عدالـة الصحابـة رضى الله عنهم
في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية
ودفع الشبهات
الدكتور
عماد السيد الشربيني
مدرس الحديث وعلومه
بجامعة الأزهر
1425 هـ - 2005 م
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله عز وجل
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ
ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ
لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا( )0
وقال رسول الله
" إن الله اختار أصحـابي على العالميـن ، سوى النبيـين والمرسليـن ،
واختار لي من أصحابي أربعة :
أبا بكر، وعمر, وعثمان ، وعلياً
فجعلهم أصحابي
قال في أصحابي كلهم خير , وأختار أمتي على الأمم
وأختار من أمتي أربعة قرون
القرن الأول , والثاني , والثالث ، والرابع "( )0
تقديــــم
الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام علي المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد , وعلي آله , وصحبه البررة الأوفياء ، أئمة الدين ، وصفوة الخلق بعد الأنبياء والمرسلين , ورضي الله عمن تبع سنتهم ، وسلك طريقتهم ، واقتفى أثرهم ، ونصرهم إلى يوم الدين0
ثم أما بعـــد
فإن الطعن فى عدالة رواة السنة النبوية من صحابة رسول الله ، والتابعين فمن بعدهم إلى الأئمة أصحاب المصنفات الحديثية ، من وسائل غلاة المبتدعة الرافضة ، والخوارج ، والمعتزلة ، والزنادقة( )- فى الطعن فى السنة النبوية0
وغرضهم من ذلك تحطيم الوسيلة التى وصلت السنة النبوية بها إلينا ، وإذا تحطمت الوسيلة يصبح الأصل معتمداً على لا شئ فيصبح لا شئ 0
وقديماً صرح بذلك أحد الزنادقة فيما رواه الخطيب البغدادي فى تاريخه عن أبى داود السجستانى قال : "لماء جاء الرشيد بشاكر - رأس الزنادقة ليضرب عنقه - قال : أخبرنى ، لم تعلِّمون المتعلم منكم أول ما تعلمونه الرفض - أى الطعن فى الصحابة - ؟ قال : إنا نريد الطعن على الناقلة ، فإذا بطلت الناقلة ؛ أوشك أن نبطل المنقول" ( )0
وبذلك صرح ذيل ( شاكر) محمود أبو ريه فى كتابه أضواء على السنة قائلاً : "إن عدالة الصحابة تستلزم ولا ريب الثقة بما يروون ، وما رووه قد حملته كتب الحديث بما فيه من غثاء ، وهذا الغثاء هو مبعث الضرر وأصل الداء"( )0
نعم : إن الصحابة "هم حجر الزاوية فى بناء الأمة المسلمة ، عنهم قبل غيرهم تلقت الأمة كتاب الله ، وسنة رسوله , فالغض من شأنهم والتحقير لهم ، بل النظر إليهم بالعين المجردة من الإعتبار، لا يتفق والمركز السامى الذي تبوءوه ، ولا يوائم المهمة الكبرى التى انتدبوا لها ونهضوا بها0
كما أن الطعن فيهم , والتجريح لهم ؛ يغال فى الباطل ! ، وتهجم على الأكابر , وجرح لشعور المسلمين , وهو مرفوض بادئ ذى بدء , كما أنه يقوض دعائم الشريعة ، ويشكك فى صحة القرآن ، ويضيع الثقة بسنة سيد الأنام ! ؛ فضلاَ عن أنه تجريح وقدح , فيمن بوأهم تلك المكانة ، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس !!! . ولا يقبل عاقل مثل هذا القول !!.
لذلك عنى علماء الإسلام قديماً وحديثاً , بالدفاع عن عدالة الصحابة ، لأنه - كما رأيت - دفاع عن الإسلام ، ولم يكن ذلك الدفاع نزوة هوى ، ولا عصبية ؛ بل كان نتيجة لدراسات تحليلية وأبحاث تاريخية ، وتحقيقات بارعة واسعة ، عرضتهم على أدق موازين الرجال ؛ مما تباهى به الأمة الإسلامية كافة الأمم والأجيال0
وبعد هذا التحقيق والتدقيق ، خرج الصحابة من بوتقة هذا البحث ، وإذا هم خير أمة أخرجت للناس ، وأسمى طائفة عرفها التاريخ ، وأنبل أصحاب لنبي ظهر على وجه الأرض ، وأوعى وأضبط جماعة لما استحفظوا عليه من كتاب الله , وهدى رسول الله , وقد اضطر أهل السنة والجماعة ، أن يعلنوا رأيهم هذا كعقيدة ، فقرروا أن الصحابة كلهم عدول0 ولم يشذ عن هذا الرأى إلا المبتدعة والزنادقة قبحهم الله"( )0
وطعون المبتدعة والزنادقة قديماً وحديثاً فى صحابة سيدنا رسول الله كثيرة 0
وسوف أتناول هنا بمشيئة الله تعالى نماذج من تلك الطعون والشبهات ؛ التي طعنوا بها في عدالة الصحابة ، استعرضها وأفندها 0
على أن أًفرد أيضاً ترجمة لراوية الإسلام الأول أبو هريرة لنتعرف على مكانته فى الإسلام .
وهذا البحث يقع في ثمانية مباحث :
المبحث الأول : التعريف بالصحابة لغة واصطلاحاً0
المبحث الثاني : التعريف بالعدالة لغة واصطلاحـاً0
المبحث الثالث : أدلــة عدالـــة الصحابــة 0
المبحث الرابع : شبهات حول عدالة الصحابة والرد عليها 0
المبحث الخامس : سنة الصحابـة حجـة شرعيـة 0
المبحث السادس : من أراد معاوية فإنما أراد الصحابة جميعاً .
المبحث السابع : شبهات حول راوية السنة الأول ( أبو هريرة ) والرد عليها 0
المبحث الثامن : حكم الطاعن فى عدالة الصحابة .
الخاتمــــة : في نتائج هذا البحث , وفهرس الموضوعات 0
منهجي في البحث :
1ـ استعرضت شبه ومطاعن أهل الزيغ والهوي , قديمَا وحديثَا , المتضمنة الطعن في عدالة
صحابة سيدنا رسول الله , و قرنت ذلك بالرد الحاسم الذي يبين بطلان وزيف تلك
الشبه والمطاعن معتمدَا في ذلك علي القرآن الكريم , والسنة المطهرة , والسيرة العطرة ,
وكلام أهل السنة قديمَا وحديثَا .
2 ـ بينت مواضع الآيات التي وردت في البحث بذكر اسم السورة , ورقم الآية في الهامش , مع
وضع الآية بين قوسين 0
3 ـ عزوت الأحاديث التي أوردتها في البحث إلي مصادرها الأصلية , من كتب السنة المعتمدة
فإن كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما اكتفيت بالعزو إليهما ، بذكر اسم الكتاب ، واسم
الباب ، وذكر الجزء والصفحة ورقم الحديث ، وأقدم في التخريج من ذكرت لفظه ، مع البيان
غالباً لدرجة الحديث , من خلال أقوال أهل العلم بالحديث ، أو دراستي للسند ، إن كان الحديث
في غير الصحيحين ، وفيما عدا ذلك اقتصر على ما يفيد ثبوت الحديث أورده0
4 ـ اعتمدت في التخريج من الصحيحين على طبعتى البخارى "بشرح فتح البارى" لابن حجر،
والمنهاج "شرح صحيح مسلم" للنووي ، لصحة متون الأحاديث في الشرحين ، ولصحة
عرضهما على أصول الصحيحين ، وتسهيلاً للقارئ لكثرة تداول تلك الشروح ، وإتماماً
للفائدة بالإطلاع على فقه الحديث المخرَّج 0
5 ـ التزمت عند النقل من أي مرجع ، أوالإستفادة منه الإشارة إلى رقم جزئه وصفحته
بالإضافة إلى ذكر طبعات المراجع في الفهرست0
6ـ عند النقل من فتح البارى ، أو المنهاج شرح مسلم للنووي ، أذكر رقم الجزء والصفحة
ورقم الحديث الوارد فيه الكلام المنقول ، تيسيراً للوصول إلى الكلام المنقول ، نظراً
لاختلاف رقم الصفحات تبعاً للطبعات المتعددة 0
7ـ اكتفيت في تراجم الأعلام من الصحابة بذكر مصادر تراجمهم بذكر رقم الجزء والصفحة
ورقم الترجمة ، ولم أترجم لهم لعدالتهم جميعا ، ولم أخالف في ذلك إلا في القليل عندما
تقتضى الترجمة الدفاع عن شبهة 0
8 ـ ترجمت لكثير من الأعلام الذين جرى نقل شئ من كلامهم ، مع ذكر مصادر تراجمهم ،
بذكر رقم الجزء والصفحة ورقم الترجمة 0
9- شرحت المفردات الغريبة التي وردت في بعض الأحاديث مستعيناً في ذلك بكتب غريب
الحديث ، ومعاجم اللغة ، وشروح الحديث 0
والله عز وجل أسال أن ينفع بما كتبت , وأن يتقبله خالصَا لوجهه الكريم 0
والحمــد لله رب العالمـــين
وصلى الله علـى سيدنــا ومولانــا
محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
الراجي عفو ربه الكريم
أبو نور الدين
د/ عماد السيد محمد الشربيني
مدرس الحديـث وعلومـه
بكلية أصول الدين
جامعة الأزهر
=============
هذا الكتاب
يتناول فيه المؤلف الرد علي الطاعنين في عدالة صحابة سيدنا رسول الله , من أعداء الإسلام من المستشرقين, وأذيالهم ممن يسمون أنفسهم (القرآنيون) وذلك من خلال عدة قضايا أهمها مايلى:
بيان أن الصحابة هم حجر الزاوية فى بناء الأمة المسلمة ، عنهم قبل غيرهم تلقت الأمة كتاب الله ، وسنة رسوله , فالغض من شأنهم والتحقير لهم ، بل النظر إليهم بالعين المجردة من الإعتبار، لا يتفق والمركز السامى الذي تبوءوه ، ولا يوائم المهمـة لكبرى التى انتدبوا لها ونهضوا بها0 كما أن الطعن فيهم والتجريح لهم ، يقوض دعائم الشريعة ، ويشكك فى صحة القرآن ، ويضيع الثقة بسنة سيدالأنام ! ؛ فضلاَ عن أنه تجريح وقدح فيمن بوأهم تلك المكانة ، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس !!!
بيان أن المنافقين الذين كشف الله ورسوله – سترهم ، ووقف المسلمون على حقيقة أمرهم ، والمرتدين الذين ارتدوا فى حياة النبى وبعد وفاته ، ولم يتوبوا ويرجعوا إلى الإسلام ، وماتوا على ردتهم ، هم بمعزل من شرف الصحبة ، وبالتالى بمعزل عن أن يكونوا من المرادين بقول جمهور العلماء والأئمة إنهم عدول ، وفى تعريف العلماء للصحبة ما ينفى عنها هؤلاء ؛ وأولئك .
إن الآيات القرآنية , التى جاء فيها عتاب للصحابة أو لبعضهم لارتكابهم بعض المعاصى لخير دليل شاهد على أن المراد بعدالتهم جميعاً ؛ عصمتهم من الكذب فى حديث سيدنا رسول الله , وليس معنى عدالتهم عصمتهم من المعاصى أو من السهو أو الغلط ، فهذا لم يقل به أحد من أهل العلم , وحتى مع ارتكاب بعضهم لبعض الذنوب ، فقد امتن الله عليهم بالتوبة والمغفرة لذنوبهم ؛ وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
أن الصورة الحقيقية لسيدنا معاوية , تخالف الصورة الكاذبة التى يصورها الزنادقة من الرافضة ؛ ومن تابعهم من أعداء الإسلام ، والسنة المطهرة ، تلك الصورة التى تنكر ما جاء فى السنة المطهرة عن رسول الله ، وعن الصحابة ، والتابعين ، من الشهادة له بالصحبة ، والفقه ، والملك العادل ، وحسن السيرة , حتى شهد له من أدركه كمجاهد ؛ والأعمش بأنه المهدى .
ما اتهم به سيدنا أبو هريرة ، من أكاذيب وافتراءات من قبل أرباب الأهواء قديماً وحديثاً ، سندهم فيه إما روايات مكذوبة أو ضعيفة ، وإما روايات صحيحة لم يفهموها على وجهها ، بل تأولوها تأويلاً باطلاً يتفق وأهواءهم .
ونسأل الله التوفيق والسداد ...
======
المبحث الأول
التعريـف بالصحابـة لغـةً واصطلاحـاً
الصحابة فى اللغة : يقال صحب أى دعاه إلى الصحبة ولازمه ، وكل شئ لازم شيئاً فقد استصحبه( )0
وقال أبو بكر الباقلانى( ): "لا خلاف بين أهل اللغة فى أن القول "صحابى" مشتق من الصحبة، وأنه ليس بمشتق من قدر منها مخصوص، بل هو جار على كل من صحب غيره قليلاً كان أو كثيراً … يقال صحبت فلاناً حولاً، ودهراً، وسنة، وشهراً، ويوماً، وساعة، فيوقع اسم المصاحبة بقليل ما يقع منها وكثيرة0
وذلك يوجب فى حكم اللغة : إجراء هذا على من صحب سيدنا رسول الله أى قدر من الوقت .( ) .
وقال الإمام ابن تيمية ( ): "والأصحاب جمع صاحب ، والصاحب اسم فاعل من صحبه يصحبه، وذلك يقع على قليل الصحبه وكثيرها" ( )0 وعلى هذا التعريف اللغوى جرى أصحاب الحديث فى تعريفهم بالصحابى اصطلاحاً : فذهبوا إلى إطلاق (الصحابى) على كل من صحب سيدنا رسول الله ، ولو ساعة واحدة فما فوقها0
الصحابة فى الاصطـلاح :
قال الإمام بدر الدين الزركشى( ) : "ذهب الأكثرون إلى أن الصحابى من اجتمع - مؤمناً – بسيدنا محمد وصحبه ولو ساعة ، روى عنه أو لا ، لأن اللغة تقتضى ذلك، وإن كان العرف يقتضى طول الصحبة وكثرتها … وهو ما ذهب إليه جمهور الأصوليين ، أما عند أصحاب الحديث فيتوسعون فى تعريفهم لشرف منزلة النبى ( )0
يقول الإمام ابن حزم ( ) : " فأما الصحابة فهم كل من جالس النبى ولو ساعة ، وسمع منه ولو كلمة فما فوقها ، أو شاهد منه عليه السلام أمراً يعيه " ( )0
والتعريفات التى وضعها العلماء للصحابة (اصطلاحاً) كثيرة ، ولكن التعريف الصحيح المعتمد هو ما قرره الحافظ ابن حجر( ) بقوله : "وأصح ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابى هو من لقى النبى مؤمناً به ، ومات على الإسلام ، ولو تخللت ردة على الأصح 0
ثم شرح التعريف فقال : "فيدخل فيمن لقيه" من طالت مجالسته له، أو قصرت، ومن روى عنه أو لم يرو ومن غزا معه أو لم يغز، ومن رآه رؤية، ولو لم يجالسه، ومن لم يره لعارض كالعمى0
ومن هنا كان التعبير بالًّلقِـىِّ أولى من قول بعضهم : "الصحابى من رأى النبى " لأنه يخرج حينئذ ابن أم مكتوم ونحوه من العميان وهم صحابة بلا تردد0
ويخرج "بقيد الإيمان" من لقيه كافراً ولو أسلم بعد ذلك إذا لم يجتمع به مرة أخرى0
وقولنا"به"يخرج من لقيه مؤمناً بغيره كمن لقيه مؤمناً من مؤمنى أهل الكتاب قبل البعثة0
ويدخل فى قولنا "مؤمناً به" كل مكلف من الجن والإنس …0
وخرج بقولنا "ومات على الإسلام" من لقيه مؤمناً به ثم ارتد ومات على ردته والعياذ بالله - كعبيد الله بن جحش، وابن خطل، ويدخل فيه من ارتد وعاد إلى الإسلام قبل أن يموت سواء اجتمع به مرة أخرى أم لا، كالأشعث بن قيس فإنه كان ممن ارتد ثم أسلم فى حياة رسول الله , لكنه لم يلقه . وأتى به إلى أبى بكر الصديق أسيرا ً، فعاد إلى الإسلام فقبل منه، وزوجه أخته ، ولم يتخلف أحد عن ذكره فى الصحابة، ولا عن تخريج أحاديثه فى المسانيد وغيرها0
وهذا هو الصحيح المعتمد، ووراء ذلك أقوال شاذة أخرى كقول من قال لا يعد صحابياً إلا من وصف بأحد أوصاف أربعة :
من طالت مجالسته ، أو حفظت روايته، أو ضبط أنه غزا معه ، أو استشهد بين يديه، وكذا من اشترط فى صحة الصحبة بلوغ الحلم ، أو المجالسة ولو قصرت"( )0
قال الحافظ السيوطى( ) مؤيداً الحافظ ابن حجر- رحمهما الله تعالى- :
"وهو المعتبر " ( )0
وذهب إليه الجمهور من الأصوليين، منهم الآمدى فى الإحكام( )، وابن عبد الشكور فى فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت( )، والزركشى فى البحر المحيط ( )، والشوكانى فى إرشاد الفحول( ) وغيرهم0
ويقول الحافظ السخاوى ( ) مؤيداً رأى شيخه ابن حجر "والعمل عليه عند المحدثين والأصوليين" ( )0
السر فى التعميم فى تعريف الصحابى :
التعميم فى تعريف الصحابى نظراً إلى أصل فضل الصحبة، ولشرف منزلة النبى ، ولأن لرؤية نور النبوة قوة سريان فى قلب المؤمن، فتظهر آثارها على جوارح الرائى فى الطاعة والاستقامة مدى الحياة ، ببركته ويشهد لهذا قوله : " طوبى لمن رآنى وآمن بى، وطوبى لمن رأى من رآنى، ولمن رأى من رأى من رآنى وآمن بى "( )0
وفى ذلك يقول الإمام السبكى ( ) : "والصحابى هو كل من رأى النبى مسلماً، وقيل : من طالت مجالسته، والصحيح الأول، وذلك لشرف الصحبة، وعظم رؤية النبى ، وذلك أن رؤية الصالحين لها أثر عظيم، فكيف رؤية سيد الصالحين؟! فإذا رآه مسلم ولو لحظة، انطبع قلبه على الاستقامة، لأنه بإسلامه متهيئ للقبول، فإذا قابل ذلك النور العظيم، أشرق عليه وظهر أثره فى قلبه وعلى جوارحه"( )0
يقول الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة - رحمه الله - : "فالتعميم فى تعريف (الصحابى) نظراً إلى أصل فضل الصحبة، وأما تفاوت من يشملهم هذا اللقب فى الفضل والدين وسائر خصال الخير … فهذا أمر وراء ذلك"( ) أ0هـ0
طريـق معرفـة الصحبـة :
تثبت الصحبة بأمور متعددة منها :
1- التواتر كأبى بكر الصديق المعنى بقوله تعالى : إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا( ) وسائر العشرة المبشرين بالجنة وغيرهم0
2- أو باشتهار قاصر عن التواتر؛ وهو الاستفاضة , كعكاشة بن محصن، وضمام بن ثعلبة
وغيرهما 0
3- أو بقول صاحب آخر معلوم الصحبة ، إما بتصريح بها كأن يجئ عنه أن فلاناً له صحبة
مثلاً أو نحوه ، كقوله : كنت أنا وفلان عند النبى , أو دخلنا على النبى 0
بشرط أن يعرف إسلام المذكور فى تلك الحالة 0
4- وكذا تعرف بقول آحاد ثقات التابعين ؛ على الراجح من قبول التزكية من عدل واحد"( )0
انتهى .
المبحث الثانـى
التعريـف بالعدالـة لغـة واصطلاحـاً
العدالة لغة : العدل ضد الجور، يقال عدل عليه فى القضية فهو عادل، وبسط الوالى عدله ومَعْدِلَتَه – بكسر الدال وفتحها - ، وفلان من أهل المَعْدَلَة – بفتح الدال - ، أى : من أهل العدل ، ورجل عدل ، أى : رضا ومقنع فى الشهادة0
والعدالة : وصف بالمصدر معناه ذو عدل، قال تعالى : وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ( ) ويقال : رجل عدل ورجلان عدل، ورجال عدل، وامرأة عدل، ونسوة عدل، كل ذلك على معنى رجال ذوو عدل، ونسوة ذوات عدل، فهو لا يثنى، ولا يجمع، ولا يؤنث، فإن رأيته مجموعاً، أو مثنى أو مؤنثاً، فعلى أنه قد أجرى مجرى الوصف الذى ليس بمصدر، وتعديل الشئ تقويمه، يقال عدلته فاعتدل، أى قومته فاستقام( ) أ0هـ
فمن هذه التعاريف اللغوية يتبين أن معنى العدالة فى اللغة الاستقامة ، والعدل هو المتوسط فى الأمور من غير إفراط فى طرفى الزيادة والنقصان، ومنه قوله تعالى : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا( ) أى عدلاً فالوسط والعدل بمعنى واحد( )0
والعدالة اصطلاحاً : تنوعت فيها عبارات العلماء من محدثين وأصوليين وفقهاء، إلا أنها ترجع إلى معنى واحد وهو أنها : ملكة أى صفة راسخة فى النفس تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة0
والتقوى ضابطها : امتثال المأمورات، واجتناب المنهيات من الكبائر ظاهراً، وباطناً من شرك أو فسق أو بدعة0
والمروءة ضابطها : آداب نفسية تحمل صاحبها على التحلى بالفضائل , والتخلى عن الرذائل ، وترجع معرفتها إلى العرف 0
وليس المراد بالعرف هنا سيرة مطلق الناس بل الذين نقتدى بهم .
ولا تتحقق العدالة فى الراوى إلا إذا اتصف بصفات خمسة : الإسلام , والبلوغ والعقل , والسلامة من أسباب الفسق , وخوارم المروءة ( )0
وليس المقصود من العدل أن يكون بريئاً من كل ذنب ، وإنما المراد أن يكون الغالب عليه التدين ، والتحرى فى فعل الطاعات0
وفى ذلك يقول الإمام الشافعى : " لو كان العدل من لا ذنب له لم نجد عدلاً، ولو كان كل مذنب عدلاً لم نجد مجروحاً ، ولكن العدل من اجتنب الكبائر؛ وكانت محاسنه أكثر من مساويه " ( )0
ويعبر أبو يوسف عن هذا الإتجاه حين يقول : "من سلم أن تكون منه كبيرة من الكبائر التى أوعد الله تعالى عليها النار ، وكانت محاسنه أكثر من مساوئه فهو عدل "( )0
ونخلص مما سبق فيما يخص بتعريف الصحابة أن المنافقين الذين كشف الله ورسوله – سترهم ، ووقف المسلمون على حقيقة أمرهم ، والمرتدين الذين ارتدوا فى حياة النبى وبعد وفاته ، ولم يتوبوا ويرجعوا إلى الإسلام ، وماتوا على ردتهم ، هم بمعزل من شرف هذه الصحبة ، وبالتالى بمعزل عن أن يكونوا من المرادين بقول جمهور العلماء والأئمة إنهم عدول ، وفى تعريف العلماء للصحبة ما ينفى عنها ؛ هؤلاء وأولئك 0
ومعنى عدالة الصحابة : " أنهم لا يتعمدون الكذب على رسول الله ، لما اتصفوا به من قوة الإيمان، والتزام التقوى، والمروءة، وسمو الأخلاق والترفع عن سفاسف الأمور0
وليس معنى عدالتهم أنهم معصومون من المعاصى أو من السهو أو الغلط فإن ذلك لم يقل به أحد من أهل العلم0
ومما ينبغى أن يعلم أن الذين قارفوا إثماً ثم حدوا - كان ذلك كفارة لهم - وتابوا وحسنت توبتهم ، وهم فى نفس الوقت قلة نادرة جداً ؛ لا ينبغى أن يغلب شأنهم وحالهم على حال الألوف المؤلفة من الصحابة الذين ثبتوا على الجادة والصراط المستقيم ، وجانبوا المآثم ، والمعاصى ما كبر منها وما صغر، وما ظهر منها وما بطن ، والتاريخ الصادق أكبر شاهد على هذا " ( ) أ0هـ0
ويؤكد ما سبق الإمام الأبيارى( ) بقوله : "وليس المراد بعدالتهم ثبوت العصمة لهم ، واستحالة المعصية عليهم ، وإنما المراد : قبول روايتهم من غير تكلف بحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية ، إلا أن يثبت ارتكاب قادح ، ولم يثبت ذلك ولله الحمد ! فنحن على استصحاب ما كانوا عليه فى زمن رسول الله ، حتى يثبت خلافه ، ولا التفات إلى ما يذكره أهل السير، فإنه لا يصح ، وما صح فله تأويل صحيح " ( ) أهــ 0
المبحث الثالـئث
أدلـة عدالـة الصحابـة
إن العدالة التى نثبتها لصحابة سيدنا رسول الله - لم نعطها هبة لهم من عند أنفسنا - فنحن أقل من ذلك فضلاً عن أننا لا نملك ذلك، وإنما العدالة ثابتة لهم جميعاً بنص الكتاب العزيز, والسنة الشريفة - سواء منهم من تقدم إسلامه ومن تأخر، ومن هاجر ومن لم يهاجر، ومن اشترك فى الغزوات ومن لم يشترك ، ومن لابس الفتنة ومن لم يلابسها( )0 فهذه العدالة لهم جميعاً تضافرت عليها الأدلة من الكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة0
أولاً : دلالة القرآن الكريم على عدالة الصحابة :
لقد وصف رب العزة صحابة رسول الله بالعدالة وأثنى عليهم فى آيات يطول ذكرها منها مايلى :
1- قوله تعالى : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا( ) ووجه الاستدلال بهذه الآية على عدالة الصحابة أن وسطاً بمعنى "عدولاً خياراً"( )، ولأنهم المخاطبون بهذه الآية مباشرة( )0 وقد ذكر بعض أهل العلم أن اللفظ وإن كان عاماً إلا أن المراد به الخصوص ، وقيل : "إنه وارد فى الصحابة دون غيرهم( )0
2- وقوله تعالى : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ( ) ووجه دلالة هذه الآية على عدالة الصحابة أنها أثبتت الخيرية المطلقة لهذه الأمة على سائر الأمم قبلها ، وأول من يدخل فى هذه الخيرية المخاطبون بهذه الآية مباشرة عند النزول ، وهم الصحابة الكرام ، وذلك يقتضى استقامتهم فى كل حال ، وجريان أحوالهم على الموافقة دون المخالفة ، ومن البعيد أن يصفهم الله بأنهم خير أمة ولا يكونوا أهل عدل واستقامة ، وهل الخيرية إلا ذلك ؟
كما أنه لا يجوز أن يخبر الله تعالى بأنه جعلهم أمة وسطاً – أى عدولاً – وهم على غير ذلك ، فيصح أن يطلق على الصحابة أنهم خير أمة بإطلاق ، وأنهم وسط أى عدول بإطلاق"( )0
وهكذا سائر الآيات التى جاءت بمدحهم قال تعالى : لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ(8)وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( ) فالصادقون هم المهاجرون، والمفلحون هم الأنصار، بهذا فسر أبو بكر الصديق، هاتين الكلمتين، من الآيتين، حيث قال فى خطبته يوم السقيفة مخاطباً الأنصار:"إن الله سمانا (الصادقين) وسماكم (المفلحين)،وقد أمركم أن تكونوا حيثما كنا ، فقال : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ( ) 0
فهذه الصفات الحميدة فى هاتين الآيتين كلها حققها المهاجرون والأنصار من أصحاب رسول الله ، واتصفوا بها، ولذلك ختم الله صفات المهاجرين بالحكم بأنهم صادقون ، وختم صفات الذين آزروهم ونصروهم وآثروهم على أنفسهم بالحكم لهم بأنهم مفلحون0
وهذه الصفات العالية لا يمكن أن يحققها قوم ليسوا بعدول " ( )0
وحتى الآيات التى جاء فيها عتاب لهم أو لبعضهم شاهدة بعدالتهم حيث غفر الله لهم ما عاتبهم فيه وتاب عليهم قال تعالى : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(67)لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(68)فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( ) وتأمل ختام العتاب "إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" وهل بعد مغفرة الله من شئ؟!0
وقال تعالى : وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ وتأمل ختام الآية "إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"( )0
وغير ذلك من الآيات الشاهدة بمغفرة الله لهم لما ارتكبوا من بعض المعاصى - وسيأتى ذكر بعضها فى الرد على الشبهات حول عدالة الصحابة0
إن تلك الآيات التى جاء فيها عتاب للصحابة أو لبعضهم لارتكابهم بعض المعاصى لخير دليل شاهد على ما سبق ذكره ، من أن المراد بعدالتهم جميعاً عصمتهم من الكذب فى حديث رسول الله وليس معنى عدالتهم عصمتهم من المعاصى أو من السهو أو الغلط، فهذا لم يقل به أحد من أهل العلم0 وحتى مع ارتكاب بعضهم لبعض الذنوب، فقد امتن الله عليهم بالتوبة والمغفرة لذنوبهم0
وما هذه المنة من ربهم إلا بيان لعباده مؤمنهم وكافرهم إلى قيام الساعة ؛ بعظم مكانة من اختارهم لصحبة سيد أنبيائه ورسله ، وأن التجريح والقدح فى تلك المكانة والعدالة إنما هو تجريح وقدح فيمن بوأهم تلك المكانة ، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس !!!
نعوذ بالله من الخذلان 0
ثانياً : دلالة السنة المطهرة على عدالة الصحابة :
لقد وصف النبى أصحابه بالعدالة ، وأثنى عليهم فى أحاديث يطول تعدادها منها :
1- قوله :"ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب"( ) "ففى هذا الحديث أعظم دليل على أن الصحابة كلهم عدول ليس فيهم مجروح ، ولا ضعيف إذ لو كان فيهم أحد غير عدل ، لاستثنى فى قوله وقال : "ألا ليبلغ فلان منكم الغائب" فلما أجملهم فى الذكر بالأمر بالتبليغ لمن بعدهم، دل ذلك على أنهم كلهم عدول، وكفى بمن عدله رسول الله شرفاً " ( ) 0
2- وقال : "خير الناس قرنى ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجئ قوم تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِم يَمِيَنهُ ويَميِنُهُ شَهَادَتَهُ"( ) وهذه الشهادة بالخيرية مؤكدة لشهادة رب العزة : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ( )0
3- وقوله : "النجومُ أَمنةٌ للسماءِ، فإذا ذهبتِ النجوُمِ، أَتى السماءَ ما تُوعدُ، وأَنا أَمَنةٌ لأَصْحَابى0 فإذا ذهبتُ أَتَى أَصْحَابِى ما يُوعدونَ، وأَصْحَابى أَمنةٌ لأُمَّتِى، فإِذا ذهب أصحابى أتى أُمِتى ما يُوعَدُون"( )0
4- وقال : "إن الله اختار أصحابى على العالمين، سوى النبيين والمرسلين، واختار لى من أصحابى أربعة أبا بكر، وعمر وعثمان، وعلياً فجعلهم أصحابى قال فى أصحابى كلهم خير، وأختار أمتى على الأمم، وأختار من أمتى أربعة قرون، القرن الأول والثانى والثالث، والرابع"( )0
وهذا الحديث مؤكد لقوله تعالى : مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا( )0
ويؤكد ابن مسعود ما سبق من الآية والحديث قائلاً : "إن الله نظر فى قلوب العباد، فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه وابتعثه برسالته، ثم نظر فى قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون عن دينه " ( )0
يقول الإمام الآمدى ( ) : " واختيار الله لا يكون لمن ليس بعدل " ( )0
5- وقال : "لا تسبوا أصحابى0 لا تَسُبُّوا أصحابى : فوالذى نفسى بيده! لو أن أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مثلَ أُحُدٍ ذهباً، ما أَدركَ مُدَّ أَحَدِهِم، ولا نَصِيَفهُ"( )0
يقول الصحابى الجليل سعيد بن زيد بن عمرو( )، أحد العشرة المبشرين بالجنة لما سمع رجلاً من أهل الكوفة يسب رجلاً من أصحاب رسول الله قال : "… والله لمشهد شهده رجل يغبر فيه وجهه مع رسول الله : أفضل من عمل أحدكم ، ولو عمر عمر نوح عليه السلام " ( )0
يقول فضيلة الشيخ محمد الزرقانى - رحمه الله - "فأنت ترى من هذه الشهادات العالية فى الكتاب والسنة ، ما يرفع مقام الصحابة إلى الذروة ، وما لا يترك لطاعن فيهم دليلاً، ولا شبهة دليل 0
والواقع أن العقل المجرد من الهوى والتعصب، يحيل على الله فى حكمته ورحمته، أن يختار لحمل شريعته الختامية، أمة مغموزة، أو طائفة ملموزة، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً0
ومن هنا كان توثيق هذه الطبقة الكريمة طبقة الصحابة ، يعتبر دفاعاً عن الكتاب، والسنة، وأصول الإسلام من ناحية، ويعتبر إنصافاً أدبياً لمن يستحقونه من ناحية ثانية، ويعتبر تقديراً لحكمة الله البالغة فى اختيارهم لهذه المهمة العظمى من ناحية ثالثة0
كما أن تَوْهِينهم والنيل منهم، يعد غمزاً فى هذا الاختيار الحكيم، ولمزاً فى ذلك الاصطفاء والتكريم، فوق ما فيه من هدم الكتاب، والسنة، والدين"( ) أ0هـ0
ثالثاً : دلالة إجماع الأمة على عدالة الصحابة :
أجمعت الأمة - إلا من شذ ممن لا يعتد بخلافهم( )0 على ما سبق من تعديل الله ورسوله للصحابة أجمع ، والنقول فى هذا الإجماع كثيرة عن علماء الأمة ، من المحدثين، والفقهاء، والأصوليين0
يقول الخطيب البغدادى : "إنه لو لم يرد من الله ورسوله فيهم شئ مما ذكرناه، لأوجبت الحال التى كانوا عليها من الهجرة، والجهاد، والنصرة، وبذل المهج، والأموال، وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة فى الدين، وقوة الإيمان واليقين : القطع على عدالتهم، والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين، الذين يجيئون من بعدهم أبد الآبدين0 هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتد بقوله من الفقهاء"( )0
وقال ابن الصلاح : " للصحابة بأسرهم خصيصة ، وهى أنه لا يسأل عن عدالة أحد منهم، بل ذلك أمر مفروغ منه لكونهم على الإطلاق معدلين بنصوص الكتاب، والسنة، وإجماع من يعتد به فى الإجماع من الأمة"( )0
وقال العراقى : "إن جميع الأمة مجمعة على تعديل من لم يلابس الفتن منهم وأما من لابس الفتن منهم وذلك حين مقتل عثمان فأجمع من يعتد به أيضاً فى الإجماع على تعديلهم إحساناً للظن بهم، وحملاً لهم فى ذلك على الاجتهاد " ( )0
وقال الإمام الغزالى : "والذى عليه سلف الأمة ، وجماهير الخلق ، أن عدالتهم معلومة بتعديل الله إيـاهم وثنائه عليهم فى كتابه، فهو معتقدنا فيهم ، إلا أن يثبت بطريق قاطع ارتكاب واحد لفسق مع علمه به، وذلك مما لا يثبت فلا حاجة لهم إلى التعديل – ثم ذكر بعض ما دل على عدالتهم من كتاب الله وسنة رسوله ثم قال : فأى تعديل أصح من تعديل علام الغيوب – سبحانه - وتعديل رسوله كيف ولو لم يرد الثناء لكان فيما اشتهر وتواتر من حالهم فى الهجرة، والجهاد، وبذل المهج، والأموال، وقتل الآباء والأهل، فى موالاة رسول الله ، ونصرته، كفاية فى القطع بعدالتهم"( )0
فهذه النقول المباركة للإجماع من هؤلاء الأئمة وغيرها كثير0 كلها فيها بيان واضح، ودليل قاطع على أن ثبوت عدالة الصحابة عموماً بلا استثناء، أمر مفروغ منه ، ومسلم به 0
فلا يبقى لأحد شك ،ولا ارتياب بعد تعديل الله ورسوله وإجماع الأمة على ذلك( )0
"وإذا تقرر لك عدالة جميع من ثبتت له الصحبة ، علمت أنه إذا قال الراوى عن رجل من الصحابة، ولم يسمه كان ذلك حجة، ولا يضر الجهالة، لثبوت عدالتهم على العموم"( )0
قال الإمام الجوينى : "ولعل السبب فى قبولهم من غير بحث عن أحوالهم ، والسبب الذى أتاح الله الإجماع لأجله، أن الصحابة هم نقلة الشريعة، ولو ثبت توقف فى رواياتهم، لانحصرت الشريعة على عصر رسول الله ، ولما استرسلت على سائر الأعصار" ( )0
أولئك آبائى فجئنى بمثلهم *** إذا جمعتنا يا جرير المجامع
غمرهم الله برحمته ورضوانه … آمين 0
====
المبحث الرابع
شبهات حول عدالة الصحابة
والرد عليها
ويشتمل على مطلبين :
المطلب الأول : شبهاتهم من القرآن الكريم والرد عليها .
المطلب الثانى : شبهاتهم من السنة النبوية والرد عليها .
المطلب الأول
شبهاتهم من القرآن الكريم والرد عليها
إن لأهل الزيغ والإلحاد قديماً وحديثاً ؛ شبهات كثيرة , يطعنون بها فى عدالة الصحابة ، وأساس تلك الشبهات الرافضة ؛ الذين فاقوا اليهود والنصارى فى خصلتين كما قال الشعبى( ) - رحمه الله تعالى - فيما رواه عنه ابن الجوزى فى الموضوعات قال : "… فضلت الرافضة على اليهود والنصارى بخصلتين0سئلت اليهود من خير أهل ملتكم ؟ قالوا أصحاب موسى-عليه السلام - وسئلت النصارى فقالوا أصحاب عيسى- عليه السلام - ، وسئلت الرافضة من شر أهل ملتكم ؟ فقالوا حوارى محمد ، وأمروا بالإستغفار لهم فسبوهم " ( )0
فمن مطاعنهم فى عدالة الصحابة : ما استدلوا به من :
1- قوله تعالى : وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ( ) وقالوا نزلت فى أكثر الصحابة الذين انفضوا عن رسول الله إلى العير التى جاءت من الشام، وتركوه وحده فى خطبة الجمعة، وتوجهوا إلى اللهو، واشتغلوا بالتجارة، وذلك دليل على عدم الديانة ( )0
2- واستدلوا أيضاً بما ورد فى القرآن الكريم من آيات تتحدث عن النفاق والمنافقين، وحملوها على أتقى خلق الله ، وأطهرهم (رضوان الله عليهم أجمعين) كقوله تعالى : وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ( )0
وأيدوا ذلك بما جاء فى السنة المطهرة من أحاديث يطلق فيها لفظ الصحابة على المنافقين 0
مثل حديث جابر بن عبد الله قال : "أتى رَجُلٌ رسول الله بِالجِعْرَانَة مُنْصَرَفَهُ من حُنين0 وفى ثوب بلال فِضَةٌ ورسول الله يقبض منها 0 يعطى الناس0 فقال: يا محمد ُ! اعْدِلْ 0 قال : " ويلك ومن يَعْدِلُ إذا لم أَكُنْ اَعْدِلُ؟ لقد خِبْتُ وَخَسِرْتُ إن لم أكن أعدِل ُ" فقال عمر بن الخطاب دعنى يا رسول الله فأقُتل هذا المنافق 0فقال : "مَعَاذ الله ! أَنْ يتحدث الناس أَنى أَقْتُلُ أَصْحَاِبى 0 إِنَّ هذا وأصحابَهُ يقرأون القرآنّ لا يُجاوزُ حَنَاجِرَهُم 0 يَمرُقُونَ منه كما يَمْرُقُ السَّهْمُ من الرَّمِيِة " ( )0
3- واستدلوا أيضاً بقوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا( )
وقوله تعالى : لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ( )
وقالوا : الفرار من الزحف من أكبر الكبائر( )0
ويجاب عما سبق بمايلى :
أولاً : قصة انفضاض أكثر الصحابة عن رسول الله إلى العير القادمة من الشام ، وتركهم خطبة الجمعة ، إنما وقع ذلك فى بدء زمن الهجرة ، ولم يكونوا إذ ذاك واقفين على الآداب الشرعية كما ينبغى ، كما أن كبار الصحابة كأبى بكر وعمر كانوا قائمين عنده، كما ثبت ذلك فى الأحاديث الصحيحة 0
فعن جابر بن عبد الله قال : بينما النبى يخطب يوم الجمعة قائماً إذ قدمت عير المدينة ، فابتدرها( ) أصحاب رسول الله حتى لم يبق منهم إلا اثنى عشر رجلاً فيهم أبو بكر وعمر ونزلت الآية :وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا( )،
ولذا لم يشنع عليهم ، ولم يتوعدهم سبحانه وتعالى بعذاب ولم يعاتبم الرسول أيضاً " ( )0
ورد آخر على هذه القصة وهو : أنه ورد فى بعض الأخبار أنها وقعت لما كان النبى يقدم الصلاة على الخطبة يوم الجمعة ، وانفضاضهم وقع فى الخطبة ، وليس فى الصلاة كما هو الظاهر من بعض الروايات ، والتى ركز عليها بعض الرافضة ، كمحمود أبو رية( )،
ومروان خليفات( ) ، وغيرهم 0
ويدل على أن الإنفضاض كان فى الخطبة ما جاء فى رواية مسلم السابقة : بينما النبى يخطب يوم الجمعة قائماً 0
يقول الحافظ ابن حجر : "ترجيح كون الإنفضاض وقع فى الخطبة لا فى الصلاة ، هو اللائق بالصحابة تحسيناً للظن بهم ، وعلى تقدير أن يكون فى الصلاة حمل على أن ذلك وقع قبل النهى كآية يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ( ) وقبل النهى عن الفعل الكثير فى الصلاة ونزول قوله تعالى : الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ( )0
ويؤيد ذلك : ما رواه أبو داود فى المراسيل أن هذه القصة كانت لما كان رسول الله يصلى الجمعة قبل الخطبة ، مثل العيدين ، فخرج الناس فلم يظنوا إلا أنه ليس فى ترك الجمعة شئ ، فأنزل الله : وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا
فقدم النبى الخطبة يوم الجمعة , وأخر الصلاة . ( ) 0
وهو ما رجحه أيضاً النووى فى شرحه على مسلم ( ) 0
وعلى كل تقدير أنه فى الصلاة ، فلم يكن تقدم لهم نهى عن ذلك ، فلما نزلت آية الجمعة ، وفهموا منها ذم ذلك ، اجتنبوه " ( )0
يقول الألوسى ( ) : " ورواية أن ذلك وقع منهم مراراً" إن أريد بها رواية البيهقى فى شعب الإيمان( ) عن مُقَاتِل بن حيان( ) أنه قال : بلغنى والله أعلم أنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات، فمثل ذلك لا يلتفت إليه، ولا يعول عند المحدثين عليه، وإن أريد بها غيرها فليبين، ولتثبت صحته، وأنى بذلك؟
وبالجملة : الطعن فى الصحابة بهذه القصة التى كانت من بعضهم فى أوائل أمرهم، وقد أعقبها منهم عبادات لا تحصى، سفه ظاهر، وجهل وافر " ( )0
ثانياً : أما نسبة النفاق إلى خيار هذه الأمة بدعوى أنه كان فى المدينة منافقين، وأن النبى أطلق لفظ الصحابة عليهم : "معاذ الله! أن يتحدث الناس أنى أقتل أصحابى "0
هذه الشبهة فى وهن بيت العنكبوت ، وهى فرية واضحة لا تثبت لها قدم 0
أولاً : لأن إطلاق لفظ الصحابة على المنافق كما جاء فى الحديث هذا الإطلاق لغوى، وليس اصطلاحى نظير قوله تعالى : أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ( ) وقوله تعالى : مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى( ) فإضافة صحبة النبى إلى المشركين والكافرين إنما هى صحبة الزمان والمكان لا صحبة الإيمان، وذلك كقوله تعالى فى حق سيدنا يوسف - عليه السلام - : يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ( )0
فالصحبة فى الحديث الشريف، بمعناها اللغوى كما فى الآيات السابقة، وليست الصحبة الاصطلاحية، فتعريفها السابق يخرج المنافقين والمرتدين0
ثم كيف يكون المنافقون من الصحابة بالمعنى الإصطلاحى وقد نفاه عنهم رب العزة بقوله : وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ( )0
ثم إن المنافقين لم يكونوا مجهولين فى مجتمع الصحابة الكرام ولم يكونوا هم السواد الأعظم، والجمهور الغالب فيهم، وإنما كانوا فئة معلومة آل أمرهم إلى الخزى والفضيحة، حيث علم بعضهم بعينه، والبعض الآخر منهم علم بأوصافه، فقد ذكر الله فى كتابه العزيز من أوصافهم ، وخصوصاً فى سورة التوبة ، ما جعل منهم طائفة متميزة منبوذة، لا يخفى أمرها على أحد، كما لا يخفى على أحد حالهم فى زماننا0
فأين هذه الفئة المنافقة ممن أثبت الله لهم فى كتابه نقيض صفات المنافقين، حيث أخبر عن رضاه عنهم، من فوق سبع سماوات، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس"( )0
ويدل على ما سبق من قلة المنافقين فى المجتمع الإسلامى، وأنهم فئة معلومة تكفل رب العزة بفضحهم فى الدنيا ، ولهم فى الآخرة عذاب عظيم0
ما رواه حذيفة بن اليمان( ) صاحب سر رسول الله فى المنافقين0 قال : قال النبى فى أمتى - وفى رواية - فى أصحابى إثنا عشر منافقاً فيهم ثمانيةٌ لا يدخلون الجنة، ولا يجدون ريحها حتى يَلِجَ الجَمَلُ فى سم الخياط0 ثَمانيةٌ منهم تَكْفِيكُهُمُ الدُّبِيْلَةُ، سِرَاجٌ من النارِ، يظهرُ فى أكتافِهِم حتى يَنْجُمَ من صُدَورِهِم"( )0
وعن ابن عباس ( ) - رضى الله عنهما- قال : كان رسول الله فى ظل حجرةٍ من حجره ، وعنده نفرٌ من المسلمين قد كان يقلصُ عنها الظل ، قال : سيأتيكم رجل ينظر إليكم بعين شيطان فلا تكلموه، فدخل رجل أزرق، فقال رسول الله على ما تسبُنى أنت وفلانٌ وفلان ، لقوم دعا بأسمائهم، فانطلق إليهم فدعاهم فحلفوا واعتذروا فأنزل الله يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ( )0
أما ما استدل به محمود أبو رية من قول "أُسَيْدُ بن حُضَيْر، لسعدُ بنُ عبادةُ إنك منافق تجادل عن المنافقين" وقوله فهؤلاء البدريون منهم من قال لآخر منهم : "إنك منافق ولم يكفر النبى لا هذا ولا ذاك"( )0
هذا الذى يزعمه الرافضى محمود أبو ريه من فرط جهله ، وتضليله وبتره لسبب ذلك القول0
وهو كما جاء فى الصحيحين فى قصة الإفك لما قال وهوعلى المنبر : "يا معشر المسلمين من يعذرنى من رجل قد بلغ أذاه فى أهل بيتى فوالله ما علمت على أهلى إلا خيراً0 ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً0 وما كان يدخل على أهلى إلا معى" فقام سعد بن معاذ الأنصارى فقال : أنا أعذرك منه يا رسول الله إن كان من الأوس ضربنا عنقه0 وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك . قالت عائشة - رضى الله عنها - فقام سعد بن عبادة( )، وهو سيد الخزرج ، وكان رجلاً صالحاً0 ولكن احتملته الحمية فقال لسعد بن معاذ : كذبت لعمر الله ! لا تقتله ، ولا تقدر على قتله فقام أسيد بن حضير( ) ، وهو ابن عم
سعد بن معاذ ، فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله ! لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين ... " ( )0
فكما هو واضح من قصة الحديث أن قول أسيد بن حضير لسعد بن عبادة "فإنك منافق" وقع منه على جهة المبالغة ، فى زجره عن القول الذى قاله حمية للخزرج ، ومجادلته عن ابن أُبى، وغيره0
ولم يرد أُسيدُ بإطلاقه "فإنك منافق" لم يرد به نفاق الكفر، وإنما أراد أنه كان يظهر المودة للأوس، ثم ظهر منه فى هذه القصة، ضد ذلك فأشبه حال المنافق، لأن حقيقته إظهار شئ وإخفاء غيره0
ولعل هذا هو السبب فى ترك إنكار النبى ( ) وهو أقوى دليل على الخصم0
ومع كل هذا فقد تقرر أن العدالة لا تعنى العصمة من الذنوب ، أو السهو، أو الخطأ، ومن فضل الله عليهم أن وعدهم بالمغفرة ، ولا سيما أهل بدر، وهم من أهلها .
فعن ابن عباس قال : قال عمر بن الخطاب كتب حاطب بن أبى بلتعه إلى أهل مكة فأطلع الله تعالى عليه نبيه فبعث علياً والزبير فى أثر الكتاب فأدركا امراة على بعير فاستخرجاه من قرن من قرونها، فأتيا به نبى الله فقرئ عليه ، فأرسل إلى حاطب فقال "يا حاطب إنك كتبت هذا الكتاب ؟ " قال نعم : يا رسول الله ! قال : "فما حملك على ذلك"؟ قال : يا رسول الله ! إنى والله لناصح لله ، ولرسوله ، ولكنى كنت غريباً فى أهل مكة وكان أهلى بين ظهرانيهم ، فخشيت عليهم ، فكتبت كتاباً لا يضر الله ورسوله شيئاً ، وعسى أن يكون فيه منفعة لأهلى0 قال عمر : فاخترطت سيفى وقلت : يا رسول الله أمكنى منه فإنه قد كفر فأضرب عنقه 0 فقال رسول الله : "يا ابن الخطاب وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل هذه العصابة من أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فإنى قد غفرت لكم " ( ) أ0هـ0
ثالثاً : أما ما استدلوا به من فرار بعض الصحابة يوم الزحف فى غزوتى أحد وحنين، ما استدلوا به حجة عليهم0
ففى عتاب الفرار يوم أحد قال : إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ثم ختم العتاب بقوله تعالى : وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ( )0
ولا تعيير بعد عفو الله تعالى عن الجميع( ) "0
وفى عتاب الفرار يوم حنين قال : وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثم يمتن رب العزة عليهم بقوله تعالى : ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ( )0
وهل تنزل السكينة إلا على قوم مؤمنين؟!! .
نعم تنزل السكينة على قوم مؤمنين ليزدادوا بها إيماناً مع إيمانه ، وصدق رب العزة : هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا( ) ويقول : إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا( )0
وهل بعد تلك الشهادات العلا لهم بالإيمان والتقوى من تعيير؟!!
اللهم إنى أعوذ بك من الخذلان وسوء العاقبة ... آمين .
المطلب الثانى
شبهاتهم من السنة النبوية والرد عليها
بعد أن تحايل أهل الزيغ من الرافضة وأذيالهم , على بعض آيات من القرآن الكريم , ليحوروا معانيها، ويستدلوا بهذا التحوير على عدم عدالة الصحابة , وتكفيرهم ، نجدهم هنا باسم السنة النبوية , ونصوصها يستشهدون بها أيضًا على عدم عدالتهم ، وهكذا عكس المشاغبون القضية ، ونظروا في السنة النبوية المطهرة ، فما وافق دعواهم منها قبلوه ، واعترضوا به على منازعيهم , وما احتجوا به لا حجة لهم فيه ؛ لأن ما استشهدوا به إما أحاديث مكذوبة ، وضعيفة ، وإما صحيحة مع ضعف دلالتها على ما احتجوا به .
وإليك ما استشهدوا به والجواب عنه .
1- استدلوا من السنة المطهرة : بقوله : "… ألا وإنه سَيْجَاءُ برجالٍ من أمتى فيؤخذُ بِهمْ ذات الشمال، فأقول : يا ربِّ أُصيحَابى، فيقال : إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح : وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ( ) فيقال : إن هؤلاء لا يَزَالوا مُرْتَدِّينَ على أعقابِهِم منذ فَارَقْتَهُم"( )0
2- واستدلوا بقوله : "لا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض "( ) وقالوا : تقاتل الصحابة فى صفين والجمل ( ) 0
3- واستدلوا بماروى عن بُرَيْدَة ( ) قال: جاء رجل إلى قوم فى جانب المدينة فقال : إن رسول الله أمرنى أن أحكم برأيى فيكم، فى كذا وكذا0 وقد كان خطب امرأة منهم فى الجاهلية، فأبوا أن يزوجوه، فبعث القوم إلى النبى يسألونه، فقال : "كذب عدو الله"0 ثم أرسل رجلاً فقال : "إن أنت وجدته ميتاً فأحرقه" فوجده قد لدغ فمات، فحرقه، فعند ذلك قال النبى : "من كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"( )
واستدل آخرون بالطعن فى عدالة الصحابة بما تمليه عليهم عقولهم الضالة من فهم أعوج لسيرة الصحابة ، وتاريخهم المجيد ، كما فعل مفتى الماركسية خليل عبد الكريم( ) فى كتابه "مجتمع يثرب العلاقة بين الرجل والمرأة فى العهدين المحمدى والخليفى" فقد صور مجتمع المدينة المنورة بقيادة رسول الله ، وخلفائه الراشدين ، وصحابته الأطهار، تصويراً شائناً قبيحاً، وجعله أشبه بمجتمع الحيوانات التى لا هم لها إلا إشباع الغرائز الجنسية بأى شكل ، وبغير ضابط من دين أو خلق ، غير مكترثين بالنصوص الدينية التى تمنعهم من هذا الهبوط "( ) 0
كما أصدر كتاباً آخر بعنوان " شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة " وهو من ثلاثة أسفار، الأول بعنوان " محمد والصحابة " والثانى " الصحابة والصحابة " والثالث " الصحابة والمجتمع " تناول فيها المؤلف تاريخ الصحابة ، وسيرتهم بأسلوب فج قبيح ينبئ عن سوء فهمه ، وجهله ، وحقده الدفين ، ضد صحابة رسول الله ، وكذلك فعل سعيد العشماوى( ) وغيرهم( ) .
ويجاب عما سبق بمايلى :
أولاًً : أما استدلالهم بحديث الحوض ، وما جاء فيه من وصف الصحابة بالردة 0 فهذا من زندقة الرافضة ، ومن تلبيسهم ، وتضليلهم 0
فإن المراد بالأصحاب هنا ليس المعنى الإصطلاحى عند علماء المسلمين ، بل المراد بهم مطلق المؤمنين بالنبى المتبعين لشريعته ، وهذا كما يقال لمقلدى أبى حنيفة أصحاب أبى حنيفة ، ولمقلدى الشافعى أصحاب الشافعى وهكذا ، وإن لم يكن هناك رؤية واجتماع .
وكذا يقول الرجل للماضين , الموافقين له فى المذهب : " أصحابنا " مع أن بينه وبينهم عدة من السنين ، ومعرفته لهم مع عدم رؤيتهم فى الدنيا ؛ بسبب أمارات تلوح عليهم يعرفها النبى 0
فعن حذيفة قال : قال رسول الله : " إن حوضى لأبعد من أَيَلَةَ مِن عَدَنٍ( )، والذى نفسى بيده ! إنى لأزودُ عنه الرجال كما يَزُودُ الرجلُ الإبلَ الغريبةَ عن حوضه "، قالوا: يا رسول الله ! أو تعرفنا ؟ قال : " نعم تَرِدُون علىَّ غُرًّا مُحَجَّلينَ من آثار الوضوء0 ليست لأَحدٍ غَيْرِكُم " ( ) 0
ولو افترضنا أن المراد بالأصحاب فى الحديث ، الأصحاب فى زمنه 0
فالمراد بهم : الذين صاحبوه صحبة الزمان والمكان مع نفاقهم ، كما سبق من قوله تعالى : ما ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ( )0
وعلى هذا فالمراد بالمرتدين من أصحابه فى الحديث هم الذين ارتدوا من الأعراب على عهد الصديق 0
وقد علمت أن التعريف الإصطلاحى للصحابة يخرج من ارتد ومات على ردته - والعياذ بالله -0
وفى الحديث ما يؤيد المعانى السابقة ، كقوله "أصيحابى" بالتصغير، كما جاء فى بعض الروايات ، قال الخطابى : "فيه إشارة إلى قلة عدد من وقع لهم ذلك ، وإنما وقع لبعض جفاة الأعراب ، ولم يقع من أحد من الصحابة المشهورين " ( )0 وفى قوله : "فيقال" : هل شعرت ما عملوا بعدك " "فيه إشارة إلى أنه لم يعرف أشخاصهم بأعيانها ، وإن كان قد عرف إنهم من هذه الأمة " ( )0
أما حمل الحديث على أصحاب رسول الله بالمعنى الإصطلاحى- فهذا ما لا يقوله مسلم!! وهو ما يدحضه ما سبق ذكره من تعديل الله ، ورسوله ، وإجماع الأمة على ذلك أ0هـ0
ثانياً : أما ما احتجوا به من حديث " لا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض " والزعم بأن الصحابة استحل بعضهم دماء بعض فى صفين والجمل 0
فالحق أن هذه الشبهة من أخطر الشبه ؛ التى احتج بها الرافضة الزنادقة ، وأذيالهم من دعاة العلمانية، الذين اتخذوا من تلك الفتن مادة دسمة ، طعنوا بها فى عدالة الصحابة، وفتنوا بذلك عوام المسلمين ، وممن لا علم له ، بضربهم على (الوتر الحساس) وهو : دعوى ظلم الصحابة لآل بيت رسول الله فى تلك الفتن "0
وهذا ما فعله طه حسين فى كتابه " الفتنة الكبرى - عثمان بن عفان " ( )0 وقال بقوله محمود أبو رية ( )، وغير واحد من دعاة الرافضة واللادينية ( ) 0
حتى وجدنا من يجهر من الرافضة قائلاً : "معاوية بن أبى سفيان " - كافر ابن كافر - ولعنة الله على معاوية ، فقد بغى على الحق ، وخرج على طاعة الإمام علىّ ، وشتت شمل المسلمين ، وفرق كلمتهم ، فأساس فرقة المسلمين إلى الآن هو معاوية الذى خرج عن طاعة الإمام على بن أبى طالب " ( ) 0
والجواب عن هذا الإفك يطول( )، وهو بحاجة إلى تحقيق دقيق( )0 أكتفى هنا بخلاصة القول 0
وهو أنه لا حجة لهم فى الحديث ، ولا فى الفتن التى وقعت بين سلفنا الصالح - رضوان الله عليهم أجمعين- والتى أشعلها سلفهم من الخوارج ، والرافضة ، والزنادقة 0
فقوله : "لا ترجعوا بعدى"0 بصيغة النهى والتحذير من قتال المؤمن 0
وإطلاق الكفر على قتال المؤمن محمول على معانى متعددة :
1- مبالغة فى التحذير من ذلك ، لينزجر السامع عن الإقدام عليه وليس ظاهر اللفظ مراداً ، أو أنه على سبيل التشبيه لأن ذلك فعل الكافر " ( )0
والمعنى لا تفعلوا فعل الكفار فتشبهوهم فى حالة قتل بعضهم بعضاً ( )0
2- وقيل : المعنى كفاراً بحرمة الدماء ، وحرمة المسلمين ، وحقوق الدين .
3- وقيل : كفاراً بنعمة الله .
4- وقيل : المراد ستر الحق ، والكفر لغة الستر، لأن حق المسلم على المسلم أن ينصره ويعينه ، فلما قاتله كأنه غطى على حقه الثابت له عليه .
5- وقيل: إن الفعل المذكور يفضى إلى الكفر، لأن من اعتاد الهجوم على كبار المعاصى جره شؤم ذلك إلى أشد منها ؛ فيخشى أن لا يختم له بخاتمة الإسلام .
6- وقيل : اللفظ على ظاهره للمستحل قتال أخيه المسلم 0
وقيل غير ذلك ( )0
وما جرى بين الصحابة من قتال لم يكن عن استحلال له حتى يحمل الحديث على ظاهره وأن قتالهم كفر، كما استدل الخوارج ومن شايعهم بقوله : "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"( )0
كيف والقرآن الكريم يكذبهم فى هذا الفهم السطحى قال تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( )0
فسماهم أخوة ، ووصفهم بأنهم مؤمنون ، مع وجود الاقتتال بينهم ، والبغى من بعضهم على بعض 0
يقول الحافظ ابن كثير( ) : " وبهذا استدل البخارى( ) وغيره على أنه لا يخرج عن الإيمان بالمعصية وإن عظمت ، لا كما يقوله الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ونحوهم ، وهكذا ثبت فى صحيح البخارى من حديث الحسن( )، عن أبى بكرة( ) قال : رأيت رسول الله على المنبر- والحسن بن علىّ إلى جنبه- وهو يقبل على الناس مرة ، وعليه أخرى ويقول : إن ابنى هذا سيد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ( ) .
فكان كما قال ، أصلح الله تعالى به بين أهل الشام ، وأهل العراق ، بعد الحروب الطويلة ، والواقعات المهولة " ( )
يقول الإمام ابن تيمية : "والذين قاتلوا الإمام على لا يخلوا : إما أن يكونوا عصاة ، أو مجتهدين مخطئين أو مصيبين ، وعلى كل تقدير، فهذا لا يقدح فى إيمانهم ، ولا فى عدالتهم ، ولا يمنعهم الجنة ، بما سبق من تصريح القرآن الكريم ، من تسميتهم إخوة ، ووصفهم بأنهم مؤمنون ، وتأكيد النبى ذلك بما سبق من رواية الحسن بن على عن أبى بكرة 0
ولهذا اتفق أهل السنة على أنه لا تفسق واحدة من الطائفتين ، وإن قالوا فى إحداهما أنهم كانوا بغاة( ) .
والبغى إذا كان بتأويل كان صاحبه مجتهدا ً، والمجتهد المخطئ لا يكفر، ولا يفسق وإن تعمد البغى فهو ذنب من الذنوب ، والذنوب يرفع عقابها بأسباب متعددة كالتوبة ، والحسنات الماحية ، والمصائب المكفرة ، وشفاعة النبى ودعاء المؤمنين، وغير ذلك( )0
وعلى هذا القول إجماع الأمة من علمائها0
يقول الإمام الآمدى : " فالواجب أن يحمل كل ما جرى بينهم من الفتن على أحسن حال، وإن كان ذلك إنما لما أدى إليه اجتهاد كل فريق من اعتقاده أن الواجب ما صار إليه ، وأنه أوفق للدين وأصلح للمسلمين 0
وإلا فجمهور الصحابة وسادتهم تأخروا عن تلك الفتن والخوض فيها كما قال محمد بن سيرين ( ) : "هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله عشرة آلاف فما حضر منهم مائة بل لم يبلغوا ثلاثين "
وإسناد هذه الرواية كما قال ابن تيمية أصح إسناد على وجه الأرض ( )0
وعلى هذا فالذى خاض فى تلك الفتن من الصحابة إما أن يكون كل مجتهد مصيباً، أو أن المصيب واحد ، والآخر مخطئ فى اجتهاده مأجور عليه0
وعلى كلا التقديرين ، فالشهادة والرواية من الفريقين لا تكون مردودة ، إما بتقدير الإصابة فظاهر، وإما بتقدير الخطأ مع الاجتهاد فبالإجماع " ( )0
يقول الإمام الجوينى( ) : "أما التوقف فى تعديل كل نفر من الذين لابسوا الفتن، وخاضوا المحن ، ومتضمن هذا، الإنكفاف عن الرواية عنهم ، فهذا باطل من دين الأمة، وإجماع العلماء على تحسين الظن بهم ، وردهم إلى ما تمهد لهم من المآثر بالسبيل السابقة ، وهذا من نفائس الكلام " ( ) أ0هـ0
وصدق عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى : "تلك دماء طهر الله منها سيوفنا فلا تخضب بها السنتنا " ( ) أ0هـ0
والله تبـارك وتعالـى
أعلـى أعلـم
ثالثاً : أما ما زعمه غلاة الشيعة , والمستشرقون , ودعاة اللادينية : أن بداية الوضع كانت فى زمن النبى ووقعت من صحابته الكرام ، واستدلالهم على ذلك بالروايات السابقة ( )0 وغيرها مما جاء فيها تخطئة بعض الصحابة لبعضهم ، واستشهادهم بذلك على أنهم كانوا يشكون فى صدق بعضهم بعضاً , وأنهم كانوا يكذِّب بعضهم بعضاً ، وأنهم تسارعوا على الخلافة وانقسموا شيعاً وأحزاباً ( وأخذ كل حزب يدعم موقفه بحديث يضعه على النبى ، واشتد ذلك الأمر فى العصر الأموى ، والعباسى حيث تحولت تلك الأكاذيب إلى أحاديث ، وتم تدوينها فى العصر العباسى ضمن كتب الحديث الصحاح ) ( )0
فهذا لا يقوله إلا قوم امتلأت قلوبهم حقداً وبغضاً على من اختارهم واصطفاهم ربهم لصحبة نبيه وتبليغ رسالته إلى الخلق كافة .
وهذا الكذب ترديد لما قاله قديماً جولد تسيهر( ) فى العقيدة والشريعة فى الإسلام قائلاً: " ولا نستطيع أن نعزو الأحاديث الموضوعة للأجيال المتأخرة وحدها، بل هناك أحاديث عليها
طابع القدم ، وهذه إما قالها الرسول أو هى من عمل رجال الإسلام القدامى … " ( ) .
وردد ذلك من غلاة الشيعة على الشهرستانى( ) فى كتابه " منع تدوين الحديث أسباب ونتائج" قائلاً : "السنة المتداولة اليوم ليست سنة الرسول , بل هى سنة الرجال ؛ فى كم ضخم من أبوابها ومفرداتها "( ) وفى موضع آخر : يصف السنة المطهرة بأنها " فقه الرجال " ( )
ويجاب عما سبق بما يلى :
بداية الوضع فى الحديث وبراءة الصحابة منه :
اختلف العلماء فى بداية ظهور الوضع فى الحديث إلى قولين :
1- القول الأول : ذهب إلى أن بدايته فى عهد النبوة المباركة ، وبه قال الدكتور صلاح الدين الأدلى( )، والدكتور فاروق حماده( )، واستدلوا على ذلك بما روى عن بُرَيْدَة قال : جاء رجل إلى قوم فى جانب المدينة فقال : إن رسول الله أمرنى أن أحكم برأيى فيكم، فى كذا وكذا0 وقد كان خطب امرأة منهم فى الجاهلية، فأبوا أن يزوجوه ، فبعث القوم إلى النبى يسألونه، فقال : "كذب عدو الله"0 ثم أرسل رجلاً فقال : "إن أنت وجدته ميتاً فأحرقه" فوجده قد لدغ فمات، فحرقه، فعند ذلك قال النبى : "من كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"( )0
2- القول الثانى : ذهب إلى أن بداية الوضع فى الحديث ، كانت باندلاع الفتنة التى أشعل فتيلها أقوام من الحاقدين على الإسلام ، ويعتبر الدكتور السباعى سنة أربعين من الهجرة هى الحد الفاصل بين صفاء السنة وخلوصها من الكذب والوضع ، وبين التزايد فيها واتخاذها وسيلة لخدمة الأغراض السياسية والإنقسامات الداخلية بعد أن اتخذ الخلاف بين علىّ ومعاوية - رضى الله عنهما- شكلاً حربياً سالت به دماء وأزهقت منه أرواح ، وبعد أن انقسم المسلمون إلى طوائف متعددة( )0 وربما بدأ قبل ذلك ، فى الفتنة التى كانت زمن عثمان ، هذا إذا اعتبرناها الفتنة المذكورة فى خبر ابن سيرين ، والتى جعلها بداية لطلب الإسناد 0
قلت : وأياً كانت بداية الوضع فى الحديث " زمن النبوة المباركة " أو " زمن الفتنة " فلا يمكن أن يكون الوضع فى الحديث وقع من صحابة رسول الله العدول الثقات المعروفين بالخيرية ، والتقى ، والبر والصلاح ، والذين يدور عليهم نقل الحديث 0
وعلى فرض صحة الروايات التى تشير إلى أن بداية الوضع زمن النبوة المباركة0 فليس فيها ما يشكك فى صدق الصحابة ، ولا ما يطعن فى عدالتهم ، إذ كان معهم منافقون ، وهم الذين كانت تصدر منهم أعمال النفاق ، فلا يبعد أن يكون الرجل الوارد فى تلك الروايات واحد من المنافقين ؛ وبذلك قال الدكتور صلاح الدين الأدلبى( )، والدكتور فاروق حمادة( ) دفاعاً عن تهمة الصحابة بالكذب عليه فى زمانه ، وهما من أصحاب القول الأول أن بداية الوضع زمن النبوة المباركة 0
وصفوة القول : " لا يختلف منصفان فى أن العصر الأول للإسلام يُعَـدُ أنظف العصور وأسلمها من حيث استقامة المجتمع , وتوفيق رجاله وصلاحهم ولا غرو ، فإن جلّ القيادات كانت من الصحابة "( ) .
كما أن التربية القرآنية التى غرسها فى صحبه ، وتعهدها بالرعاية كانت عاملاً فعالاً فى تطهير نفوس الأصحاب مما يطرأ عادة على القلوب والنفوس من أهواء ورغائب تكون مدعاة للكذب والإفتراء ، ولا سيما والقرآن الكريم يتوعد الكاذبين بأشد الوعيد ، ويصف الكذب بأنه ظلم قال تعالى:فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ ( ) .
وقال سبحانه : قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ( )0
وكيف يكذبون! وقد اشتهر وأعلن فيهم وتواتر عنهم قوله : "من كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" ( )
وكيف نتصور وصفهم بالكذب وعشرات من الآيات القرآنية ، وعشرات أخرى من الأحاديث النبوية تزكيهم وتصفهم بالصدق ، والإخلاص ، والتقوى؟!! .
بل إنه كما يقول الدكتور السباعى – رحمه الله تعالى- : " ليس من السهل علينا أن نتصور صحابة رسول الله الذين فدوا الرسول بأرواحهم وأموالهم وهجروا فى سبيل الإسلام أوطانهم وأقرباءهم ، وامتزج حب الله وخوفه بدمائهم ولحومهم : ليس من السهل أن نتصور هؤلاء الأصحاب يقدمون على الكذب على رسول الله مهما كانت الدواعى إلى ذلك( ) … ولقد دلنا تاريخ الصحابة فى حياة الرسول وبعده ، أنهم كانوا على خشية من الله وتقى يمنعهم من الإفتراء على الله ورسوله ، وكانوا على حرص شديد على الشريعة وأحكامها ، والذب عنها ، وإبلاغها إلى الناس ، كما تلقوها عن رسوله , يتحملون فى سبيل ذلك كل تضحية ويخاصمون كل أمير أو خليفة أو أى رجل يرون فيه انحرافاً عن دين الله لا يخشون لوماً ، ولا موتاً ، ولا أذى ، ولا اضطهاداً , وإليك أمثلة على صدق ذلك .
نماذج من جراءة الصحابة فى حفظ الشريعة :
1- فهذا الفاروق عمر الذى تهابه أعتى الإمبراطوريات ويخاف سطوته العادلة أشجع الرجال، تقف فى وجهه امرأة لتقول له : لا، وذلك حين دعا إلى أمر رأت فيه هذه المرأة مخالفة لتعاليم القرآن، فقد خطب الناس يوماً فقال : " أيها الناس لا تغالوا فى مهور النساء لو كان ذلك مكرمة عند الله لكان أولاكم بها رسول الله 0 فتتصدى له امرأة على مسمع من الصحابة فتقول له : "يا أمير المؤمنين! كتاب الله أحق أن يتبع أو قولك ؟ قال : بل كتاب الله ، فما ذلك ؟ قالت نهيت الناس آنفاً أن يغالوا فى صدق النساء والله يقول فى كتابه العزيز : وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا( ) فقال عمر : كل أحد أفقه من عمر، مرتين أو ثلاثاً , ثم رجع إلى المنبر فقال للناس : إنى نهيتكم أن تغالوا فى صدق النساء ؛ ألا فليفعل كل رجل فى ماله ما بدا له( ) .
2- ويذهب أبو بكر إلى محاربة الممتنعين عن أداء الزكاة فيعارضه عمر طالما أن نصاً نبوياً يمنع دماء من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وهو قوله "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله، فقد عصم منى ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله"، فقال أبو بكر : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، فإن الزكاة حق المال والله لو منعونى عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله ، لقاتلتهم على منعه فقال عمر بن الخطاب : فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبى بكر للقتال فعرفت أنه حق " ( ) 0
3- وهذا على بن أبى طالب يعارض عمر فى همه برجم امرأة ولدت لستة أشهر، فقال له علىّ : ليس ذاك لك : إن الله يقول فى كتابه وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا( ) فقد يكون فى البطن ستة أشهر، والرضاع أربعة وعشرين شهراً فذلك تمام ما قال الله : ثلاثون شهراً ، فخلى عنها عم ر"( )0
4- وهذا أبو سعيد الخدرى ينكر على مروان من الحكم والى المدينة تقديم الخطبة على صلاة العيد مبيناً أنه عمل مخالف للسنة النبوية ( ) 0
5- وها هو ابن عمر- كما يروى لنا الذهبى فى "تذكرة الحفاظ" يقوم - والحجاج( )يخطب فيقول : أى ابن عمر متكلماً عن الحجاج : عدو الله استحل حرم الله , وخرب بيـت الله وقتـل أولياء الله .
وروى الذهبى أن الحجاج خطب فقال : إن ابن الزبير بدل كلام الله ، فقال ابن عمر: كذبت لم يكن ابن الزبير يستطيع أن يبدل كلام الله ولا أنت ، قال الحجاج : إنك شيخ قد خرفت اقعد0 قال ابن عمر : أما إنك لو عدت عدت ) ( )0
مثل هذه الأخبار، ومئات أمثالها قد استفاضت بها كتب التاريخ ، وهى تدل دلالة قاطعة على ما كان عليه الصحابة من الشجاعة ، والأمانة ، والجرأة فى الحق ، والتفانى فى الدفاع عنه ، بحيث يستحيل أن يكذبوا على رسول الله اتباعاً لهوى أو رغبة فى دنيا ، إذ لا يكذب إلا الجبان ، كما يستحيل عليهم أن يسكتوا عمن يكذب على رسول الله وهم الذين لا يسكتون عن اجتهاد خاطئ ؛ يذهب إليه بعضهم بعد فكر وإمعان نظر0
وهذا غاية ما يكون بينهم من خلاف فقهى لا يتعدى اختلاف وجهات النظر فى أمر دينى وكل منهم يطلب الحق وينشده ( ) 0
وما يرد من ألفاظ التكذيب على ألسنة بعضهم ، فإنما هو تخطئة بعضهم لبعض، وبيان ما وقع فيه بعضهم من وَهَم الكلام 0
والكذب بهذا المعنى لا يعصم منه أحد ، لا من الصحابة ، ولا ممن دونهم ، وقد جاءت كلمة "الكذب" فى أحاديث كثيرة بمعنى الخطأ ، من ذلك مايلى :
1- قول النبى : "كذب من قال ذلك"( ) فى الرد على من ظن أن عامر بن الأكوع( ) : "قتل نفسه فى غزوة خيبر حيث أصابه سيفه ، وهو يبارز "مرحباً" ملك اليهود .
2- وقوله : "كذب أبو السنابل( )، ليس كما قال، قد حللت فانكحى"0 وذلك فى الرد على أبى السنابل الذى قال لسبيعة بنت الحارث( )، وقد وضعت حملها بعد وفاة زوجها
بأيام : إنك لا تحلين حتى تمكثى أربعة أشهر وعشراً0 فذكرت ذلك لرسول الله فقال : " كذب أبو السنابل ، ليس كما قال "( )0
وعلى نحو هذا الإستعمال لكلمة "كذب" جاء استعمال الصحابة لها .
1- كقول ابن عباس - رضى الله عنهما - عن نوف البكالى( ) : "كذب نَوْف" عندما قال صاحب الخضر ليس موسى بنى إسرائيل ، وإنما موسى آخر - ونوف من الصالحين العبا ، ومقصود ابن عباس : اخطأ نوف ( )0
2- ومنه قول عبادة بن الصامت : "كذب أبو محمد" حيث قال : " الوتر واجب " .
3- ومنه قول عائشة - رضى الله عنها - لما بلغها أن أبا هريرة يحدث بأنه "لا شؤم إلا فى ثلاث" قالت : "كذب - والذى أنزل على أبى القاسم - من يقول : " لا شؤم إلا فى ثلاث - ثم ذكرت الحديث " ( ) .
4- "واسْتَمَعَ الزبير بن العوام ، إلى أبى هريرة يحدث ، فجعل يقول كلما سمع حديثاً : كذب … صدق … كذب ، فسأله عروة ابنه : يا أبت ما قولك : صدق … كذب 0 قال : يا بنى : أما أن يكون سمع هذه الأحاديث من رسول الله ، فلا شك فيه ، ولكن منها ما يضعه على مواضعه ، ومنها ما وضعه على غير مواضعه " ( ) .
فعائشة والزبير- رضى الله عنهما - لا يريدان بقولهما - كذب أى اختلق - حاشاهم من ذلك – وإنما المراد اخطأ فى فهم بعض الأحاديث ؛ ووضعها فى غير محل الإستشهاد بها، كما صرح الزبير بن العوام ، فعدالة أبى هريرة بين الصحابة أعظم من أن تمس بجرح ، وما اتهم به كذباً من أعداء الإسلام تصدى للرد عليه رهط من علماء الإسلام ( )0
فهذا كله من الكذب الخطأ، ومعناه "اخطأ قائل ذلك"0 وسمى كذباً ؛ لأنه يشبهه , لأنه ضد الصواب ، كما أن الكذب ضد الصدق، وإن افترقا من حيث النية والقصد( ) .
وما استدرك به بعض الصحابة بعضاً فى الرواية لا يعد كذباً ، كيف لا ! والصحابة يتفاوتون فى روايتهم عن النبى بين مكثر ومقل ، يحضر بعضهم مجلساً للرسول يغيب عنه آخرون، فينفرد الحاضرون بما لم يسمعه المتخلفون ، حتى يبلغوا به فيما بعد0 ومن هذا القبيل كتاب " الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة " للإمام بدر الدين الزركشى0 كما وقع لجماعة من الصحابة غيرها ، استدركوا على مثيلهم ، ونفوا ما رواه وخطؤوه فيه 0
ويدل على ما سبق ما رواه الحاكم عن البراء بن عازب : " ليس كلنا كان يسمع حديث النبى ، كانت لنا ضيعة وأشغال ، ولكن كان الناس لم يكونوا يكذبون فيحدث الشاهد الغائب " ( )0
وعن القاسم بن محمد( ) قال : " لما بلغ عائشة قول عمر وابن عمر مرفوعاً : إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه قَالَتْ إِنَّكُم لَتُحَدِّثُونِّىٍ عَنْ غَيْرِ كَاذِبَيْنِ وَلاَ مُكَذَّبَيِنْ وَلِكَنَّ السَّمْعَ يُخْطِئُ( )، وفى رواية قالت : "يغفر الله لأبى عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب، ولكنه نسى
أو اخطأ، إنما مر رسول الله على يهودية يُبكى عليها فقال : إنهم ليبكون عليها، وإنها لتعذب فى قبرها"( )0
كل ذلك وغيره الكثير، يدل على ثقة الصحابة بعضهم ببعض، ثقة لا يشوبها شك ولا ريبة، لما يؤمنون به من تدينهم بالصدق، وأنه عندهم رأس الفضائل، وبه قام الإسلام ، وساد أولئك الصفوة المختارة من أهله الأولين .
وصدقت أم المؤمنين عائشة - رضى الله عنهما - ما كَانَ خُلُق أَبْغضَ إلى أصحاب رسول الله من الكذب( )0
وعلى هذا : فإذا ورد على لسان أحد من الصحابة نفى ما رواه نظيره ، أو قوله فى مثيله : كذب فلان …، أو نحو هذا من العبارات، فالمراد به أنه أخطأ أو نسى؛ لأن الكذب عند أهل السنة هو الإخبار عن الشئ بخلاف ما هو عليه عمداً أو نسياناً أو خطأ ، ولكن الإثم يختص بالعامد ، كما جاء فى الحديث : " من كذب علىَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " ( )0
قال الإمام النووى ( ) : بعد تعريفه للكذب عند أهل السنة : "وقالت المعتزلة ، شرطة العمدية ودليل خطاب هذه الأحاديث لنا، فإن قيده عليه السلام بالعمد ، لكونه قد يكون عمداً، وقد يكون سهواً ، مع أن الإجماع والنصوص المشهورة فى الكتاب والسنة متوافقة متظاهرة على أنه لا إثم على الناسى والغالط ، فلو أطلق الكذب لتوهم أنه يأثم الناسى أيضاً فقيده وأما الروايات المطلقة ، فمحمولة على المقيدة بالعمد ( ) 0 أ0هـ0
الرد على زعم أعداء السنة المطهرة بأن لفظة "متعمداً" فى حديث "من كذب علىّ" مختلقة :
زعم أعداء السنة بأن لفظة "متعمداً" مختلقة ، وأدرجها العلماء ليسوغوا بها ، وضع الحديث على رسول الله حسبة من غير عمد ، كما كان يفعل الصالحون من المؤمنين ويقولون "نحن نكذب له لا عليه " أو يتكئ عليها الرواة فيما يروونه عن غيرهم على سبيل الخطأ ، أو الوهم أو سوء الفهم … إلخ"( )0
الجـواب : هذا زعم كله كذب لأن " لفظة متعمداً " أخرجها البخارى فى صحيحه فى أكثر رواياته( )،واتفق معه الإمام مسلم فى تخريجها فى صحيحه( )0
وأفاض الحافظ ابن حجر فى بيان ثبوتها ( )، ورغم ذلك يكذب محمود أبو رية بذكره للبخارى وابن حجر ضمن من لا يثبتون هذه الزيادة ( ) 0
يقول فضيلة الدكتور محمد أبو شهبة : ولا أحد يدرى - كيف يجتمع الوضع حسبة مع عدم التعمد ؟ إن معنى الحسبة أن يقصد الواضع وجه الله ، وثوابه ، وخدمة الشريعة – على حسب زعمه – بالترغيب فى فعل الخير والفضائل ، وهم قوم من جهلة الصوفية ، والكرامية ، جوزوا الوضع فى الترغيب والترهيب ، وربما تمسكوا بقوله تعالى : فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ ( ) .
وقوله "من كذب علىَّ ليضل به الناس"( )0 فكيف يجامع قصد الوضع ، عدم التعمد ؟!
وتفسير الحسبة بأنها عن غير عمد غير مقبول ولا مسلم 0
ثم إن رفع إثم الخطأ أو السهو ليس بهذه الكلمة ، وإنما ثبت بأدلة أخرى ، وقد تقرر فى الشريعة أنه لا إثم على المخطئ والناسى ، ما لم يكن بتقصير منه فذكر الكلمة لا يفيد هؤلاء الرواة شيئاً ما دام هذا أمراً مقرراً .
Bookmarks