بقلم : صفاء الضوي أحمد العدوي

نادرة تلك الكتب التي تستوعب أجزاء البحث الذي تتناولهه، وأقل منها أن يكون مع الاستيعاب؛ العمق، والجُدة، والأصالة، والتحقيق، وأندر النادر أن تجمع مع كل ذلك الإمتاعَ والأسلوب الأدبي الرصين، من تلك الكتب التي تستولي على القارئ المثقف الجاد، وتحرك عقله، وتدفعه للنظر المتعمق في القضايا المعروضة كتاب العلمانية للدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي.

المقدمة:

قدم المؤلف للكتاب بمقدمة بين فيها أن الإسلام هو أعظم منن الله على البشرية عامة، وعلى أمة الإسلام خاصة، وأن كلمة لا إله إلا الله هي روح هذه الأمة، وسر وجودها، ومنبع حياتها، وأن الأمة بقيت ردحاً من عمرها تتبوأ منزلة عالية بين الأمم حين كانت تدرك معنى هذه الكلمة، وتعمل بمقتضاها.

ثم بدأ نور هذه الكلمة في الخفوت، فبدأ شأن الأمة في الهبوط، حيث ظلت تفقد من ذاتيتها وأصالتها بمقدار ما تفقد من نور هذه الكلمة، في علاقة مطردة تؤكد سنة من سنن الله لم تتبدل على مدار التاريخ.

وكان من أعراض هذا المرض المدمر ؛" فقدان الذات": الانبهارُ القاتل بالأمم الأخرى، والاستمداد غير الواعي من مناهجها ونظمها وقيمها، وكان مما زاد هذا المرض خطورة؛ الجهل بحقيقته، وعدم إدراك أسبابه، فكان التشخيص الخاطئ سبباً في العلاج الخاطئ الذي أدى إلى مضاعفات جديدة.

لقد تصور البعض أن هذا الداء يمكن علاجه بترقيعات نتلقاها من الكفار الذين أسموهم العالم المتحضر!.

كانت قابليتنا للذوبان مبرراً للحرب الشرسة التي شنها الغزاة على أفكارنا وأخلاقنا، حيث طمعوا في القضاء على مقومات وجودنا قضاء تاماً، فأقبلت طلائع ذلك الغزو الفكري تحمل شعارات متباينة الاتجاهات؛ عليها من البهرجة والبريق ما يكفي لتضليل أمة منبهرة مهزوزة.

جاءت الاشتراكية والقومية والديمقراطية وفلسفة التطور واللادينية وغيرها من المسميات والشعارات، وتغلغلت هذه الأوبئة في العقول والقلوب التي فقدت رصيدها من " لا إله إلا الله " أو كادت، ونشأ على ذلك فلول ممسوخة أخذت على عاتقها إكمال عملية المسخ لباقي الأمة، وتعبيد الشعوب المسلمة للغرب، والإجهاز على منابع الحياة والقوة الكامنة في دينها، لكن الله - تعالى - تدارك الأمة برحمته، فأنبت من بين هذا الركام والظلام رجالاً صادقين، وأطلت من بين النيام والأموات صحوة جهادية أصيلة، طلبت الهداية والعلاج من كتاب الله - تعالى - وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فعادت إلى صفاء العقيدة، وسلامة المنهج، ولمحت ما في المناهج الموجودة من انحراف وضلال، فلفظت سموم الغزو الفكري الذي كاد أن يقضي عليها، وانتبهت إلى ما يروج في ساحاتنا الفكرية من مذاهب هدامة، كان منها مذهب العلمانية الذي كانت سحابة كثيفة من الضبابية تغشاه وتعمي حقيقته عن المثقفين فضلاً عن العامة، مما جعل أسهمها لا تزال مرتفعة في أسواقنا سواء باسمها الصريح، أو تحت شعار الديمقراطية، أو شعار " الدين لله، والوطن للجميع، أو غير ذلك من الشعارات.

كان هذا أحد الأسباب التي حدت بالمؤلف أن يتناول العلمانية بتلك الدراسة الجادة العميقة الموسعة، وكان السبب الثاني هو أن موضوع العلمانية المتمثل في عزل الدين عن توجيه الحياة يصادم مفهوم لا إله إلا الله، ومع ذلك نجده موجوداً في كافة مناحي الحياة في مجتمعات المسلمين، مما يستلزم كشف الزيف الذي يلفه ويخفي حقيقته عن المسلمين.

ثم عرف المؤلف بالعلمانية، وبيّن الخطأ في ترجمة الكلمة الإنجليزية secularism بالعلمانية، وأن هذه الكلمة لا صلة لها بالعلم، وأن الترجمة الصحيحة للكلمة هي اللادينية، ثم أيد ذلك بإيراد عدة تعريفات من دوائر المعارف الأجنبية للعلمانية، كلها تؤكد أن معنى ال (secularism ) في بيئتها التي نشأت فيها: الروح الدنيوية، أو الاتجاهات الدنيوية، أو الحركة المضادة للديانة المسيحية، وأنها نظام من المبادئ والتطبيقات يرفض أي شكل من أشكال الإيمان والعبادة، وأن الدين لا دخل له في شؤون الدولة، ولا سياسات الحكومة، وخاصة التربية العامة، وأنها دنيوية مادية لا تقبل المفاهيم التي تتعلق بالدين والروحانية، فالتربية التي تعتمدها لا دينية، فالدين في معنى هذا المذهب لا ينبغي أن يكون أساساً للأخلاق والتربية، ويقدم المستشرق " أربري " في كتابه (الدين في الشرق الأوسط) نموذجاً لأهم معاني العلمانية وهو فصل الدين عن الدولة بالجمهورية التركية، ثم يعلق المؤلف على العبارة المشهورة في وصف العلمانية " فصل الدين عن الدولة " بأنها تعريف غير دقيق، وأن مدلولها الصحيح هو " إقامة الحياة على غير الدين "، فالإسلام والعلمانية - أي اللادينية - نقيضان لا يجتمعان.

قسم المؤلف الموضوع إلى خمسة أبواب: الباب الأول دين أوروبا أو المسيحية بين التحريف والابتداع وفيه فصلان: الأول: التحريف: تكلم فيه أولاً عن تحريف العقيدة ( قضية الألوهية - تحريف الأناجيل )، وثانياً عن تحريف الشريعة، وفصل الدين عن الدولة.

والفصل الثاني: البدع المستحدثة في الدين النصراني: تكلم في هذا الباب عن دين أوروبا النصرانية الذي انحرفت عنه إلى اللادينية، وأثبت ما اعترى النصرانية من تحريف وتبديل، وأنه لم يعد يمثل دين الله الحق لا في العقيدة، ولا في الشريعة، بل تحول إلى مجموعة من الخرافات والبدع تولت الكنيسة كِبَر تسويقها وترويجها، وإيهام الناس أن ذلك هو الدين النصراني، وكان هذا التحريف الذي أصاب الدين النصراني على يد القساوسة الكذبة هو السبب الممهد للعلمانية، حيث طغت الكنيسة ودوخت أتباعها في خرافات يرفضها العقل، وتمجها الفطرة، فقد وقع أولاً تحريف العقيدة، وتحريف الأناجيل التي بلغت سبعين إنجيلاً كلها شاهدة على أنها محرفة، يكذب بعضها بعضاً، هذا فوق مئة وعشرون رسولاً منهم من ألّف أناجيل، ومنهم من كتب رسائل، وفرق وطوائف تزيد على الحصر تختلف في قضايا أساسية بالغة الأهمية.

ولقد كان انعقاد مجمع نيقية الشهير في عام 325م يمثل معلماً من معالم التاريخ البارزة، وشاهداً على أن النصرانية قد حرفت وبدلت، وفقد الناس الثقة في حقيتها وقدسيتها، وبعد تحريف الأناجيل جاء تحريف الشريعة، وكان من أولى فصول هذا التحريف فصل الدين عن الدولة،

بين المؤلف أن الشريعة النصرانية لم يكتب لها التطبيق على المستوى العام، وذلك لسببين متلازمين: الأول أن الشريعة النصرانية لم تقم لها دولة تتبناها وتقيمها في الأرض، فقد توفى الله عيسى - عليه السلام - ورفعه إليه وهو لم يزل في مرحلة الدعوة التي تشبه حال الدين الإسلامي قبل الهجرة، والسبب الثاني: أن المسيح - عليه السلام - بعث إلى قوم قساة تسيطر عليهم إمبراطورية وثنية عاتية، اضطهدت المؤمنين من أتباع المسيح وعذبتهم، فانحسر تطبيق الشريعة في أضيق نطاق بسبب هذا العداء الشديد.

وكان لليهود اليد الطولى في إلحاق الأذى بالمؤمنين بتعاليم المسيح - عليه السلام -، فلا يخفى أمر شاؤل الطرسوسي أو بولس ( رسول الأمم)! وخداعه باعتناق المسيحية، وقيامه بغزوها من الداخل تماماً كما قصد عبد الله بن سبأ غزو الإسلام من الداخل.

فكان بولس المفسد الأول والأكبر بجدارة لتعاليم المسيح - عليه السلام -، قام شاؤل هذا بإصداره تعليمات مناقضة لتعليمات المسيح مما أحدث في الناس بلبلة وفتنة، فوقعوا بذلك في بلاء عظيم، كما أنه مزج الدين الذي جاء به المسيح - عليه السلام - بالوثنيات القائمة آنذاك، ثم ما كان من الاضطهاد الشديد الذي أوقعه أباطرة الرومان - وعلى رأسهم نيرون - بأتباع المسيح - عليه السلام -، حيث تقشعر الأبدان من ذكر فظائعهم وجرائمهم، ثم جاء عام 325م الذي يمثل عام النصر الحاسم على أعداء المسيح، حيث ظفرت الكنيسة بالإمبراطور، وأدخلته في الدين المسيحي، لكن الكنيسة لم تنتفع بهذا التزاوج بين القصر والكنيسة بما يعود بالخير على الناس في دينهم، بل كان ارتباطها بالإمبراطور ارتباط مصلحة لا يمت إلى الإيمان بصلة؛ فبقيت الوثنية متجذرة في نفوس الناس تغطيها غلالة رقيقة من الصبغة المسيحية، ولهذا عجزت الكنيسة عن إقامة الحياة على أسس متينة من الإيمان، وفتح الباب للخرافات والأساطير والتقاليد الوثنية، وامتزج كل ذلك بروايات الأناجيل وآراء المجامع المقدسة، وتلاقحت الشريعة والقانون الروماني فأصبحت المسيحية ديانة تركيبية أو بوتقة انصهر فيها عقائد وخرافات وآراء متباينة شكلت ديناً غير متسق ولا متناسق.

ثم بدأت الكنيسة في إصدار نصوص مكذوبة تبرر بها للناس ذلك المنحى الجديد الذي اتخذته بعد هذا التزاوج المقيت بين الكنيسة وقيصر، وكان من أهم هذه الأقوال القول المنسوب زوراً للمسيح: أعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله ".

فلقد ظل هذا القول شعاراً ترفعه الكنيسة كلما عنّ لها أن تتمرد على شرع الله، ثم بين المؤلف أن هذه العبارة المنسوبة للمسيح في إنجيل متى تبين أن الأناجيل التي بأيديهم لا تثبت أمام البحث العلمي، وأنها لا قيمة علمية تاريخية لها، فكلها ظنية الثبوت، ظنية الدلالة، فكيف يحتج بهذه الظنيات على مسألة بالغة الخطورة كهذه، ويعني مسألة أن يوافق المسيح على أن يجعل قيصر شريكاً لله - تعالى - في التوجه إليه بالعمل، وإيقاع الناس في شرك الطاعة والاتباع.

ثم يتنزل المؤلف جدلاً ويفترض أن المسيح - عليه السلام - تفوه بهذه الكلمة، ويتساءل: هل يعني ذلك أن نفهم من العبارة ما فهمته الكنيسة من ظاهرها؟، ونتخذ من فهمنا هذا قاعدة هي أعظم القواعد الكنسية العملية على الإطلاق؟ ثم يعرض المؤلف العبارة التي استلوها من إنجيل متى، ويتتبع السياق لفهمها في إطارها فهماً صحيحاً على افتراض صحة ثبوتها، ونص القصة: "ذهب الفريسيون وتشاوروا لكي يصطادوه بكلمة، فأرسلوا إليه تلاميذهم قائلين: يا معلم، إنك صادق، وتعلم طريق الله بالحق ولا تبالي بأحد، فقل لنا: أيجوز أن تعطى جزية لقيصر أم لا؟ فعلم يسوع خبثهم، وقال: لماذا تجربونني يا مراؤون، أروني معاملة الجزية، فقدموا له ديناراً، فقال لهم: لمن هذه الصورة والكتابة؟ قالوا له: لقيصر، فقال لهم أعطوا إذن ما لقيصر لقيصر وما لله لله، فلما سمعوا تعجبوا وتركوه "اهـ، وهكذا شأن أعداء الرسل، وخصوم الإيمان في كل زمان، يسعون في الإيقاع بالمؤمنين، ويحاولون إثارة السلاطين عليهم بما يدركون من افتراق طريق الإيمان وطريق السلطان، يفعلون ذلك لحرمان أهل الإيمان من الاستفادة من هدوء الحال لتمضي الدعوة في خطة تكوين طلائع الإيمان، وتربيتهم لحمل الأمانة، وتبليغ الرسالة، ونشر هدايتها في الناس، ويعلق المؤلف على هذه القصة فيقول: كان المسيح - عليه السلام - وأتباعه قلة مضطهدة تتبنى دعوة جديدة ناشئة، فلم يكن في مقدورها أن تصطدم بالإمبراطورية الطاغية، وتواجهها بعداوة سافرة، ولم تكن هذه المواجهة مطلوبة منها وهي لا تزال في طور الدعوة - يقابل ذلك في الإسلام فترة ما قبل فرض الجهاد -، وهذا الطور يقتضي الالتزام بمبدأ " كفوا أيديكم " كيلا يستثار عدو باطش فيفتك بالدعوة في مهدها، ثم يقول: فالمسيح - عليه السلام – ( لو صحت العبارة ) وافق على إجراء مؤقت تقتضيه ضرورة الواقع، وطبيعة الدعوة المرحلية، ثم أشار إلى نظائر ذلك في مراحل الدعوة في السيرة النبوية.

ويمضي المؤلف في استعراض ما عمدت إليه الكنيسة الزائغة من عبارات موهمة تنسبها الأناجيل إلى المسيح، وهي عبارات قيلت مجازاً، أو رددت في ظروف مؤقتة، وملابسات خاصة، وإنما قصدت الكنيسة أن تقرر بهذه العبارات قواعد أصولية تؤسس عليها دينها المحرف دون مراعاة لمنطق الاستدلال، ومقتضى التحقيق العلمي.

وكان من هذه العبارات التي نسبوها إلى المسيح - عليه السلام - أيضاً: "مملكتي ليست من هذا العالم"، وأشاعت الكنيسة المفهوم الذي تريده لهذه العبارة وهو: الدنيا والآخرة ضرتان متناحرتان، وضدان لا يجتمعان، الدنيا مملكة الشيطان، ومحط الشرور والآثام، وأن سعي الإنسان فيها للسعادة والتمتع بخيراتها دنس يحرمه من ملكوت الله في الآخرة، وهو مفهوم يتيح للمفسدين من القساوسة والقياصرة الطغاة أن يعبثوا بالحياة ما شاءوا دون أن يعترض طريقهم أحد، وما كان للمسيح - عليه السلام - أن يتكلم بمثل هذه العبارة التي هي أقرب إلى النظرة البوذية الوثنية للحياة من نظرة رسول كلفه الله بدعوة الناس لعبادة الله، وتحذيرهم من اتباع الأهواء، وما كان هذا المفهوم الذي روجوه للعبارة أن يخطر ببال أحد رسل الله الذين جاءوا لتغيير الواقع الجاهلي المنحرف، وإقامة واقع جديد تحكمه الشريعة المنزلة.

ثم أفرد المؤلف فصلاً عن البدع المستحدثة في الدين النصراني، فعد منها رجال الدين ( الإكليروس )، ورفض التعليل الجاهلي لظهور طبقة رجال الدين بأنه مجرد تطور بشري ديني اجتماعي، وأنه مر بثلاث مراحل: مرحلة السحر والخرافة، ومرحلة الدين، ومرحلة العلم، وأن الإنسان حين انتقل إلى مرحلة الدين بقيت فيه رواسب موروثة عن المرحلة الأولى من أبرزها طبقة رجال الدين الذين ليسوا سوى امتداد للسحرة والكهان، فيبين المؤلف أن هذا التفسير مرفوض، وأن التصور الإسلامي للتاريخ ينظر إلى الحياة البشرية على أنها خطان متوازيان: خط مشرق يمثل البشرية حين تهتدي إلى الله، وتسلك طريق الأنبياء الذين يتعاقبون لردها إلى جادة الطريق، وخط آخر مظلم يمثل حزب الشيطان، وفترات الضلال الذي طرأ على البشرية بعد أن كانت أمة واحدة على الإيمان، والسمة العامة للتاريخ هي الصراع بين الهدى والضلال، بين الحق والباطل.

ثم أوضح أننا لا ننكر التشابه الظاهر بين رجال الإكليروس في المسيحية وبين السحرة والكهان في العصور السابقة، لكننا نرجع ذلك إلى كون الطائفتين انحرفتا عن الأصل الصحيح.

ثم تكلم عن خط الانحدار الذي يصف حالة الكنيسة وهي تتردى وتفقد صلتها بالدين، وتقطع أواصرها بالإيمان، فيقول بعد أن يشير إلى أحبار اليهود وفسادهم، وأن المسيح - عليه السلام - كان يسميهم أولاد الأفاعي، وبائعي العهد، وعباد الدنيا، قال: لكن القسيسين والرهبان لم يكونوا أفضل حالاً من الأحبار، فقد سلكوا الطريق نفسها، وانصاعوا إلى الدنيا مستعبدين أتباعهم المؤمنين، فكانت هيئة الدولة تمثل هرماً قمته الإمبراطور، وقاعدته الجنود، وكانت الهيئة الكنسية تمثل هرماً مقابلاً قمته الباب، وقاعدته الرهبان، ونتيجة لمبدأ فصل الدين عن الدولة رعت الإمبراطورية الهرم الكنسي، ولم تر فيه ما يعارض وجودها، فرسخ واستقر، وكان من البدع المستحدثة في الدين النصراني أيضاً الرهبانية: وقد بين المؤلف أن للوجود الإنساني في هذه الأرض غايةً أرادها الخالق سبحانه منذ أن استخلف الإنسان في الأرض، وأناط به مسئولية عمرانها بالخير والصلاح، وركز في فطرته الاستعداد لهذه المهمة وبعث الرسل لقيادة الإنسان لتحقيق هذه الغاية على أكمل نموذج، وأقوم مثال، لكن الناس كانوا يضلون فيسيرون في غير الاتجاه الذي تأخذهم إليه الفطرة، وتقودهم إليه الرسل، فتستهويهم الشياطين، وتضلهم الشهوات عن سواء السبيل، فينحرفون عن الجادة في صور من الضلال متعددة ومتنوعة، وكان من هذه الصور المنحرفة النظرة غير السوية إلى الحياة وغايتها وقيمتها، والغلو في تهذيب النفس إلى حد التضييق والتعذيب، مع الانصراف عن عمارة الأرض، التي هي جزء من الغاية العظمى، ومع أن الرهبانية بدعة بشرية مشتركة بين أديان عديدة؛ إلا أن للرهبانية النصرانية ظروفاً وأسباباً أبرزتها حتى غدت من أجلى مظاهر النصرانية على مر العصور.

أسباب الرهبانية: (1) عقيدة الخطيئة الأصلية الموروثة، وهي إحدى التعاليم الكبرى في المسيحية المحرفة، ومرجعها عندهم أن آدم - عليه السلام - لما أكل من الشجرة عوقب بالحرمان من الجنة، فظل بنوه يرسفون في أغلال تلك الخطيئة حتى جاء الخلاص على يد المسيح ليصلب فداء للنوع الإنساني، فأصبح لزاماً على الإنسان أن يقتل نفسه ليمنحها الخلاص كما يقول متى في إنجيله: " من أراد أن يخلص نفسه يهلكها ".

(2) رد الفعل المتطرف للمادية اليهودية الجشعة، والأبيقورية الرومانية النهمة.

(3) الأثر الذي خلفته الفلسفات والوثنيات التهريبية القانطة.

(4) الأوضاع الاجتماعية القاسية.

نظام الرهبانية:

ثمة شروط يتضمنها نظام الرهبانية: أولها العزوبة، وما يلزمها من التنفير من المرأة وإن كانت زوجة، وترذيل الصلة الجنسية وإن كانت حلالاً، فهذا " سان بونافنتور " أحد رجال الكنيسة يقول: إذا رأيتم امرأة فلا تحسبوا أنكم ترون كائناً بشرياً، بل ولا كائناً حياً وحشياً، وإنما الذي ترون هو الشيطان بذاته، والذي تسمعون هو صفير الثعبان ".

الثاني: التجرد الكامل عن الدنيا، ويعنون بها العزلة النهائية عن المجتمع، وقطع النظر عن كل أمل في الحياة.

الثالث: العبادة المتواصلة.

الرابع: التعذيب الجنوني.

صادمت هذه التعاليم المنحرفة الفطرة فكان لابد من الخسران والشقاء، وكان من تلك البدع المستحدثة كذلك الأسرار المقدسة: امتلأت الوثنيات القديمة بالأسرار والأساليب الخفية، والرموز الغامضة، وقد سجل التاريخ غلطة شنيعة على بعض أتباع الديانات باقتباسهم لأشياء من تلك الأسرار والرموز؛ وإدخالها في دينهم، وذلك ما حصل بعينه في المسيحية المحرفة.

تناول المؤلف واحداً من هذه الأسرار التي دأبت الكنيسة على استعمالها في ستر نقائصها ومخازيها، وقطع الطريق على كل محاولة تطلب تفسيراً يقبله العقل، وترفض أن تتصلت الكنيسة على عقول الناس بقولها ( سر إلهي )، وكان من هذه الأسرار الإلهية الكنيسية سر " العشاء الرباني " أو " القربان المقدس ".

ثم يبين المؤلف أن ذلك كان من دس شاؤل اليهودي الذي يؤكد جوستاف لوبون - أحد النقاد العقليين - أن شعائر النصرانية ومنها العشاء المقدس بدعة منقولة عن الوثنية المثرائية، وأن شاؤل كان متأثراً بالمثرائية التي كان من شعائرها التضحية بالعجل المقدس، ولهذا كان المسيحيون الأوائل يقيمون وليمة تذكارية في عيد الفصح قوامها الخبز والخمر يرمزان إلى جسد ودم المسيح، وهي التي تعرف بعقيدة الاستحالة أ أي استحالة الخبز والخمر إلى جسد ودم المسيح، فليس لأحد من أتباع الكنيسة أن يسأل أو يشكك في ذلك السر، وإلا عوقب بالحرمان والطرد من الملكوت، وكانت هذه العقيدة العجيبة من الثغرات الواسعة التي دخل منها النقد المرير للكنيسة، وسبب كثيراً من الإنشقاقات الدينية، والسخرية الشديدة التي انهال بها على الكنيسة النقاد العقليون من أمثال الفيلسوف الفرنسي فولتير.

البدعة الرابعة: عبادة الصور والتماثيل: وهذه أيضاً كانت من البصمات الظاهرة التي تركتها الوثنية على الديانة النصرانية، على الرغم من أن التماثيل تعتبر من الأعمال المحرمة في شريعة التوراة، ولم يقف الحد عند كونها مظهراً من مظاهر المخالفة لشريعتهم، بل تعدى ذلك إلى أن صارت التماثيل والصور آثار مقدسة، ومعبودات يسجد الناس لها، ويوقدون لها الشموع، ويحرقون البخور، وينثرون فوقها الزهور التماساً لبركاتها، ورجاء تأثيرها الخفي، وكان للفتوحات الإسلامية التي امتدت حتى شملت معظم المعمورة أثرها في أن يعيد كثير من شعوب الدول النصرانية نظرتهم إلى ما أصاب دينهم من لوثات الوثنية، حيث اطلعوا على عقيدة التوحيد الخالص في دين الإسلام، فأحسوا بسخافة معتقداتهم، وضحالة تفكيرهم، ففتحوا أعينهم على تلك الحضارة الغازية الشامخة الناصعة، فقامت في الغرب حركات معادية لبدعة التماثيل والصور، وطالبت بإزالة تلك الوصمة الشنيعة التي كشفت الدين الذي ينتسبون إليه، وأظهرت ما فيه من النقص والعيوب والتشويه الذي يخجلهم أمام المسلمين، لكن الكنيسة رفضت ذلك، وظل الصراع بين المنادين بتحطيم التماثيل والصور وبين الكنيسة المعاندة، وعقد مجمع نيقية الثاني عام 787م وحضره 350 أسقفاً، وقرروا جميعاً بقاء الثماثيل والصور، بل ألزموا الناس بالإغراق في ذلك بوضع التماثيل والصور كذلك في البيوت والطرقات، لبقاء أثر المسيح وأمه والرسل وسائر القديسين في نفوسنا، وبذلك انتصرت الكنيسة الوثنية على حركات الإصلاح، ثم عادت الحركة المناهضة لعبادة الصور والتماثيل للظهور مرة أخرى بعد ثلاثة قرون، وذلك حينما اتصل الغرب الوثني بالشرق المسلم إبان الحروب الصليبية، وكان البروتستانت هم الذين يتولون الحركة الإصلاحية في هذا الجانب، بينما ظل الكاثوليك على تقديسها ولعن محطميها، وبلغ الهوس بهؤلاء المفتونين بصور المسيح - عليه السلام - وأمه أن قامت إحدى شركات السينما في السويد بإنتاج فيلم عن " حياة المسيح الجنسية "، في ابتذال وامتهان لم يحرك في الدول الغربية ساكناً، بينما احتجت بعض المنظمات الإسلامية، وطالبت بإيقاف عرض الفيلم، ولم يقتصر الأمر على المسيح وأمه بل إن الكنيسة تجرأت على الباري - جل شأنه - وصورته كما تصور المخلوقين - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً -، معلنين أنهم لا يمكنهم أن يفهموا الله إلا عن طريق تصوره بالصورة البشرية، كما يقرر ذلك أحد علماء الكنيسة.

ويتابع المؤلف عرض البدع التي استحدثت في النصرانية؛ فيذكر منها المعجزات والخرافات، فكان من الطبيعي لدين مركب من تعاليم المسيح، وكم هائل من المعتقدات الوثنية؛ أن يجد صعوبة في الإقناع العقلي، والبرهان المنطقي، فذهب يعوض هذا النقص بادعاء الخوارق التي هي في حقيقتها أوهام وأخلاط، بقصد التمويه على العقول الضعيفة، والنفوس الساذجة، وساعد الإرث الوثني على تقبل جماهير الناس المتعلقة بالكنيسة بهذه السخافات، واتسع نطاق تلك الأوهام حتى أصبحت مكانة رجل الدين وقداسته مرهونة بما يظهر على يديه من الخوارق، وما يتعاطى من الشعوذات، وما يأتي به من ألاعيب تجهل العقول الساذجة علته الحقيقية، مدعياً أن ذلك هبة من الروح القدس له، ويسجل لنا التاريخ أمر " الساعة " التي أهداها هارون الرشيد إلى الإمبراطور ( شارلمان )، فأصابه الفزع هو وحاشيته ظانين أن بها جناً يحركها، فكيف بعامة الشعب من الفلاحين والرعاة؟!.

وكان لهذه الخرافات جذور عميقة في نفوس أتباع الكنيسة، ولهذا كانوا يتعلقون بالقساوسة، ويعتقدون فيهم قدرات خارقة في صد العواصف، وإنزال المطر، وكانوا ينزلون بهم أشد النكال إذا فشلت تراتيلهم في تحقيق آمال الناس، فكم من قديس أهانوه وضربوه، ونزعوا أجنحته الذهبية، وركبوا له أجنحة ورقية إهانة له على فشله، كما كانت صيحاتهم الغاضبة تعلو في الساحات الكبرى حيث يأتون بهؤلاء القديسين الكذبة، ويقيدونهم عراة، ويهتفون بهم: المطر أو حبل المشنقة.

وأشار المؤلف إلى عدد من تلك الخرافات التي كانوا يشيعونها في الناس، فذكر خرافة " تجلي العذراء " التي يثيرونها بين الحين والحين، وذكر أيضاً خرافة الرقم (13)، ويبين أن أصله أن يهوذا الذي دل على المسيح هو التلميذ الثالث عشر للمسيح، فكان ذلك مصدر شؤم للكنيسة وأتباعها.

ومن البدع المستحدثة في الديانة النصرانية بدعة: صكوك الغفران، وهي الصكوك التي كان القساوسة يمنحونها لأتباع الكنيسة ليتطهروا من الخطايا، ضامنين لهم المغفرة، مطلقين لهم العنان ليفعلوا ما شاءوا من المعاصي، طالما اشتروا هذا الصك، أما البؤساء ممن لا يملكون المال لشراء هذا الوهم فيظلون محرومين من هذه الموهبة مهما بلغ تقواهم وحبهم للمسيح، وتعلقهم بالعذراء.

وكان الأساس الذي بنيت عليه هذه الأكذوبة هو فكرة القداسة التي ادعاها رجال الدين، والتي بني عليها فكرة الاستشفاع بهم لدى الله لمغفرة الخطايا، وظل الجهلة والسذج يتوسلون إلى القساوسة راجين الشفاعة، والتقرب إلى الله زلفى؛ فنتج عن ذلك مبدأ التوسط بين الله والخلق، حتى أصبحت وظيفة رجل الدين المسيحي القيام بهذه الوساطة، فعن طريقه تؤدى الصلاة، ويتناول العشاء الرباني، وهو الذي يقوم بالتعميد، وطقوس الزواج، والموت، ويتقبل الاعترافات بالمذنبين.

ثم يبين المؤلف أن هذه الصكوك إنما بدأت حين كانت الكنيسة تواجه ظروفاً عصيبة إبان الحروب الصليبية التي بلغ معها يأس النصارى من تحقيق النصر على المسلمين مبلغاً عظيماً، وأصاب الشعوب الأوروبية إحباط شديد؛ فاخترعت الكنيسة فكرة هذه الصكوك كتجسيد لأماني المشتركين في تلك المعارك بالمغفرة، ولشحذ هممهم للاندفاع في المشاركة في تلك الحروب، كما يقول ول ديورانت في قصة الحضارة.

ويخلص المؤلف من هذا العرض لهذه البدعة بقوله: وعليه فلم يكن يحظى بالحصول على صك الغفران إلا رجل ذو مال يقدر على شرائه حسب التسعيرة التي تحددها الكنيسة، أو رجل يحمل سيفه ليقاتل تحت راية الكنيسة، وغير هذين رجل ثالث فقير لا مال له، أو عاجز عن القتال، أو رجل غير مستعد للموت في سبيل الكنيسة، لكنه يظل أسير صراع نفسي مرير، وشعور بالحرمان قاتل.

وهكذا فالكل مضحون، والكل خاسرون، والكنيسة هي الرابح الوحيد، حيث أثرت ثراء فاحشاً من عملية بيع الصكوك، وإن كانت عند الله أذل مقاماً، وأخسر صفقة.

ومن الوجهة السياسية قويت الكنيسة، وتدعمت سلطتها، فكان الثراء والنفوذ بعض ثمار تلك البدعة التي دفعت الكنيسة إلى الطغيان والغطرسة الباغية، ولم ينتبه رجال الكنيسة الذين أعماهم الغرور بسبب ما وصلوا إليه من الغنى والسيطرة عن خطر هذا الطغيان عليهم، فكانت مهزلة صكوك الغفران مسماراً في نعش الكنيسة، وبداية لنهايتها، حيث هبط سوق الصكوك، وأصابه الكساد، وتجول القساوسة ببضاعتهم يبيعونها بأبخس الأثمان، فازداد إعراض الناس عنها، حيث تولد لديهم شعور بأن شراءها إن هو إلا إضاعة للمال فيما لا فائدة فيه، أو أنه غير مضمون العاقبة، وتبع ذلك الشعور ظهور الفضائح التي كشفت جانباً من سيرة رجال الكنيسة وفجورهم، فكان ذلك إيذاناً بالشك الكبير في قداسة هؤلاء القساوسة وصلاحهم، وتوحدت المشاعر من مختلف قطاعات الشعب بالعداوة والازدراء تجاه رجال الكنيسة، ورأى الأوربيون - حكاماً ومحكومين - الحياة الكريمة التي يعيشها الشرق الإسلامي، حيث لا كهنوت، ولا طغيان، ولا احتكار، فهزت هذه الرؤية أنفسهم، وبهرت عيونهم، فباتت صكوك الغفران في نظرهم هراء لا طائل تحته، وعبئاً يبعث على الاشمئزاز والاستخفاف.

ولما كانت الكنيسة هي الدين النصراني في نظر أتباعها كان لابد أن يهتز الدين كله في نظرهم باهتزاز صورة الكنيسة، وفقدان الثقة في قدسيتها وطهارة رجالها، وكان ذلك هو بداية السير في طريق الكفر، ونبذ الدين، واستغل أعداء الدين - لا سيما اليهود - تلك الأجواء فبذروا على الفور بذورهم بالمناداة بطرد الدين من حياتهم، ووضعوا أمامهم ذلك الخيار الصعب الذي مفاده: إما أن يؤمن بصكوك الغفران فيحكم على نفسه بالجمود، والغباء، والرجعية المتناهية، وإما أن يكفر بها فيلزمه الكفر بالإطار الذي يحويها بكامله؛ إطار الدين والغيبيات، لا سيما الآخرة، وهو الخيار الذي جسده الفيلسوف اليهودي الوجودي " جان بول سارتر" في إحدى رواياته المشهورة ( الشيطان والرحمن ).

هذا مع أن الكنيسة في عصرنا الحاضر لا تصدر تلك الصكوك المخزية، بل تستحي من ذكرها، وتخجل كلما دار الحديث عنها.

الباب الثاني: أسباب العلمانية: وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: الطغيان الكنسي: أسبابه، أنواعه ( الطغيان الديني - الطغيان السياسي - الطغيان المالي )، الفصل الثاني: الصراع بين الكنيسة والعلم، الفصل الثالث: الثورة الفرنسية: ( الفكر اللاديني - وقوف الكنيسة ضد مطالب الجماهير - القوى الشيطانية الخفية )، الفصل الرابع: نظرية التطور: ( آثار الداروينية - انهيار العقيدة الدينية - نفي فكرة الغاية والقصد - حيوانية الإنسان وماديته - فكرة التطور المطلق ).

بدأ المؤلف في فصل الطغيان الكنسي إلى التعريف بداء الطغيان، وبيان أنه مرض يدمر النفس الإنسانية حين تصاب به، وأن من خصائصه أنه لا يصيب إلا ذا نفس هزيلة أتيح لها وسائل تفوق طاقتها، ولم يكن لديها ما تتحصن به من خلق أو إيمان يكبح جماحها، وأشار إلى أن ظهور هذا المرض على الحكام الوثنين، أو الطغاة من زعماء الدنيا؛ فإنه يكون معقولاً إلى حد ما، أما حين يصدر هذا السلوك الشائن ممن يراهم الناس قديسين ورسل سلام فهذا مما يشق على النفس تحمله، ويصعب على العقل تقبله، فهم الرجال الذين طالما سمعوا منهم عبارات التسامح والمحبة في مواعظهم الدينية. ويبحث المؤلف في أسباب ذلك الطغيان الذي كانت الكنيسة تمارسه، فأشار إلى الاضطهاد الذي أوقعه الوثنيون من الرومان على أتباع المسيح - عليه السلام -، والذي ألجأ هؤلاء الأتباع إلى التخفي بالدعوة، وإخفاء ما بأيديهم من نسخ الأناجيل، التي كانت تتعرض للمصادرة والحرق، مما أدى إلى انحصار المصادر الدينية للمسيحية على فئة قليلة من الناس كان لهم وحدهم حق شرحها وتأويلها، فلم يكن بأيدي الناس من المصادر التي يراجعون على أساسها ما يسمعون من رجال الكنيسة، فتكلم هؤلاء وحدهم، وكان على الناس جميعاً أن يسمعوا من هذه الفئة التي احتكرت حق الشرح والبيان، فكان على الناس أن يقدموا الطاعة العمياء، فشجع ذلك رجال الكنيسة على الطغيان، وفرض سلطانهم وتعميق هيبتهم لدى الناس، وكان من نماذج هذا الطغيان:

الطغيان الديني: فمنذ مجمع نيقية عام 325م والكنيسة تمارس الطغيان الديني، حيث فرضت عقيدة التثليث، ولعنت مخالفيها، وعذبت الموحدين، ومارست التحليل والتحريم، والنسخ والإضافة، فحرمت الختان، وأباحت الميتة، والتماثيل، والضرائب التي تجبيها الكنائس، وغير ذلك من المحرمات التي أحلتها المجامع الكنسية، كما أضافت الكنيسة ألواناً من المعتقدات الوثنية كقضية الاستحالة في العشاء الرباني، وعقيدة الخطيئة الموروثة، وعقيدة الصلب، والعذراء، والطقوس السبعة، وفرضت الكنيسة كل ذلك على أتباعها بحجة أنها أسرار عليا لا يجوز الشك فيها، بل لا يجوز الخوض فيها.

لم يقف الأمر عند هذا الحد من الطغيان الذي فرض على الناس الانصياع لتلك المعتقدات، بل تعدى ذلك إلى إنزال النكال البشع بكل من تسول له نفسه الاعتراض أو التبرم من أحوال الكنيسة، وفساد رجالها، وما خبر محاكم التفتيش بجديد، فقد كان المسلمون في الأندلس هم الضحية الأولى لتلك المحاكم البشعة، فقد أبيدوا إبادة تامة بأقسى وأشنع ما يتخيله الإنسان من الهمجية والوحشية، وكانت المحكمة الأم لهذه المحاكم الوحشية (المحكمة المقدسة!! في روما )، وإن المؤرخين ليصابون بالرعب عند ذكر هذه المحاكم، وسرد تاريخها الأسود، فكيف بالضحايا الذين وقع عليهم هذا العذاب الذي يفوق الخيال، وكان يكفي لوقوع الشخص في هذا العذاب الرهيب أن يوشي به جاره أنه سمعه يذكر الثالوث أو المعجزات بما يعد في نظر رجال الكنيسة جريمة يستحق صاحبها أن يقطع جسده، أو يفرم في مفارم اللحم، أو يشعل تحته النيران الخفيفة ليموت موتاً بطيئاً، أو تغرز الكلاليب في لسانه ويشد فيقطع، وعقدت الأهوال ألسنة كبار العلماء الأفذاذ مثل نيوتن، وبيكون، وديكارت، وكانت، وغيرهم، فلم يجرؤ أحد منهم على التلفظ بكلمة تثير عليهم غضب رجال الكنيسة القساة.

الطغيان السياسي: من الطبيعي أن يكون لرجال الدين في أي أمة أثرهم الطيب في المجتمع، وأن تكون أزمة الأمور في أيديهم، لتقويم المعوج، وتصحيح الخطأ، أما أن يتحول رجال الدين إلى طواغيت ومحترفين سياسيين، مع نبذ شريعة الله، ليحل محلها التسلط والاستبداد، فذلك العجب العجاب، لكن هذا هو الذي حدث من الكنيسة، حيث تناحر البابوات مع الأباطرة على النفوذ، والقبض على مقاليد الأمور في المجتمع، ولم يفتأ البابوات يعلنون أن الكنيسة - بوصفها نظاماً إلهياً - خليقة بأن تكون صاحبة السلطة العالمية، ومن حق البابا وواجبه أن يخلع الملوك غير الصالحين، أو يرفض اختيار البشر للحكام.

ظلت الكنيسة على هذا الحال من السلطة الروحية البالغة، والهيكل التنظيمي الدقيق والاستبداد المطلق، فكان البابوات هم الذين يتولون تتويج الملوك والأباطرة، كما كان بإمكانهم خلع الملوك وعزلهم بإرادتهم المحضة، ومن رفض الرضوخ لأحكام البابوات أسقط البابوات عنه الشرعية، وأعلنوا الحرب عليه، ولعل خير مثال على ذلك يعرضه علينا المؤرخ البريطاني "ويلز"، وكذلك "ديورانت" في ( قصة الحضارة ) وهو حادثة الإمبراطور الألماني ( هنري الرابع ) المشهورة مع البابا جريجوري السابع، فقد جرى بينهما خلاف فظن الإمبراطور أن بوسعه أن يخلع البابا، فرد البابا بخلعه، وألب عليه أتباعه والأمراء، فعقد الأمراء مجمعاً وقرروا فيه أن الإمبراطور سيفقد عرشه إلى الأبد إذا لم يحصل على عفو البابا، وخضع الإمبراطور، وأذل نفسه، وسافر مجتازاً جبال الألب في برد الشتاء القارس، وظل واقفاً في فناء القلعة ثلاثة أيام وهو في لباس الرهبان، متدثراً بالخيش، حافي القدمين، عاري الرأس، مظهراً كل علامات المسكنة والتوبة حتى ظفر بالمغفرة، وحظي برضا البابا!

وأشار المؤلف إلى نماذج من التحديات التي كانت تصدر من بعض الملوك تجاه الكنيسة لكنها كانت تتحطم أمام نفوذ الكنيسة وطغيانها، وكان من أشهر هؤلاء الملوك الذين قاوموا هذا الطغيان الإمبراطور " فردريك الثاني " الذي عرف بصلابته التي عزاها المؤرخون إلى ثقافته العربية والإسلامية، حتى اتهمته الكنيسة بأنه اعتنق الإسلام، وسمته الزنديق الأعظم، فدافع هذا الإمبراطور عن نفسه برسالة عدت وثيقة هامة في وصف الصراع بين البابوات والملوك، أو الصراع بين الكنيسة والعلمانيين الذي كان يثور ويتأجج، فكان موقف فردريك ظاهرة فذة، لكنها لم تصمد أمام قرارات الحرمان، وسطوة الكنيسة الباغية.

الطغيان المالي: بيّن المؤلف أن الأناجيل على ما فيها من تحريف كانت قاطعة في الدعوة إلى الزهد، والتنفير من التهالك على ملذات الدنيا، لا سيما جمع المال والافتتان به، وأن المسيح - عليه السلام - كان أسوة حسنة في ذلك فقد عزف هو وحواريوه عن الدنيا عزوفاً صادقاً بينما كان القوم من اليهود ينظرون إلى الدنيا نظرة جشع لا ينتهي، وشره لا ينقطع. وجاءت القرون التالية فشهدت مفارقات عجيبة بين مفهوم الكنيسة في هذا الأمر وبين واقعها العملي، فبينما كانت تحرم ما أحل الله من الطيبات متأثرة بتلك النظرة التشاؤمية للحياة الدنيا؛ كانت سيرتها الذاتية مخزية، حيث تهالكت على الدنيا، وامتصت دماء أتباعها، وعاش رجالها في بذخ متناه، وكانت أملاك الكنيسة الإقطاعية من الأراضي تفوق كبار الإقطاعيين في أوروبا، حتى بلغت ممتلكاتها الإقطاعية ثلث أراضي إنجلترا، كما كانت تأخذ الضرائب الباهظة من الباقي من الأرض، كما فرضت الكنيسة العشور على غلات الأراضي الزراعية والمهنيين، ولم تكتف الكنيسة بالأوقاف والعشور بل فرضت الرسوم والضرائب، كما كانت تحظى بالكثير من الهدايا والهبات التي كان الأثرياء يقدمونها لها للتملق، أو الرياء، أو ما كان منها على سبيل الصدقة والإحسان، وفوق ذلك كانت هناك المواسم المقدسة، والمهرجانات الكنسية التي كانت تدر على الكنيسة أموالاً طائلة، كما كانت الكنيسة ترغم أتباعها على العمل المجاني في حقولها وفي مشروعاتها لا سيما بناء الكنائس والأضرحة، كان كل ذلك يملأ نفوس الناس جميعاً بالسخط، إلا أن الظروف لم تكن مواتية لإعلان هذا السخط، أو التعبير عنه بشكل صريح.

الفصل الثاني: الصراع بين الكنيسة والعلم:

بين المؤلف في هذا الفصل أن الصراع الذي نشب بين العلم والدين كان من أعقد وأعمق المشكلات في التاريخ الفكري الأوروبي، ورغم كل الظواهر البارزة في الحياة الغربية التي تؤكد أن المعركة قد حسمت لصالح العلم، فإن هناك ما يدل على أن الدين أو بعض قضاياه الاعتقادية والسلوكية لا يزال موجوداً، وأن المعركة لم تحسم نهائياً، بل هي مستمرة، وأن كل طرف من الطرفين قد حقق في هذا الصراع ثباتاً وصموداً، أو تمكن من احتلال مساحات من مناطق نفوذ الآخر، فالمناطق التي احتلها العلم من مناطق نفوذ الدين هي في الحقيقة المواقع التي انتصر فيها العقل واليقين على الخرافة والوهم، كما أن المواقع التي صمد فيها الدين أمام الهجوم العلمي الكاسح هي المواقع التي انتصرت فيها الحقيقة الموحاة على التخرصات والأهواء.

ويلخص المؤلف هذه الفكرة في عبارة موجزة فيقول: إن الحق في كل من الطرفين هو الذي انتصر أو سينتصر على الباطل في كليهما، وأنه لو كان الدين الأوروبي يقيناً مجرداً، والعلم الأوروبي يقيناً مجرداً؛ لما حدثت معركة على الإطلاق، ويضيف: إن الدين بصبغته الإلهية النقية لم يدخل المعركة، ولهذا فإن الأوفق أن نسمي ما حدث في الغرب صراعاً بين الكنيسة والعلم وليس بين الدين والعلم.

ثم يبين أن جناية رجال الدين الأوربيين على الحقيقة كانت أشنع وأنكى من جناية أنصار العلم عليها، ذلك أن الكنيسة ارتكبت خطأين فادحين: أحدهما تحريف حقائق الوحي الإلهي، وخلطها بالفلسفة والأهواء، والآخر فرض الوصاية الطاغية على ما ليس داخلاً في نطاق اختصاصها.

كانت أوربا مستغرقة في دياجير الخرافة والجهل، فعرفت الطريق إلى النهضة العلمية التي كانت تشع من الحضارة الإسلامية في الأندلس وصقلية، فاستيقظ العقل الأوروبي من سباته، وأخذ يقتبس عن المسلمين طرائق البحث، ومناهج التفكير، وهنا ثارت الكنيسة، وهاج هياجها على أولئك الذين يتلقون علوم الكفار ( المسلمين )!، ويلتفتون عن الكنيسة وتعاليمها، فأعلنت حالة الطوارئ، وشكلت محاكم التفتيش، فاشتعلت المعركة، وازداد أوارها بمرور الأيام.

ثم استعرض المؤلف مراحل ذلك الصراع فتحدث عن النظرية التي هزت الكنيسة، وأذهبت قدراً كبيراً من ثقة أتباعها فيها، وهي النظرية الفلكية التي قدمها كوبرنيق 1543م وخالف فيها ما كانت الكنيسة تعتقده من أن الأرض مركز الكون، وأن الأجرام السماوية كافة تدور حولها، ولم ينج من محاكم التفتيش لأنه كان قسيساً بل لأن المنية أدركته بعد طبع كتابه بقليل، فأفلت من عقوبة الكنيسة، التي حرمت كتابه، واعتبرته من وساوس الشياطين، وجاء بعده " برونو" بتأكيد نفس النظرية، فسجنته الكنيسة فأصر على رأيه فأحرقته، ثم جاء جاليليو فأيد النظرية فلقي في السجن العذاب والمهانة، وكاد أن يلقى نفس مصير برونو لولا أنه خشي على حياته فأعلن ارتداده عن أفكاره، وركع ذليلاً أمام رئيس المحكمة، وراح يلعن ما توصل إليه، ويصفه بالإلحاد، وتعهد بالإبلاغ عن كل ملحد يوسوس له الشيطان بتأييد مثل هذه الأبحاث المضللة!! وبعد مدة من الزمن راجت تلك النظرية الفلكية، وهبطت أسهم الكنيسة، وطالب العلماء ودعاة التجديد بتقديس العقل واستقلاله بالمعرفة بعيداً عن الوحي، ثم ظهر ديكارت فدعا إلى تطبيق المنهج العقلي في الفكر والحياة، واستثنى الدين تحت الرهبة من الكنيسة التي لم يزل لها نفوذ وسطوة.

وهذه الازدواجية في الفلسفة والنظر العلمي، والفصل بين العلم البشري والوحي الإلهي ظهرت أيضاً في منهج " بيكون " التجريبي، الذي كان يمثل مرحلة طبيعية في سلم التدرج من الإيمان المطلق بالوحي إلى الإنكار المطلق له، بيد أن بعض الفلاسفة آثر الدخول المباشر على آراء الكنيسة وإخضاعها للمنهج العلمي، ومن هؤلاء " سبينوزا " اليهودي الذي وضع أسس مدرسة النقد التاريخي، وقد أعمل سبينوزا منهجه بدراسة الكتب الدينية بنفس المنهج الذي تدرس به الروايات التاريخية، واستنتج أن أسفار التوراة لم يكتبها موسى، وإنما كتبت بعده، ثم جاء باسكال ووجه النقد لعقيدة الخطيئة، ثم جاء " جون لوك " فكان أبلغ من ديكارت في المطالبة بإخضاع الوحي للعقل عند التعارض، ثم دعا إلى التسامح الديني، وإفساح الطريق أمام الناس ليعتنقوا ما شاءوا من الأديان، على أن كل ذلك كان يظهر بتلطف وحذر حيث كانت الكنيسة تتربص بأصحاب تلك الأفكار، وتخيفهم بمحاكم التفتيش، وقد تعرضت كتب هؤلاء العلماء للحرق والمصادرة، كما تعرضوا هم للإيذاء والمضايقة من قبل الكنيسة، ثم جاء " نيوتن " وظهرت نظريات علمية هزت الكنيسة وأثارتها، كان من هذه النظريات القول بأن من الممكن تفسير ظواهر الطبيعة بربط بعضها ببعض دون حاجة إلى تدخل قوى خارجية عنها، وكانت هذه النظرية بمثابة النواة للمذهب الطبيعي، والنظرية الميكانيكية.

حاربت الكنيسة هذه النظرية على أساس أنها أهملت الاعتقاد في أن الله هو الذي يسير كل حركة في الكون، ولم يتسع أفق الكنيسة لإدراك أن نسبة الأفعال إلى الأسباب والوسائط لا يلزم منه إنكار نسبتها إلى الله - تعالى - باعتباره الفاعل الحقيقي، لكن الكنيسة دأبت على محاربة كل جديد، فترتب على ذلك جنوح أصحاب النظرية برد فعل أهوج، فأنكروا عمل العناية الإلهية، وأعلنوا أن كل ما عرفت علته المباشرة فلا داعي لافتراض تدخل الله فيه - حسب تعبيرهم -.

كان اندفاع الباحثين والعلماء في مواجهة الكنيسة، والانفكاك من ربقة رجالها المتغطرسين؛ يعبر بشكل صريح بكفرهم بالكنيسة وبرجال الدين، وساعدت نظرية نيوتن على إيجاد فكر لا ديني منظم، وربما كانت النظرية قد مهدت للثورة الفرنسية، وفتحت الطريق أمام نظرية دارون التي كانت إيذاناً بأفول نجم الكنيسة، وانتهاء وصايتها الفكرية على أوروبا، وولادة آلهة جديدة لا كنائس لها، ثم ظهر في القرن الثامن عشر روح جديدة عمت الباحثين والفلاسفة والعلماء، دار محورها حول العقل والطبيعة، وتعالت الأصوات بتضخيم دور العقل، وبأنه الحكم على كل شيء، وأن ما عداه فوهم وخرافة، فالوحي يخالف العقل، فهو أسطورة كاذبة، وصار لزاماً على الذين نبذوا الإيمان بالله كلية أن يبحثوا عن بديل فوجدوه في الطبيعة، فخلعوا على هذا المسمى كل صفات الله التي عرفوها في المسيحية مع فارق بين الإلهين في نظرهم، فإله الكنيسة يبطش ويعذب، ويفرض القيود، أما إله الطبيعة فجذاب ليس له كنيس، ولا يفرض طقوساً، ولا صلوات، ولا رجال دين يستعبدون الناس.

وسادت تلك العبادة الجديدة؛ عبادة العقل والطبيعة، فكانت سمة هذا العصر الذي سمي عصر التنوير، وتوالت انتقادات العلماء للكنيسة ترسم خط العداء الذي ظهر في أجلى صوره على يد فولتير الذي انتقد عقيدة التثليث، وتجسيم الإله، وأشار إلى أن " بولس " طمس المسيحية وحرفها، ونادى بأن الطاعة إنما هي طاعة البشر باسم قوانين الدولة، وأن على رجال الدين أن يخضعوا مع جميع الناس لنظم الدولة، فلعنته الكنيسة، وحرمت قراءة كتبه، ونتج عن المذهب العقلي الجديد بالإضافة إلى نظرية نيوتن مذهبان جديدان على العالم الإسلامي ينمان عن التخبط والضياع: الأول: مذهب المؤلهة أو المؤمنين بإله مع إنكار الوحي.