجتماعي ، يحول دون وقوع الجريمة ومعاقبة المجرمين ، هو أيضا من الشريعة ومن تطبيق الشريعة ، بل هو أفضل أشكال تطبيق الشريعة . وهو ما يستطيعه كل الأفراد والهيئات المجتمعية .
    ومن أراد أن يتأكد من مساحة الدولة ومساحة الأمة ، في تطبيق الشريعة ، فليقرأ القرآن من أوله إلى آخره ، ولْـيُسجل في مكانين منفصلين :
    ـ ما يتوقف على الدولة ولا يتم إلا بها ،
    ـ ما لا يتوقف على الدولة ويمكن أن يتم بدونها،
    ثم ليحسب ولينظر النتيجة ...
    لقد عرف العالم الإسلامي ، عبر تاريخه الطويل ، دولا وحكومات مختلفة في قوتها وضعفها ، واستقامتها وانحرافاتها ، وقربها وبعدها من هدي الشريعة ومقتضياتها، ولم يكن ذلك هو العنصر الحاسم في تطبيق الشريعة ودوامها، أو في رقي الأمة وازدهارها.ولذلك نجد فترات زاهية بالرقي العلمي والحضاري والاجتماعي ، هي في الوقت نفسه فترات ضعف وتفكك في النظام السياسي القائم.
    فبجانب الحكام وأجهزتهم وأدوارهم ، كان للقضاء والقضاة دورهم وفاعليتهم . وكذلك كان للعلماء عطاؤهم واجتهادهم وزعامتهم ، وكان للخطباء والوعاظ أدوارهم التعليمية والاجتماعية ...
    وكان للطرق الصوفية أدوارها التربوية والاجتماعية ، وأحيانا الجهادية .
    وكان المجتمع بكل فئاته ، ملتفا متفاعلا مع هؤلاء جميعا ، يأخذ منهم ويعطيهم ، ينخرط معهم في توجيهاتهم ومشاريعهم ونداءاتهم ، وينخرطون معه في مشاكله ومتطلباته وشكاويه.
    وكل هؤلاء كان مصدرهم وملهمهم ، هو الشريعة والعمل بالشريعة.
    ولست متغافلا عن السلبيات والانحرافات التي عرفها تاريخنا في مختلف عهوده ، ولكن السياق ـ الآن ـ يقتضيني بيان كيف أن الشريعة لم تكن في يوم من الأيام قضية دولة أو حكومة أو سلطة ، بل كانت دوما قضيةَ أفراد ومجتمع وأمة ، ودولة أيضا .
    لقد كان "المجتمع المدني" ـ بتعبير اليوم ـ حياً فاعلا قائما بذاته ، وخصوصا عند تقصير الحكام ، أوعند ضعف قيامهم بواجباتهم.
    لقد كان "المجتمع المدني" هو المصدر الأول والـمُـنَـفذ الأول والممول الأول ، للمشاريع والمؤسسات التعليمية بمختلف مستوياتها وتخصصاتها.
    وهكذا يقال في مجال الخدمات والمرافق الاجتماعية، والبنيات والتجهيزات التحتية.
    وكانت مبادرات بعض الحكام والأمراء ، غالبا ما تأتي ـ إذا أتت ـ لمجاراة المجتمع والانخراط في حركيته ، أو للعمل على الإمساك بها والتحكم فيها.
    ومما لا يحتاج إلى إثبات أو بيان : الدور الريادي الكبير للأوقاف ، في كل هذه الحركية والفاعلية ، المجتمعية والسلطانية معا.
    ويتشرف المغرب بتجارب حضارية باهرة في هذا المجال ، من أبرزها وأشهرها أعجوبة (القرويين)، التي بدأت مسجدا محدودا في مكان محدود ، قامت ببنائه شابة مؤمنة من عموم الناس، ثم انتهت (جامعة) عالمية كبرى ، أشعتْ منارتها شمالا وجنوبا وشرقا ، على مدى عدة قرون ، إلى أن جاء الاحتلال الفرنسي ، ليطمس نورها وينتقم منها.
    هذه (القرويين) ، التي وُلدت في فاس ، تحولت ـ على مر القرون ـ إلى شبكة واسعة من الفروع والمدارس ، تنتشر في سائر مدن المغرب وقراه ، تُسابقها شبكةٌ أوسع من الأحباس المخصصة لخدمتها وتنميتها والإنفاق على جميع احتياجاتها . لقد كنا نسمع ـ إلى عهد قريب ـ أن ( القرويين ) هي أغنى أغنياء المغرب ؟!
    ومنذ ظهور (القرويين) في القرن الثالث الهجري ، أصبح من الصعب أن نجد في تاريخ المغرب عالما أو فقيها أو أديبا أو مؤرخا أو فلكيا أو طبيبا أو ملكا أو سياسيا ...، دون أن يكون قد درس في القرويين أو في أحد فروعها .
    وإذا كان المصريون يفتخرون بنهر النيل العظيم ، ويقولون " مصر هبة النيل"، فإن على المغاربة ألا يكفوا عن الافتخار بالقرويين ، وأن يعتبروا " المغرب هبة القرويين". ومن أواخر ما وهبته القرويين للمغرب ، هو استقلال المغرب ، الذي انطلقت حركته ، وخرج زعماؤه وأبطاله، منها ومن شبكتها. فكم رد المغرب المستقل وكم وفى؟!
    إن جامعة القرويين ، هي علامة بارزة على أهمية العمل الأهلي ، ودوره الكبير في خدمة الشريعة ، وفي تطبيق الشريعة ، ليس في فقط في دُور القضاء ، بل في كل في كل بيت وحي وقرية وفضاء.
    ومن الأمثلة المعاصرة على دور المجتمعات وعملها الأهلي ، في تطبيق الشريعة ، تجربة البنوك الإسلامية . فإلى منتصف السبعينيات من القرن الماضي ، لم يكن في عالم البنوك والمعاملات البنكية ، إلا النمط الربوي الغربي . وفي سنة 1975، بدأت التجربة المصرفية الإسلامية من الصفر، وانطلقت وسط تعقيدات قانونية بالغة ، ووسط تحديات التفوق الكاسح للبنوك الربوية المحتكرة للسوق . ومع ذلك ، فإن عدد المؤسسات البنكية الإسلامية ، قد بلغ عام 2006 نحو 300 مصرف ومؤسسة ، موزعة على 60 دولة. وقد بلغ رأسمال هذه الفئة من البنوك نحو 13 مليار دولار، وتتراوح أصولها بين 700 و900 مليار دولار . ويصل نـمو البنوك الإسلامية بنسبة 23 % تقريبا ، بينما تنمو البنوك التقليدية بنسبة 10% تقريبا.
    المهم عندي في هذه التجربة ، هو أنها تجربة أهلية بالدرجة الأولى، تضافر فيها ضغط العلماء والدعاة والمفكرين ، مع التجاوب الشعبي ، المتمثل في الامتناع العريض عن الانخراط في المعاملات البنكية الربوية . ثم جاءت المبادرة العملية من بعض المستثمرين الرواد ... وقد تلقت معظم الحكومات في العالم الإسلامي ، وفي العالم العربي بصفة خاصة ، هذه التجربة بالمنع ، أوالتحفظ ، أو التخوف والمعاكسة . ولكن هذه المواقف الآن آخذة في التفهم والتقبل والتسليم ، تحت ضغط الواقع ونجاح التجربة.
    ومن التجارب الأهلية ، أو الأهلية الحكومية ، في تطبيق الشريعة في هذا العصر: تجربة الوقف ، وتجربة الزكاة . والوقف الإسلامي هو نفسه جزء من الشريعة ، وأما الزكاة فركن من أركانها . ولكن الأهم هو أن جميع ما ينجم عنهما وعن ثرواتهما، من خدمات ومصالح ومشاريع ، إنما هو من أحكام الشريعة ومن تطبيقاتها.وهناك تجارب معاصرة ممتازة لهما ، في كثير من الأقطار الإسلامية ، وحتى في بعض الدول الغربية .
    ما لا ينتهي منه العجب ، هو لماذا بعض الحكام والحكومات ، ما زالوا يرفضون الاستفادة لدولهم وشعوبهم ، من هذه الفرص العظيمة التي لن تكلفهم شيئا؟!
    إن الوقف والزكاة ، سيعززان ويُـمدان الخدمات والمرافق الاجتماعية والتعليمية ، بأموال ضخمة متجددة ، تتدفق من إيمان الناس وتجاوبهم مع دينهم وشريعتهم ، قبل أن تتدفق من جيوبهم . وتستطيع أموال الوقف والزكاة ، أن تمول ما لا يحصى من المدارس والجامعات ، ومنَح الطلبة ، ومشاريع البحث العلمي ، ومن تشييد الأحياء السكنية الجامعية ، وتجهيز المكتبات ، وتشغيل الخريجين ...
    {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}

    وكيف يعرف فرق ما بين حق الذمام وثواب الكفاية من لا يعرف طبقات الحق في مراتبه، ولا يفصل بين طبقات الباطل في منازله‏. [ الجاحظ ]

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    المشاركات
    1,636
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي الحلقة 15

    البرنامج السياسي لأبي الحسن الماوردي

    حلقة هذا اليوم مختلفة ومتميزة بعصرها وكاتبها، وإن كانت مندمجة مع باقي الحلقات من حيث قضيتها ومرجعيتها. فعصرها هو القرن الخامس الهجري، وكاتبها هو العلامة أبو الحسن الماوردي. وليس لي منها سوى «الإعداد والتقديم».
    أبو الحسن الماوردي (364 -450)، هو واحد من العلماء المتميزين، الذين جمعوا بين المدارسة والممارسة، وبين العلم والسياسة. فهو من أئمة الفكر والفقه والأصول، وصاحب المؤلفات الغزيرة المتنوعة المبدعة. وقد تولى التدريس لمدة طويلة ببغداد والبصرة، ولكنه أيضا ولـيَ القضاء وتمرس به طويلا حتى لقب بـ»أقضى القضاة»، وعمل سفيرا متنقلا للإصلاح والتنسيق بين إمارات الدولة العباسية...
    وأشهر مؤلفاته:
    أدب الدنيا والدين، أعلام النبوة، الحاوي الكبير، الإقناع وهو مختصر لكتاب الحاوي الكبير.
    ومن أشهر كتبه في مجال السياسة وعلومها:
    قوانين الوزارة وسياسة الملك، نصيحة الملوك، تسهيل النظر وتعجيل الظفر، الأحكام السلطانية في الباب الرابع من كتاب ( أدب الدنيا والدين )، تطرق الماوردي إلى الأسس التي ينبني عليها صلاح الأمة وقوتها في دينها ودنياها. ونبه في البداية إلى أن الإصلاح المتكامل لا بد أن يتحقق في آن واحد، على مستويين: المستوى الفردي والمستوى الجماعي. ولن يكون للإصلاح والصلاح ثمرته المرجوة بأحد الوجهين دون الآخر.
    فأما الإصلاح والتقدم الجماعي، فيقوم عنده على ست قواعد هي:
    الدين المتبع النافذ، وبه يتأسس الصلاح الذاتي والباطني، وهو ما لا تستطيع تحقيقه أي سلطة سوى سلطة الإيمان.
    سلطة قوية متمكنة مطاعة، تجمع الكلمة وتوحد الصفوف.
    العدل الشامل، الذي يعزز مكانة السلطة ويبعث على الألفة والتماسك داخل المجتمع.
    الأمن العام، وبه يطمئن الناس ويسعدون، وبفضله ينطلقون في أعمالهم ومبادراتهم ومشاريعهم.
    الخصب والرفاه، وبه تنشرح النفوس وتتحسن الأخلاق والمعاملات والعلاقات.
    الأمل الفسيح، وبه ينظر الناس إلى المستقبل ويعملون من أجله، متجاوزين حاجتهم اليومية ومصلحتهم الآنية، فتخدم الأجيال بعضها بعضا، ويكمل اللاحق ما بدأه السابق، ويبدأ هو ما سيكمله غيره.
    وأما صلاح الفرد وسعادته، فبثلاث قواعد هي:
    صلاح الإنسان في نفسه ومع نفسه.
    علاقات اجتماعية تقوم على المودة والثقة.
    إمكانات مادية تسد الحاجات وتدفع الملمات.
    قال أبو الحسن رحمه الله: «واعلم أن صلاح الدنيا معتبر من وجهين:
    أولهما: ما ينتظم به أمورُ جملتها.
    والثاني: ما يصلح به حال كل واحد من أهلها.
    فهما شيئان لا صلاح لأحدهما إلا بصاحبه؛ لأن من صلحت حاله مع فساد الدنيا واختلال أمورها لن يعدم أن يتعدى إليه فسادها ويقدح فيه اختلالها؛ لأن منها ما يَستمد، ولها يستعد.
    ومن فسدت حاله مع صلاح الدنيا وانتظام أمورها لم يجد لصلاحها لذة، ولا لاستقامتها أثرا؛ لأن الإنسان دنيا نفسه، فليس يرى الصلاح إلا إذا صلحت له، ولا يجد الفساد إلا إذا فسدت عليه ؛ لأن نفسه أخص وحاله أمس...
    واعلم أن ما به تصلح الدنيا، حتى تصير أحوالها منتظمة وأمورها ملتئمة، ستة أشياء هي قواعدها، وإن تفرعت، وهي:
    دين متبع،
    وسلطان قاهر،
    وعدل شامل،
    وأمن عام ،
    وخصب دائم ،
    وأمل فسيح.
    فأما القاعدة الأولى فهي الدين المتبع، لأنه يصرف النفوس عن شهواتها، ويعطف القلوب عن إرادتها، حتى يصير قاهراً للسرائر، زاجرا للضمائر، رقيبا على النفوس في خَلَواتها، نصوحا لها في مُلماتها.
    وهذه الأمور لا يوصَل بغير الدين إليها، ولا يصلح الناس إلا عليها.
    فكان الدين أقوى قاعدة في صلاح الدنيا واستقامتها، وأجدى الأمور نفعا في انتظامها وسلامتها.
    ولذلك لم يُـخْل الله تعالى خلقه، مذ فطرهم عقلاء، من تكليف شرعي واعتقاد ديني، ينقادون لحكمه فلا تختلف بهم الآراء، ويستسلمون لأمره فلا تتصرف بهم الأهواء.. .
    فثبت أن الدين من أقوى القواعد في صلاح الدنيا، وهو الفرد الأوحد في صلاح الآخرة.
    وما كان به صلاح الدنيا والآخرة، فحقيق بالعقل أن يكون به متمسكا وعليه محافظا، وقال بعض الحكماء: الأدب أدبان: أدب شريعة وأدب سياسة.
    فأدب الشريعة ما أدى الفرض، وأدب السياسة ما عمر الأرض.
    وكلاهما يرجع إلى العدل الذي به سلامة السلطان وعمارة البلدان ؛ لأن من ترك الفرض فقد ظلم نفسه، ومن خرب الأرض فقد ظلم غيره.. .
    وأما القاعدة الثانية فهي سلطان قاهر، تتألف من رهبته الأهواء المختلفة، وتجتمع لـهَيبته القلوب المتفرقة، وتُكَـف بسطوته الأيدي المتغالبة، وتمتنع من خوفه النفوس العادية ؛ لأن في طباع الناس من حب المغالبة على ما آثروه والقهر لمن عاندوه ما لا ينكفون عنه إلا بمانع قوي، ورادع ملي.. .
    والذي يلزم سلطانَ الأمة من أمورها سبعة أشياء:
    أحدها: حفظ الدين من تبديل فيه، والحث على العمل به من غير إهمال له.
    والثاني: حراسة البيضة والذب عن الأمة من عدو في الدين أو باغي نفس أو مال.
    والثالث: عمارة البلدان باعتماد مصالحها، وتهذيب سبلها ومسالكها.
    والرابع: تقدير ما يتولاه من الأموال، بسنن الدين من غير تحريف في أخذها وإعطائها.
    والخامس: معاناة المظالم والأحكام بالتسوية بين أهلها، واعتمادُ النصَفَة في فصلها.
    والسادس: إقامة الحدود على مستحقيها من غير تجاوز فيها، ولا تقصير عنها.
    والسابع: اختيار خلفائه في الأمور، أن يكونوا من أهل الكفاية فيها والأمانة عليها.
    فإذا فعل من أفضى إليه سلطانُ الأمة ما ذكرنا من هذه الأشياء السبعة، كان مؤديا إلى حق الله تعالى فيهم، مستوجبا لطاعتهم ومناصحتهم، مستحقا لصدق ميلهم ومحبتهم.
    وإن قصر عنها ولم يقم بحقها وواجبها كان بها مؤاخذا، ثم هو من الرعية على استبطان معصية ومقت، يتربصون الفرص لإظهارهما ويتوقعون الدوائر لإعلانهما.
    وأما القاعدة الثالثة: فهي عدل شامل يدعو إلى الألفة، ويبعث على الطاعة، وتتعمر به البلاد، وتنمو به الأموال، ويكثر معه النسل، ويأمن به السلطان.
    فقد قال المرزبان لعمر، حين رآه وقد نام متبذلا: عدلتَ فأمنتَ فنمتَ.
    وليس شيء أسرع في خراب الأرض ولا أفسد لضمائر الخلق من الجور؛ لأنه ليس يقف على حد ولا ينتهي إلى غاية، ولكل جزء منه قسط من الفساد حتى يستكمل.
    وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « بئس الزاد إلى المعاد، العدوان على العباد »
    وقال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ منجيات، وثلاثٌ مهلكات.
    فأما المنجيات: فالعدل في الغضب والرضى، وخشية الله في السر والعلانية، والقصد في الغنى والفقر.
    وأما المهلكات: فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه»...
    وأما القاعدة الرابعة فهي أمن عام تطمئن إليه النفوس وتنتشر فيه الهمم، ويسكن إليه البريء، ويأنس به الضعيف.
    فليس لخائف راحة، ولا لحاذر طمأنينة.
    وقد قال بعض الحكماء، الأمن أهنأ عيش، والعدل أقوى جيش ؛ لأن الخوف يقبض الناس عن مصالحهم، ويحجزهم عن تصرفهم، ويكفهم عن أسباب المواد التي بها قوام أودهم وانتظام جملتهم؛ لأن الأمن من نتائج العدل، والجور من نتائج ما ليس بعدل.
    وأما القاعدة الخامسة فهي خصبُ دار تتسع النفوس به في الأحوال، ويشترك فيه ذو الإكثار والإقلال، فيقل في الناس الحسد، وينتفي عنهم تباغض العدم، وتتسع النفوس في التوسع، وتكثر المواساة والتواصل.
    وذلك من أقوى الدواعي لصلاح الدنيا وانتظام أحوالها، ولأن الخصب يؤول إلى الغنى، والغنى يورث الأمانة والسخاء.
    وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: لا تستقضين إلا ذا حسب ومال، فإن ذا الحسب يخاف العواقب، وذا المال لا يرغب في مال غيره.
    وقال بعض السلف: إني وجدت خير الدنيا والآخرة في التقى والغنى، وشر الدنيا والآخرة في الفجور والفقر.
    وأما القاعدة السادسة فهي أمل فسيح يبعث على اقتناء ما يقصُر العمر عن استيعابه، ويبعث على اقتناء ما ليس يؤمل في دركه بحياة أربابه.
    ولولا أن الثاني يرتفق بما أنشأه الأول حتى يصير به مستغنيا، لافتقر أهل كل عصر إلى إنشاء ما يحتاجون إليه من منازل السكنى وأراضي الحرث، وفي ذلك من الإعواز وتعذر الإمكان ما لا خفاء به.
    فلذلك ما أرفق الله تعالى خلقه باتساع الآمال إلا عمر به الدنيا فـعم صلاحُها، وصارت تنتقل بعمرانها إلى قرن بعد قرن، فـيُـتم الثاني ما أبقاه الأول من عمارتها، ويرمم الثالث ما أحدثه الثاني من شعثها، لتكون أحوالها على الأعصار ملتئمة، وأمورها على مر الدهور منتظمة.
    ولو قصُرت الآمال ما تجاوز الواحد حاجة يومه، ولا تعدى ضرورة وقته، ولكانت تنتقل إلى من بعده خرابا لا يجد فيها بُلْغة، ولا يدرك منها حاجة.
    ثم تنتقل إلى من بعده بأسوأ من ذلك حالا، حتى لا ينمى بها نبت، ولا يمكن فيها لبث.
    وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الأمل رحمة من الله لأمتي، ولولاه لما غرس غارس شجرا ولا أرضعت أم ولدا...
    فهذه القواعد الست التي تصلح بها أحوال الدنيا وتنتظم بها أمور جملتها، إن كملت فيها كمل صلاحها.
    فصل: وأما ما يصلح به حال الإنسان فيها فثلاثة أشياء، هي قواعد أمره ونظام حاله، وهي:
    نفس مطيعة إلى رشدها منتهية عن غيها،
    وألفة جامعة تنعطف القلوب عليها ويندفع المكروه بها،
    ومادة كافية تسكن نفس الإنسان إليها ويستقيم أوده بها...»
    أي تأتلف وتتوحد
    يعني أن اللاحق يستفيد مما أنشأه وهيأه السابق.
    {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}

    وكيف يعرف فرق ما بين حق الذمام وثواب الكفاية من لا يعرف طبقات الحق في مراتبه، ولا يفصل بين طبقات الباطل في منازله‏. [ الجاحظ ]

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. قراءة في كتاب: تجديد الفكر الإسلامي
    بواسطة horisonsen في المنتدى قسم الحوار العام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 04-05-2012, 08:51 PM
  2. قائمة قراءة في الفكر والممارسة السياسية-أبو فهر السلفى
    بواسطة احمد الدهشورى في المنتدى قسم الحوار العام
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 03-20-2011, 04:59 PM
  3. التعليق على حلقات الفكر الإسلامي والقضايا السياسية
    بواسطة فخر الدين المناظر في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 11-02-2007, 01:56 PM
  4. التجديد في الفكر الإسلامي
    بواسطة الجندى في المنتدى المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 01-19-2007, 05:49 PM
  5. الرجل والمرأة في الفكر الديني الإسلامي
    بواسطة سبع البوادي في المنتدى قسم المرأة المسلمة
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 01-10-2006, 01:32 AM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء