كيف أصبح الفقه بديلا حكوميا عن الدين
موجز القصة المتداولة في كتب التفسير , حول نزول سورة العلق , أن الرسول عليه الصلاة و السلام , كان يتعبد في غار حراء , عندما تجسد له الملاك , و قال له : (( إقرأ )) . فقال الرسول : (( ما أنا بقاريء )) أي لا أعرف القراءة . فضمه الملاك إلى صدره ثلاثا , حتى كاد أن يوجعه , و هو يقول له : (( إقرأ )) و الرسول يردد حائرا : (( ما أنا بقاريء)) .
مشكلة هذه القصة المريبة , نها قصة يصعب إثبات زيفها بوسائل المنطق . فلا أحد يستطيع أن يؤكد أن الحادثة لم تقع , و لا أحد يستطيع أن ينكر أن الله على كل شيء قدير . لكن ثمة خطأ لغوي فاضح , ارتكبه الرواة من دون أن يدروا , على عادة المزورين في كل العصور . فالواقع أن كلمة ((اقرأ )) لا تعني أصلا فعل القراءة .
إنها كلمة ذات أصل كلداني مصدرها ( ق ر ا ) و تعني أعلن و جاهر و نادى و بلغ , و منها في لغتنا العربية ( يقرأ السلام ) بمعنى يبلغه . و قد وردت في التراتيل الكلدانية بهذا المعنى في قولهم ( ق ر ا ب ش م م ر ي ا )أي ( نادي باسم الرب ) . و هو المقصود في قوله تعالى : { اقرأ باسم ربك } فالآية لا تطلب من الرسول أن يقرأ , بل تكلفه بإعلان الادعوة التي تمثلت في تصحيح مفهوم كلمة ( الرب ) بالذات . و لهذا السبب تكررت هذه الكلمة نفسها في الآية التالية , مقرونة باسم التفضيل , في قوله تعالى { اقرأ و ربك الأكرم } و ليس الكريم فقط .
فكلمة ( رب ) في لغتنا مشتقة من القاموس الكلداني و هي لا تعني الله فقط , بل تعني أيضا ( السيد ) و هي صيغة ما تزال حية في قولنا ( ربة البيت ) أي سيدة البيت . و قد دأبت الكنيسة العربية على تسمية المسيح باسم ( الرب ) بمعنى السيد و المعلم , و أدى هذا الخلط اللغوي إلى ارتباك ظاهر في نص الأنجيل . فأصبحت كلمة ( الرب ) تعني أحيانا يسوع المسيح , كما في قول بطرس : {..مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح } . و تعني أحيانا ( الله ) , كما في قول متى {..إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف قائلا : قم و خذ الصبي و أمه } . و قد تعمد القرآن أن يصححه في أول سورة و أول آية , بتحديد صفة ( الرب) التي لا يشاركه فيها رب سواه . فكلمة ( المسيح الرب ) , تم تصحيحها بقوله : { و ربك الذي خلق } و كلمة (المسيح المعلم ) تم تصحيحها بقوله : { و ربك الأكرم . الذي علم بالقلم }
إن القرأن لا يفتتح نزوله بدعوة الرسول إلى القراءة , كما يزعم رواة القصة المزورة , بل بدعوته إلى إصلاح خطأ جوهري في مفهوم الأله الواحد , و تطهير اسم ( الرب ) من التحريف الناجم عن سوء النقل و الترجمة . و هي دعوة تكررت بوضوح في السورة الثانية بقوله : { يا أيها المدثر . قم فأنذر . و ربك فكبر }
و الثابت أن القصة المتداولة في كتب التفسير , هي مجرد محاولة جاءت في وقت لاحق , لتمرير الفكرة القائلة بأن الرسول محمدا كان ( أميا ) بمعنى أنه لم يكن يعرف القراءة . و هي فكرة ولدت أساسا لتفسير قوله تعالى في سورة الأعراف : { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي } . لكن هذا التفسير نفسه هو مجرد خطأ ناجم عن سوء التفسير . فكلمة ( أمي ) لا تعني ( غير متعلم ) إلا في قاموس رجل جاهل حقا .
إنها مصطلح توراتي مشتق من كلمة ( ا و م ت ي ا ) بمعنى ( أممي ) أي غير تابع لأهل الكتاب من اليهود بالذات . و هو المعنى الذي يتبناه القرآن حرفيا , في آيات منها قوله تعالى : { و قل للذين أوتو الكتاب و الأميين }
فالأمي , في لغة التوراة , ليس هو ( غير المتعلم ) بل هو ( غير اليهودي ) الذي استبعده الرب من الشعب المختار , و اعتبره نجسا , لأنه غير مختتن و حرم عليه أن يطلع على الناموس , أو يقرأ الكتاب المقدس . و رغم أن رسل المسيح , رفضوا هذا الموقف اللاديني , و خرجوا للتبشير بين ( الأمم ) , فإن الكلمة نفسها ظلت تعني ( غير الكتابي ) , و ظلت صفة لازمة لجميع الشعوب التي لم تتلق شريعة سماوية . لهذا السبب يقول القرآن في سورة الجمعة : { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة و إن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } فالعرب لم يكونوا في ضلال مبين لأنهم لا يعرفون القراءة , بل لأنهم كانوا لا يملكون شريعة .
للموضوع بقية
الصادق النيهوم - مجلة الناقد مارس 1993
Bookmarks