الإنسان وبداية الكون – المحاضرة الأولي
هل تميز الإنسان عن غيره بالكلام؟
إن الحمد لله نحمده ونستعينه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلي الله عليه وسلم : يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا يُصْلحْ لكُمْ أَعْمَالكُمْ وَيَغْفرْ لكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَرَسُولهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ، يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ الحشر/18 .أما بعد ..
فحديثنا بإذن الله تعالى في محاضرة اليوم يدور حول موضوع عظيم يتعلق ببداية الكون ونشأة الإنسان ، ووسوف نتناول هذا الموضوع في سلسة من المحاضرات نظرا لأهميته في تكوين العقيدة الصحيحة التي بنيت على القرآن في فهم علاقة الكون بالإنسان ، وكيف أبان الخالق حجته في خلقه أكمل بيان ، فمن أكبر الحقائق وأعظمها في حياة الإنسان هي حقيقة وجود الإنسان ، فلو سألت نفسك ما الذي يتميز به الإنسان عمن حوله من الكائنات ؟ ولماذا كان هو الوحيد المستفيد من سائر الأشياء ؟ ولماذا وجد في الحياة على هذا الحال ؟ فهل تجد إجابة مقنعة تعتقدها وتعيد بها النظر في صفحة الحياة ؟!
أحيانا تتردد على النفس أفكار عديدة ، ويسبح معها المرء إلي مسافات بعيدة حتى إذا أحس بالغرق في متاهة شديدة عاد ، عاد مستيقظا إلي دوامة الحياة ، يُعرض ويبتعد عن خطرات النفس ووسواس الشيطان ، لكنها في الحقيقة كانت جولة من الأفكار انهزم فيها وولي مدبرا ، وسوف تتكرر مرارا إلي أن ينتصر على نفسه بسلاح العلم ، أو يعيش مهزوما في ظلمات الجهل ، وستبقي الأفكار تناديه ، والموت قريبا يأتيه ، فلا بد من علم يديم به البحث والنظر ، حتى تهدأ النفس أو يزول الخطر ، ألم تسأل نفسك يوما عن حقيقة الشيطان ؟ وعن عدائه الدائم للإنسان ؟ لماذا يوسوس لنا بالعصيان ؟ وما هي الحكمة من ذلك ؟ وكيف يمكن للإنسان أن يحمي نفسه من كيد الشيطان ؟ !
ألم تسأل نفسك عن تفسير مقنع لنشأة الخلق ، أو ماذا يحدث للإنسان بعد الموت ؟ لا شك عند العقلاء في وجود من صنع الأشياء ، وأوجدها على النظام البديع الذي نراه ، فلا يمكن أن توجد بغير إله عظيم في حكمته ، أو تستمر في وجودها بغير إرادته !! لكن العقلاء يعجبون ويتساءلون : ما هي الحكمة في وجود المخلوقات على هذا الوضع وبهذا القدر والاتساع ؟! كيف نشأت واستقرت واستمرت على هذا الإبداع ؟ هل صحيح ما ذكره علماء الفزياء عن بداية الكون وإن فيه انفجار العظيم هو الذي أحدث هذا الإبداع الكوني والتميز الإنساني ؟
العقلاء عندما ينظرون إلي الكون وما فيه من أشياء يؤمنون بوجود حكمة بالغة في صناعة هذه الأشياء ، وقد صدق الله عز وجل فيما قال : وَما خَلقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُما لاعِبِينَ ، مَا خَلقْنَاهُمَا إِلا بِالحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلمُونَ الدخان/39:38 ، فكيف نتعرف على تلك الحكمة ، وما هو التفسير المقبول الذي يملأ القلوب ويقنع العقول ؟
ألم ترغب يوما من الأيام أن تري مجتمعا طاهرا من الآثام ، يسوده الإخلاص والحب والسلام ؟ لمَ يتكالب الناس على الشهوات ، ويجعلون الغاية من حياتهم تحصيل الملذات ؟ ما الحكمة في أن نري الناس مختلفين آجالا وأرزاقا ، ألوانا وأخلاقا ، منهم الغني والفقير ، والأعمي البصير ، الجاهل والخبير ، منهم الظالم والمظلوم ، والحاكم والمحكوم ، لم لا يكون الناس سواسية في الملبس والمطعم ، والمسكن والمغنم ؟ هل يمكن للإنسان مهما بلغت درجته العلمية ، أن يتصدي لهذه الخواطر النفسية ، دون هداية حقيقية ، وتوجيهات إلهية ، تأخذ بيده من ظلمات الحيرة إلي نور الحياة ؟ لا شك أن الأمر يحتاج إلي التوقف والانتباه ..
وهذا الموضوع الذي نتحدث عنه اليوم نحاول فيه التعرف على حقيقة الإنسان وبداية الكون وصلتهما برب العزة والجلال ، وذلك من خلال ما جاء في الوحي من أوجه الكمال ، وبيان وجهة النظر الإسلامية المبنية على النقل الصحيح والأدلة الصافية في الإسلام ، ودلالة العقل الصريح وما يوجبه عند العقلاء من أحكام .
ولا بد من وقفة صدق مع النفس ، فالحياة مهما طالت قصيرة ، والنفس مهما بغت فقيرة ، والجهل بهذه الحقائق كبيرة ، فلا قيمة لإنسان يجهل الغاية من وجوده ، يقول تعالى : اعْلمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لعِبٌ وَلهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَال وَالأوْلادِ كَمَثَل غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الغُرُورِ ، ولنبدأ الآن بأعظم سؤال يتردد على الأذهان ، ما الذي يتميز به الإنسان عن الحيوان ، أو ما هي الميزة التي تجعل الإنسان منفردا غيره من الكائنات على الأرض ؟ أو ما هي قيمة الإنسان بين سائر المخلوقات ؟ تلك القيمة التي جعلته أعلى منزلة من غيره ، يستفيد ممن حوله ولا يستفاد منه ؟
لقد اختلف الناس في ذلك ولا زالوا مختلفين ، وقالوا أقوالا كثيرة كاجتهاد بلا يقين ، آراؤهم تكاد تنحصر في بعض الآراء العقلية التي تمثل أهم ما ورد في المسألة من جهود فكرية قدمها الإنسان ، فمنهم من قال تميز الإنسان عن سائر الكائنات بأنه حيوان ناطق يتكلم بأجود الكلمات وأبلغ العبارات ويحسن التعبير عما يجول في صدره من نوازع وخطرات ولا نسمع ذلك من بقية الكائنات ؟!
في الحقيقة هذا الكلام من الناحية العقلية عليه تعقيب واعتراضات ، لأننا نعلم أن مختلف المخلوقات تعيش في جماعات متوافقات متفاهمات ، ولا يمكن أن تكون على هذا الحال إلا إذا كانت متخاطبات متكلمات على طريقة ما أو كيفية يعلمها خالقها ومن دبر أمرها ، غير أننا لا نفهم مفردات الكلام بينهم .
فهم بالنسبة إلينا كالأجانب من البشر ، الذين يسمعون كلامنا ولا يستوعبون مرادنا ، ويستطيع المتخصصون الدارسون للعلوم المختلفة كعلم الحيوان والنباتات ، أو علم الطبيعة والجمادات ، أن يؤكدوا بيقين صدق هذه الحقيقة ، فانظر على سبيل المثال إلي مجموعات الطير والنحل أو الحيتان والنمل ، أو انظر إلي طبيعة الذرات الفلزات واللافلزات في تكوين العلاقات لإنشاء الجزيئيات ، كلها متوافقات متفاهمات ، وإن كنا لا ندري كيف يتم ذلك ؟
فإذا تساءل العقلاء : هل ورد في الإسلام ما يؤيد انفراد الإنسان بالنطق والبيان ؟ إذا طالعنا القرآن الذي يمثل عمدة الوحي في الإسلام وجدنا أنه ينفي انفراد الإنسان بصفة الكلام ، فكل شيء في المخلوقات له أيضا لغة وكلام ، ويتفاهم مع إخوانه في انسجام ، شأنهم في ذلك شأن البشر ، يتنوعون في اللغات والأجناس والصور .
فكما أن الإنسان يفهم لغة الإنسان الذي يتكلم بنفس اللسان كذلك موقفه من اللغة التي تتحدث بها هذه المخلوقات ، وما يراه بينها من رموز وإشارات ، فالقرآن يؤكد أن لها قولا ، ورموزا وشفرة وكلاما فيه عبرة ، ولهم قانون ونظام ، ومنهج وأحكام ، يتكاتفون في إظهاره ، ويتعاملون بينهم من خلاله ، والله سبحانه وتعالي يسمع قولهم وكلامهم ، ويعلم تسبيحهم ونظامهم ، فقال تعالى : أَلمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَليمٌ بِمَا يَفْعَلُون النور/41 .
وقال أيضا عن السماوات والأرض ومن فيهن : تُسَبِّحُ لهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَليمًا غَفُورًا الإسراء/44 ، وقال سبحانه وتعالي في إثبات منطق الجبال ، وتسبيحها لله بالغدو والآصال : إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَال مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ فكانت تسبح مع داود عليه السلام ، حيث ناداها ربها ، وهو عليم بحالها ، وبنطقها وكلامها ، فكلفها وأمرها ، وناداها فقال لها : يَا جِبَالُ أَوِّبِي معَهُ وَالطَّيْرَ فتسبيح الجبال حقيقية لا خيال ، وقد بين الله أيضا في غير موضع من القرآن أنها مسبحات ناطقات ، ذاكرات عابدات ، على كيفية لا نعلمها .
وقد كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يقرأ القرآن ، والجن يستمعون له بإمعان ، دون أن يشعر بوجودهم ، فتكلمت شجرة مجاورة لهم ، وأخبرت رسول الله صلي الله عليه وسلم عن سماعهم للقرآن ، فقد روي مسلم من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قَال : ( سَأَلتُ مَسْرُوقًا ، منْ آذَنَ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم بِالجِنِّ ليْلةَ استمَعُوا القُرْآنَ ؟ فَقَال : حَدَّثَنِي أَبُوكَ ، يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ أَنَّهُ آذَنَتْهُ بِهِمْ شَجَرَةٌ ) وعند البخاري قال : ( سَأَلتُ مَسْرُوقًا : مَنْ آذَنَ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم بِالجِنِّ ليْلةَ اسْتَمَعُوا القُرْآنَ ؟ فَقَال : حَدَّثَنِي أَبُوكَ يَعْنِي ، عَبْدَ اللهِ ، أَنَّهُ آذَنَتْ بِهِمْ شَجَرَةٌ ) .
ومن عجائب ما جاء في القرآن ، في شأن داود وسليمان عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ، أن الله استخلف سليمان في ملك أبيه داود ، وأعطاه من النعم ما يفوق الحدود ، فعلمه منطق الطيور بأنواعها ، وسمع النملة تقدم النصح لإخوانها ، وكلم الهدهد عن بلقيس وشأنها ، لما جاءه من سبأ بأخبارها ، وكان له مع هذه الكائنات وغيرها ، شأن عجيب يطيب له قلب الإنسان ، فقال تعالى عن داود وسليمان : وَلقدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُليْمَانَ عِلمًا وَقالا الحَمْدُ للهِ الذِي فَضَّلنَا على كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ وَوَرِثَ سُليْمَانُ دَاوُدَ وَقَال يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُل شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لهُوَ الفَضْلُ المُبِينُ النمل/16:15 ، قال المفسرون : ( أي آتيناهما علما بالقضاء وبكلام الطير والدواب وتسبيح الجبال ) فما كان لسليمان عليه السلام أن يكلم هذه المخلوقات ، لولا أن علمه الله لغتها ومنطقها ، ولذا قال الله بعدها : وَحُشِرَ لسُليْمَانَ جُنُودُهُ مِنْ الجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ، حتى إِذَا أَتَوْا على وَادِي النَّمْل قَالتْ نَمْلةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُليْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ، فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلهَا وَقَال رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التِي أَنْعَمْتَ على وَعلى وَالدَيَّ وَأَنْ أَعْمَل صَالحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالحِينَ .
ابن قيم الجوزية يقول : ( تكلمت النملة بعشرة أنواع من الخطاب في هذه النصيحة ، النداء والتنبيه والتسمية والأمر والنص والتحذير والتخصيص والتفهيم والتعميم والاعتذار ) ، وهو يستدل بكلام النملة على علمها بالله أكثر من الإنسان ، فالله عز وجل أخبرنا عن النمل أنه ركب فيه الشعور والنطق ولا سيما هذه النملة التي جمعت في خطابها بين النداء والتعيين ، والتنبيه والتخصيص والأمر لإخوانها ، وإضافة المساكن إلي أربابها ، والتجائهم إلي مساكنهم ، فلا يدخلون على غيرهم من الحيوانات مساكنهم ، والتعذير والاعتذار بأوجز خطاب ، وأعذب لفظ ولذلك فإن سليمان عليه السلام دعاه العجب من قولها إلي التبسم ، فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلهَا وأحري بهذه النملة وأخواتها ، أن يكونوا أعرف بالله من الجهمية ، والجهمية طائفة كلامية تنكر صفات الله عز وجل وتنفي عنه صفة الكلام .
وقد كان في منطق الهدهد الذي كلم سليمان عليه السلام ، ما يدل على فصاحة القول من خلال دقة كلماته ، وظهور الحكمة في عباراته ، وحسن التعبير عن مراداته ، فقال الله تعالى : وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَال مَا لي لا أَرَي الهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنْ الغَائِبِينَ ، لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَيدًا أَوْ لأذْبَحَنَّهُ أَوْ ليَأْتِيَنِي بِسُلطَانٍ مُبِينٍ ، فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَال أَحَطتُ بِمَا لمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ، إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلكُهُمْ ، وَأُوتِيَتْ مِنْ كُل شَيْءٍ وَلهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ، وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ للشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ ، وَزَيَّنَ لهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيل فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ ، أَلا يَسْجُدُوا للهِ الذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلنُونَ ، اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ النمل/26:20 .
فالهدهد توعده سليمان فأعمل ذكاءه ، لما جاءه بادره بالعذر قبل أن ينذره سليمان بالعقوبة ، وخاطبه خطابا هيجه به على الإصغاء للخطاب ، ليصرفه عن وعيده بالذبح أو العذاب ، فقال : أحطت بما لم تحط به ، والإحاطة أكمل من العلم والرؤية ، أتيتك بأمر قد عرفته حق المعرفة ، وهو خبر عظيم له شأن عظيم ، وجئتك من سبأ بنبأ يقين ، والنبأ هو الخبر الذي له شأن عظيم ، تتطلع النفوس إلي معرفته ، ثم وصفه خبره بأنه نبأ يقين لا شك فيه ولا ريب ، فهذه مقدمة لكلامه بين يدي نبي الله سليمان ، ليعظم الأمر ولا يبقي عليه عضبان ، وهذا نوع من براعة الاستهلال وخطاب التهييج والاستنفار ، ثم كشف عن حقيقة ما لديه من أخبار ، كشفا مؤكدا بأنواع التأكيد والاستدلال ، فقال : إني وجدت امرأة تملكهم ، ثم أخبر عن شأن تلك الملكة ، وأنها من أجل الملوك ، وأنها أوتيت من كل شيء يلزم سائر الملوك ، ثم زاد في تعظيم شأنها ، بذكر جلوسها على عرشها ، ووصف عرشها بأنه عرش عظيم ، ثم أخبره بما يدعوهم إلي غزوهم في عقر دارهم بعد دعوتهم إلي ربهم ، فقال :
وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله ، ثم أخبر عن الشيطان وتزينه الشرك للإنسان ، حتى صدهم بأعمالهم وشركهم عن السبيل المستقيم وهو السجود لله العلى العظيم ، ثم أخبر أن صدهم حال بينهم وبين الهداية والسجود لله ، ثم بين أنه لا ينبغي السجود إلا لله ، ثم ذكر من أفعال الله إخراج الخبء في السماوات والأرض ، وفي قوله هذا أعظم دلالة على عقيدته في القضاء والقدر ، وأن الرزق مكتوب ومقضي في السماء قبل أن يخلق الله في الأرض ما يشاء ، ثم أثبت لله تعالى صفة الاستواء ، وأن الله بذاته على عرشه في السماء ، فنفي مذهب الجهمية والمعتزلة والأشعرية وسائر الحلولية في تفسيرهم الاستواء بالقهر والاستيلاء ، فالهدهد هدهد موحد ، عقيدته سلفية في باب الأسماء والصفات ، توحيد بلا تمثيل وإثبات بلا تعطيل .
فكلمه سليمان كما يكلم صاحب العقل الرزين ، ولم يعجل في حكمه حتى يتبين أنه من الصادقين ، كما قال سبحانه وتعالي وهو أحكم الحاكمين : قَال سَنَنظرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الكَاذِبِينَ ، اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلقِهِ إِليْهِمْ ثُمَّ تَوَل عَنْهُمْ فَانظرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ قَالتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلقيَ إلي كِتَابٌ كَرِيمٌ ، إِنَّهُ مِنْ سُليْمَانَ وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلا تَعْلُوا على وَأْتُونِي مُسْلمِينَ النمل/31:27.
وعلى هذه نصل إلي أن الكائنات تتكلم بنص القرآن ، ولو أدركنا منطقها كما أدركه سليمان ، لعلمنا أنها لا تقل عن الإنسان شيئا في إمكانية النطق والبيان ولكن بالكيفية التي تناسبها ، وعلى الوضع الذي أراده خالقها ، وقد يعترض معترض ويقول : كيف تتكلم الحجارة والمعادن ، وهي صماء بكماء ، ولا نسمع لها قولا ولا كلاما ؟ وقد ذكر الله في شأن إبراهيم عليه السلام ، لما قال له قومه بعد أن حطم الأصنام :
قَالُوا أَأَنْتَ فَعلتَ هَذَا بِآلهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ، قَال بَل فَعَلهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ ، فَرَجَعُوا إلي أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالمُونَ ، ثُمَّ نُكِسُوا على رُءوسِهِمْ لقَدْ عَلمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ الأنبياء/65:62 ، وقال الله منكرا على بني إسرائيل أنهم عبدوا العجل من دون الله : وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَي مِنْ بَعدِهِ مِنْ حُليِّهِمْ عِجْلا جَسَدًا لهُ خُوَارٌ أَلمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالمِينَ الأعراف/148 .
فكيف يكون للحجارة بعد هذا قول ولغة وكلام ؟ وجواب ذلك أن يقال : نفي الكلام مطلقا عن أي مخلوق من المخلوقات يعارض عقل الإنسان ويخالف ما جاء في القرآن ، فكل نوع من الكائنات وردت فيه الأدلة المنصوصة على أنه متكلم ناطق بهيئة مخصوصة وكيفية مخصوصة ، ربما نجهلها لكن الله يعلمها فيصح السؤال لو قيده المعترض فقال : كيف تتكلم الحجارة والمعادن بلغة الإنسان أو الحيوان ؟ أما التعميم في النفي فهو مخالف لصريح القرآن كما قال سبحانه وتعالي :
وَقَالُوا لجُلُودِهِمْ لمَ شَهِدْتُمْ عَليْنَا قَالُوا أَنطَقنَا اللهُ الذِي أَنطَقَ كُل شَيْءٍ وَهُوَ خَلقَكُمْ أَوَّل مَرَّةٍ وَإِليْه تُرْجَعُون فصلت/21 َ، فتأمل الشاهد في الآية وفكر بإمعان ، ستجد الدليل بنص القرآن على أن كل شيء ناطق بحول الله ، فلو أدرك الإنسان كلام مخلوق ما سماه ناطقا ، وسماه أصما أبكما على اعتبار عدم الفهم والاستجابة ، وكذلك ينعكس الأمر على الإنسان ، على اعتبار عدم الفهم والاستجابة منه للغة ما أو دعوة ما ، كقول القائل العربي عن الأعجمي : هذا لا يتكلم أي لا يتكلم العربية ، وكوصف الله للمنافقين والكافرين بالصمم والبكم في قوله تعالى : صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعونَ ، مع أنهم يتكلمون اللغة العربية بطلاقة ، أو كقوله : إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ البُكْمُ الذِينَ لا يَعْقِلُونَ ، وقوله : وَالذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأْ اللهُ يُضْللهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلهُ على صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ .
وهذه الحجارة التي عبدوها من دون الله ، خلقها الله بكيفية مخصوصة لا تسمح بمخاطبة الإنسان ، فلن تتأثر بندائه ، ولن تستجيب لدعائه ، وعلى الرغم من ذلك جعلها الله في بعض المواطن عونا لأوليائه ، حربا على أعدائه تتكلم بما يفهمه الإنسان من منطق وبيان ، إما في نهاية الزمان عند محاربة اليهود ، أو عند الحساب في اليوم الموعود ، روي البخاري من حديث عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة الأنصارى أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ قَال لهُ :
( إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الغَنَمَ وَالبَادِيَةَ فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ بِالصَّلاةِ ، فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ ، فَإِنَّهُ لا يَسْمَعُ مَدَي صَوْتِ المُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلا إِنْسٌ وَلا شَيْءٌ إِلا شَهِدَ لهُ يَوْمَ القِيَامَةِ ، قَال أَبُو سَعِيدٍ : سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُول اللهِ صلي الله عليه وسلم ) والشاهد في الحديث أن المخلوقات تسمع صوت المؤذن وتشهد له بذلك يوم القيامة ، وقد ورد الحديث عند ابن ماجة وصححه الشيخ الألباني بلفظ آخر : ( إِذَا كُنْتَ فِي البَوَادِي فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالأذَانِ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صلي الله عليه وسلم يَقُولُ لا يَسْمَعُهُ جِنٌّ وَلا إِنْسٌ وَلا شَجَرٌ وَلا حجر إِلا شَهِدَ له ) ، قال أبو عمر بن عبد البر : ( والحديث يشهد بفضل رفع الصوت في الأذان ولا أدري كيفية فهم الموات والجماد ؟ ، كما لا أدري كيفية تسبيحها ؟ ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ .
وقد روي البخاري ومسلم من حديث عبد الله بْنَ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهمَا قَال : ( سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صلي الله عليه وسلم يَقُولُ : تُقَاتِلُكُمُ اليَهُودُ فَتُسَلطُونَ عَليْهِمْ ثُمَّ يَقُولُ الحَجَرُ يَا مُسْلمُ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُله ) ، وعقب ابن حجر بقوله : ( وفي الحديث ظهور الآيات قرب قيام الساعة من كلام الجماد من شجر وحجر ، وظاهره أن ذلك ينطق حقيقة ) .
وقال تعالى : إِذَا زُلزِلتْ الأرْضُ زِلزَالهَا ، وَأَخْرَجَتْ الأرْضُ أَثْقَالهَا ، وَقَال الإِنسَانُ مَا لهَا ، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَي لهَا تخبر الأرض بما عمل عليها الإنسان من خير وشر ، حيث أمرها الله بالكلام وأذن لها فيه ، وهذه الأصنام التي تعجز عن الكلام ، لو تكلمت بلغة الإنسان لعابت على عُبَّادِها ما يصنعون ، كيف يشركون ولا يوحدون ؟ كما قال تعالى في شأنهم وشأن الكائنات : وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ الإسراء/44 ، وإذا نظرنا بنظرة عصرية ، يفهمها أصحاب العلوم المادية ، وجدنا بالأبحاث العلمية أن المادة تتكون من مجموعة من العناصر والمرَكَّبات وكل عنصر مكون من مجموعة من الجزيئيات ، وكل جزيئ مكون من مجموعة من الذرات ، وكل ذرة لها نظام في تركيبها ، وجميع الذرات لها قانون في مداراتها ، ينظم التكافؤ لكل ذرة في علاقتها بأختها ، سواء كانت الذرةُ سالبةً أو موجبةً .
ولولا معرفةُ الإنسان لتركيب الذرة منذ حين ، وبعد جهل به دام آلاف السنين ، ما استطعنا أن نعلم أن المادة في عناصرها عبارة عن أخوات من الذرات ، متفاهمات متخاطبات ، ولولا أنها متكاتفات متماسكات ، وفق رموز وشفرات ، ما ظهرت لنا المواد في صورتها التي نراها ، وإلا فاسئل المتخصصين من العلماء في علم الطبيعة والفزياء كيف سيتكون جزئُ الماء ، إذا لم تتحد ذرتان من الهيدروجين مع ذرة واحدة من الأكسجين ؟ ولولا أنهم علموا بوجود الطاقة الهائلة المدفونة في باطن النواة المتعادلة ، وخصوصا الذرات المشعات القابلة للتمزق والشتات ، لولا أنهم علموا لهجة خطابها والقوانين التي تعمل من خلالها ، لما عكفوا على البحث لتحويلها إلي ما نراه من القنابل الذرية والرؤوس النووية التي لا تبقي ولا تذر ، وعلى ذلك فالحجارة والمعادن يراها الجاهل بحقيقتها صماء ، ويراها عالم الفزياء والكمياء ، الكْتُرُونَاتٍ متحركةً سالبةً ، وبُرُوتُونَاتٍ جاذبةً موجبةً ونِيُوتْرُونَاتٍ متعادلةً ساكنةً ، لها دستور ونظام ، وقانون وأحكام ، والذرات في ذلك متماسكة ، لا تمل ولا تعتل ، ولا تختل ولا تنحل ، إلا إذا شاء الله لها الفناء وتحولت إلي صورة من صور الطاقة .
فالكل متكلم ناطق بكيفية تليق به ، سواء تحركت شفتاه ، أو كان بغير فاه ، وسواء أدركنا قوله أو جهلناه ، أو اعتبره البعض متكلما أو لم يعتبره ، فالحقيقة التي يصدقها العقل ، وورد ذكرها في النقل أن الله الذي خلق جميع الكائنات ، يعلم منطقهم جميعا ، ويسمع تسبيحهم جميعا ، ويري صلاتهم جميعا ، كما قال : كُلٌّ قَدْ عَلمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَليمٌ بِمَا يَفْعَلُون النور/41 ، وقال : إِنَّ اللهَ لا يَخْفي عَليْهِ شَيْءٌ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ آل عمران/ 6:5 ، فهو سبحانه الذي أحاط بكل شيء علما وأحصي كل شيء عدداً ، ولا شك أن الذي خلق الإنسان أو الحيوان ، أو غيره من المخلوقات في الأرض أو في السماوات ، قادر على تكوين الكائنات على أي وضع شاء ، إن شاء ختم على فم الإنسان فما استطاع الكلام : اليَوْمَ نَختِمُ على أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون يس/65 وإن شاء أنطق الحيوان بالحكمة وروعة البيان ، فقد ثبت عند البخاري من حديث أبي هريرة أن رَسُول الله صلي الله عليه وسلم :
( صَلي صَلاةَ الصُّبْحِ ثُمَّ أَقْبَل على النَّاسِ فَقَال : بَيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إِذْ رَكِبَهَا فَضَرَبَهَا ، فَقَالتْ : إِنَّا لمْ نُخْلقْ لهَذَا ، إِنَّمَا خُلقْنَا للحَرْثِ ، فَقَال النَّاسُ : سُبْحَانَ اللهِ بَقَرَةٌ تتَكَلمُ ؟ فَقَال : فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ، وَمَا هُمَا ثَمَّ ، ثم قال صلي الله عليه وسلم: وَبَيْنمَا رَجُلٌ فِي غَنَمِهِ إِذْ عَدَا الذِّئْبُ ، فَذَهَبَ مِنْهَا بِشَاةٍ فَطَلبَ حتى كَأَنَّهُ اسْتَنْقَذَهَا مِنْهُ ، فَقَال لهُ الذِّئْبُ : هَذَا اسْتَنْقَذْتَها مِنِّي ، فَمَنْ لهَا يَوْمَ السَّبُعِ يَوْمَ لا رَاعِيَ لهَا غَيْرِي ؟ فَقَال النَّاسُ : سُبْحَانَ اللهِ ذِئْبٌ يَتَكَلمُ ؟ قَال : فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمرُ ، وَمَا هُمَا ثَمَّ )
وعند أبي داود وصححه الشيخ الألباني من حديث عبد الله بن جعفر قال : ( دَخَل رسول الله صلي الله عليه وسلم حائِطًا لرَجُلٍ مِنَ الأنْصَارِ - الحائط هو البستان ، أو الأرض المحاطة بسور - ، فَإِذَا جَمَلٌ ، فَلمَّا رَأي النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ - يعني لمَّا رَأي الجملُ رسول الله صلي الله عليه وسلم بكي ، وشكا له ظلم صاحبه حيث يتركه بلا طعام ، ولا يعطيه حقه في الراحة أو المنام - ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ - الذفر أصل الأذن وطرفها - ، فَسَكَتَ ، فَقَال : مَنْ رَبُّ هَذَا الجَمَل - يعني مالكه والقائم على أمره - ؟ لمَنْ هَذَا الجَمَلُ ؟ فَجَاءَ فتي مِنَ الأنْصَارِ فَقَال : لي يَا رَسُول اللهِ ! فَقَال : أَفَلا تَتَّقِي اللهَ فِي هَذِهِ البَهِيمَةِ التِي مَلكَكَ اللهُ إِيَّاهَا فَإِنَّهُ شَكَا إلي أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُه ) .
فإذا كان الحيوان لا يتكلم بقولنا ولا ينطق بكلامنا ، فنحن أيضا نعجز عن الكلام مع هذه المخلوقات ، والمتخصصون من العلماء يعلمون أن لغة الحيوان أشد تعقيدا من لغة الإنسان ، وتحتاج منا لو أردنا التعرف على شفرة الخطاب بينها وفك رموزها وألغازها إلي دراسة علمية شاقة يقدرها علماء الحيوان على وجه الخصوص ، فمن بداهة العقل إذا ألا نقبل القول بأن الإنسان تميز عن غيره بأنه حيوان ناطق ؟
سؤال : إذا لم يكن الإنسان متميزا عن غيره بالنطق والكلام ، فهل يتميز بأنه عاقل حكيم يحرص على نفعه ودفعه ما يضره ؟ من وجهة النظر العقلية نجد أن الإنسان لا ينفرد عن هذه المخلوقات بوصف العقل ، بل يمكن القول إنه عند القياس أقل من غيره نصيبا وأكثر معيبا ، وقبل إقامة البرهان على ذلك لا بد من معرفة المقصود بالعقل ؟
فالعقل آلة غيبية تابعة للروح ، مغروزة في الجانب الغيبي من قلب الإنسان لا نعرف كيفيتها ولكن نتعرف على وجودها ووجود أوصافها من خلال أفعال الإنسان في ظاهر البدن ، فيقال : هذا عاقل إذا فعل أفعال العقلاء وهذا مجنون إذا لم يتصف بها ، قال تعالى : أَفَلمْ يسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا الحج/46 ، فدل ذلك على أن العقل موجود في القلب وأن القلب يرجع إليه ويهيمن عليه ، وهو المسئول عن شحنه بالمعلومات أو تركه أجوفا فارغا ، يقول الثعالبي في تفسيره : ( هذه الآية تقتضي أن العقل في القلب ، وذلك هو الحق ولا ينكر أن للدماغ اتصالا بالقلب يوجب فساد العقل متي اختل الدماغ ) ويقول القرطبي : ( أضاف العقل إلي القلب لأنه محله كما أن السمع محل الأذن ، وقد قيل : إن العقل محله الدماغ ، وروي عن أبي حنيفة وما أراها عنه صحيحا ) .
والعقل يقوم بتحصيل المعلومات وجمعها ، والحواس وسيلة الإنسان لإدراكها ، فهي المسئولة عن إدخال المعلومات وإخراجها ، ثم يقوم العقل بعد ذلك بتحليلها ، وتصنيف الحدث المرافق لها ، ثم يخزنها في الذاكرة لاستدعائها حسبما يشاء الإنسان .
والغاية الرئيسية من وجود العقل ، معرفة الإنسان بما ينفعه أو يضره وكيف يحصِّل الخير الأعلى والأفضل دائما ، فالعقل شأنه شأن الكمبيوتر أو العقل الألكتروني ، غير أن هذا من صنع البشر ، وهذا من صنع خالق البشر ، وشتان بين هذا وذاك ، ولما كان عظم المنفعة من أجهزة الكمبيوتر يرتبط طرديا مع البرامج العلمية عالية التقنية ، كان عِظَمُ المنفعة من العقل البشري يرتبط أيضا مع التزام الإنسان بالمناهج الدقيقة التي وضعها خالقه سبحانه وتعالي ، والتي لن نجد لها مثيلا من صنع البشر ، فلو وضع الله للإنسان منهجا ونظاما ، ودستورا وأحكاما ، كان الكمال كله فيه ، وكان صلاح العقل في اتباعة ، فَعِلمُ البشر لا يقارن بعلم الله ، والحكم بغير شرعه ونظامه لا يرقي أبدا إلي الحكم بما أنزل الله ، ومما لا شك فيه أننا نري جميع الكائنات في حياتها ، حريصة كل الحرص على نفعها ودفع الشر عن نفسها ، ولذا تطبق منهج الله أكثر من غيرها ، فهي أعقل عند المقارنة من الإنسان ، نقف عند هذا الحد ، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أن أستغفرك وأتوب إليك .
بداية الكون والإنسان – المحاضرة الثانية
هل تميز الإنسان بالعقل والاجتماعية ؟
الحمد لله الكبير المتعال ، ذي القدرة والجلال ، والكمال والجمال ، والنعم والأفضال ، سبحانه هو العلى الكبير ، هو العليم القدير ، هو اللطيف الخبير ، تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير ، أحمده حمد المعترف بالعجز والتقصير ، وأشكره على ما أولانا من نعم وفضل كبير ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة من يؤمن بأنه لا معين له ولا ظهير ، ولا وزير له ولا مشير ، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله ، البشير النذير ، والسراج المنير ، المبعوث إلي كافة الخلق من غني وفقير ، ومأمور وأمير ، صلي الله عليه وعلى آله الطاهرين ، وسائر أصحابه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلي يوم الدين : يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا يُصْلحْ لكُمْ أَعْمَالكُمْ وَيَغْفرْ لكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَرَسُولهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا الأحزاب/71:70 ، يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلمُون (آل عمران/102) أما بعد ..
فحديثنا بإذن الله تعالى في محاضرة اليوم يدور حول الجزء الثاني من الموضوع الذي بدأنا فيه بالأمس ، وتناولنا فيه الحديث عن بداية الكون ونشأة الإنسان ، وقد بدأنا في المحاضرة الماضية بأعظم سؤال يتردد على الأذهان ، ما الذي يتميز به الإنسان عن الحيوان ، أو ما هي الميزة التي تجعل الإنسان منفردا عن غيره من الكائنات ؟ أو ما هي قيمة الإنسان بين سائر المخلوقات ؟ تلك القيمة التي جعلته أعلى منزلة من غيره ، يستفيد ممن حوله ولا يستفاد منه ؟ وبينا أن الناس في ذلك مختلفون ، فمنهم من قال تميز الإنسان عن سائر الكائنات بأنه حيوان ناطق يتكلم بأجود الكلمات وأبلغ العبارات ويحسن التعبير عما يجول في صدره من نوازع وخطرات ولا نسمع ذلك من بقية الكائنات ؟
وعلمنا أنه من بداهة العقل ألا نقبل القول بأن الإنسان تميز عن غيره بأنه حيوان ناطق ، لأن ذلك يخالف العقل الصريح ويعارض النقل الصحيح ، فالقرآن يثبت بلا لبث أو غموض أن الإنسان لا يتميز عن الحيوان في إمكانية النطق والبيان ؟ فالله تعالى يقول : تُسَبِّحُ لهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَليمًا غَفُورًا الإسراء/44 .
وقد علمنا كيف أبدعت النملة في خطابها ، ولماذا أدرك سليمان كلامها وتبسم ضاحكا من قولها ، وكيف أخبر الهدهد عن بلقيس وشركها ، وكيف تكلمت البقرة وأنكرت على راكبها ؟
وقد تساءلنا وقلنا : إذا لم يكن الإنسان متميزا عن غيره بالنطق والكلام ، فهل يتميز بأنه عاقل حكيم يحرص على نفعه ويدفع عن نفسه ما يضره ؟ وعلمنا أنه من جهة العقل نجد أن الإنسان لا ينفرد عن هذه المخلوقات بوصف العقل ، بل يمكن القول إنه عند القياس أقل من غيره نصيبا وأكثر معيبا ، وعرفنا المقصود بالعقل ؟ وأنه آلة غيبية مغروزة في الجانب الغيبي من قلب الإنسان لا نعرف كيفيتها ولكن نتعرف على وجودها ووجود أوصافها من خلال أفعال الإنسان في ظاهر البدن ، واليوم نستكمل الحديث في إثبات العقل لدي كثير من المخلوقات فهي أيضا لها آلة غيبية مجهولة الكيفية مغروزة فيها ، تميز بها بين ما ينفعها وما يضرها ، ولديها قدرات عجيبة في التمييز والإحساس ، لا فرق بينها وبين أغلب الناس ، فالنملة مثلا لو وضعتها في إناء ، فيه قطرة من ماء ، ونظرت إلي حركتها ، وتأملت طريقتها في الخلاص من الهلاك ، لرأيتها تدبر أمرها بطريقة لا تقل عن سائر العقلاء ، كيف تتمكن النملة في حساباتها من الابتعاد عن قطرة الماء ؟ ولماذا تبتعد عن الهلاك كالإنسان سواء بسواء ؟ كيف علمت أن الماء يغرقها ويهلكها ؟ .
هذه النملة الضعيفة لديها من الفطنة والحيلة في جمع قوتها وادخاره وحفظه ودفع الآفة عنه ما يعجز عن تدبيره عقل الإنسان ، فإنك تري في ذلك عبرا وآيات ، فتري جماعة النمل إذا أرادت تحصيل قوتها ، خرجت بأسرابها ورسمت لنفسها طريقين ، طريق للنمل الذي يحمل الطعام إلي مساكنها ، وطريق لعودة النمل إلي الحبوب في أماكنها ، يسيرون في طريقين باتجاهين مختلفين ، يراهما الإنسان خطين مرسومين ليس فيهما تجاوز أو اختلاط ، كأنه طريق مزدوج تسير فيه السيارات ، كثير من البشر اعتاد على قطع الإشارات وعكس الاتجاهات ، وتعمد ارتكاب المخالفات ، ولا تجد ذلك في أمة النمل ، ولو حدث حادث لنملة ولم تقو على حمل الحبة لثقلها عليها اجتمعت عليها جماعة من النمل وقمن بالواجب المطلوب ، كما يتعاون الإنسان مع أخيه الإنسان في حمل الشيء الثقيل .
يذكر ابن القيم أنه من عجيب ما ورد في عقل النمل وفطنته ، أنها إذا نقلت الحب إلي مساكنها كسرته لئلا ينبت ، فإن كانت الحبة فيها فلقتان ، كل فلقة تنبت بذاتها كسرته أربعا ، فإذا أصابه ندا أو بلل وخافت عليه الفساد ، أخرجته للشمس ثم ترده إلي بيوتها ، ولهذا تري في بعض الأحيان حبوبا كثيرة مكسورة على أبواب مساكن النمل ، ثم تعود عن قريب فلا تري شيئا من ذلك .
يروي ابن القيم عن بعض الصالحين أنه كان جالس على الأرض يتأمل سلوك النمل وقدرة الخالق في تكونه ، فشاهد منهن عجبا ، يقول : رأيت نملة جاءت إلي جرادة صغيرة فحاولت حمله فلم تستطع ، فذهبت غير بعيد ثم جاءت معها بجماعة من النمل ، يقول : فرفعت الجرادة من الأرض ، فلما وصلت النملة مع أخواتها إلي مكان الجرادة دارت حوله فلم تجده ، ودرن معها يبحثن عن الجرادة فلم يجدن شيئا ، فتركنها وانصرفن كأنهن اتهمنها بالكذب والعبث واللعب وتضيع الأوقات ، يقول : فوضعت الجرادة على الأرض ، فوجدته النملة فحاولت حمله فلم تستطع ، فذهبت غير بعيد ثم جاءت معها بجماعة من النمل ، قال : فرفعت الجرادة من الأرض ، فلما وصلت النملة مع أخواتها إلي مكان الجرادة دارت حوله فلم تجده ، ودرن معها يبحثن عن الجرادة فلم يجدن شيئا ، فتركنها وانصرفن يقول : فوضعت الجرادة على الأرض مرة أخرى ، فوجدته النملة فحاولت حمله فلم تستطع ، فذهبت غير بعيد ثم جاءت معها بجماعة من النمل ، فرفعت الجرادة من الأرض ، فلما وصلت النملة مع أخواتها إلي مكان الجرادة دارت حوله فلم تجده ، ودرن معها يبحثن عن الجرادة فلم يجدن شيئا ، فلما لم يجدن شيئا تحلقن حلقة ، وجعلن تلك النملة في وسطها ، ثم تحاملن عليها ، فقطعنها عضوا عضوا حتى ماتت وأنا انظر .
سبحان الله المخلوقات لديها وعي وعقل وإدراك وتمييز حتى النبات ، اسأل نفسك : ما الذي يجعل النبات يميل إلي ضوء الشمس دائما ؟ وكيف يقوم بحساب حساسية الضوء في مكانه وكيف أدرك ضرورته لإتمام عملية البناء الضوئي ؟ وكيف يحسب الطائر عوامل الاتزان في الهواء أثناء الطيران ؟ أليست لديه تكنولوجيا أرقي وأعلى من عقل الإنسان ؟ هل تري أنه درس في معاهد الطيران ؟ أم تري أنه يجهل قوانين الحركة لنيوتن ، ولا يعلم أن لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار ومضاد له في الاتجاه ؟
اسأل نفسك من هذا القبيل عن جميع الأشياء من حولك حتى تتأكد أن الإنسان ليس وحده العاقل ؟ بل يمكن القول إن الإنسان أقل من غيره عقلا ، وأردأ في حساباته العقلية ، ويمكن لحيوان صغير أن يخدع الرجل الكبير ، وروي من هذا القبيل الكثير والكثير في تاريخ الحيوان ، يذكر ابن القيم في ذكاء الثعلب أن رجلا كان معه دجاجتان ، فاختبأ الثعلب له ، وخطف إحداهما وفر ، ثم أعمل الثعلب فكره في أخذ الأخرى ، فظهر لصاحبها من بعيد ، وفي فمه شيء شبيه بالدجاجة ، وأطمع الرجل في استعادة الدجاجة ، بأن ترك ما في فمه وفر ، فظن الرجل أنها الدجاجة فأسرع نحوها وترك الأخرى وخالفه الثعلب في خفية فأخذها وذهب .
يقول ابن القيم : ( وكثير من العقلاء يتعلم من الحيوانات البهم أمورا تنفعه في معاشه وأخلاقه وصناعته وحربه وحزمه وصبره ، وهداية الحيوان فوق هداية أكثر الناس قال تعالى : أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأنْعَامِ بَل هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا .
ولا يمكن لمن يعلم أسس الحساب من أصحاب العقول ، أن يجعل محصول جمع الدرهمين أو الثلاثة درهما واحدا ، لكن العجب أنه مقبول عند كثير من المنتسبين إلي العقول ، فيشركون بالله ويجعلون الإله اثنين أو ثلاثة ، إن العقل السليم لا يقبل الشرك ولا يرضاه ، فمن المحال عند العقلاء أن يكون الخالق إلهين اثنين متعادلين في وصف القدرة ، لأنه إذا أراد أحدهما شيئا ولم يرده الآخر ، فلا بد عند التنازع من غالب وخاسر ، وسيعود الأمر إلي قوي قادر ، والآخر مربوب مقهور عاجز ، قال الله تعالى : مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذًا لذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِمَا خَلقَ وَلعَلا بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ، وقال أيضا : أَمْ اتَّخَذُوا آلهَةً مِنْ الأرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ ، لوْ كَانَ فِيهِمَا آلهَةٌ إِلا اللهُ لفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ .
وقد ذكر الله في القرآن رأي من خالف الإنسان ، وأنكر عليه اتخاذ الولد للرحمن ، وبين أن هذه المخلوقات يرفضن ذلك بشدة ، فقال سبحانه وتعالي : وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلدًا ، لقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَدًّا ، أَنْ دَعَوْا للرَّحْمَنِ وَلدًا ، وَمَا يَنْبَغِي للرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلدًا ، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ، لقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْدً ا .
أليست هذه هي المخلوقان التي خيرها الله في حمل الأمانة فقال : إِنا عَرَضْنَا الأمانَةَ على السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالجِبَال فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا .
روي ابن جرير الطبري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال : ( إن الشرك فزعت منه السماوات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين ، وكادت أن تزول منه لعظمة الله وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك كذلك نرجو أن يغفر الله ذنوب الموحدين ) وفي رواية أخرى ( اقشعرت الجبال وما فيها من الأشجار ، والبحار وما فيها من الحيتان ، وفزعت السماوات والأرض والجبال وجميع المخلوقات إلا الثقلين وكادت أن تزول ) .
ويروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : ( إن الجبل يقول للجبل : يا فلان هل مر بك اليوم ذاكر لله عز وجل ، فإن قال : نعم سر به ، ثم قرأ عبد الله ابن مسعود : وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلدًا ، لقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَدًّا ، أَنْ دَعَوْا للرَّحْمَنِ وَلدً ا قال : أفتراهن يسمعن الزور ولا يسمعن الخير ) ، ويروي أيضا عن أنس بن مالك قال : ( ما من صباح ولا رواح إلا تنادي بقاع الأرض بعضها بعضا : يا جاره ، هل مر بك اليوم عبد فصلي لله أو ذكر الله عليك ؟ فمن قائلة : لا ، ومن قائلة : نعم ، فإذا قالت : نعم ، رأت لها بذلك فضلا عليها ) .
ومن المعلوم في الفطرة السليمة أن العاقل هو الحريص على جلب المنفعة وتحصيلها وحب الخيرات وتفضيلها ، ولا نجد عاقلا يفضل الخير الأدنى على الخير الأعلى ، والعاقل أيضا حريص على دفع المضرة وإبعادها ، كما أنه يتحمل ضرراً أدني ليحصِّل منفعة أعلى ، ويضحي بالقليل ليحصِّل الكثير ، ويحرص بفطرته على الباقي ويزهد بسليقته في الفاني ، فالمريض يتحمل مرارة الدواء من أجل إدراك الشفاء .
هذه أوصاف العقلاء النابعة من الفطرة السليمة ، ومن هنا كانت دعوة الإسلام دعوة عظيمة ، لأنها بنيت على إيثار ما عند الله وطلب الجنان ، والبعد عن كل ما يقرب من النيران ، فليس بعد نعيم الجنة من خير ، وليس بعد عذاب النار من شر ، روي مسلم من حديث أَنَسِ بْنِ مَالكٍ ، قَال رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم : ( يُؤْتَي بِأَنْعَمِ أَهْل الدُّنْيَا مِنْ أَهْل النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً ثُمَّ يُقَالُ : يَا ابْنَ آدَمَ هَل رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ ؟ هَل مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ ؟ فَيَقُولُ : لا وَاللهِ يَا رَبِّ وَيُؤْتَي بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْل الجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَة فِي الجَنَّةِ ، فَيُقَالُ لهُ : يَا ابْنَ آدَمَ هَل رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ ؟ هَل مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ ؟ ، فَيَقُولُ : لا وَاللهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ وَلا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ ) ، وقال تعالى : بَل تُؤْثِرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا ، وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَي إِنَّ هَذَا لفِي الصُّحُفِ الأُولي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَي .
والقرآن يخبرنا أن المعرض عن ربه يعترف بذنبه ويقر على نفسه بأن الله منحه غريزة العقل لكنه لم ينتفع بها ، وأنه لم يكن عاقلا حين فضل دنياه على أخراه ، وتجاهل العذاب الذي أعده الله للعصاة ، فقال تعالى : إِذَا أُلقُوا فِيهَا سَمِعُوا لهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ ، تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الغَيْظِ كُلمَا أُلقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلهُمْ خَزَنَتُهَا أَلمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلي قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلنَا مَا نَزَّل اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ ، وَقَالُوا لوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ، فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ .
وعلى ذلك نصل إلي أن الإنسان على العموم ، لم يتميز عمن حوله بالعقل والحكمة إذ يشتركون معه في ذلك على الأقل ، وإن كانت الحقائق تؤكد أن كثيرا من الكائنات أفضل منطقا وعقلا وأحكم قولاً وفعلا في موازين النفع والضرر ، فالإنسان إذا لا يتميز عن غيره بالكلام أو النطق أو الحكمة والعقل ، فهل ما يميز الإنسان عن غيره أنه اجتماعي ؟ لأن الاجتماعية هي صفة الإنسان عند علماء الاجتماع ، يقولون الإنسان يمكنه أن يقيم الأمم والحضارات ويضع المجالس والوزارات ، وله دستور ومؤسسات وبقية المخلوقات همجية عشوائية لا تتصف بصفة الاجتماعية ؟ !
إن الواقع يشهد بغير ذلك ، فأبحاث علم الحيوان تؤكد أنها أممية حضارية ، فالنحل مثلاً يقيم دولة متكاملة في كل خلية كاملة ، وله دستور ثابت ونظام محكم ، لا يحتال عليه أحد بالتزوير والتبديل كما هو شأن الإنسان الذي يبحث عن ثغرة في القوانين ليجد مخرجا لأطماعه وطغيانه وجرمه وعصيانه ، والقانون عاجز عن ضبطه وردعه ، ووقفه ومنعه ، هذا شأن البشر مع البشر ، ولا نجد ذلك في الكائنات الأخرى قال تعالى : وَأَوْحَي رَبُّكَ إلي النَّحْل أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الجِبَال بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ، ثُمَّ كُلي مِنْ كُل الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُل رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلفٌ أَلوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ للنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلكَ لآيَةً لقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ النحل/69:68.
فالنحل مثلا لديه من الاجتماعية ما لا يوجد لدي الإنسان ، إذا كان وقت رجوع النحل إلي الخلية وقف على باب الخلية بواب منها ، ومعه أعوان فكل نحلة تريد الدخول يشمها البواب ويتفقدها ، فإن وجد منها رائحة منكرة ، أو رأي بها تلطخ بوساخة منعها من الدخول ، وعزلها في ناحية بعيدة إلي أن يدخل الجميع ، فيرجع إلي المعزولات الممنوعات من الدخول ، فيتفقدهن ويكشف أحوالهن مرة ثانيه ، فمن وجده قد وقع في شيء منتن أو نجس عاقبه عقابا شديدا ومن كانت جنايته خفيفة تركه خارج الخلية ، هذا دأب البواب كل عشية .
وملكة النحل لا تكثر الخروج من الخلية إلا نادرا ، فإذا اشتهت التنزه خرجت ومعها أمراء النحل والخدم ، فتطوف في المروج والرياض والبساتين ساعة من النهار ثم تعود إلي مكانها ، ومن عجيب أمرها أنها ربما لحقها أذي من النحل أو من صاحب الخلية ، فتغضب الملكة وتخرج من الخلية وتبتعد عنها ، فيتبعها جميع النحل يسترضينها وتبقي الخلية خالية ، فإذا رأي صاحبها خرابها ، وخاف أن الملكة ستأخذ النحل وتذهب به إلي مكان آخر ، احتال لاسترجاعها وإرضائها ، فيتعرف على موضعها الذي صار إليه النحل ، ويعرفها باجتماع النحل عليها ، فإنه لا يفارقها بل يجتمع عليها حتى يصير النحل عليها كالعنقود أو الكرة ، والملكة إذا خرجت غضبانة وقفت على مكان مرتفع من الشجرة ، وطاف بها النحل وانضمت إليها حتى يصير النحل فوقها كالكرة ، فيأخذ صاحب النحل رمحا أو عودا طويلا ويربط على رأسه حزمة من النبات الطيب الرائحة أو يعطر النبات بعطر نظيف ، ويدنيه إلي محل الملكة إلي أن ترضي ، فإذا رضيت وزال غضبها ، نزلت الملكة على العود أو الرمح أو النبات الطيب الرائحة ، وتبعه الخدم وسائر النحل ، فيحمله صاحبه إلي الخلية ، سبحان الله ، الذي خلق فسوي والذي قدر فهدي ، صنع الذي أتقن كل شيء .
ومن عجائب القدرة في هذه المخلوقات ، أن الله جعل بعض الدواب كسوبا محتالا ، وبعضها متوكلا غير محتال ، وبعض الحشرات يدخر لنفسه قوت سنته ، وبعضها يتكل على الثقة بأن له في كل يوم قدر كفايته ، رزقا مضمونا وأمر مقطوعا ، وبعضها يدخر ، وبعضها لا تكسب له ، وبعض الذكورة يعول ولده ، وبعضها لا يعرف ولده البتة ، وبعض الإناث تكفل ولدها لا تفارقه ، وبعضها تضع ولدها وتكفل ولد غيرها ، وبعضها لا تعرف ولدها إذا استغني عنها ، وبعضها لا تزال تعرفه وتعطف عليه ، وجعل الله يتم بعض الحيوانات من قبل أمهاتها ، وبعضها يتمها من قل آبائها ، وبعضها لا يلتمس الولد ، وبعضها يستفرغ الهم في طلبه وبعضها يعرف الإحسان ويشكر ، وبعضها ليس ذلك عنده شيئا ، وبعضها يؤثر غيره على نفسه .
وبعضها إذا ظفر بما يكفي أمة من جنسه ، لم يدع أحدا يدنو منه ، وبعضها يحب الجماع ويكثر منه ، وبعضها لا يفعله في السنة مرة ، وبعضها يقتصر على أنثاه ، وبعضها يفعل بأي أنثي ولو كانت أمه أو أخته ، وبعضها لا تمكن غير زوجها من نفسها ، وبعضها لا ترد يد لامس ، وبعضها يألف بني آدم ويأنس بهم ، وبعضها يستوحش منهم وينفر غاية النفار ، وبعضها لا يأكل إلا الطيب ، وبعضها لا يأكل إلا الخبائث ، وبعضها يجمع بين الأمرين ، وبعضها لا يؤذي إلا من بالغ في أذاها ، وبعضها يؤذي من لا يؤذيها ، وبعضها حقود لا ينسي الإساءة ، وبعضها لا يذكرها البتة ، وبعضها لا يغضب ، وبعضها يشتد غضبه فلا يزال يُسْترضي حتى يرضي ، وبعضها عنده علم ومعرفة بأمور دقيقة لا يهتدي إليها أكثر الناس ، وبعضها لا معرفة له بشيء من ذلك البتة ، وبعضها يستقبح القبيح وينفر منه ، وبعضها الحَسَنُ والقبيح سواء عنده .
وبعضها يقبل التعليم بسرعة وبعضها لا يقبله إلا بصعوبة ، وبعضها لا يقبل ذلك بحال ، وهذا كله من أدلة الدلائل على الخالق لها سبحانه وعلى إتقان صنعه وعجيب تدبيره ولطيف حكمته ، فإن فيما أودعه في هذه المخلوقات من غرائب المعارف ، وغوامض الحيل ، وحسن التدبير والتأني لما تريده ما يستنطق الأفواه بالتسبيح ، ويملأ القلوب من معرفته ومعرفة حكمته وقدرته ، وما يعلم به كل عاقل أنه لم يخلق الخلق عبثا ، ولم يتركه سدي ، وإن له سبحانه في كل مخلوق حكمة باهرة ، وآية ظاهرة ، وبرهانا قاطعا يدل على أنه رب كل شيء ومليكه ، وأنه المنفرد بكل كمال دون خلقه وأنه على كل شيء قدير وبكل شيء عليم . انظر بتصرف ، شفاء العليل لابن قيم الجوزية .
إن المخلوقات لهن قانون حازم ، ينفذن أمره بشكل صارم ، لا مكان للمخالف منهن بينهن ، وربما مصيره عندهن الموت ، نري ذلك باديا واضحا وظاهرا جليا في مجتمعات النمل والحيتان والطير والحيوان ، وفي كثير من الأحيان يتشابه سلوكهن مع الإنسان ، وهذا ما يذكره القرآن في كل وضوح وبيان ، فقال تعالى : وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلأ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلأ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إلي رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ الأنعام/38 .
وقد أورد البخاري في صحيحة عن أمة القرود ، قصة توافق المعهود في إقامة الحدود ، فهم وإن كانوا غير مكلفين بشرعنا إلا أنهم يستقبحون الزنا مثلنا ، فعن عمرو بن ميمون الأودي قال : ( رَأَيْتُ فِي الجَاهِليَّةِ قِرْدَةً اجْتَمَعَ عَليْهَا قِرَدَةٌ قَدْ زَنَتْ فَرَجَمُوهَا فَرَجَمْتُهَا مَعَهُمْ ) ، و عمرو بن ميمون الأودي ، تابعي ثقة كوفي مخضرم أدرك الجاهلية وأسلم في حياة النبي صلي الله عليه وسلم لكنه لم يره ، كان أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم يرضون به ، سمع معاذ بن جبل باليمن وبالشام ، وعبد الله ابن مسعود وعمربن الخطاب رضي الله تعالى عنهم ، قال له رجل وهو في مسجد الكوفة حدثنا بأعجب شيء رأيته في الجاهلية ؟ قال : كنت في حرث لأهل اليمن فرأيت قرودا كثيرة قد اجتمعن ، وفي رواية أخرى :
( قال رأيت الرجم في غير بني آدم ، إن أهلي أرسلوني في نخل لهم أحفظها ، فيها كثير من القرود ، فبينما أنا في البستان إذ جاءت القرود فصعدت نخلة أختبئ منهم ، فرأيت قردا وقردة اضطجعا ثم أدخلت القردة يدها تحت عنق القرد واعتنقتها وناما ، فجاء قرد فغمزها من تحت رأسها ، فاستلت يدها من تحت رأس القرد ، ثم انطلقت معه غير بعيد فنكحها وعاشرها أنا أنظر ، ثم رجعت إلي مضجعها وأدخلت يدها تحت عنق القرد كما كانت ، فانتبه القرد فقام إليها فشم دبرها ، فصاح صيحة قوية ، فاجتمعت القردة على الفور ، فقام واحد منهم كهيئة الخطيب ، فجعل يسير إليها ويشير عليها ، فوجههم في طلب القرد الذي وقع في الجريمة ، فانطلقت القردة وتفرقت حتى جاءت بذلك القرد بعينه أعرفه ، فانطلقوا بها وبالقرد إلي موضع كثير الرمل ، فحفروا لهما حفيرة فجعلهوهما فيها ، ثم رجموهما حتى قتلوهما ، والله لقد رأيت الرجم قبل أن يبعث الله محمدا صلي الله عليه وسلم ، وهذه الرواية موجودة باختصار في فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني وبالتفصيل والإجمال في تهذيب الكمال ، فكيف ينفرد الإنسان بعد ذلك بأنه اجتماعي ؟!
علمنا أن الإنسان لا يتميز عن غيره من المخلوقات بالنطق والكلام فجميع الكائنات تتكلم بهيئات وكيفيات تخصها ، ولا يتميز أيضا بالعقل والحكمة فكل المخلوقات حريصة على تحصيل الخيرات والابتعاد عن المهلكات كما أنها تعيش في مجموعات متوافقات متفاهمات وهذا يعني أنه لا ينفرد بصفة الاجتماعية ، والسؤال الآن : هل يتميز الإنسان بأنه عابد ؟ والجواب : أنه لا ينفرد عن غيره بالعبادة ، وقبل إقامة البرهان على ذلك ، لا بد من معرفة معني العبادة ، فالعبادة هي الخضوع التام المقترن بالإرادة وتعظيم المحبوب ، فإن كان الخضوع والطاعة بغير إرادة فلا تسمي عبادة .
قال ابن القيم في مدارج السالكين : ( العبادة تجمع أصلين ، غاية الحب بغاية الذل والخضوع ، والعرب تقول : طريق معبد أي مذلل والتعبد التذلل والخضوع ، فمن أحببته ولم تكن خاضعا له لم تكن عابدا له ، ومن خضعت له بلا محبة لم تكن عابدا له حتى تكون محبا خاضعا ) وقال في الجواب الكافي : ( الإله هو الذي تألهه القلوب بالمحبة والإجلال والتعظيم والذل والخضوع وتعبده ، والعبادة لا تصح إلا له وحده ، والعبادة هي كمال الحب مع كمال الخضوع والذل ) .
ولا شك أننا نري في سائر المخلوقات كمال الخضوع والانضباط ، كما نري دقتها في تنفيذ التوجيهات التي حددها الله لها ، ولا يمكن أن تكون المخلوقات على هذه الكفاءة في حياتها بغير محبتها وإرادتها ، فإنها تقوم بواجبها بصورة تفوق إخلاص الإنسان ، ومعلوم أن المكره على الشيء لا يفعله بإتقان .
وإذا كان السجود للمعبود يجعل العابد في أعلى درجات المحبين المقربين ، كما ثبت عند مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ عن سيد المرسلين صلي الله عليه وسلم أنه قَال : ( أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ منْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجدٌ ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ ) ، إذا كان السجود للمعبود هو أعلى أنواع العبادات ، فإن السجود أيضا كائن في بقية المخلوقات ، إذ نصت الآيات في حقها على لفظ السجود الذي يدل على كمال طاعتها وامتثالها لتوجيه خالقها ، وانضباطها في تنفيذ منهجها ، وإن كنا لا نعلم كيفية أدائها لذلك ، بل إن المقارنة بين الإنسان وغيره من المخلوقات في السجود وأداء الطاعات ، تُظهر تفوقها عليه في هذه الصفات ، فقال تعالى : أَلمْ تَرَي أَنَّ اللهَ يسْجُدُ لهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ منْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَليْهِ العَذَابُ وَمَنْ يُهِنْ اللهُ فَمَا لهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء الحج/18 ، فالله عبر عن سجودهن جميعا بالعموم ، فكلهن ساجدات بلا استثناء ولا تتخلف واحدة منهن عن السجود ، ولما عبر عن سجود الإنسان عبر بالخصوص فالبعض يسجد لله ، والبعض لا يسجد مطلقا ، كما أشار إلي ذلك قوله : وَإِذَا قِيل لهُمْ اسْجُدُوا للرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ، تَبَارَكَ الذِي جَعَل فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَل فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا .
يقول البغوي : ( ومذهب أهل السنة أن لله علما في الجمادات وسائر الحيوانات سوي العقلاء لا يقف عليه غيره ، ولها صلاة وتسبيح وخشية ، فيجب على المرء الإيمان به ويكل علمه إلي الله تعالى ) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته قنوت الأشياء كلها لله تعالى ضمن جامع الرسائل : ( وأما تفسير سجودها وتسبيحها بنفوذ مشيئة الرب وقدرته فيهما ودلالتها على الصانع فقط ، فالاقتصار على هذا باطل ، فإن هذا وصف لازم دائم لها لا يكون في وقت دون وقت ، وهو مثل كونها مخلوقة محتاجة فقيرة إلي الله تعالى ) .
وقال الشوكاني في فتح القدير عن سجود المخلوقات وتسبيحها لله : ( التسبيح على حقيقته والعموم على ظاهره ، والمراد أن كل المخلوقات تسبح لله سبحانه ، هذا التسبيح الذي معناه التنزيه ، وإن كان البشر لا يسمعون ذلك ولا يفهمونه ، فإنه لو كان المراد تسبيح الدلالة لكان أمرا مفهوما لكل أحد .. ومدافعه عموم هذه الآية بمجرد الاستبعادات ليس دأب من يؤمن بالله سبحانه ويؤمن بما جاء من عنده ) .
كما أخبرنا الله تعالى عن الهدهد أنه أنكر على قوم سبأ في عصر سليمان ، أنهم أشركوا بالله واتبعوا الشيطان ، ولو أراد الإنسان أن يعبر عن العصيان الذي وقع فيه هؤلاء الناس ، ما استطاع أن يبدي نفس الإحساس الذي أبداه هذا الهدهد الموحد ، قال تعالى : فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَال أَحَطتُ بِمَا لمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ، إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُل شَيْءٍ وَلهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ، وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ للشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيل فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ ، أَلا يَسْجُدُوا للهِ الذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلنُونَ اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ .
روي البخاري من حديث أبي هُرَيْرَةَ أن رَسُول الله صلي الله عليه وسلم قَال : قَرَصَتْ نَمْلةٌ نَبِيًّا مِنَ الأنْبِياءِ ، فَأَمرَ بِقَرْيَةِ النَّمل فَأُحْرِقَتْ فَأَوْحي الله إِليْهِ أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلةٌ أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ تُسَبِّحُ ) فالحيوان يسبح الله تعالى حقيقة لا مجاز ، وعند البخاري من حديث عبد الله بن مسعود أنه قال : ( كُنَّا نَعُدُّ الآيَاتِ بَرَكَةً وَأَنْتُمْ تَعُدُّونَهَا تَخْوِيفًا ، كُنَّا مَعَ رَسُول اللهِ صلي الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَقَل المَاءُ ، فَقَال : اطْلُبُوا فَضْلةً مِنْ مَاءٍ ، فَجَاءُوا بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ قَليلٌ ، فَأَدْخَل يَدَهُ فِي الإِنَاءِ ثُمَّ قَال : حَيَّ على الطَّهُورِ المُبَارَكِ ، وَالبَرَكَةُ مِنَ اللهِ ، فَلقَدْ رَأَيْتُ المَاءَ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُول اللهِ صلي الله عليه وسلم ، وَلقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ ) .
صحيح أنه ورد في القرآن أن الله خلق الإنسان للعبادة فقال : وَمَا خَلقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا ليَعْبُدُونِ ، لكن العبادة ليست وصفه الذي يميزه عن غيره ، لأن الخضوع للمعبود ومحبته وتعظيمه عام في جميع المخلوقات ، هذا فضلا عن التصريح في شأنها بأنها عابدات مسبحات ، كما جاء في قوله تعالى : تُسَبِّحُ لهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَليمًا غَفُورًا وقوله : أَلمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَليمٌ بِمَا يَفْعَلُون ، وآيات أخرى كثيرة ترد على من قال بأن المراد من سجودها وتسبيحها كونها مخلوقة دالة على الخالق ، وأن المراد شهادتها بلسان الحال ، فإن هذا عام لجميع الناس .
فالإنسان ليس وحده العابد الساجد فالمخلوقات أيضا عابدات ساجدات وإن كنا لا ندري كيف يتم ذلك ؟ إذ نصت الآيات في حقها على لفظ السجود الذي يدل على كمال طاعتها وامتثالها لتوجيه خالقها ، وانضباطها في تنفيذ منهجها ، كما قال قال تعالى : أَلمْ تَرَي أَنَّ اللهَ يسْجُدُ لهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ منْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَليْهِ العَذَابُ وَمَنْ يُهِنْ اللهُ فَمَا لهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء الحج/18 ، نكتفي بهذا القدر
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .
Bookmarks