من الأساليب القرآنية المعجزة في إثبات العقيدة والبعث والحساب وصحة الرسالة أن يأتي الله سبحانه وتعالى بالآيات القرآنية المبينة لتلك المفاهيم القرآنية، والمقاصد الربانية ثم يتبعها بالعديد من الآيات الكونية والإشارات العلمية الدالة عمليًا على القدرة الإلهية، فبعد أن بيّن الله سبحانه وتعالى في سورة (المؤمنون) صفات المؤمنين الفالحين بقوله تعالى: " قد أفلح المؤمنين الذين هم في صلاتهم خاشعون " إلى الآية الثالثة عشر، قال تعالى: " ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظامًا فكسونا العظام لحمًا ثم أنشأناه خلقًا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين " [المؤمنون: 14]، ويتكرر نفس المنحى في سورة الفرقان فبعد أن عدد الله سبحانه وتعالى العديد من آياته الكونية من قوله تعالى: " ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنًا ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً " [الفرقان: 45]، إلى قوله تعالى: " تبارك الذي جعل في السماء بروجًا وجعل فيها سراجًا وقمرًا منيرًا " [الفرقان: 61] بدأ سبحانه في بيان صفات عباد الرحمن فقال تعالى: " وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا " [الفرقان: 63] إلى قوله تعالى " أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلامًا، خالدين فيها حسنة مستقرًا ومقامًا " [الفرقان:75, 76].
وفي سورة ( ق ) بعد أن قال تعالى: " ق والقرآن المجيد، بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب. أإذا متنا وكنا ترابًا ذلك رجع بعيد. قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ. بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم أمر مريج " [ق: 1 – 5].
قال تعالى: " أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج. والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج. تبصرة وذكرى لكل عبد منيب. ونزلنا من السماء ماءً مباركًا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد. والنخل باسقات لها طلع نضيد. رزقًا للعباد وأحيينا به بلدة ميتًا كذلك الخروج " [ق: 6-11].


صورة تبين عملية الإنبات بعد هطول المطر

فبعد أن بين الله تعالى استنكار الكافرين للرسول صلى الله عليه وسلم والتكذيب بما جاء به دلل على ذلك بالآيات الكونية السابقة، وسنعيش اليوم مع التفسير العلمي لهذه الآيات لبيان بعض ما فيها من القدرة الإلهية.
قال الدكتور وهبة الزحيلي حفظه الله في التفسير المنير: ثم أقام الله تعالى الدليل على قدرته العظيمة على البعث وغيره على حقيقة المبدأ والمعاد، فقال: "أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج " وبعد شرح هذه الآيات انتقل إلى شرح قوله تعالى: " ونزلنا من السماء ماءً مباركًا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد " أي ولينظروا إلى قدرتنا كيف أنزلنا من السحاب ماءً المطر الكثير المنافع المنبت للبساتين الكثيرة الخضراء والأشجار المباركة، وحبات الزرع الذي يزرع ويقتات كالقمح والشعير ونحوهما.
" والنخل باسقات لها طلع نضيد " أي أنبتنا به أيضًا النخيل الطوال الشاهقات التي لها طلع ( هو أول ما يخرج من ثمر النخيل ) منضد متراكم بعضه على بعض، والمراد كثرة الطلع وتراكمه الدال على كثرة الثمر وفائدة إعادة هذا الدليل بعد المذكور في الآية السابقة هو أن قوله تعالى: " فأنبتنا به " استدلال بالنبات نفسه، أي بالأشجار تنمو وتزيد، فكذلك بدن الإنسان بعد الموت ( ينبت )، وينمو، ويزيد بأن يرجع إليه قوة النشوء والنماء كما يعيدها إلى الأشجار بواسطة ماء السماء " رزقًا للعباد وأحيينا به بلدة ميتًا كذلك الخروج " أي: أنبتنا كل ما ذكر للرزق، أي أن إنبات النبات والأشجار والنخيل ليكون رزقًا وأقواتًا للعباد، وأحيينا بالماء بلدة مجدبة لا ثمار فيها ولا زرع، وإن الخروج من القبور عند البعث كمثل هذا الإحياء الذي أحيا الله به الأرض الميتة، فكما أن هذا مقدور لله، فذلك أيضًا مقدور له، وهذا تشبيه قريب الإدراك، ومن واقع الحياة الملحوظة المجاورة للإنسان، وهو أيضًا تضخيم لشأن الإنبات وتهوين لأن البعث في مقدور القدرة الإلهية، انتهى.


لقد شبه القرآن الكريم البعث يوم القيامة بإنبات البذرة عند تساقط المطر

التفسير العلمي للآيات
والأن نعيش مع التفسير العلمي للآيات، قال تعالى: " ونزلنا من السماء ماءً مباركًا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد " [ق: 9].
في هذه الآية يبين الله تعالى أن الماء المبارك ينزل من السماء، فينبت الله به النبات من جنات متعددة الأجناس والأنواع والأصناف وينبت به نباتات الحبوب من قمح وشعير وأرز وذرة، والآية تربط بين الماء الطيب المبارك العذب والإنبات: وكما نعلم فإن الماء ضروري لعملية الإنبات، وهو شرط أساسي له، فإذا غاب الماء العذب لم تنبت معظم النباتات الأرضية، وتظل البذور والحبوب في التربة من دون إنبات إلى أن ينزل عليها الماء، فتبدأ عملية الإنبات العجيبة والمعجزة، حيث تتشرب الحبوب والبذور الماء ( كما بينا في موضوع: ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ) في كتابنا آيات معجزات من القرآن الكريم وعالم النبات ( ص: 68)، وفور دخول الماء إلى المكونات الداخلية للبذرة والحبة تبدأ عمليات كيماوية حيوية معجزة وعجيبة، فتطلق الإنزيمات الجنينية في الإفراز لتحول المواد الغذائية المدخرة ( كربوهيدراتية، ودهنية، وبروتينية ) من مواد ميتة معقدة التركيب لا يستطيع الجنين امتصاصها أو نفاذها عبر أغشيته، إلى مواد ميتة بسيطة التركيب يستطيع الجنين امتصاصها، وتنفذ من أغشية الجنين وفور دخولها إلى الجنين، تدب فيها الحياة بفضل الله ويبدأ الجنين في النمو وتتكشف أعضاءه من جذير ( Radical) ورويشة (Plumule)ويتجه الجذير عادة إلى الأرض مع الجاذبية الأرضية وترتفع الرويشة لأعلى ضد الجاذبية وتظهر في الفلقات ( Cotyiedons ) في الإنبات الهوئي الإخضرار لظهور اليخضور بداخلها، وينمو النبات وتتكون الأوراق الخضراء وتبدأ عملية البناء الضوئي بأن تثبت الأوراق ببلاستيداتها الخضراء ثاني أكسيد الكربون الجوي وتشطر الماء ويرتبط كربون ثاني أكسيد الكربون، بهيدروجين الماء والطاقة الضوئية، لتتكون المواد الكربوهيدارتية الأولى.
وهكذا يخرج الله تعالى الموتى من القبور، حيث ينزل المطر على الأموات يوم القيامة وتبدأ الجزئيات المتحللة في التجمع، وتتدب فيها الحياة، ويعود الإنسان إلى التكوين بقدرة الله، كما عاد النبات إلى التكوين في عملية الإنبات، فمن حول المواد الغذائية داخل النبات إلى أعضاء حية تنمو وتتنفس وتتغذى وتورق وتزهر وتثمر وتقوم بعمليات الأيض من بناء وهدم، وتتكشف البراعم والأزهار وتتكون الثمار التي لم تكن موجودة في البذور والحبوب قبل الإنبات، فالقادر على إخراج الأزهار الجميلة رائعة الجمال ذات الروائح الشذية والأسدية المذكرة والأمتعة المؤنثة وتلقيحها وتخصيبها وتكوين الثمار الجميلة، حلوة الطعم المفيدة، المتباينة الطعم والرائحة والفائدة، هو القادر على إنبات الإنسان بعد الموت وإخراجه وهو أهون عليه سبحانه وتعالى، وتقوم نباتات الحبوب من القمح والشعير والذرة الشامية والذرة العويجة والأرز وغيرها من نباتات الحبوب في الإنتاج لتكون أساس الغذاء على الأرض للإنسان والحيوان والكائنات الحية الدقيقة ويظهر النخيل المرتفع الذي ينمو برعمه الطرفي في قوة بسيادته القمية وحدها وتحتوي ثماره على 7.6 مواد سكرية 2.5% مواد دهنية 1.9 مواد بروتينية، 1.2 مواد معدنية 10% ألياف، ويحتوي التمر الجاف على 13.8 % ماء ويحتوي بعض الفيتامينات والأملاح المفيدة لصحة الإنسان وحياته وتعتبر الحبوب من قمح وشعير وذرة وأرز هي مصدر الغذاء الكربوهيداتي الرئيس والفيتامينات والألياف للإنسان، والحيوان والكائنات الحية الدقيقة التي يسميها الناس بالعيش ومن تحكم في إنتاجها تحكم في سوق الحبوب المهم في الحياة.
وهكذا يربط الله سبحانه وتعالى بين عقيدة البعث بعد الموت وإخراج النبات بالماء ليتعلم الإنسان من هذه المحسوسات كيف يؤمن بالغيبات.

بقلم: أ. د. نظمي خليل أبو العطا موسى

أستاذ النبات في جامعة عين شمس وجامعة البحرين

يمكن التواصل على الإيميل التالي:

phy_tech@hotmail.com

أو زيارة موقعه الشخصي:

www.nazme.net