لا شك أن المتخصصين والدارسين لمختلف العلوم الإنسانية كالسوسيولوجيا والأنثروبلوجيا وعلم النفس، يعلمون تمام العلم بأن نظريات فرويد قد تم تجاوزها وأصبحت داخل محنطات النظريات البائدة .. بل أصبح كل من يستشهد بنظرية فرويد في علم النفس محل سخرية من طرف الباحثين ... وهذا شيء طبيعي في عصر تفكك وانهيار المدارس الإلحادية الكبرى بالدول الغربية، مع تسجيل التأخر الفكري الذي يعانيه الملاحدة العرب نتيجة لاجترار النظريات البائدة..
جولة مختصرة مع النظرية:
فرويد يحدثنا عن نشأة الدين ويقول أنه كان رد فعل لجريمة شنعاء، فقد حدث في جيل من الاجيال الانسانية الاولى، كان هناك أب مستبد يحكم القبيلة ويحتكر كل نساء العشيرة!!! فكانت هناك ثورة من طرف الأبناء أدت إلى قتل الأب وأكله! وبعدها أحسوا بالندم فأقاموا حفلات دينية يستغفرون لذنبهم و قوانين تحريمية التي كان أولها تحريم الزواج بالمحارم، وهكذا تطور الطوطم فأصبح الأب إلها ونسيت الناس جريمتها فلم تعد ترى صلة بين الطوطم والأب وغدت الذبيحة قربانا تقدمه الأمم إلى العزة الإلهية ، ومن جهة أخرى يطرح فرويد أوجه التشابه بين صفات الإله الذي يؤمن به الفرد وفكرة الطفل عن أبيه. ففي كلتا الحالتين تكون الذات العليا مفردة، ورحيمة، وحكيمة. وفي كلتا الحالتين يخاف الفرد العقوبة والجزاء ويتطلع في الوقت ذاته الى الرحمة والحماية. ومن هذا المنطلق زعم فرويد بأن الدين مجرد حالة نفسية سيكولوجية نابعة من آثار ومتبقيات فترة الطفولة عند الفرد البالغ. فحسب ذلك الإدعاء، أن الطفل يحمل عقدة أسماها فرويد : عقدة "أوديب" وتلك عقدة نفسية تتسم بحب الإبن لأمه أولا والبنت لأبيها ثانياً حبا غرائزيا جنسياً مفرطا مصحوبا بتحيز ضد الأب في الحالة الأولى وضد الأم في الحالة الثانية. أما من هو "أوديب" لو كنت تسأل ؟ فالجواب هو : أن أوديب كان ملكا لمملكة "طيبة". ولكن ما ميزه من بين الملوك في التاريخ أنه قتل أباه وتزوج أمه، في قصة معروفة في عصر ما قبل المسيح عليه السلام.
وجوهر نظرية "فرويد" يكمن في فكرة مفادها أن الطفل يخاف عداوة أبيه ويخاف في الوقت ذاته فقدان حبه له، فعندها يتخلى ذلك الطفل الضعيف عن الأهداف الغرائزية ويحاول كبح جماح رغباته الجسدية، ومخاوفه، وأفكاره. وهذا المقدار من العقد النفسية يبقى بدرجة من الدرجات مخبوءاً في عقله اللاواعي. ولكن يظهر في حياته الشخصية لاحقاً إيمان روحي بقوة عظمى مشابهة ـ في قوتها ـ لقوة الأب وجبروته، ألا وهي قوة الدين والخالق عز وجل.[1]
ويدعم "فرويد" نظريته تلك بحجج منها : أن الراحة النفسية التي يجدها المؤمن بالدين منبثقة من الشعور بإنتهاء الصراع بين التمرد على الأب والاستسلام له، ومنبثقة ايضا من الشعور بتقلص الصراع بين الرغبة الغرائزية "عقدة اوديب" والمستوى الأخلاقي المقبول إجتماعياً.
ومنها : أن الصراع المذكور آنفا في عقل الفرد اللاواعي يقل بدرجة كبيرة عند تحقق الإيمان الجديد، لأن "الخالق المتصور" قوي بشكل خطير.
ومنها : أن "عقدة اوديب" التي وجدت بالأساس من إثم الغريزة الجسدية تجاه الأم ستُحل عبر الايمان الجديد بالدين من خلال العادات الدينية كالإعتراف بالذنب، والكفارة، والتوبة ...!
النقد
الملاحظ بأن الدين، في نظر فرويد ليس سوى مجرد حالة نفسية لقضية وهمية وليست له حقيقة خارجية. فقد حاول أن يكذب جوهر الدين وأصله، بينما لم يتطرق الى طبيعة العقائد الدينية ذاتها ولم يكذبها.
ويتلخص انتقادي لها كالآتي:
1- إذا سلمنا مع فرويد بحصول جريمة في فجر الإنسانية، فلما هو الشيء الذي جعل الإنسان يخلد ذكرها ؟؟ ولماذا ظلت الألسنة تتناقلها جيلا بعد جيل ؟؟ فالعديد من الأبناء قتلوا آبائهم في لحظة غضب أو ضعف، لكن الأحفاد لا يهتمون لهذه الجريمة لوا يعطونها صفة القداسة ولا تلبث أن تمحى الفعلة من ذاكرة الأجيال التالية عبر الزمن .
2- هذه النظرية الفرويدية لا تعدو ان تكون مجرد سفسطة معتمدة على أسطورة سخيفة، فهي مجرد افتراض نظري لا يعبر عن أشياء حقيقية علمية ، وهذا النوع من الافتراضات يرفضه علماء الاجتماع خصوصا وان الدين مازال موجودا ويلعب دورا اهم واعظم في العصر الما بعد صناعي الذي نعيشه اليوم، فليس هناك سبب منطقي او علمي أو عقلي يدعونا للأخذ بهذه النظرية... فلا يستطيع فرويد ولا أحد مناصري نظريته إعطاءنا أدلة على هذا الكلام .
3- من سقطات النظرية أيضا تعميمها لكل الأديان، فالعلاقة بين الأب والرب لا توجد في جميع الأديان وخاصة الإسلام،، قد نجد هذا الرب فقط في بعض الديانات الوثنية كالمسيحية والهندوسية والمثراسية ... فلو نظر فرويد إلى رسالة الإسلام فكيف سيفسر نظريته على صعيد العلاقة بين الأب والرب ؟؟؟ وكيف لباحث له وزنه أن يسقط في هذا الخطأ الفظيع في تعميمه لنموذج الديانة المسيحية على جميع الأديان ؟؟؟
4- يكفي للاستدلال بتهافت مسألة الربط بين خوف الابن من أبيه و خوف الإنسان من الإله بالاستشهاد بنماذج الأيتام، فاليتيم الفاقد لأبيه لم يعرف يوما معنى الخوف من أبيه، فأنى لنا الربط بين الخوفين ؟؟؟
5- غاب عن فرويد مسألة ان الحالات العصبية والرغبات الغرائزية للإنسان لا تنتج تنظيما ولا تناسقا ولا فهما لهذا الكون وما فيه من تصاميم عظيمة بتلك الدقة والشمول الموجودان في الدين الإلهي .
6- لو كان الدين صراعا بين الرغبة الغريزية والتمرد، كما يزعم فرويد، لما أنتج ذلك الصراع المزعوم نظاما أخلاقيا إلزاميا بتلك الصورة من الكمال التي نجدها في الإسلام والتي ألف فيها العلماء من مختلف التخصصات مصنفات كثيرة لا تحتاج سوى لمن يقرأها.
7- كيف نستطيع التوفيق بين المعجزات التي جاءت بها الرسالات السماوية وما يفترضه فرويد من العقد النفسية المخبوءة في العقل اللاواعي ؟ فكل الرسالات الإلهية مقرونة بمعجزات تدعم وجودها الرسالي، ولو كان الدين مجرد وهم أو مجموعة من الاستيهامات فكيف سيفسر لنا فرويد مسألة المعجزات ؟
8- لو كانت عقدتي "الذنب" و "أوديب" هما اللتان اوجدتا الدين، فلماذا استطاع الدين ان يستمر في تاريخ البشرية ؟؟ ولما استطاع الإجابة على أخطر الأسئلة الوجودية التي لا يبستطيع الإنسان البقاء دونها ؟؟ كتساؤل الموت والحياة والبعث والنشور؟؟ ولماذا استطاع الدين ان يحل مشاكل البشرية خاصة فيما يتعلق بمسائل العلاقات الاجتماعية وطبيعة تنظيمها ؟؟.
9- إن الأدلة الفلسفية والعقلية على إثبات وجود الخالق عز وجل بإعتباره واجب الوجود، لا تدع مجالا لفرضية فرويد بالصمود. فأين الدليل الفلسفي على إفتراض صورة الأب في العقل اللاواعي ؟ وكيف يتساوى واجب الوجود مع الموجودات التي أوجدها وصورها ؟.
10- لماذا خرافة "عقدة أوديب" التي يطلق يصفها فرويد بأنها كونية، لا وجود لها في العديد من المجتمعات، كما كشفت عن ذلك دراسات مارغريت ميد لسكان جزر الساموا، ودراسة مالينوفسكي لسكان جزر التروبرياند ؟؟ وغيرها كثير كثير من المجتمعات المعروفة وغيرها ؟؟.
وهكذا يتضح لنا أن نظرية فرويد مجرد تاريخ وهمي في قالب قصصي، لا سبيل للبرهنة عليه.
الهوامش:
[1]الوثن والمحظور – سيغموند فرويد. نيويورك: ماكميلان، 1918م.
Bookmarks