لا أعتقد أن هناك وجهًا للشبه الكبير بينهما جعلني أتذكر الروائي
الإنجليزي جورج أورويل حين بدأت ملامح التلفزيوني "عمرو
خالد" تتضح لدى شريحة أكبر من المثقفين والجمهور الشعبي له،
بعد أن وصم كل منتقد له أو شاك قبل سنوات بالحسود، أو
المعادي للدعوة الإسلامية، أو بتلك التهمة المضحكة التي تتحدث
عن كون المؤامرة الإمبريالية الصهيونية التي تتعرض لها أمتنا لا
تعدو إلا نظرية في عقول أصحابها.
الترويج الثقافي
إلا أن ما جعلني أربط بين الاثنين هو الدور الذي أداه ويؤديه كل
منهما بعلم أو بدونه في الحرب الثقافية، والإنجازات التي قدماها
لصالح الطرف الآخر في هذه الحرب بما عجز عن تحقيقها
أساطينهم وملياراتهم التي أنفقوها منذ بدء تلك الحرب قبل أكثر من
ستين عامًا لترويج النمط الثقافي الغربي، الأمريكي تحديدًا على
حساب باقي الثقافات، وجعلها تابعة على المستوى البعيد.
جورج أورويل من جديد
ربما العديد منا قرأ قصة أورويل الشهيرة "مزرعة الحيوانات" التي
كانت من أعتى الوسائل التي حققت نجاحات وساندت بقوة دوائر
المخابرات الأمريكية في حربها الثقافية على الشيوعية ابتداء من
الخمسينات وما بعد، والتي اعتبرت واحدة من أهم الإبداعات الأدبية
التي كشفت ما قيل وقتها "القناع عن الوجه الشيوعي الكريه"،
وساهمت بفاعلية في توجيه الرأي العام ضد الستالينية، خصوصًا
أن من كتبها هو شيوعي سابق، مقاتل في صفوف الجبهة الشعبية
التي قادت النضال في إسبانيا في مواجهة القومية اليمينية بقيادة
فرانكو، وعاد إلى بلاده محملاً بأثر رصاصة في رقبته، غاص في
الفكر والتطبيق الشيوعي، قبل أن يكتشف مدى عدوانيته ورجعيته،
ليتحول بالتالي إلى الأيقونة الأمريكية البريطانية في الحرب العالمية
الثقافية.
ولكن هل يعرف الكثير منا أن تلك الرواية رغم وضوح النقد اللاذع
فيها للشيوعية، الستالينية، كانت في الوقت ذاته توجه نقدًا لا يقل
قسوة للرأسمالية الإمبريالية والمكارثية الغربية، وفق رؤيا خاصة
بأورويل، ذهب فيها إلى أن كلا النظامين المسيطرين في العالم سببا
الكثير من الدمار، والتحقير لشعوبهما وشعوب العالم كل بطريقته
لفرض سطوته بأي وسيلة لا أخلاقية، وهكذا كانت رسالة أورويل
التي أراد إيصالها بعيدة عن العنصرية وفق فكرته التي يظن خلالها
أن الحل الوحيد للعالم هي عبر إزالة القوى العظمى فيه. مشكلة
أورويل، وربما معظم الأدباء والكتاب النبلاء الذين لا يتقنون إلا
صياغة الأدب، تكمن بعدم وجود حساسية سياسية لديهم تمنحهم
القدرة على تقييم الأمور واستشراف من سيستغلهم وكيف، وهذا
ربما ما حصل مع أورويل – ولا أجزم أبدًا به - إلا أني أستنتجه
بعد الوثائق السرية التي كشفتها الكاتبة الإنجليزية فرانسس في
كتابها المهم "من الذي دفع الثمن" من مراسلات المخابرات
الأمريكية والبريطانية المفرج عنها، والتي تناولت تحديدًا موضوع
الحرب الباردة الثقافية التي شنتها الـ "سي أي إيه" على العالم،
فقد ذكرت إصابة جورج أورويل ـ وفق زوجته ـ بإحباط نفسي
شديد أثر على باقي أعضاء جسده حتى الموت، بعد نشر روايته
"مزرعة الحيوان" واكتشافه قيام دار النشر التي اشترت الحقوق
بإعادة صياغة الرواية لتحويلها إلى هجوم صفيق سافر باتجاه
الشيوعية، بل وتحويل الرواية إلى مسلسل كرتوني هو الأضخم في
حينه، حيث تم تكريس أكثر من 70 رسامًا عالميًا لتصوير القصة
بشكل ساخر وأكثر وضوحًا باتجاه الشيوعية، بالاعتماد على اسم
أورويل الذي كان يحظى بثقة معظم المحايدين واليسار غير
الشيوعي في تلك الفترة، قبل أن تتحقق مفاجأة لا تقل إثارة حين
تسربت معلومات مفرج عنها أن أورويل كان منذ بداياته عضوًا في
المخابرات البريطانية، وما كانت شيوعيته إلى تضحية في سبيل
الفكرة الأعم وهي جذب اليسار المعارض للاتحاد السوفيتي ابتداء
من سمعة الرجل، كمناضل ومثقف جذري.
دعوة "إسلامية" للتنازل عن الأقصى
ربما لم يكن أورويل يعي مقدار الخطيئة الأخلاقية والأدبية التي
ارتكبها بحق شخصه وإبداعه، ولعله كان يعلم وتغاطى مقابل
الثروة التي جناها ودفع الثمن قبل وفاته، إلا أن الأمر جاء ليوطئ
عبر حالة تاريخية مع من جعلني أتذكره وأقارنه مع الفارق، وهو
التلفزيوني عمرو خالد الذي بات مع اضمحلال قيمة الكتاب والأدب
والجدل الفكري، لصالح الإبهار البصري ورسائل اللاوعي المفعم
بها، الذي تمارسه أخطر وسائل الحرب الثقافية المعاصرة
(الفضائيات، الإنترنت) رأس حربه للهجمة الثقافية الصهيوـ أمريكية
على المنطقة، حين كشف عن انهيار أخلاقي ومبدئي باطراد توجه
بادعاء واضح وصريح يمنح تنازلاً دينيًا عقائديًا عن مدينة القدس
ومسجدها الأقصى لمصلحة اليهودية كديانة شكلية، والصهيونية
كعقيدة إمبريالية عالمية. الارتداد الروحي أثبت التاريخ وكشف
تسلسل الأحداث عن تكتيك أمريكي ثابت للترويج للخطط، تستخدمها
دوائر الحرب النفسية الأمريكية تقريبًا في كل المجالات سياسية،
اقتصادية، عسكرية وثقافية، تمكنها من تطبيقها سطوتها وقدرتها
على شراء الذمم والشخصيات.
تتلخص تلك الخطة بمعادلة بسيطة، وهي طرح الأسوأ بشكل سافر
وواضح، والاستمراء في ترويجه وإجبار الشعوب على التعاطي
معه، والضغط باتجاهه حتى تبدأ الأصوات تعلو محتجة، أو تبدأ
بعض الطلائع في استغلال ذلك لمصلحة المشاريع الوطنية القومية.
هنا يبدأ تطبيق الخطة "B" افتراضًا، لتروج لما ستسميه بعض
فروع المحلية بالمشروع النقيض، أو هو ما سيتحول له بعض
الرافضين لخطة "A" على اعتبار أنه حبل النجاة من الأسوأ لما
تعتقد أنه الجيد، فيما هو أسوأ الأسوأ على المدى البعيد والمتوسط.
وبعيدًا عن الإسهاب والإسقاطات، فإن هذا ما يتم تطبيقه في أحد
فروع الحرب الثقافية، فبعد النشر الفظيع لمحطات الابتذال والعري
الفضائية عربيًا، التي تكاثرت كالفطر وحولت الجسد إلى أهم
المشاريع الثقافية، وفي موازاة نزعة التدين والهروب إلى الله، أو
الانزواء في أمور الغيبيات لدى معظم الشعوب بعد غياب الوعي
الثقافي المتوازن، طبقت أدوات المشروع الأمريكي في المنطقة
الخطة "B" فنشرت وعلى وجه السرعة القنوات المسماة إسلامية،
وروجت لنجومها من المشايخ، الذين لن أتحرج من وصفهم
بـ"دعاة البورنو" بعد أن حولوا الدين من قيمة إنسانية بناءة في
المجتمع ونهضته، إلى برامج تسلية وقصص تاريخية أو غيبية
أغلبها غير مسند بشهادة الكثير من المتبحرين، تستغل النزوع
البشري نحو الماورائيات، وفكرة الضمير العقائدي، التعالي الروحي،
وإبعاده بتناسب عكسي عن الفهم الصحيح والعملي للدين، بل
والأدهى تزييف معناه.
كاريزما في خدمة راند
هذا ما قام به شيوخ التليفزيونات وعلى رأسهم وأشهرهم أورويل
العصر "عمرو خالد"، الفنان التمثيلي المبدع بحق، صاحب
الكرايزما الفريدة التي مكنته من حشد جماهير عريضة، والترويج
للمشروع الأمريكي الثقافي السياسي بما عجزت عنه معظم الوسائل
المباشرة وغير المباشرة المستخدمة، واستغلال قدرته في الإقناع
لتوجيه الرأي العام، وتقوية التيار الأمريكي المتأسلم "الذي يمكننا
مطالعة برامجه ومنهجه في تقرير راند الأخير والذي تحدثنا عنه
بإسهاب في أكثر من مناسبة" في وجه التيارات القومية، الإسلامية
المعادية للمشروع الأمريكي في المنطقة، قبل أن يرتكب خطأه
الفادح الذي التفتت إليه الجماهير، حين نزع الحق الإسلامي عن
مدينة القدس، ومنحه لليهود نتيجة عملية تزييف تاريخية
وميثولوجية وقحة، في إطار دعوته للتعايش مع اليهودي المحتل
كمواطن له كامل الحقوق والواجبات. والإسلام الذي يروج له
عمرو خالد. تلك الصيغة من الإسلام التي تكترث على طريقة
"مريم نور" والحركة الرائيلية العالمية، والفكر الصوفي، بالتعالي
الروحي والبناء النفسي، على شكل ممارسات اليوغا الأمر الذي
ربما يسهم في تفريغ العقل من إشكالياته الجدلية. لقد ناقش
الدكتور وجدي غنيم في رسالة مطولة، الفكر الذي ينتمي إليه
والذي يروجه عمرو خالد من ناحية عقائدية، وفسر الدكتور محمد
إبراهيم مسعود، أسلوب عمرو خالد في تأويل الدين ثقافيًا بما
يتناسب والمشروع الذي بلا شك ينتمي إليه خالد، في مباحث
طويلة لا يمكن سردها هنا.
وبعيدًا عن الرجلين فإن ما يهمنا وما هدفنا إليه من المقدمة تلك هو
إيضاح أن تقرير هيئة راند لم يكن البداية وقد سبق التطبيق قبل
أمد، فالرجل من ناحية ثقافة السلام أيد الالتقاء مع وزيرة الخارجية
الصهيونية سيبي ليفني بداعي الحوار، ذهب إلى الدانمارك في فورة
الإساءة إلى الرسول بدعوى الحوار مع الآخر دون أن يدين الأمر
هناك، والتقى مع حاخامات يهود بدعوى حوار الأديان وقد خلع
على نفسه صفة الممثل للإسلام دون أي تنسيق أو برنامج معلن،
اعتبرته مجلة التايم أحد 100 شخصية ذات تأثير في العالم، وفي
مقالة مطولة أكدت أن عمرو خالد هو النموذج الذي يجب دعمه في
العالم الإسلامي. هذا قليل مختصر قبل تشريح أحاديث عمرو خالد
التلفزيونية في مناسبة أخرى، مقارنة مع طريقة مزرعة الحيوان
أورويل، وكيفية تشكل عملية الاختراق عبر الرسائل الموجهة إلى اللاوعي لدى متلقي عمرو خالد.
محمد لافي "الجبريني"
مفكرة الإسلام
Bookmarks