مقال أكتبه على عجل، أحاول فيه نفض الغبار عن ضعف الإلحاد الذي أدى به إلى الخفوت والتراجع مخليا الساحة لمصلحة الدين .. فذاك منطق الأشياء، فإذا وجد متصارعان في ساحة لابد مع الوقت من ضعف أحدهما وبداية تدني مستواه ثم الدخول في مرحلة التراجع ثم الإرهاق ثم الأفول والمحق ...
وقد يسألني سائل عن سبب تقديمي لمرحلة التراجع عن مرحلة الإرهاق .. وجوابي هو أنه ليس كل متراجع مرهق، فالتراجع قد يكون سببه الخوف من النزال والصراع كما يكون سببه ضعف الحيلة وقلة البصيرة .
وسف آخذ مثال الإسلام من كل الأديان، ليس لأن صاحب المقال المتواضع مسلم، بل لأنه الدين الذي أثبت قوته منذ ظهوره عبر الأزمان،ولأنه حسب الاحصائيات أسرع الديانات انتشارا وأقواها حجة وبيانا باعتراف الملاحدة المنصفين واللادينيين المثقفين..
كل الفلسفات الالحادية كانت تراهن على خفوت الدين لصالح الالحاد، وكانوا يعتبرون العلم هو ذاك السلاح القاهر الذي يمكنه قهر الدين .. وليست الأطروحات الوضعية والماركسية والفيوربارخية عنا ببعيدة ..
لكن الواقع يثبت العكس، فها نحن في القرن الواحد والعشرين ولا يزال الدين حاضرا في الساحة بقوة بل نشهد ما يسميه علماء الاجتماع بظاهرة التدين تشمل كل الأعمار، والسؤال الذي يطرح نفسه بشكل ملح هو ماهي أسباب هذا التراجع الالحادي المهول داخل الساحة العالمية ؟؟؟
الأسباب:
1-تفكك وانهيار الأنساق الفكرية والإلحادية الكبرى : التي كانت تبرر أصل الكون (الماركسية، الوضعية، التطورية ...)، وبصيغة اخرى تفكك العقلانيات التي كانت تسوغ حياة الإنسان في المجتمعات الغربية وتخلي العلم عن مساندة الإلحاد، مما أدى إلى ظهور العدمية، هذه الأخيرة التي تعني دخول الإنسان الغربي في أزمة القيم والمعاني، فسادت الفوضى وأصبح العالم لا معنى له وعدمي، والإنسان لا يستطيع العيش بدون أن يعطي معانٍ للأشياء فهو كائن رامز، فهرع الإنسان إلى البحث عن المعنى المفقود في الدين، وبما ان النصرانية بضعفها لا تستطيع تلبية هذه الحاجة في الإنسان، قدم الإسلام نفسه كمنقذ للإنسان الغربي من الضلال، مما ارتفعت نسبة المعتنقين له في الغرب.
2- قوة الإسلام العظيمة : نعم هذا واقع لا سبيل إلى إنكاره، ومن خلال دراساتي لعلم مقارنة الاديان لم أجد دينا أعظم منه، وأتذكر احد أساتذتي الفرنسيين حينما قال لي في أحد الأيام : "لديكم دين تحسدون عليه، فلو كانت لديكم مؤسسة أو منظمة دعوية ثرية مثل الفاتيكان لأصبح الدين الرسمي لكل دول العالم هو الإسلام" ... وقد أصاب هذا الأستاذ المتمرس في مهنة المقارنة ، فلن تجد دينا في العالم يقدم قضية الألوهية بيسر أمام العقل البشري مثل الإسلام، ولن تجد دينا أشد واقعية وشمولية وتوحيدا مثل الإسلام....هذا من جهة ومن جهة أخرى قوته الحجاجية والمنطقية في نقض كل ما يخالفه.
3- ضعف الإلحاد: فهو لا يستطيع تلبية حاجيات الإنسان، لا يستطيع توفير الأمن الروحي والنفسي له، لم يستطع الإجابة عن الأسئلة الوجودية التي لا يمكن للإنسان ان يحيا بدون الإجابة عنها، إضافة إلى انه مخالف للفطرة ، لهذا تجد الملحد يحاول أن يهرب من هذا كله بانغماسه في الدنيا والشهوات وغيرها، فيحصل نوع من الكبت، كبت لأسئلة الفطرة مما يسبب معاناة نفسية تكون شعورية او لاشعورية،، سعادته فيها نقص، وراحة باله مخدرة بأفيون الإلحاد، الذي لا يمكن الانسان من السيطرة على القلق والاضطراب النفسي ..مما قد يسبب له العديد من المشاكل والأزمات النفسية، التي تصب في شقائه أولا وفي كثير من الأحيان تكون سببا في شقاء المجتمع ..فالإنسان كائن هش ضعيف، عاجز عن مواجهة الكون، والتدين نزوع فطري في الإنسان فأنى له العيش بدونه ؟؟
4- ظهور الدين العالمي وتراجع الاديان المتهافتة فلقد كان من أسباب الإلحاد هو الأديان المتناقضة المتضارية كالنصرانية واليهودية والبوذية والزاردشتية وغيرها، لكن ظهور الدين العالمي "الإسلام" قلب الطاولة مما ادى إلى انقراض ذريعة الإلحاد الأساسية .
5- مخاطر ميتافيزيقا التقنية : وهنا ظهور المخاوف القيمية المرتبطة بالمخاطر الناجمة عن هيمنة ما يسميه بعض الفلاسفة "بميتافيزيقا التقنية "، وأول هذه المخاطر الحروب العسكرية المدمرة ذات الأسلحة النووية والكيماوية، وثاني هذه المخاطر هي مشاكل الثلوث الخطير الذي أصبحت تعاني منه البيئة مما يسبب ظواهر طبيعية خطيرة كالاحتباس الحراري وغيرها .. ، والخطر الثالث هو الاستنساخ والتلاعب بالشفرة الوراثية وانتشار المختبرات السرية لزيادة عرق معين والتوصل إلى "الإنسان الكامل" ... كل هذه المخاطر تساهم في أفول الإلحاد وانتشار الدين، لأن هذه المخاطر كلها تستحضر فكرة "الموت" لدى الإنسان، والإنسان بطبيعته لا يحب الفناء بل البقاء، ويطمع في فرصة ثانية للعيش وهذا ما لا يستطيع الإلحاد تقديمه .
6- سقوط قناع الحداثة والتنوير: التي تريد ترسيخ الهيمنة الثقافية والتبعية الفكرية والاقتصادية والسياسية ، إما بنشر الإلحاد او بنشر العلمانية، وتفعل هذا بعنف عبر نظام العولمة فتسعى لاستخراج الحضارات من قيمها الروحية وفرض نموذجها التقني والروحي والفكري... فالغرب لم يعد الشعب الذي يحرر الشعب من التبعية بل هو الذي يريد أن يفرض منطقه على جميع الثقافات والحضارات ... وهذا أدى إلى التمسك بالدين ورجوع عدد من دعاة الإلحاد والعلمانية إلى جادة الصواب إثر اكتشافهم لهذه الحقيقة.
7- معاناة الملاحدة العرب من أزمة الهوية : فالملحد تخلى عن دينه نظرا لانبهاره بالغرب او معاناة اجتماعية ونفسية أو سذاجة فهمه للدين، أو عمالة، -ويمكن لهذه العوامل ان تجتمع معا- فيعاني من أزمة هوية فلا هو مسلم أصيل ولا هو غربي قح ، فيصبح سابحا ضد التيار، أقربائه ومجتمعه معتنق للإسلام وهو معتنق لأشياء أخر، فينبذ من طرف مجتمعه دون ان يشعر... لأنه مخالف للجماعة في التقاليد والمعتقد مما تصبح معيشته ضنكى فإما يبقى كذلك حيث يموت وينقطع خبره، أو يعيد النظر في مفاهيمه عن طريق مناظرة او حوار او بشكل فردي شخصي.
تلك كانت أبرز الأسباب التي ساهمت في الأفول الإلحادي والتقدم الديني، والمسألة في نظري مسألة أجيال وحقب حتى يهيمن الإسلام على الفكر الإنساني عن طيب خاطر ..
{لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
والحمد لله الذي عرفنا نفسه وعلمنا دينه وجعلنا من الدعاة إليه والمحتجين له... وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين .
Bookmarks