النتائج 1 إلى 15 من 15

الموضوع: الفيزياء ووجود الخالق (2) : أدله وجود الخالق

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    الدولة
    مــصــر
    المشاركات
    292
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي الفيزياء ووجود الخالق (2) : أدله وجود الخالق

    بسم الله الرحمن الرحيم .
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة.
    الفصل الأول من الكتاب موجود هنا في موضوع الأخ ناصر الشريعة:-

    الفيزياء ووجود الخالق (1) : الإلحاد في العصر الحديث

    الكتاب تأليف الشيخ الدكتور جعفر شيخ إدريس حفظه الله
    {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } فاطر8

    {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً }النساء27

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    الدولة
    مــصــر
    المشاركات
    292
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    الفصل الثاني
    أدله وجود الخالق

    يقول بعض الملحدين إنه ليس هناك من خالق لأنه لا دليل على ذلك من عقل ولا حس. ويقول بعض المؤمنين من المسلمين وغير المسلمين: بلى إن للكون خالقاً. ولكنهم يوافقون الملحدين في أنه لا دليل عقلي على وجوده، وأن التصديق بوجوده أمر يعتمد على الإيمان القلبي فحسب، لا دليل عقلي، أو هو أمر يعتمد فحسب على تصديق الرسل فيما أتوا به.

    أما كون الإقرار بوجود الخالق أمراً إيمانياً قلبياً؛ فلا شك في ذلك، وأما كونه أمراً تعززه رسالات السماء؛ فلا شك في ذلك أيضاً. ولكن من قال إن الإيمان والعلم لا يجتمعان ؟! ومن قال إن القلب يطمئن إلى ما لا يدل عليه عقل ؟!(1)

    إن الإيمان الصحيح المعتبر هو الإيمان القائم على العلم، إلا لم يكن هنالك من فرق بين مَن يؤمن بوجود خالق ومَن يؤمن خالقين، ومن لا يؤمن بخالق؛ لأن كلا منهم يمكن أن يقول إن اعتقاده أمر قلبي لا يخضع للمناقشة العقلية. ولم يعد من حق واحد منهم أن يقول للآخر إنك مخطئ في اعتقادك.
    ـــــــــــ
    (1) ليس في لغة الغرب ولا استعمالات القرآن الكريم هذا التقابل الشائع بين القلب والعقل، بل إنما يسمَّى في الاصطلاح الشائع عقلاً هو الذي يسمَّى في القرآن الكريم ولغة العرب قلباً. وأما العقل فإنما هو – في لغة العرب والاستعمال القرآني – فعل القلب. فالقلب هو المحل، والعقل هو ما يحدث في ذلك المحل؛ لذلك لم تأت كلمة (العقل) في القرآن الكريم إلا فعلاً، ولم تأت اسماً قط. حتى حين تستعمل في غير القرآن الكريم اسماً فإنما المقصود به المصدر، فتقول عقل عقلاً كما تقول قرأ قراءة. وقد يقال العقل ويراد به القلب من باب تسمية الشيء بمحله، وقد يكون العكس أيضاً. وإذن فبالقلب يفكر الإنسان، وبه يتأمل ويستنتج، وبه يحب ويكره. وغني عن القول أن المقصود بالقلب هنا ليس هو مجرد ذلك العضو الحسي؛ وإنما المقصود به أساساً الروح التي بها تكون كل أنواع الوعي البشري. وأما الجسم قلباً أسميناه أم دماغاً فليس مصدراً ولا محلاً للوعي، لكن له به تعلقاً لتعلقه هو بالروح. (انظر في هذا: فتاوى ابن تيمية ج9)، وانظر كذلك: .John Ecclec, Facting Reality
    ـــــــــــ
    ولو كان الأمر كذلك لكان من حق من شاء أن يؤمن بما شاء من غير تثريب عليه. وإذا كان بعض المتدينين من غير المسلمين يلجؤون إلى مثل هذه الأقوال المتهافتة ليستروا بها عيب اعتقاداتهم الفاسدة؛ فما هكذا ينبغي أن يكون موقف المؤمن المسلم وهو يقرأ في كتاب ربه:

    ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ ﴾ ]محمد : 19[
    ﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ﴾ ]الحج : 54[

    فالعلم أولاً، ثم الإيمان المترتب على هذا العلم ترتيباً تعبر عنه فاء السببية ﴿ فَيُؤْمِنُوا بِهِ ﴾، ثم الإخبات المترتب على الإيمان ﴿ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ﴾.
    ويقرأ في عشرات من آياته تشديد النكير على الذين يتبعون الظن وأهواء النفوس ويتكلمون بغير علم ويدعون في مجال أصول الدين دعاوى لا تسندها الأدلة والبراهين، ويعدهم من الجاهلين، بل من غير العاقلين، ويتوعدهم بأشد أنواع الوعيد:

    ﴿ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ ]البقرة : 111[
    ﴿ أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ﴾ ] الأنبياء : 24[
    ﴿ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى ﴾ ]النجم : 23[
    ﴿ هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ ﴾ ] آل عمران: 66[

    إذا قلت هذا قال لك بعضهم: نحن لا ننكر أن يكون على وجود الصانع – تعالى – دليل أي دليل، وإنما نقول إنه لا يوجد دليل من النوع الذي يسمَّى بالدليل العلمي (بالمصطلح الحديث) أو الدليل المنطقي البرهاني. لكن هذا ليس بالكلام الدقيق إلا إذا فهم هذان الدليلان فهماً ضيقاً يجعلهما خاصين ببعض العلوم . وإلا فما معنى الدليل العلمي؟ ما الأدلة التي يقبلها العلماء الطبيعيون من فيزيائيين وكيميائيين وأحيائيين وغيرهم؟

    إنهم يقبلون الدليل الحسي المباشر؛ فكل ما شهد الحس بوجوده شهادة مباشرة فهو موجود لا شك في وجوده. وهذا دليل مقبول عند كافة العقلاء وله في الدين مكانة كبيرة، لكن الأدلة العلمية ليست محصورة في هذا الدليل، فما كل ما يصدق العلماء الطبيعيون، أو عامة العقلاء بوجوده هو مما شوهد مشاهدة مباشرة بالحواس المجردة أو الآلات المساعدة؛ بل إن الإصرار على عدم قبول دليل غير هذا الدليل الحسي المباشر هو نفسه من علامات عدم العقلانية. ولو أن العلماء الطبيعيين وسائر العقلاء لم يقبلوا دليلا ً غير هذا الدليل لما تقدم علم من العلوم بل ولا قامت لعلم قائمة؛ ولهذا فإن القرآن الكريم حين يستنكر حصر الأدلة في هذا الدليل وينعى على المطالبين به في غير موضعه؛ إنما يقرر حقيقة يسلم بها كل العقلاء من بني البشر.

    ﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ﴾ ]النساء : 153[
    ﴿ إِنَّ هَؤُلَاء لَيَقُولُونَ{34} إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ{35} فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ{36} ﴾ ]الدخان : 34 - 36[
    {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } فاطر8

    {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً }النساء27

  3. #3

    افتراضي

    بارك الله فيك وفي المؤلف وجزاكما الله خير الجزاء وهدى بكما عباده إلى توحيده والإيمان به .

  4. #4

    افتراضي

    جزاك الله خيراً ونفع بك
    ............................

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    الدولة
    مــصــر
    المشاركات
    292
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    وجزاك خيراً أخي الحبيب الأستاذ ناصر الشريعة وأعاننا الله وأباكم على خدمة الدين لما يرضيه عنا .. اللهم آمين.
    {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } فاطر8

    {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً }النساء27

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    الدولة
    مــصــر
    المشاركات
    292
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    الأخت الفاضلة قرآن الفجر رفع الله قدرك وجزاك خيراً ونفع بك ورزقك الجنة ... آمين.
    {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } فاطر8

    {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً }النساء27

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    الدولة
    مــصــر
    المشاركات
    292
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    النوع الثاني من الأدلة التي يقبلها العلماء وسائر العقلاء على وجود الأشياء، هو الاستدلال على الغائب غير المشاهد بالواقع المشاهد. وهذا الاستدلال أنواع ترجع كلها بصورة أو أخرى إلى الاستنباط المنطقي المعروف، لكن نتائج الاستنباط تصدق أو تكذب، وتقوى أو تضعف بحسب صدق المقدمات، ومدى الثقة بهذا الصدق.

    والأدلة على وجود الخالق كثيرة ، لكن المتعلق بدلالة الكون المشهود على خالقه ثلاثة، هي: البرهان الكوني، ودلالة الآيات، ودليل العناية. سنشرح هذه البراهين في هذا الفصل شرحاً موجزاً، ثم نجعلها أساساً لمناقشتنا للملحدين الفلاسفة والفيزيائيين الغربيين. ولكن بما أن معظم الذين تعرضوا لمسألة وجود الخالق منهم لم يركزوا إلا على الدليل الكوني؛ فسيكون جل همنا مصروفا إليه.

    1-البرهان الكوني:

    البرهان في اللغة هو ما يدل على الحقيقة، فإذا قلت إنسان: في المكانالفلاني شجرة، فسألني ما برهاني على ذلك؟ فقد أقول إني أرى خضرة ألوانها، أو أسمع حفيف أوراقها، أو أشم شذى أزهارها؛ فتعال هنا أنظر إليها. أو قد أقول إنني لم أرها لكن فلاناً – هو عندي و عندك ثقة – قد أخبرني بوجودها، أو غير ذلك مما يعده الناس في حياتهم اليومية أدلة.

    أما في الاستعمال الاصطلاحي المنطقي فإن البرهان هو أيضاً ما يدلك على حقيقة، لكن دلالته محصورة في نوع معين تخرج عنه دلالة الحواس ودلالة الأخبار وغيرها. فإذا قلت لطالب: ما برهانك على أن مجموع زوايا المثلث 180 درجة، فلا يعد برهاناً قوله: لقد قست كل ما وجد من مثلثات فوجدتها كذلك، ولن يجدي قوله أن أستاذ الرياضة أنبأنا بذلك.

    البرهان بالمعنى الاصطلاحي: هو أن تستخلص أو تستنج الحقيقة المراد برهانها من حقيقة أو حقائق أخرى هي مقدمات البرهان، بحيث يلزم كل من يسلِّم بها أن يسلِّم بالنتيجة التي يؤدي إليها، ولا ناقض نفسه. فإذا سلَّم الإنسان – مثلاً – بأن كل ما يسكر فهو خمر محرم شربه، وسلَّم بأن الشراب الفلاني مسكر؛ فيلزمه القول بأنه خمر محرم.

    فأنت ترى إذن أن البرهان المنطقي لابد أن يستند إلى حقائق لا تأتي عن طريق المنطق، وذلك بدهي؛ لأن مجال المنطق هو القضايا؛ أي هو أن يستنتج قضية أو قضايا من قضية أو قضايا أخرى، وليس مجاله الدلالة على الواقع الوجودي، فهذا مجال الحواس ظاهرة كانت أم باطنة. فبعد أن تقول هذه الحواس أو غيرها من الأدلة الدالة على الواقع كلمتها، يأتي البرهان أو المنطق ليقول إذا كانت القضية الفلانية والقضية الفلانية قضايا صحيحة؛ فإنه يلزم عنهما قضية ثالثة هي كذا وكذا. لكن هذه الحقيقة التي دلنا عليها البرهان المنطقي قد تكون مما يمكن إدراكه إدراكاً مباشراً بالحواس؛ وكم من حقيقة استنتج العلماء النظريون – بالمنطق العقلي الرياضي – ضرورة وجودها، ثم جاء العلماء التجريبيون فأكدوا بالآلات الحسية وجودها.
    وأنا أزعم أن البرهان الكوني – في صيغه التي سأذكرها بعد – هو برهان منطقي بالمعنى الاصطلاحي، أي إنه يلزم كل من يسلِّم بمقدماته أن يسلِّم بنتيجته، وهي أن للكون خالقاً، وإلا ناقض نفسه. ليس هذا فحسب بل إني أزعم أن المقدمات التي تقود إلى تلك النتيجة هي مقدمات لا يسع العاقل إلا التصديق بها؛ لأنها إما من الحقائق الحسية أو من البدائه العقلية.

    أكرر القول بأن التدليل على وجود الخالق بهذه الطريقة المنطقية لا يعني أنه لا يمكن أن يعرف بغيرها، أو لا يمكن أن يعرف معرفة مباشرة، كأن يكون الإيمان به – كما قدمنا – أمراً فطرياً، إن حجبته عن الإنسان ظلمات من الشبهات والشهوات؛ فقد يمر بتجربة تنزع عنه هذا الحجاب فإذا الحقيقة ماثلة بين عيني بصيرته يستيقنها عقله كما يستيقن الحقائق الحسية الشاخصة أمام عينيه. حتى الذي يستنتج قضية وجود البارئ من وجود الحقائق الكوني؛ لا يلزمه أن يسير بهذه الخطوات الطويلة التي تطلبها صناعة المنطق، بل قد يختصرها كلها في لحظة من لحظات الصفاء العقلي.

    فلئن كان ما أقرره هنا برهاناً على وجود الخالق تعالى؛ فما هو بالبرهان الوحيد، وما هو بالخطوة النهائية في طريق الباحث عن الله. إن مهمتنا هنا هي فقط أن ندلل أن قضية وجود الخالق قضية يمكن الاستدلال على صدقها بالبرهان المنطقي، وأن كل ما ذكره بعض المفكرين – من آمن منهم بوجود الخالق ومن كفر – من حجج يدللون بها على أن ذلك غير ممكن هي حجج باطلة، لا تقوم لها عند النظر الصحيح قائمة.

    لهذا البرهان عده صيغ منها ما هو صحيح ومنها ما هو غالط، ومنها ما هو في شكل الدليل المنطقي الاستنباطي، ومنها ما هو في شكل الدليل الجزئي المباشر.نبدأ بالدليل في شكله المنطقي الصحيح الذي اهتم به أكثر علماء أصول الدين من المسلمين، ومن اللاهوتيين والفلاسفة الغربيين، لكننا نصوغه من عندنا صياغة مفصلة نرجو أن تساعد على إيضاحه.

    يسير برهاننا على مراحل لكل منها مقدمات تءدي إلى نتيجة، ثم تلك النتيجة تؤدي – مع مقدمات أخرى – إلى نتيجة ثانية، وهكذا حتى نصل إلى ما نبتغي.

    فنقول:

    إن في هذا الكون حوادث، فغيث ينزل، وزهر يتفتح، وطفل يولد، وإنسان ينمو ويكبر، وآخر يمرض ثم يهلك، وأجسام تبنى وتتركب ، وأخرى تتحلل.(كواركات) هي لبنات كُوِّن منها الأوليات ثم الذرات، ومن الذرات تتكون الجزيئات، ومنها تتكون العناصر ثم المركبات ثم الأجسام المادية المشاهدة. ومن الغازات الأولية تتكون مجرات تتكون منها نجوم، ومن المجرات مجموعات مجرات، ولكل من هذه الكائنات ساعة ميلاد، ويوم هلاك.

    فمن الذي أوجدها ومن الذي يفنيها؟

    هل جاءت من العدم؟ كلا .. فإن هذا مستحيل عقلاً.
    لا بد لها إذن من سبب أحدثها.

    لكن هذا السبب لا يمكن أن يكون الشيء المحدث نفسه؛ إذ كيف يسوغ عقلاً أن يكون الحادث المعين سبباً في إحداث نفسه؟
    لا بد إذن أن يكون سببه شيئا غيره.

    لكن إذا كان ذلك السبب الخارجي هو نفسه حادثا كالأسباب الطبيعية التي نشاهدها؛ فإنه سيحتاج – كالحادث الأول – إلى سبب، وسيحتاج سببه إذا كان حادثا إلى سبب .. وهكذا.

    لكن هذا التسلسل في العلل والمؤثرات مستحيل عقلاً.

    لابد – إذن – من أن يكون السبب الحقيقي للحوادث سببا غير حادث.

    أي لا بد أن يكون شيئاً أزلياً ليس لوجوده ابتداء.

    ولا يمكن أن يكون هذا السبب الأزلي شيئاً غير الله.

    سنركز كما ذكرت على هذا البرهان فنبين أن علم الفيزياء لم يبطل شيئا من مقدماته بل زادتها رسوخاً، وأن هذه المقدمات تقود لا محالة إلى النتيجة التي هي وجود خالق الكون.
    ----------------
    يتبع إن شاء الله تعالى.
    {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } فاطر8

    {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً }النساء27

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    الدولة
    مــصــر
    المشاركات
    292
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    2-برهان الآيات:

    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية مبيناً الفرق بين برهان الآيات والبرهان الاستنباطي: "والفرق بين الآيات وبين القياس (ويعني به الاستنباط المنطقي) أن الآية هي العلامة، وهي الدليل الذي يستلزم عين المدلول، لا يكون مدلوله أمراً كلياً مشتركاً بين المطلوب وغيره، بل نفس العلم به يوجب العلم بعين المدلول، كما أن الشمس آية النهار. قال – تعالى -: ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ﴾ ]الإسراء : 12[، فنفس العلم بطلوع الشمس يوجب العلم بوجود النهار .. وكذلك آيات الرب تعالى، نفس العلم بها يوجب العلم بنفسه المقدسة تعالى، لا يوجب علماً كلياً مشتركاً بينه وبين غيره، والعلم بكون هذا مستلزما لهذا هو جهة الدليل. فكل دليل في الوجود لا بد أن يكون مستلزماً المدلول، والعلم باستلزام المعين للمعين المطلوب أقرب إلى الفطرة من العلم بأن كل معين من معينات القضية الكلية يستلزم النتيجة. والقضايا الكلية هذا شأنها"(1).

    برهان الآيات هذا هو البرهان الذي يستعمله القرآن الكريم ليدل الناس على وجود الخالق وصفاته. مثل قوله – تعالى -:

    ﴿ أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ{58} أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ{59} ﴾ ]الواقعة : 58، 59[
    ﴿ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ{63} أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ{64} ﴾ ]الواقعة : 63، 64[
    ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ{68} أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ{69} لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ{70}﴾ ]الواقعة : 68 - 70[
    ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ{71} أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ{72} نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ{73} فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ{74} ﴾ ]الواقعة : 71 - 74[

    برهان الآيات هذا لا يعتمد على قضية كلية تقول إن كل حادث لا بد له من محدث، بل يعتمد على ما هو أقوى بداهة في العقل، وهو العلم بأمثال هذه الحقائق الجزئية المعينة. فعلم الإنسان مثلاً بأنه مفتقر إلى من يوجده ويحدثه أسبق عنده وأقوى بداهة من أن يستدل عليه بقضية كلية تقول له إنك حادث وكل حادث فلا بد له من محدث، فأنت لا بد لك من محدث. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فليس العلم بحكم المعينات مستفاداً من الحكم الكلي الشامل لها، بل قد يكون العلم بحكم المعين في العقل قبل العلم بالحكم الكلي العام، كما أن العلم بأن العشرة ضعف الخمسة ليس موقوفاً على العلم بأن كل عدد له نصفية، فهو ضعف نصفيه"(2).

    ـــــــــــ
    (1) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، ج9: ص143-144.
    (2) المرجع السابق، ج2: ص11.

    ـــــــــــ

    ملخص ما يقوله الشيخ هو أن النتيجة التي يؤدي إليها البرهان المنطقي هي أنه لا بد للكون من خالق، أو محدث أو مسبب، ولكنه لا يدلك على عين هذا الخالق، أي أنه لا يدلك على أن هذا الخالق هو الله تعالى. فالشيخ لا يقول إن الطريقة المنطقية ليست صحيحة، بل يصرح في كثير من كتاباته بأنها صحيحة، لكنه يرى أنها لا توصلك إلى العلم بالذات الإلهية، بل إلى علم بخالق أو محدث. وأما طريقة الآيات فتدلك على عين الخالق سبحانه، كما يدلك صوت إنسان تعرفه على عينه، وكما يدلك شعاع الشمس على عينها.

    قد تقول للشيخ إنني عرفت الشمس أولاً وعرفت أن لها شعاعاً، ثم لما رأيت الشعاع علمت بوجود الشمس. وكذلك الأمر بالنسبة للصوت فأنا عرفت الشخص أولاً وعرفت تميزه بهذا الصوت ثم لما سمعت الصوت عرفت أنه صوته.
    يوافقك ابن تيمية على هذا ويقول: "ثم الفِطَر تعرف الخالق بدون هذه الآيات؛ فإنها قد فطرت على ذلك، ولو لم تكن تعرفه بدون هذه الآيات، ولم تعلم أن هذه الآية له؛ فإن كونها آية له ودلالة عليه ... يقتضي تصور المدلول عليه، وتصور أنذلك الدليل مستلزم له؛ فلا بد في ذلك أن يعلم أنه مستلزم للمدلول، فلو لم يكن المدلول متصوراً لم يعلم أنه دليل عليه. فمعرفة الإضافة متوقفة على تصور المضاف والمضاف إليه، لكن قد لا يكون الإنسان عالماً بالإضافة، ولا كونه دليلاً، فإذا تصوره عرف المدلول إذا عرف أنه مستلزم له"(1).

    يفهم من كلام الشيخ هذا أن الناس نوعان:

    نوع سليم الفطرة يعرف الله - تعالى - ويؤمن به، فمعرفته وإيمانه سابقان لمعرفته بالآيات، لكنه إذا رأى المخلوقات عرف أنها آيات له. فمعرفته بالآيات تؤكد إيمانه ولا تنشئه.
    ونوع حدث في فطرته خلل، فلم يعد يؤمن بوجود الخالق، لكنه إذا تأمل

    ـــــــــــ
    (1) المرجع السابق، ج1: ص48-49
    ـــــــــــ



    الآيات وجدها دالة عليه، فآمن بالله عن طريق الآيات. لكن حتى هذا ما كان ليؤمن لولا أنه كان متصوراً للخالق قبل رؤيته للآيات، فلما رأى الآيات رأى المناسبة بينها وبين ذلك الذي تصوره، رأى دلالتها على وجود الخالق الذي كان قد تصوره ولم يؤمن به.

    يقول الشيخ ابن تيمية: "إن الإقرار بالخالق وكماله يكون فطرياً ضروريًا في حق من سلمت فطرته، وإن كان مع ذلك تقوم عليه الأدلة الكثيرة. وقد يحتاج إلى الأدلة عليه كثير من الناس عند تغير الفطرة، وأحوال تعرض لها"(1).

    فكأن الآيات هي في حقيقتها تذكير للإنسان بأمر مستقر في فطرته، وهو مع ذلك لسبب من الأسباب يجحده، لكن مثل هذا لا يبدهه ما في الآيات من دلالة على وجود الخالق، بل لا بد من أن يبين له كونها آيات. وهذا ما نجده في بعض آيات القرآن الكريم، مثل قوله – تعالى -: ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ{35} أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ{36}﴾ ]الطور : 35، 36[

    إن خلق الإنسان آية دالة على وجود خالقه، فالقرآن الكريم يدعو المنكر لوجود الخالق أن يفكر في هذه الحقيقة التي يعرفها أكثر من معرفته لغيرها. فهذا الدليل القرآني على وجود الخالق لا يتحدث عن حوادث كثيرة ولا يتحدث عن العالم كله، كما هو الشأن في مقدمات القياس المنطقي، بل يتحدث عن هذا الحادث الواحد الذي يعلمه كل مخاطب أكثر من علمه بأي حادث آخر؛ لكي يدله على أن خلقه هذا آية دالة على وجود خالقه، فإنه يدعوه للتفكير فيه، ويعينه على ذلك بأسئلة عن نفسه، يعرف كيف يجيب عنها، ولكنه إذا أجاب عنها الإجابة الصحيحة قادته إجابته إلى رؤية ما في نفسه من دلالة على وجود خالقه.
    إنه يسأل أسئلة استنكارية؛ لأن الإجابة عنها بدهية فطرت عليها العقول، فما ينبغي لأحد أن يجهلها.

    ـــــــــــ
    (1) المرجع السابق، ج6: ص73.
    ـــــــــــ

    فكأن القرآن الكريم يقول لهذا المنكر:

    إذا لم يكن الله هو الذي خلقك، وخلق هذا الكون حولك؛ فهل خلقت من غير شيء خلقك؟ أي جئت من العدم المحض؟
    سيقول كل عاقل في نفسه: كلا .. فإن هذا مستحيل.
    أو أنك أنت الذي خلقت نفسك؟
    سيقول: كلا .. فإن هذا يبدو أكثر استحالة.
    هل كنت أنت الذي خلق السموات والأرض؟
    سيقول: كلا .. فالقول بغير هذا مكابرة.
    هذه حجة فطرية يدركها الناس بعقولهم؛ لذلك قرر القرآن الكريم مقدماتها في شكل أسئلة استنكارية. وهذه هي طريقة القرآن في تقرير كل حقيقة معروفة بالبديهية العقلية، يقررها بسؤال استنكاري ليدل على أن منكرها ينكر البدائه.
    فهو يقول مثلاً:

    ﴿أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ ]إبراهيم : 10[
    ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ ]الملك : 14[
    ﴿ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ﴾ ]الزخرف : 16[

    أجل، إنها لحجة فطرية؛ لذلك أثرت تأثيراً بالغاً في بعض من سمعها ممن كان كافرا في زمان النبي (صلى الله عليه وسلم) ثم هداه الله تعالى.

    هذه الحجة القرآنية - التي أسميناها دليل الآيات - يمكن وضعها هي الأخرى في صيغة من الصيغ المنطقية العقلية المعروفة، وذلك أن الحجج المنطقية ليست محصورة في الاستنباط، أو ما كان يسميه علماؤنا بقياس الشمول، بل هنالك حجج أخرى منطقية عقلية صحيحة يستعملها الناس في علومهم بل في حياتهم اليومية، وإن لم يصوغها الصياغات المنطقية. من الحجج ما يسمَّى بالقياس الاستثنائي.

    والحجة القرآنية هذه يمكن وضعها في هذا الشكل المنطقي، كأن نقول مخاطبين الملحد:

    أنت تعلم من نفسك أنك حادث وجدت بعد أن لم تكن.
    فإما أن تكون قد وجدت من العدم أو أن شيئاً أوجدك.
    من المستحيل أن توجد من العدم.
    إذن فقد أوجدك شيء.
    هذا الموجد إما أن يكون نفسك أو أن يكون غيرك.
    من المستحيل أن تكون أنت الذي أوجدت نفسك.
    إذن لابد أن يكون شيء غيرك هو الذي أوجدك .
    هذا الغير إما أن يكون مثلك في حاجته إلى من يوجده أو لا يكون .
    لا يمكن أن يكون مثلك؛ إذ ما قيل عنك سيقال عنه أيضاً.
    لابد إذن أن يكون خالقاً بنفسه غير مفتقر إلى من يوجده؛ وهذا هو الله تعالى.
    ----------------
    يتبع إن شاء الله تعالى.
    {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } فاطر8

    {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً }النساء27

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    الدولة
    مــصــر
    المشاركات
    292
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    3- دليل العناية:

    في الدليلين السابقين وجدنا في حدوث الأشياء دليلاً على حاجتها إلى خالق يخلقها، والحدوث صفة كل ما في الكون من مخلوقات؛ لذلك كان كل منها آية وعلامة دالة على خالقه. أما في دليل العناية فإن الصفة التي نستدل بها على وجود الخالق هي في علاقة هذه المخلوقات ببعضها البعض، أو في علاقة أجزاء الواحد منها ببقية الأجزاء. إن كل متأمل للمخلوقات يرى أنها ليست كوماً عشوائياً من الموجودات، بل هي مرتبة ترتيباً ومصممة تصميماً وراءه غاية تدل على أن لها صانعاً عالماً حكيماً.

    يتجلى هذا التصميم في الإحكام الذي يجعل كل مخلوق أو كل جزء من مخلوق مصنوعاً بطريقة، وموضوعاً وضعاً يجعله محققاً لهدف، والذي يجعل حركة الخلق حركة متسقة لا يعطل بعضها بعضاً، والذي يجعلها أنواعاً متشابهة تشابهاً دقيقاً، والذي يجعل القوانين التي تحكمها قوانين واحدة لا تختلف مهما اختلف الزمان أو المكان، اللهم إلا إذا أراد الله لها أن تختلف تخلفاً يكون هو نفسه معجزة دالة على الخالق الواضع لتلك القوانين.

    يقول الفيلسوف ابن رشد مبيناً دلالة الخالق على اتصاف خالقه بصفة العلم:"أما العلم فقد نبه الكتاب على وجه الدلالة عليه، في قوله – تعالى -: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك : 14]. ووجه الدلالة أن المصنوع يدل من جهة الترتيب الذي في أجزائه، أعني كون صنع بعضها من أجل بعض، ومن جهة موافقة جميعها للمنفعة المقصودة لذلك المصنوع يدل من جهة الترتيب الذي في أجزائه، أعني كون صنع بعضها من اجل بعض، ومن جهة موافقة جميعها للمنفعة المقصودة لذلك المصنوع، أنه لم يحدث عن صانع هو طبيعة؛ وإنما وجدت عن صانع رتب ما قبل الغاية لأجل الغاية، فوجب أن يكون عالماً به"(1).

    إلى هذا الإحكام الدال على أن للمخلوقات خالقاً مريداً عليماً حكيماً تنبهنا كثير من آيات القرآن الكريم: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً{6} وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً{7} وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً{8} وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً{9} وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً{10} وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً{11} وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً{12} وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً{13} وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً{14} لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً{15} وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً{16}﴾ ]النبأ : 6 - 16[

    لا تقول لنا هذه الآيات إن هنالك أرضاً وجبالاً وبشراً ونوماً وليلاً ونهاراً
    ـــــــــــ
    (1) مناهج الأدلة في عقائد الملة، ابن رشد، ص 160-161.
    ـــــــــــ

    وسماءً وشمساً وماءً ونباتاً وجنات ألفافاً؛ فهذه كلها أمور نشهدها ونعرفها، وكل إنسان كافراً كان أو مؤمناً يسلِّم بها؛ وإنما تدعونا الآيات إلى أن نفكر في الصلة بين كل واحد من هذه المخلوقات والأحوال وبين شيء آخر هو الإنسان المخاطب بهذا الكلام. تدعونا الآيات إلى نلاحظ أن كل واحد من هذه الأشياء والأحوال يحقق بالنسبة لنا نحن البشر هدفاً (وهذا لا يمنع أن تكون له غايات أخرى لا نعلمها).

    فالأرض – هذا المكان الذي نعيش فيه – جعل لنا مهاداً، أي فراشا كما جاء في آية أخرى. والمقصود أنها جعلت مناسبة لحاجتنا مناسبة الفراش لصاحبه من حيث اللين والسعة والوقاية. فكأن الآية تقول إنه إذا كانت صناعة الفراش تدلعلى أن إنساناً عاقلا صنعه، وأنه لم يأت اتفاقاً، فمن الأولى أن تدل صناعة الأرض بهذه الطريقة المناسبة لمعاشكم على أن لها صانعاً حكيماً. ﴿ وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً ﴾: فكما أن الوتد الذي تصنعونه ليس مجرد قطعة من الخشب مغروسة في الأرض، بل هو مصنوع ومغروس بهذه الطريقة ليؤدي غاية، فكذلك الجبال ليست مجرد نتوءات في الأرض، بل لها وظيفة متعلقة بالأرض ومن ثم بحياتكم. ﴿ وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً ﴾: لكي يستمتع بعضكم ببعض، ولكي تنجبوا أطفالاً تستمتعون بهم، ولكي يحفظ جنسكم البشري. ﴿ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً ﴾: تنقطع فيه حركتكم، وترتاح أجسامكم، وتبرد أعصابكم، وتتخلصون به من كثير من الهموم والمشكلات النفسية. والليل والنهار: إنهما ليسا مجرد ظواهر فلكية نتجا مصادفة عن حركتي الشمس والأرض، بل إن لهما خالقاً جعلهما بهذه الطريقة خدمة لكم، ففي الليل ترتاحون وفي النهار تكدحون. وحتى تلك الأفلاك البعيدة عنكم لها تعلق بكم، فكما أن الأرض لكم فراش فالسماء لكم بناء أي سقف، والشمس سراج يمدكم بالنور والحرارة اللتين لا تكون بدونهما حياة بشرية ولا حيوانية ولا نباتية.

    ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء﴾ ]البقرة : 22[.
    ﴿ وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ﴾ ]الأنبياء : 32[.
    ﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً{14} لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً{15} وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً{16}﴾ ]النبأ : 14 - 16[

    إذا كان كثير من الناس يغفلون عن الحكمة في خلق ما مضى ذكره من ظواهر وأحوال، فلا يكاد أحد ينظر إلى الغيث على أنه مجرد ماء نازل على الأرض من السحاب، بل إنهم ليدركون صلتهم به وحاجتهم إليه؛ فبه ينبت الزرع الذي يأكلون منه كما تأكل أنعامهم التي يعيشون عليها.

    إن ميزة الأدلة القرآنية أن دلالتها ليست قاصرة على أن للكون خالقاً، بل تتضمن الدلالة على أن هذا الخالق هو وحده الذي ينبغي أن يعبد ويشكر ولا يكفر. بل إن يعضها – كما هو الحال هنا – ليتضمن الدلالة على أن بعد هذه الحياة حياة أخرى يلقى فيها المحسنون جزاء إحسانهم، ويعاقب فيها الظالمون على ظلمهم.

    إن بعض المنكرين لوجود الخالق المستكبرين عن عبادته، يذهبون كل مذهب في إنكار هذا التناسق العجيب في المخلوقات لما يعلمون من دلالته على وجود الخالق، ووجوب عبادته، وهم حتى حين يعترفون به يتعلقون بأوهى النظريات التي تفسره تفسيراً ينفي عنه القصد ويجعله أمراً حادثاً بالمصادفة والبخت، ومن ذلك ما ذكره عالم الأحياء (ميلتون) ورد عليه كتابه (حقائق الحياة).
    ----------------
    يتبع إن شاء الله تعالى.
    التعديل الأخير تم 08-25-2008 الساعة 04:07 PM
    {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } فاطر8

    {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً }النساء27

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    الدولة
    مــصــر
    المشاركات
    292
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    4- الدليل الخُلُقي :

    القيم الخلقية، قيم الصدق والأمانة والوفاء وغيرها، قيم ضرورية لوجود المجتمعات البشرية، إنها قيم لا يكون بدونها مجتمع، ولذلك قال بعضهم إنها مِلَاط المجتمع الذي يمسك أفراده كما يمسك الملاط اللبنات التي يتكون منها البناء. إنه بغير هذه القيم لا يكون علم حتى بأمور الدنيا، ولا يكون اقتصاد، ولا تكون علاقات اجتماعية. تصور مجتمعا لا يرى بالكذب بأساً ولا يعدُّه مذمَّة، فالناس فيه كلهم كذابون!! (وليس من شرط الكذاب ألا يصدق أبداً، بل يصدق إذا رأى الصدق له، ويكذب إذا رأى الصدق عليه)؛ هل يكون في هذا المجتمع علم؟ كلا! فإن من ضرورات العلم الصدق في الرواية، فإذا ادَّعى إنسان في هذا المجتمع أنه اكتشف – في مخبره – حقيقة ما، فإننا لن نصدقه، لأننا لا نعلم إن كان صادقاً أو كاذباً، بل سنقطع بكذبه إذا وجدنا أن هذه الدعوى تخدم غرضاً له. ولن تكون هنالك كتب ولا دروس ولا محاضرات،ولا مدارس ولا جامعات.

    ما الفائدة من قراءة كتاب لا علم أن صاحبه صادقاً أو كذاباً، ولا أستطيع أن أستعين بغيري لأنه هو الآخر قد يكذب علي؟ وقل مثل ذلك عن المدرسين والمحاضرين، وقل مثله عن رواة الأخبار في سائر وسائل الإعلام، وقل مثله عن التجار والزراع والصناع؛ كيف تتعامل مع أي من هؤلاء إذا كنت لا تدري أصادق هو أم كاذب فيما يدعيه لك من ثمن بضاعة أو جودة محصول أو إحكام صنعة؟

    الصدق ليس فضيلة خُلُقية فحسب، بل هو ضرورة اجتماعية أيضاً، وعليه كلما كثر عدد الصادقين في المجتمع كان المجتمع أقوى تماسكا وأدعى لأن تزدهر فيه العلوم والتقنية والاقتصاد إذا ما توفرت شروطها الأخرى. وكلما تفشى الكذب بين حكامه، وولاة أمره، وعلمائه، وتجَّاره وزرَّاعه وصنَّاعه، كان أكثر تمزقاً وأقل تطوراً في تلك الأمور كلها.

    فالصادقون إذن يُسدُون إلى المجتمع خدمة هي من ضرورات وجوده، والكذابون هم معاول تقويضه. لكن مشكلة الأخلاق في حياتنا الدنيوية هذه هي أن الصادق قد لا يجد جزاء صدقه، بل يكون صدقه سببا في خسارة مالية، أو فقدان مكانة اجتماعية، بل قد يوقعه حتى في عقوبات جسدية.

    والكاذب لا يعاقب دائماً على كذبه، بل قد يكون كذبه وسيلة إلى كسب مالي، أو نيل منصب اجتماعي، أو تفادي أذى جسدي، ولولا ذلك ما كذب إنسان. فالمشكلة إذن هي أن الذين ينفعون المجتمع قد يضارون مادياً، بينما الذين يضرونه قد ينتفعون مادياً.

    فإذا لم يكن هنالك من خالق يرى ويسمع ما يفعل البشر، وإذا لم تكن هنالك من دار أخرى يثيب الله فيها المحسن على إحسانه ، ويعاقب المسيء علىإساءته، وكان الكسب المادي في هذه الحياة الدنيوية هو وحده الكسب المعتبر؛ لكان الصادقون الأمناء الموفون بعهودهم هم المغفلين الذين لا عقل لهم، ولكان الكذابون الخونة هم العقلاء. لكن العقل يقول إن الأمر لا يمكن أن يكون كذلك، لا يمكن أن يكون العقلاء هم الذين يقوِّضون المجتمع، والمغفلون هم الذين يبقونه متماسكاً. لو كانت هذه الحياة – لذلك – كلها عبثاً. لكن ما من عاقل يمكن أن يقبل نتيجة كهذه؛ لأن فيها – من بين ما فيها – تقويضاً لأهم مبدأ تقوم عليه علومنا الكونية كلها، إن هذه العلوم كلها تقوم على افتراض المبدأ المسمَّى بتناسق الطبيعة، المبدأ الذي يقول إن قوانين الطبيعة لا تختلف، وإنه لذلك يمكن أن تدرس دراسة علمية بل رياضية؛ فكيف يكون هذا الكون في جانبه المادي عقلانياً، وفي جانبه البشري متناقضاً مع المبادئ العقلية؟!

    وهناك تناقض آخر يؤدي إليه الإلحاد بالنسبة للقيم الخُلُقية. إن الناس مفطورون على أن هذه القيم قيم يحسن بهم أن يلتزموا بها، فهي جزء من تكوينهم العقلي، وهم يشعرون لذلك – وماداموا محتفظين بفطرتهم – بالسعادة حين يصدقون الحديث ويؤدون الأمانة ويوفون بالعهد، ويشعرون بالشقاء حين يكذبون أو يخونون وينكثون. فالملحد الذي يريد أن يتصرف وفق ما يقتضيه إلحاده؛ يمر بحالات يشعر فيها بالتمزق بين وازعه الداخلي، وتفكيره العقلاني؛ فبينما يقول له الوازع الداخلي: اصدق فهذا أريح لنفسك وأسعد لقلبك. يقول له فكره: لكنك تعتقد أنه ليس وراء الحياة من حياة، والصدق في هذه الحال يفوِّت عليك لذة عاجلة، ففيم التضحية بها وأنت لا تنتظر أخرى بعدها آجلة؟ يقول بعض من يسمع مثل هذه الحجة لكن الواقع أنه ما كل الملحدين كذابون ولا كل المؤمنين صادقون؛ فقد يصدق الملحد وقد يكذب المؤمن. وأقول أجل إن هذا ليحدث، لكن الملحد حين يصدق يتناقض مع مقتضيات مبدئه، أي إنه لا يصدق صدقاً يفوِّت عليه مصلحة إلا حين يتخلى – مؤقتاً – عن مبدئه أو عن عقله. أما المؤمن فالأمر بالنسبة له عكس ذلك تماماً، فهو حين يكذب يكون قد سلك سلوكاً يتناقض مع مبدئه ومع عقله، وحين يصدق يكون موافقاً لهما ولفطرته. وعليه فإنه كلما كثر عدد الملحدين، واشتد اقترابهم من مقتضيات مذهبهم فإن الكذب عندهم سيزداد لا محالة، وكلما كثر عدد المؤمنين واشتد استمساكهم بدينهم، ازداد عدد الصادقين منهم لا محالة.

    يقول بعض المتحذلقين من الفلاسفة إنه لا معنى للسلوك الخلقي إلا أن تضحي مثل هذه التضحية التي لا ترجو لها ثواباً، وأنك إذا عملت الخير رجاء الثواب كما يفعل المتدينون لا يكون سلوكك هذا سلوكاً خُلُقياً بل تجارياً. لكن هؤلاء ما علموا أن التضحية المطلقة أمر يتنافى مع العقل الذي يسير عليه الناس في حياتهم الدنيوية كلها، وإلا لو كانت مثل هذه التضحية مما يدعو إليه العقل، لكان أعقل الناس هم الذين لا يسعون لنيل لذة ولا يعملون على اتقاء أذى، فلا يأكلون ولا يشربون ولا يتقون حراً ولا برداً ولا خطراً. وإذا كان هذا غير سائغ عقلاً فلماذا يسوغ في حالة السلوك الخُلُقي؟ وما الفرق بين هذا السلوك وغيره من أنواع السلوك؟ قد يقال إن الفرق هو ما ذكرته أنت نفسك آنفاً من أن في الإنسان وازعاً داخلياً يدعوه إلى السلوك الخُلُقي. ونقول: هذه هي المشكلة.

    كيف نوفق بين هذا الوازع الداخلي الذي يدعونا إلى مكارم الأخلاق، والعقل الذي يدعونا إلى تحصيل ما ينفعنا ودرء ما يضرنا؟ إنه لا حل عند الملحد؛ إن إلحاده يوجب عليه إما أن يكون داعياً إلى نبذ الأخلاق، أو يكون داعياً إلى نبذ العقل، وكلا الطرفين في قصد الأمور ذميم.

    كيف يحل الدين هذا الإشكال؟ يقول الدين الحق: نعم إن الأخلاق من الخير الذي فطر الله عليه عباده، ولكن هذه الأخلاق نفسها تقتضي أن يثاب المحسن على إحسانه، ويعاقب المسيء على إساءته. ولكن هذا لا يأتي في دار الدنيا هذه كما هو مشاهد، ولا يمكن إذن أن يأتي إلا في حياة أخرى بعد هذه الحياة، ولا يأتي في تلك الحياة الثانية إلا إذا كان هنالك إله عليم عادل حكيم، يعلم ما يعمل الناس الآن ليجازيه عليه غداً.

    فالمؤمن يعمل الخير لأن الله فطره على حبه، ويعمله لأن الله يثيبه على فعله، ولا تناقض بين الأمرين لأن إثابة المحسن هي نفسها مبدأ خلقي.

    ذكر – تعالى – ما أعده لعباده الصالحين، فقال: ﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ{46} فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ{47} ذَوَاتَا أَفْنَانٍ{48} فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ{49} فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ{50} فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ{51} فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ{52} فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ{53} مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ{54} فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ{55} فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ{56} فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ{57} كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ{58} فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ{59} ﴾ ]الرحمن : 49 - 59[

    ثم ختم هذا بقوله : ﴿ هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴾ ]الرحمن : 60 [

    والسؤال سؤال استنكاري، فكأن الآية تقول: إن هذا هو الأمر الذي تدلكم عقولكم على أنه ينبغي أن يكون؛ فكيف تتوقعون غيره؟

    لعل القارئ يرى – كما أرى – أن الدليل الخُلُقي هذا هو فرع عن دليل العناية؛ لأن فحوى هذا الدليل أن الكون فيه من التناسق والعناية ما يدل على أن له مبدعاً حكيماً.

    والحكيم لا يفعل شيئاً عبثاً. لكن عدم وجود دار آخرة يلقى فيها المحسن ثواب إحسانه والمسيء عقاب إساءته هو مما يتناقض مع تلك الحكمة وهذا الإحكام. لم أرى أحداً ممن قرأت له يربط هذا الربط بين هذين الدليلين، لكنني أحسب أن المناسبة بينهما مما لا يخطئه الناظر المتمعن، ولا سيما الناظر في القرآن الكريم. في هذا الكتاب العزيز عدة آيات تدعو إلى التفكر في الكون لمعرفة أن له خالقاً حكيماً ينبغي أن يعبد غيره مما لا يخلق، ولمعرفة أنه لم يخلق عبثاً ولا لعباً ولا باطلاً وإنما خلق بالحق، أي من أجل غاية. وقد وجدت في أكثرها – فيها أو في سياقها – ربطاً بين نفي البطلان واللعب والعبث عن خلق الكون، وبين أنه لا بد أن تكون هناك دار آخرة، أي إنه لو لم تكن آخرة لكان خلق هذا الكون كله عبثاً وباطلاً ولعباً ولم يكن حقاً؛ لأن هذا يتنافى مع الإحكام الذي فيه ومع ما يدل عليه هذا الإحكام من كونه مخلوقاً لخالق حكيم. إن الخالق الحكيم لا يخلق خلقاً فيأمرهم وينهاهم ثم يجعل مصير الذين استجابوا لرسله فعملوا صالحاً كمصير الذين تمردوا عليهم وخاضوا فيكل فعل قبيح؛ فالآخرة إذن ضرورة خُلُقية. تأمل هذه الآيات .. وانظر كيف جعلت الإحكام في خلق الله دليلاً على ضرورة وجود الآخرة، قال – تعالى -:

    ﴿أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ{21} وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ{22}﴾ ]الجاثية : 21 ، 22[.

    تأمل كيف ربطت الآية بين خلق السموات والأرض بالحق، وبين عدم الظلم، وتأمل كيف ربطت الآية التالية بين عدم خلقها باطلاً – أي عبثاً – وبين مساواة المحسنين بالمسيئين:

    ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ{27} أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ{28} كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ{29} وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ{30}﴾ ]ص : 27 - 30[.

    نعم إن أولي الألباب، أولائك الذين يتفكرون في الأمور ويستدلون بها الاستدلالات الصحيحة، لا أولائك الذين يدَّعون العقلانية، وهم من أبعد الناس عن الالتزام بمقتضيات العقول، هم الذين يتدبرون في كون الله المخلوق وفي كتابه المقروء، وفي آيات الله الكونية، وآياته الكلامية؛ فيصلون بفكرهم المستقيم إلى الحق ويلتزمون بمقتضياته.

    هذه المعاني تتكرر – كما قلت لك – في آيات كثيرة من آيات الكتاب العزيز، فإليك أمثلة لها:

    ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ ]الأنعام : 73 [
    ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾ ]الحجر : 85 [.
    ﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾ ]الروم : 8 [.
    ﴿ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ﴾ ]الأحقاف : 3 [.
    ﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ ]التغابن : 3 [.

    قد يقال إن هذه الحجة إنما تصلح لإنسان لا يؤمن بالخالق وينكر وجود الدار الآخرة، لكننا هنا بصدد إنسان ملحد ينكر وجود الخالق. وأقول إن الآية فيها الأمران كلاهما.

    فهي من ناحية تخاطب من يقر بوجود الخالق وينكر البعث، ولكنها من ناحية أخرى تدل على أن إحكام الخالق وما فيه من تناسق وعناية - من بينها وجود قيم خُلُقية لا تصلح مجتمعات الناس إلا بها – يتنافى مع عدم وجود دار آخرة. ولكن إذا كانت هنالك دار آخرة ولم يكن هنالك إله شهيد على الناس في هذه الحياة الدنيا، كي يجازيهم عليها في تلك الدار؛ لم يكن لها من فائدة بل صار الأمر فيها كالأمر في هذه الحياة الدنيا.

    قلت إن الآخرة ضرورة خُلُقية، ولو شئت لقلت ضرورة عقلية؛ لأن المبادئ الخُلُقية، هي من بين الموازين التي فطر الله عليها العقول لقياس الأمور وتقويمها، فالذي يتنافى مع الأخلاق يتنافى مع هذا العقل الفطري. وإذا قرر الله – تعالى – أمراً في صيغة سؤال استنكاري؛ فإنه يدل على أن الأمر معروف ما ينبغي أن ينكر أو يخالف، ومما يدخل في هذا ما كان معروفاً بهذا العقل الفطري.

    تأمل هذه الآيات .. كيف تستنكر أن يكون مصير المحسنين كمصير المسيئين سواء بسواء لأن هذا مما يتنافى مع تلك المبادئ الخُلُقية العقلية الفطرية ؛ وعليه فلا بد من دار آخرة يستقيم فيها هذا الأمر:

    ﴿كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ{33} إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ{34} أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ{35} مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ{36}﴾ ]القلم : 33 - 36 [
    ﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ ]ص : 28 [

    وهناك مشكلة أخرى تتعلق بالقيم الخُلُقية؛ إنه لا مكان في الفيزياء – ولا في غيرها من العلوم الطبيعية – للقيم الخٌلٌقية، أو الجمالية أو غيرها من القيم؛ ذلك لأن مجال هذه العلوم إنما هو الكائنات الطبيعية ، لكن الناس لا يكفيهم في حياتهم علمهم بالطبيعة مهما ازداد وعظم؛ إنهم يحتاجون مع هذا إلى قيم يهتدون بها في معاملاتهم، فإذا حلَّت العلوم الطبيعية محل الدين – كما يريد لها الملحدين في عصرنا – وإذا حُصر الحق فيما يأتي عن طريق هذه العلوم؛ فأنى يجد الناس تلك الهداية التي هي من ضرورات حياتهم؟ إن كثيراً من ملاحدة العلماءالطبيعيين يعترفون بهذه المشكلة لكنهم لا يحيرون لها جواباً.

    ينقل (تيلر) عن عالم الأحياء البريطاني (ميداور) وهو ملحد مثله قوله: "إن الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بالبدايات والنهايات أمر خارج – منطقياً – عن مقدرة العلم الطبيعي"(1).

    لكنه يعلق على هذا بقوله: "إن هذا مسلك يصعب قبوله، فما زالت هنالك فجوه في حياة أناس كثيرين بسبب انعدام الغاية هذه. لقد كتب العالم النفسان كارل يونج: "(إنه لم يكن من بين مرضاي الذين هم في النصف الثاني من عمرهم (بعد سن 35 سنة) أحد لم تكن مشكلته في النهاية هي الظفر بنظرة دينية إلى الحياة)"(2).

    ثم ينقل عن صحفي معاصر – يقول عنه: إنه ابن لأحد الفيزيائيين – قوله: "إن العلم الطبيعي ليس سلعة محايدة أو بريئة يمكن أن يستخدمها للاستفادة منها قوم لا يريدون إلا أن يكون لهم نصيب من قوة الغرب المادية ... إنه مدمر روحياً، مودٍ بكل المرجعيات والتقاليد القديمة ... وبعد أن يودي بكل منافسيه يبقى السؤال: أي نوع من الحياة تلك التي يقدمها العلم الطبيعي لأهله؟ ... ماذا يقول لنا عن أنفسنا وكيف نحيا؟"(3).

    ثم يقول: "ليس هنالك من جواب جاهز على هذا السؤال"(4).

    ـــــــــــ
    (1) عندما دقت الساعة صفراً، جون تيلر، ص5
    (2) المصدر السابق والصفحة.
    (3) المصدر السابق والصفحة.
    (4) المصدر السابق والصفحة.
    {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } فاطر8

    {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً }النساء27

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    الدولة
    مــصــر
    المشاركات
    292
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    تم بحمد الله..
    جزا الله خيراً الكاتب وجزا خيراً كل من ساهم في هذا العمل من قول وإرشاد ومراجعة ومتابعة..
    {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } فاطر8

    {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً }النساء27

  12. #12

    افتراضي

    ما أحقه أن يرفع ويطبع ويستذكر!
    جزاك الله خيرا أخي صادق خير الجزاء.

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Dec 2004
    الدولة
    egypt
    المشاركات
    2,149
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    جزاك الله خيرا أخى صادق.

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    الدولة
    مــصــر
    المشاركات
    292
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    وأياكم أستاذي الفاضل ناصر الشريعة وأخي الحبيب أتماكا.
    حفظكم الله ورعاكم.
    {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } فاطر8

    {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً }النساء27

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Apr 2011
    المشاركات
    2,064
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    1

    افتراضي

    جزاكم الله خيرا ....يرفع الموضوع لاهميته

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. كتاب الفيزياء ووجود الخالق
    بواسطة انا المسلم في المنتدى المكتبة
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 08-24-2010, 06:29 PM
  2. الفيزياء ووجود الخالق
    بواسطة مسلم مصري في المنتدى المكتبة
    مشاركات: 21
    آخر مشاركة: 02-17-2010, 09:44 PM
  3. الفيزياء ووجود الخالق - الفصل السادس -
    بواسطة amro في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 09-11-2008, 11:39 PM
  4. الفيزياء ووجود الخالق ( 1- 2) : الملحدون مشركون !
    بواسطة ناصر الشريعة في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 09-02-2008, 04:22 AM
  5. الفيزياء ووجود الخالق:الفصل السابع/ماذا بعد الايمان بوجود الخالق؟
    بواسطة محبة الاسلام في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 14
    آخر مشاركة: 08-30-2008, 12:31 AM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء