د . عيــــد الدويهيــــس
من سلبيات العلمانية
أدى الاقتناع بالعلمانية إلى كوارث ومصائب كثيرة ، ولعنا لا نبالغ أبداً إذا قلنا أن أكبر كارثة أصابت البشرية خلال القرون الثلاثة الماضية هي العلمانية ، فهي الأم لأغلب الكوارث والانحرافات العقائدية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية التي حصلت ، وإليكم بعضاً من أهم سلبياتها :
1- انتشار الجهل الفكري : أدى الاقتناع بالعلمانية إلى انتشار الجهل الفكري بين البشر ، فلم تعد هناك حقائق فكرية تؤمن بها البشرية ، ولم يعد هناك علم فكري صحيح ، وأخذ الكثيرون من فلاسفة وسياسيين واقتصاديين وغيرهم يتكلمون في العلم الفكري عن جهل ، ويؤلفون النظريات العقائدية والاقتصادية والاجتماعية كالرأسمالية والشيوعية والنازية والوجودية والفرويدية ...الخ مما أدى إلى ضياع الحقائق الفكرية ، وضياع البشرية ، والعلم يوحد والجهل يؤدي إلى اختلافات وتناقض وتخبط وجدل وصراعات وحروب ، فالعلمانية هي التي أعمت البشرية وتركتها تسير في طريق كله أشواك بدون بصيرة وحكمة ونور ، وهذه السلبية هي أساس السلبيات الأخرى ، ونقدها الخاطئ ، لما بقي عند البشر من حقائق فكرية دينية أو وراثية أو عقلية جعل الكثيرين يرفضون هذا الحقائق ويعتبرونها تخلفاً وجهلاً ورجعية ، فهي لم تكتف بنشر جهلها بل ساهمت حتى في تحطيم حقائق فكرية يملكها الآخرون فالعلمانية أعطت الجهل " الشهادات العلمية المزورة " ، وضاعت بلايين الساعات في جدل لا ينتهي ، وصرفت أموالاً طائلة على جامعات ومعاهد ومدارس وكتب وبرامج وأنشطة أغلب ما فيها هو جهل وضياع وصحيح أن العلمانية شجعت الحوار ، ولكن الأغلبية الساحقة من هذه الحوارات لا يصل أصحابها إلى اتفاق ، بل هي حوار الطرشان ، ومن المعروف أن الشيوعيين هم أكثر الناس علمانية وعداء للدين ، وهذا ما جعلهم أشد الناس جهلاً وضياعاً مما انعكس على تخلف عقائدهم وأنظمتهم السياسية واقتصادهم وحياتهم الاجتماعية ، فهل من الحكمة أن تتجرع البشرية كل هذه المرارة حتى تقتنع بفشل الشيوعية العلمانية وهل من الصواب أن ندخل ناراً عظيمة ونحترق بها حتى نتأكد بأنها شر ، وكان علماء المسلمين يتهمون بالتخلف والرجعية لأنهم كانوا يقولون الشيوعية كفر وجهل وسخافة وخطأ ، وأين هم اليوم المتشدقون بالعلمية والتقدم والتفكير العلمي ؟ أما العلمانية الغربية فهي أقل جهلاً من الشيوعية ، فهي لم تدع " العلمية " بتطرف ، ولكن لا زالت تقول أنا ضائعة ، ولا زالت تفكر كيف تصل للحقائق ؟ ولا زالت تنتج نظريات فكرية تصيب وتخطئ ، ولا زالت وستبقى وللأبد خاضعة للآراء الشخصية وللواقع وتأثيراته ، وما تقرره الأغلبية أو الأقلية أيهما أقوى ولم تعد تهتم كثيراً بأين الحقائق افكرية وأين الحق وأين المبادئ الصحيحة ؟ بل أصبحت مادية تدور أفكارها حول الاقتصاد والمال والقوة والشهوات .
2- البعد عن الله سبحانه وتعالى : ساهمت العلمانية في ابتعاد الكثيرين عن الأديان السماوية مما أدى إلى ابتعاد البشر عن خالقهم ، فالابتعاد عن الكنيسة والمسجد وعلماء الدين أدى إلى الابتعاد عن الله سبحانه وتعالى ، والعلمانية تدعونا للابتعاد عن الدين ، ولفصل الدين عن الدولة ، بل عن الحياة كلها ، وهذا ابتعاد عن الله سبحانه وتعالى ، والدين هو القرب من الله وعبادته وذكره ، ومعرفة قصص أنبيائه وشريعة الله وأمر الله ، وهذه أمور أصبحت لا تجدها في السياسة ولا أنظمة التعليم العلماني ولا التفكير العلماني ، ولا فهمنا للغاية من خلق الإنسان ، فاتهام العلمانية للأديان السماوية بأنها رجعية وتخلف وأساطير وأنها ضد العلم والتقدم والحضارة وربطها جهلاً بما صدر عن بعض المتعصبين للأديان من حروب وجرائم وهل أدى في النهاية إلى ابتعاد كثير من البشر عن الله سبحانه وتعالى ورسله وكتبه مما أغلق أبواب كثيرة للخير وفتح أبواباً كثير للشر ولو انتقدت العلمانية الجمود والتخلف المنسوب خطأ للأديان السماوية لقلنا أحسنت ولكنها أحرقت الأخضر واليابس ومن الحقائق المعروفة في تاريخ البشرية وبعيداً عن تشويه العلمانيين ، أن أفضل البشر حكمة وأخلاقاً ورحمة هم المؤمنون حقاً بالله سبحانه وتعالى والقريبون من كتبه ، وقد قالوا قديماً : رأس الحكمة مخافة الله وقالوا : خف ممن لا يخاف الله سبحانه وتعالى ، فالحقائق الواقعية القديمة والحديثة تثبت أن هؤلاء لا يظلمون ولا يكذبون ، وليست لديهم طموحات غير مشروعة ولم تفتنهم الدنيا بمناصب أو مال أو شهوات ، أسرهم أفضل الأسر وأكثرها ترابطاً ورحمة ، وصحيح أنه ظهر في تاريخ البشر نماذج بشرية متميزة بالخير إلا أن أغلب المتميزين هم أتباع الرسل ، وتميزهم في مختلف المجالات أي هم يجسدون النموذج البشري الراقي ومن المعروف أن سعادة الإنسان مرتبطة كلياً بالعلاقة الصحيحة مع الله سبحانه وتعالى ، فهذه العلاقة هي باب العلم الفكري ، وباب العبادة ، وباب الإخلاص في العمل وباب الأخلاق الرفيعة .. الخ وقد يقول قائل إن في هذا تجن على العلمانية لأن هناك كثير من العلمانيين يؤمنون بوجود الله وليس كلهم ملحدين ، ونقول الإيمان بوجود الله سبحانه وتعالى بدون معرفته وعبادته وتصديق أنبيائه والالتزام بشرائعه هو كفر بالله ، فكفار قريش كانوا يؤمنون بالله ، قال تعالى : " ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله " سورة لقمان (25) فالعلمانية جعلت حتى هؤلاء بعيدين عن الله ، فهم يبحثون عن العلم الفكري في أقوال الفلاسفة والمفكرين ، وشجعت الكثيرين على الانحرافات الأخلاقية لأن التمسك بالأخلاق والعبادة أصبح من صفات الرجعية والتخلف ، ونقول ونكرر نحن ض المفاهيم الخاطئة التي نسبت للأديان فنحن ضد عبادة القبور ، وضد الفتاوى والاجتهادات الخاطئة وضد ظلم وانحراف الحكام والأغنياء وضد إهمال الدنيا والانعزال للآخرة وضد عقائد وأساطير وحكايات مزورة تنسب جهلاً للأديان السماوية ، فلا يوجد في الإسلام تصوف ولا رجال دين ولا رفض لحقائق مادية فالعلمانية هي أم الإلحاد والزندقة ، قال جود " لا أستطيع أن أعد أكثر من ستة من معارفي ممن أعدهم مؤمنين بالمسيح والمسيحية ، في حين أستطيع أن أعد بسهولة أكثر من مائة من معارفي الملحدين " (1) وقال الغزالي عن الفلاسفة " فإني رأيتهم أصنافاً ، ورأيت علومهم أقساماً ، وهم على كثرة أصنافهم يلزمهم وصمة الكفر والإلحاد ، وإن كان بين القدماء منهم والأقدمين ، وبين الأواخر منهم والأوائل تفاوت عظيم في البعد عن الحق والقرب منه " (2) وما قلناه لا يتعارض مع وجود كنائس ومساجد وأعمال خيرية وعبادات ومؤسسات دينية وغير ذلك في الدول العلمانية ولا ينفي أيضاً وجود احترام للأديان وللمناسبات الدينية في دول علمانية .
3- المادية : من أهم أسباب انتشار سيطرة المادة على الإنسان العصري هو اقتناعه بالعلمانية أو نتيجة انتشار العلمانية في طريقة التفكير البشري ، فأهم شيء أصبح اليوم عند الكثيرين هو الحصول على المال ، وبأي طريق ومستقبل الكثيرين أصبح يعني فقط المستقبل المادي ، وهذا ينطبق على الأفراد والدول ولا شك أن المال مهم وضروري ، ولكنه أخذ مساحة كبيرة جداً ، وأكثر مما يستحق ، فالمال الآن قوة كبيرة لشراء النفوس والمناصب التنفيذية والتشريعية ، وكما قالت أم جون كنيدي : " معك دولار فقيمتك دولار " أي لا قيمة للإنسان ، بل القيمة الوحيدة هي للمال وأصبح يجوز في سبيل الحصول على المال أن تنافق وتكذب وتغش ، فالمبادئ والقيم الروحية كالإخلاص والصدق والأمانة لا مكان لها في نفوس كثيرين ، بل يتهم بالسذاجة والسطحية من يرفض قبول رشاوى أو هدايا مشبوهة أو يرفض مبدأ الوسيلة تبرر الغاية هذا المبدأ الذي شجعه ميكافيللي الفيلسوف العلماني ، فالعبقرية العلمانية صنعت لنا إنساناً من نوعية " ينهم دينارهم " فالمصالح وأهمها المال هي التي تحرك الكثيرين وجعلت عقيدة الإنسان هي الحياة الدنيا والتمتع بها فلا مكان لحياة أخروية ولا يوجد ثواب ولا عقاب إلهي ، ولا يوجد خالق أنعم علينا بالخير والصحة والمطر والأولاد والهواء والماء والشمس والأكل والملبس ... الخ ولا توجد شريعة إلهية وأحكام نلتزم بها تمنع من الكذب والنفاق والغرور والفساد والظلم والمال الحرام ... الخ ولو آمن الإنسان بأن الرازق هو الله سبحانه وتعالى ، وأن المناصب هي بيد الله سبحانه وتعالى يعطيها من يشاء وينزعها ممن يشاء وغير ذلك من العقائد الإسلامية لأمتنع عن كثير من الانحرافات ، وأصحاب الأعمال وأصحاب المناصب هم الآلهة التي يعبدها الإنسان العصري فهم عبيد له يتضاحكون إذا ضحك ، ويتباكون إذا بكى ، ففي سبيل المادة يتم التضحية بكثير من المبادئ ، وهذه هي الحالة التي وصل لها إنسان الحضارة الغربية بشكل عام كان المفروض أن تنتج غنى العالم الغربي إنساناً عزيزاً وقوياً ، ولكن العلمانية جعلته ضعيفاً ، فهو لا يعرف القناعة ولا يؤمن بأن الرزق من الله ، وهدفه التمتع بأكبر قدر من الرفاهية في المسكن والملبس والمأكل والمركب ، ولهذا تجده يسعى نهاراً وليلاً ليعيش حياة مادة تعيسة فحياته أصبحت عملاً مرهقاً وجنساً وخمراً فنصفها للمال ونصفها للشهوات ، وليس من الخطأ أن نطلق عليه إنسان مالي جنسي ، فالعمود الفقري لحياته هو المال والجنس ، وإذا كانت الأديان السماوية تقول للإنسان التزم بالمبادئ والأخلاق في حياتك الدنيوية ، فالعلمانية تقول له تمتع بالشهوات والملذات فأنت تعيش مرة واحدة ، وهذه فلسفة شيطانية ، والعقائد المادية تجعل علاقة الإنسان بالله وبوالديه وجيرانه وأقاربه ضعيفة ، ومن المعروف أن الغربيين من أكثر شعوب الأرض قطعاً للرحم ، وإهمالاً لآبائهم وأمهاتهم ، وهذا تصرف طبيعي لأنه إذا كان الدافع للعلاقات الاجتماعية مادياً فكثير من هذه العلاقات غير ذات فائدة ، في حين أن الإسلام يجعل من أهم الواجبات على المسلم طاعة أمه وأبيه ، ويجعلهما أولويتهما تأتي قبل الجهاد في سبيل الله ، ويمنعه حتى أن يقول لهما كلمة أف ويجعل رضى الله من رضاء الوالدين ، وتبقى نقطة أخيرة وهي أن الإسلام لا يتجاهل أهمية الجوانب المادية في حياة الإنسان ، فهو يدعوه للعمل والاجتهاد فيه ، فالمال من ضروريات الحياة ، ولا يمنعه من الطموح المشروع للمناصب ، ولا يمنعه من الاستمتاع بالحياة ، بل يدعوه لأن يسعى في طلب رزقه ، وأن يطور نفسه علمياً وعملياً ، وأن يتمتع بالأمور الحلال وهي كثيرة جداً ، فاعمل واستثمر واقرأ واجتهد وتزوج وكل واشرب ضمن ضوابط شرعية ، وبدون أن تطغى هذه الجوانب أو تتعارض مع العقائد والعبادات وعلاقتك بالله سبحانه وتعالى .
يتبع
Bookmarks