النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: منهجية التعامل مع الشبهات وقواعد دحضها

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    المشاركات
    1,636
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي منهجية التعامل مع الشبهات وقواعد دحضها

    منهجية التعامل مع الشبهات وقواعد دحضها
    فيما يلي سأتناول بإذن الله تعالى بعض القواعد الهامة والأصول الرئيسة التي ينبغي الأخذ بها والتعامل على أساسها في مواجهة الشبهات، وذلك ليتم التخفيف منها أو القضاء عليها أو الحد من آثارها، بخطوات منهجية وأساليب علمية بعيدة عن العواطف التي لا تقوم على علم ولا يؤيدها عقل ولا يسندها منطق.

    بالحسنى لا بالتحدي.

    الداعية طالب آخرة لا طالب دنيا، وهو مع الحق أينما كان، لذا فهو على استعداد أن يتخلى عن حظوظ النفس من أجل إعزاز الحق وإظهاره.
    إن إظهار الحق وإيصاله للآخرين وإقناعهم به ودحض شبهاتهم وأباطيلهم يحتاج إلى أمر مهم وهو معرفة طبيعة النفس البشرية، وما يصلح لها وما يسوؤها.
    ومن أهم سمات هذه النفس أنها تميل إلى اللين والملاطفة والتعامل بالحسنى، وتنفر من الشدة والإذلال والإفحام والتحدي،إذ إن لها كبرياء، فمن أكرمها استطاع أن يقودها وأن يسيرها كيفما شاء، ومن خدش كبرياءها فلن يظفر منها بطاعة ولا تصديق ولا انقياد، ولا يلومن بعد ذلك إلا نفسه.
    لذا من أراد أن يمسح الشبهات من عقول الناس، أو أراد أن يدحضها فعليه أن يلج إلى ذلك بالحسنى وأن يتجنب العنف والشدة والتحدي، وذلك مصداقاً لقول الله تعالى: " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن".(النحل: الآية 125).
    ويقول جل ذكره مخاطباً نبييه الكريمين موسى وهارون عليهما السلام: " اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليّناً لعله يتذكّر أو يخشى".( طه: الآية 42-44).
    وقد ذكر صاحب " أصول الحوار" ( الندوة العالمية للشباب الإسلامي، ص 43-54 ) كلاماً موفقاً في معرض تعليقه على هذه الآية، فقال: هذا محمد صلى الله عليه وسلم أمره ربه أن يجادل قومه بالحسنى، وهم قد أساءوا إليه وكذبوه وآذوه، وهذان موسى وهارون عليهما السلام يرسلهما ربهما إلى فرعون الذي طغى، ويأمرهما أن يلينا له القول أملاً في أن يتذكر أو يخشى، فهل نحن أكرم على الله من أنبيائه؟ وهل من ندعو إلى الحق أذل وأخزى من فرعون والكافرين؟.
    إن الداعية يناقش بالتلطف والأناة والهدوء، ومن الأشياء التي تفتح مغاليق النفوس، وتفعل فيها فعل السحر أن تقول لصاحبك في بدء حديثك، اسمح لي أن أبدي وجهة نظري في الموضوع، قد أكون مخطئاً، وأشكرك لو تفضلت وصححت لي خطأي.
    وبالتي هي أحسن تقتضي ألا تسفه آراء صاحبك، وأن تظهر له الاحترام ولو كان على غير رأيك، لذا يقول الله تعالى: " ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبّوا الله عدْواً بغير علم.."( الأنعام: الآية 108).
    نعم، في بعض الأحيان لا ينفع المنطق والبرهان، إنما يجدي التودد والإحسان، حينذاك ألق عصا المنطق، واحمل راية الحنان، لتفوز في الميدان.
    عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه" أي: عابه. وفي رواية: " إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه ".( رواه مسلم).
    وإلى هذا المعنى أشار القرآن الكريم: " ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليُّ حميم". (فصلت: الآية 34).
    ودفع الإساءة بالإحسان ليس سهلاً يقدر عليه كل إنسان، بل يحتاج إلى تدريب نفسي، وصبر، ومجاهدة، ولذلك قال سبحانه: " وما يُلقّاها إلا الذين صبروا وما يُلقاها إلا ذو حظٍّ عظيم ". ( فصلت: الآية 35).
    إن أسلوب التحدي ولو كان بالحجة الدامغة والدليل المبين يُبغِّض صاحبه للآخرين، فلا تلجأ إليه، لأن كسب القلوب أهم من كسب المواقف.
    ثم إنك قد تفحم الخصم، وتعجزه عن الجواب ولكنك لا تقنعه! أو تسكته بقوة حجتك، ومع ذلك يسلم لك، لأنك أحرجته، فيرفض التسليم لك بعاطفته، حتى وإن كان عقله معك.
    أما إذا تلطفت معه فسوف يقتنع بوجهة نظرك، إن عاجلاً أو آجلاً. فإذا أنهيت ما تريد قوله، وأدليت بدليلك، فاترك صاحبك، وإن لم يوافقك، فهو مع مرور الزمن سيقتنع برأيك، بل ربما يتبناه ويدافع عنه بعد حين، فالوقت هنا له قيمته، وهو جزء من علاج الأفكار والنفوس.
    ولنفرض أنك خرجت من المعركة منتصراً، فليكن انتصاراً مملوءاً بالتواضع حتى لا تجرح مشاعر صاحبك وتذله، إذ يكفيه ذلاً أنه هزم أمامك في عقله وعلمه. وراقب نيتك مراقبة شديدة، حتى لا يعتريك العجب والزهو، فيضيع أجرك ويحبط عملك.
    والداعية الحكيم عليه أن يحاول استلال ما في قلوب الآخرين من غيظ وكراهية، وأن يقودهم إلى الهداية ليسعدوا بها كما سعد هو بها من قبل.
    على أن هناك حالات تستثنى من ذلك يحسن بالداعية أن يلجأ فيها إلى الإفحام وإسكات الطرف الآخر، وعلى سبيل المثال يمكن افتراض الحالة التالية: رجل فاسد النية والطوية، يعادي الحق وهو يعرفه، ولا يبتغي الوصول إلى الحقيقة والوقوف عند الحجة واحترام الدليل، جمع عدداً من الشبان الصغار وأخذ يثير أمامهم مجموعة من الشبهات والأكاذيب، فهذا قد يكون الأفضل أن يوقعه الداعية في تناقض فكري أمام الآخرين بحيث يحرجه ويفحمه ويسكته ويهون من قدره لديهم فيقطع عليه طريق إفسادهم.
    إذن ففي بعض الأحيان يكون الهجوم الحاد المركز على الخصم، وإحراجه وتسفيه رأيه- ضمن حدود الآداب الإسلامية- مطلباً مقصوداً من المناقشة أو المناظرة، وذلك إذا أساء إلى الفكرة وأهانها، أو تجاوز حدود الأدب، أو إذا اقتضت المصلحة إحراجه، فيكون إفحامه عقوبة له.
    فالله سبحانه أمرنا بالتلطف في المناقشة حتى مع الكفار، فإذا طغوا واعتبروا اللطف ضعفاً، فالشدة هو الدواء، قال تعالى: " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ".( العنكبوت: الآية 46).
    ويحسن هنا، بعد هذا التطواف في هذه المعاني السامية، أن نضرب بعض الأمثلة الحية على حسن الإفحام، فإليك هذه الأمثلة الأربعة:
    1.من طرائف الأجوبة المسكتة أن أحد الدعاة كان يحاضر في جمع من النساء عن تعدد الزوجات في الإسلام، وأفاض في الحديث بموضوعية وإتقان واستيعاب، واستعان بالأرقام والإحصاءات، وأورد الحجج العقلية والنقلية، لإثبات فوائد تعدد الزوجات، إلا أن عدداً من الحاضرات لم يقتنعن، وأخذن في اللجاج والجدال العقيم، فرأى المحاضر أن يسكتهن بطريقة أخرى، فقال لهن: في الحقيقة إن المسؤول الحقيقي عن تعدد الزوجات هو المرأة لا الرجل، فلما استغربن ذلك، وأنكرن عليه، قال لهن: لو أن كل امرأة رفضت أن تكون زوجة ثانية لرجل لما كان هناك تعدد زوجات.
    2.وفي التاريخ أن رجلاً ناظر مجموعة من الملاحدة الذين يقولون بالصدفة وينكرون وجود الله عز وجل، فلما طالت المناظرة وكثر الجدل دعاهم إلى لقاء آخر لإكمالها على أن يكون هناك شهود يحكمون من تكون له الغلبة، ولما جاء موعد اللقاء الجديد، جاء متأخراً، والجمع ينتظر، فأخذوا يلومونه، فقال لهم: دعوني أشرح لكم ما الذي أخرني فلعل لي عذراً، تعلمون أني أقيم في الطرف الآخر من المدينة حيث يفصل النهر بيننا، وحين وصلت النهر لأعبره إليكم لم أجد سفينة تحملني فكان هذا هو سبب التأخير، فقال له قائل: وكيف جئت بعد أن لم تجد سفينة؟ فقال: أتاني الحظ وأسعفتني الصدفة، مر لوح خشب يطفو على النهر فتوقف أمامي، ثم جاءت مجموعة ألواح أخرى التقت باللوح الأول من جهاته الأربعة بشكل عمودي، ثم قذف النهر بحبال غليظة التفت حول الألواح بإحكام حتى ثبتتها، وألقى بعض الناس بعض الزفت السائل فدخل في الشقوق بحيث منع دخول الماء، وهكذا وجدت نفسي أمام سفينة صغيرة عبرت بها النهر إليكم، قالوا له: ويحك، أتضحك علينا؟ إن هذا أمر مستحيل، فقال لهم: خسرتم وأقررتم على أنفسكم، أبت عقولكم أن تصنع الصدفة السفينة الصغيرة، وسمحتم لها أن تصنع هذا العالم المعجز، وهو أعقد من السفينة وأحكم وأكبر وأتقن.
    3.وكان أحد الرجال شديد العناية بالموروثات الشعبية ( الفولكلور) من لباس وطعام وآنية وما إلى ذلك، وفي الوقت نفسه كان يهاجم حجاب المرأة ويعده تأخراً ورجعية، حاوره أحد الدعاة، فلما أعجزه عناداً وجهلاً وتعصباً، قال له: بصراحة أنت رجل متناقض مع نفسك، قال له: وكيف ذلك؟ قال: لماذا تعنى بالأزياء القديمة وبقية الموروثات الشعبية؟ قال له: إنها فولكلور، وكل الأمم الآن تعنى بما لديها من فولكلور، فقال الداعية: لا بأس، اعتبر الحجاب من الفولكلور الذي تدعو إلى العناية به، ودع المحجبات وشأنهن.
    4.وكان أحد المفتونين بالحياة الحديثة يتحدث عن تخلف الأمة، فقال فيما قال: إن الناس وصلوا إلى القمر ونحن لا نزال ندعو إلى الحجاب، فقال له أحد الحضور: وما شأن الحجاب بذلك؟ قال الرجل: إنه تخلف يعوق مسيرة التنمية والتقدم، فقال له: طيب، إن في بلاد المسلمين أعداداً هائلة من النسوة خلعن الحجاب ومع ذلك لم تصلوا إلى القمر.

    مستنقع التكفير


    ربما يكون تكفير الناس وتفسيقهم وتضليلهم أمراً هيناً على لسان بعض الناس ولكنه عند الله عظيم، فلا يحل لمسلم أن يتجرأ في تكفير مسلم أو تفسيقه أو تضليله ما لم تكن له حجة بالغة أو يكون على يقين من ذلك.

    يقول الأستاذ حسن البنا رحمه الله في الأصل العشرين: " لا نكفر مسلماً أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاها وأدى الفرائض – برأي أو معصية- إلا إن أقر بكلمة الكفر، أو أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، أو كذب صريح القرآن، أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال، أو عمل عملاً لا يحتمل تأويلاً غير الكفر ".

    وقال في موضع آخر: " نعتقد إلى جانب هذا أن تأويلات الخلف لا توجب الحكم عليهم بكفر ولا فسوق، ولا تستدعي هذا النزاع الطويل بينهم وبين غيرهم، قديماً وحديثاً، وصدر الإسلام أوسع من هذا كله ".

    ويقول الدكتور عصام البشير: " إن تكفير المسلم إنما يكون بأمر قاطع، لا احتمال فيه ولا اشتباه، إذ مثله يكون من المحكمات الواضحات والأحكام الجليات، وكل من أتى بالشهادتين فقد عصم دمه إلا بحقها المنصوص عليها، والدلائل في ذلك كثيرة مستفيضة، والحكم بالكفر تترتب عليه آثار جد خطيرة أشار إليها الدكتور القرضاوي " ظاهرة الغلو في التكفير، ص 23-24" منها:
    1.إنه لا يحل لزوجته البقاء معه، ويجب أن يُفرَّق بينهما.
    2.عدم بقاء أبنائه تحت سلطانه خشية أن يؤثر عليهم بكفره.
    3.فقدان حق الولاية والنصرة على المجتمع الإسلامي.
    4.ينفذ فيه حكم المرتد بعد استتابته، وإزالة الشبهات عنه، وإقامة الحجة عليه.
    5.لا تحل ذبيحته.
    6.إذا مات لا تجري عليه أحكام المسلمين، فلا يغسل، ولا يصلي عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يرث، ولا يورث.
    7.موته على الكفر يستوجب لعنة الله، وطرده من رحمته، والخلود في النار.

    ويقول الإمام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى (12/466): " ليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين، وإن أخطأ وغلط، حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة ".

    فأهل السنة والجماعة عندهم الكفر كفران: كفر يوجب لصاحبه الخلود في النار وهو الكفر الأكبر المخرج عن ملة الإسلام، وكفر لا يستوجب لصاحبه الخلود في النار وهو الكفر الأصغر الذي يسمى كفر النعمة أو المعصية، وهذا يستحق صاحبه الوعيد دون الخلود.

    والوعيد قد يتخلف إما حسنات ماحية، أو مصائب يبتلى بها، أو شفاعة، وأعظم من ذلك رحمة الله تعالى.

    كما أنهم يطلقون التفريق بين القول، الذي قد يكون كفراً، وبين قائله، الذي لا يحكمون عليه بالكفر إلا بعد إقامة الحجة وتعليمه وإزالة الشبهة عنه.

    يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله في كتاب التوسل أنواعه وأحكامه (ص 41): " وأصل ذلك أن المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع يقال هي كفر قولاً يطلق، كما دلت على ذلك الدلائل الشرعية، فإن " الإيمان " من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله، ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم، ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير، وتنتفي موانعه، مثل من قال إن الخمر أو الربا حلال لقرب عهده بالإسلام، أو لنشوئه في بلدة بعيدة، أو سمع كلاماً أنكره ولم يعتقد أنه من القرآن ولا من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم".

    وفي التحذير من تكفير علماء الأمة بسبب اجتهاد يقول الإمام ابن تيمية في الفتاوى (3/229-231): " إن علماء المسلمين المتكلمين في الدنيا باجتهادهم لا يجوز تكفير أحدهم بمجرد خطأ أخطأه في كلامه، فإن تسليط الجهال على تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات، وإنما أصل هذا من الخوارج والروافض الذين يكفرون أئمة المسلمين.

    وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحض، بل كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس كل من يترك بعض كلامه لخطأ أخطأه يكفر ولا يفسق"، " وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية، والمسائل العلمية ".

    ولننظر إلى أدب العلماء وأهل الفقه عند اختلافهم مع غيرهم كيف يكون صنيعهم؟ إنهم عفواً ألسنتهم عن الوقوع في الجرح والطعن والتكفير والتضليل، " وإليك الرسالة العلمية الرائعة، التي بعث بها فقيه مصر وإمامها وعالمها الليث بن سعد إلى الإمام مالك، يعرض عليه فيها وجهة نظره، في أدب جم رفيع، حول كثير مما كان الإمام مالك يذهب إليه، ويخالفه فيه الليث بن سعد.

    ونظراً لطول الرسالة نقتطف منها ما يشير إلى ذلك الأدب الرفيع، الذي اختلف في ظله سلف هذه الأمة، وكرام علمائها، يقول الليل بن سعد:
    "... سلام عليك، فإن أحمد الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: عافانا الله وإياك، وأحسن لنا العاقبة في الدنيا والآخرة، قد بلغني كتابك تذكر فيه من صلاح حالكم الذي يسرني، فأدام الله ذلك بكم، وأتمه بالعون على شكره والزيادة من إحسانه...".

    ثم يقول: " وإنه بلغك أني أفتي الناس بأشياء مخالفة لما عليه الناس عندكم، وأني يحق عليّ الخوف على نفسي لاعتماد من قلبي على ما أفتيهم به، وأن الناس تبع لأهل المدينة التي كانت إليها الهجرة، وبها نزل القرآن وقد أصبت بالذي كتبت به من ذلك- إن شاء الله تعالى- ووقع مني بالموقع الذي تحب، وما أجد أحداً ينسب إليه العلم أكره لشواذ الفتيا، ولا أشد تفضيلاً لعلماء أهل المدينة الذين مضوا، ولا آخذ لفتياهم فيما اتفقوا عليه مني، والحمد لله رب العالمين لا شريك له ".

    ثم يمضي الإمام الليث بن سعد في رسالته، مورداً أوجه الاختلاف بينه وبين الإمام مالك رحمهما الله تعالى حول حجية عمل أهل المدينة، مبيناً أن كثيراً من السابقين الأولين الذين تخرجوا في مدرسة النبوة حملوا إلى مشارق الأرض ومغاربها، وهم يجاهدون، ما تعلموه من كتاب الله وسنة نبيه، وبين أن التابعين قد اختلفوا في أشياء، وكذلك من أتى بعدهم من أمثال: ربيعة بن أبي عبد الرحمن، حيث يذكر بعض مآخذه عليه.

    ثم يقول: " ومع ذلك- بحمد الله- عند ربيعة خير كثير، وعقل أصيل، ولسان بليغ، وفضل مستبين، وطريقة حسنة في الإسلام، ومودة صادقة لإخوانه عامة، ولنا خاصة، رحمه الله وغفر له وجزاه بأحسن ما عمله ".

    ثم يذكر من أمثلة الاختلاف بينه وبين الإمام مالك قضايا عديدة مثل: الجمع ليلة المطر- والقضاء بشاهد ويمين- ومؤخر الصداق لا يقبض إلا عند الفراق- تقديم الصلاة على الخطبة في الاستسقاء.. وقضايا خلافية أخرى، ثم قال في نهاية الرسالة:
    ".... وقد تركت أشياء كثيرة من أشباه هذا، وأنا أحب توفيق الله إياك، وطول بقائك، لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة وما أخاف من الضيعة إذا ذهب مثلك، مع استئناسي بمكانك وإن نأت الدار، فهذه منزلتك عندي، ورأيي فيك، فاستيقنه، ولا تترك الكتاب إليّ بخبرك وحالك وحال ولدك وأهلك، وحاجة إن كانت لك، أو لأحد يوصل بك، فإني أسر بذلك. كتبت إليك ونحن معافون والحمد لله، ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم شكر ما أولانا، وتمام ما أنعم به علينا، والسلام عليكم ورحمة الله ".

    بعد الرسالة سالفة الذكر لا أظن أننا بحاجة إلى شرح أو تفصيل، فاللبيب تكفيه الإشارة:
    يكفي اللبيب إشارة مرموزة***وسواه يدعي بالنداء العالي

    هؤلاء هم قدواتنا، فلنتخلق بأخلاقهم، ولنفتخر بالانتماء إليهم، ولنسعد بالاهتداء بهديهم الذي نهلوه من أسوتهم وقائدهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم:
    أولئك آبائي فجئني بمثلهم***إذا جمعتنا يا جرير المجامع

    لا إنكار على مجتهد ولا مُختَلف فيه


    هذه القاعدة ذكرها علماؤنا من سلف هذه الأمة لما فهموا روح وأدركوا أن هذه الأمة لا يمكن أن يستقيم أمرها وأن تبقي أمة واحدة بعيدة عن النزاع والشقاق إلا بإدراك هذه القاعدة.

    إن الاختلاف في الرأي أمر طبيعي في حياة البشر، ولو لم تقر هذه الحقيقة لكان ذلك مخالفاً لطبيعة البشر وفطرتهم، ولتسبب ذلك في تمزيق هذه الأمة والقضاء عليها.

    إن الذي جعل السلف رضوان الله عليهم في وحدة ومنعة، وفي بعد عن التشاحن رغم اختلاف آرائهم هو إدراكهم أنه لا إنكار من مجتهد ولا إنكار على أمر مختلف فيه.

    فلكل رأيه الذي يجب أن يُحترم، ولكل اجتهاده الذي ينبغي أن يُقدر ما دام المجتهد موثوقاً في دينه وأمانته وعلمه وتقواه.

    " فهذا ابن قدامة المقدسي رحمه الله يقول في مختصر منهاج القاصدين (ص 113): " ويشترط في إنكار المنكر أن يكون معلوماً كونه منكراً بغير اجتهاد، فكل ما هو في محل الاجتهاد، فلا حسبة فيه".

    وورى أبو نعيم في الحلية (6/368) بسنده عن الإمام سفيان الثوري رحمه الله قوله: " إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي اختلف فيه، وأنت ترى غيره، فلا تنهه".

    وروى الخطيب البغدادي : ( الفقيه والمتفقه، 2/69) عن سفيان الثوري قوله: " ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحداً من إخواني أن يأخذ به ".

    ونقل ابن مفلح في الآداب الشرعية (1/186) عن الإمام أحمد رضي الله عنه تحت عنوان: " لا إنكار على من اجتهد فيما يسوغ فيه خلاف في الفروع ". ما نصه: " وقد قال أحمد في رواية المروزي: لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهب ولا يشدد عليهم...".

    ويستثنى القاضي أبو يعلى ( الآداب الشرعية، 1/186) من ذلك إذا كان الخلاف ضعيفاً في مسألة من المسائل، وقد يؤدي عدم الإنكار إلى محضور متفق عليه، إذ يقول: " ما ضعف الخلاف فيه، وكان ذريعة إلى محظور متفق عليه، كربا النقد... فيدخل في إنكار المحتسب بحكم ولايته ".

    وهذا الذي يكون فيه الحق واضحاً، والأدلة بينة من الكتاب والسنة والإجماع، أما إذا خلت المسألة من ذلك كله، فلا إنكار على مجتهد.

    وقال النووي في الروضة ( تنبيه الغافلين، النحاس، ص 101): " ثم إن العلماء إنما ينكرون ما أجمع على إنكاره، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه، لأن كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد ولا نعلمه، ولم يزل الخلاف بين الصحابة والتابعين في الفروع ولا ينكر أحد على غيره، وإنما ينكرون ما خالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جلياً ".

    وفي الفتاوى سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عمن يقلد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد: فهل ينكر عليه أم يهجر ؟ وكذلك من يعمل بأحد القولين ؟

    فأجاب: " الحمد لله، مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه، وإذا كان في المسألة قولان: فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين، والله أعلم ".

    وسئل كذلك الإمام ابن تيمية رحمه الله: عمن ولي أمراً من أمور المسلمين ومذهبه لا يجوز " شركة الأبدان " ، فهل يجوز له منع الناس؟ أي منعهم عن العمل بها.

    فأجاب: " ليس له من منع الناس من مثل ذلك، ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد وليس معه بالمنع نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا ما هو في معنى ذلك، لاسيما وأكثر العلماء على جواز مثل ذلك، وهو مما يعمل به عامة المسلمين في عامة الأمصار.

    وهذا، كما أن الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل، ولا للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل.

    ولهذا لما استشار الرشيد مالكاً أن يحمل الناس على " موطئه" في مثل هذه المسائل منعه من ذلك، وقال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار، وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم.

    وصنف رجل كتاباً في الاختلاف، فقال أحمد: لا تسمه " كتاب الاختلاف " ولكنه سمه " كتاب السنة ".

    ولهذا كان بعض العلماء يقول: إجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة.

    وكان عمر بن عبد العزيز يقول: ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالاً، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا، ورجل بقول هذا، كان في الأمر سعة.

    وكذلك قال غير مالك من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه.

    ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره: إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها، ولكن يتكلم فيها الحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه ".

    " وروى أن عمر رضي الله عنه قضى في المسألة المعروفة باسم " المسألة الحجرية " في الميراث بعدم التشريك بين الإخوة الأشقاء والإخوة لأم، ثم رفعت إليه مرة أخرى، فقضى فيها بالتشريك.
    فقيل له: إنك لم تشرك بينهم عام كذا وكذا!! فقال عمر: تلك على ما قضينا يومئذ، وهذه على ما قضينا اليوم.

    وبهذا فسر ابن القيم في أعلام الموقعين (ج 3/ 99-130) قول عمر بن الخطاب في كتابه إلى أبي موسى الأشعري: " ولا يمنعنك قضاء قضيت به اليوم، فراجعت فيه رأيك، وهديت فيه لرشدك، أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل ".

    وروي ( في إعلام الموقعين، ج1، 74): أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقي رجلاً فقال: ما صنعت ؟ يعني في مسألة كانت معروضة للفصل فيها، فقال الرجل: قضي عليّ وزيد بكذا.. فقال عمر: لو كنت أنا لقضيت بكذا.. قال الرجل: فما يمنعك والأمر إليك ؟ قال: لو كنت أردك إلى كتاب الله أو إلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لفعلت، ولكني أردك إلى رأيي، والرأي مشترك ".

    إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث


    نقصد بذلك أن نزن الأشخاص والأفعال بميزان الحسنات والسيئات، والإيجابيات والسلبيات، فإذا رجحت الحسنات على السيئات حمد صاحبها، وإذا رجحت السيئات على الحسنات، ذم صاحبها.

    إن الله تعالى يحاسب الناس يوم القيامة بهذا الميزان، كما قال تعالى: " فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون. ومن خفّت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جنهم خالدون " (المؤمنون 102-103) .

    يقول الإمام ابن تيمية ناصحاً تلميذه ابن القيم: " واعلم أن من قواعد الشرع والحكمة أيضاً أن من كثرت حسناته وعظمت وكان له في الإسلام تأثير ظاهر، فإنه يحتمل له ما لا يحتمل لغيره، ويعفى عنه ما لا يعفى عن غيره، فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ قُلتين لم يحمل الخبث ".

    وقال سعيد بن المسيب: " إنه ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تُذكر عيوبه، ومن كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله ".

    وقد وضع الإمام السبكي في طبقات الشافعية قاعدة ذهبية في تجريح العلماء، إذ قال: " الصواب عندنا أن من ثبتت إمامته وعدالته، وكثر مادحوه ومزكوه، وندر جارحه، وكانت هناك قرينة دالة على سبب جرحه من تعصب مذهبي أو غيره، فإنا لا نلتفت إلى الجرح فيه، ونعمل فيه بالعدالة، وإلا فلو فتحنا هذا الباب أو أخذنا تقديم الجرح على إطلاقه لما سلم لنا أحد من الأئمة، إذ ما من إمام إلا وقد طعن فيه طاعنون، وهلك فيه هالكون ".

    ويقول الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عند ترجمته للقفال الشاشي: " قال أبو الحسن الصفار: سمعت أبا سهل الصعلوكي، وقد سئل عن تفسير أبي بكر القفال، فقال: قدِّسه من وجه، ودنسه من وجه، أي: دنسه من جهة نصره للاعتزال".

    قلت – أي الذهبي-: قد مرّ موته، والكمال عزيز، وإنما يمدح العالم بكثرة ما له من الفضائل، فلا تدفن المحاسن لورطة، ولعله رجع عنها، وقد يغفر الله له باستفراغه الوسع في طلب الحق، ولا قوة إلا بالله ".

    ويقول كذلك الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى: في معرض الحديث عن محمد بن أحمد بن يحيي العثماني ( وهو من غلاة الأشاعرة، كما ذكر ذلك ابن الجوزي): " ونحب السنة وأهلها، ونحب العالم على ما فيه من الاتباع والصفات الحميدة، ولا نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ، وإنما العبرة بكثرة المحاسن ".

    ويقول أيضاً الإمام الذهبي في ترجمة الإمام ابن حزم: " قيل إنه تفقه أولاً للشافعي، ثم أداه اجتهاده إلى القول بنفي القياس كله، جلية وخفية، والأخذ بظاهر النص وعموم الكتاب والحديث، والقول بالبراءة الأصلية واصطحاب الحال، وصنف في ذلك كتباً كثيرة، وناظر عليه، وبسط لسانه وقلمه ولم يتأدب مع الأئمة في الخطاب، بل فجج العبارة، وسب، وجدع ".

    فكان جزاؤه من جنس فعله، بحيث إنه أعرض عن تصانيفه جماعة من الأئمة، وهجروها ونفروا منها، وأحرقت في وقت، واعتنى بها آخرون من العلماء، وفتشوها انتقاداً واستفادة، وأخذاً ومؤاخذة، ورأوى فيها الدر الثمين ممزوجاً في الرصف بالخرز المهين، فتارة يطربون، ومرة يعجبون، ومن تفرده يهزؤوه.

    وفي الجملة فالكمال عزيز، وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان ينهض بعلوم جمة، ويجيد النقل، ويحسن النظم والنثر، وفيه دين وخير ومقاصد جميلة، ومصنفاته مفيدة، وقد زهد في الرئاسة، ولزم منزله مكباً على العلم، فلا نغلو فيه، ولا نجفو عنه، وقد أثنى عليه قبلنا الكبار ".

    ويقول ابن رجب الحنبلي في كتابه القواعد ( ص: 3): " والمنصف من اغترف قليل الخطأ المرء في كثير صوابه ".

    ويقول صاحب " منهج أهل السنة والجماعة في النقد والحكم على الآخرين ": " ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام نفيس جداً، يتضح فيه المنهج الصحيح في الحكم على الآخرين، وخاصة العلماء والقدوات، وإثارة الشبهات حولهم، ورميهم بالاتهامات والنقائص، حتى لو أخطأوا في بعض مسائل الاعتقاد.

    فيقول رحمه الله في معرض حديثه عن أبي ذر عبد الله بن أحمد بن محمد بن عبد الله غفير الهروي الأنصاري وهو غير أبي ذر الصحابي، وتوفى سنة 434هـ، وصنف مستخرجاً على الصحيحين، وهو حافظ ثقة، فقيه مالكي، غير أنه أخذ شيئاً من المعتزلة، فيقول الإمام ابن تيمية في كتابه درء تعارض العقل والنقل (2/101-103):
    " قلت: أبو ذر فيه من العلم والدين والمعرفة بالحديث والسنة وانتصابه لرواية البخاري عن شيوخه الثلاثة، وغير ذلك من المحاسن والفضائل ما هو معروف به، وقد كان قدم إلى بغداد من هراة، فأخذ طريقة ابن الباقلاني، وحملها إلى الحرم، فتكلم فيه وفي طريقة من تكلم، كأبي نصر السجزي وأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني، وأمثالهما من أكابر أهل العلم والدين بما ليس هذا موضعه، وهو ممن يرجح طريقة المبغي والثقفي على طريقة ابن خزيمة وأمثاله من أهل الحديث.

    وأهل المغرب كانوا يحجون، فيجتمعون به، ويأخذون عنه الحديث وهذه الطريقة، ويدلهم على أصلها، فيرحل منهم من يرحل إلى المشرق، كما رحل أبو الوليد الباجي، فأخذ طريقة أبي جعفر السمناني الحنفي- صاحب القاضي أبي بكر- ورحل بعده القاضي أبو بكر ابن العربي، فأخذ طريقة أبي المعالي في الإرشاد.

    ثم إنه ما من هؤلاء إلا له في الإسلام مساع مشكورة وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من الإلحاد والبدع والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم وتكلم فيهم بعلم وعدل وإنصاف، لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداء عن المعتزلة، وهم فضلاء عقلاء، احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين، وصار الناس بسبب ذلك:
    منهم من يعظمهم، لما لهم من المحاسن والفضائل.
    ومنهم من يذمهم، لما وقع في كلامهم من البدع والباطل.

    وخيار الأمور أوساطها، وهذا ليس مخصوصاً بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين، والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات ويتجاوز لهم عن السيئات " والذين جاءو من بعدهم يقولون ربَّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ". (الحشر 10)

    ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخطأ في بعض ذلك، فالله يغفر له خطأه، تحقيقاً للدعاء الذي استجابه الله لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا: " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ". (البقرة: الآية 286)

    وقال كذلك الذهبي – رحمه الله تعالى- في ترجمة الفضيل: " قلت: إذا كان مثل كبراء السابقين قد تكلم فيهم الروافض والخرارج، ومثل الفضيل يتكلم فيه، فمن الذي يسلم من ألسنة الناس، لكن إذا ثبتت إمامة الرجل وفضله، لم يضره ما قيل فيه، وإنما الكلام في العلماء مفتقر إلى وزن بالعدل والورع ".

    والذي خبث لا يخرج إلا نكداً


    أصل هذه القاعدة هو قول الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " (الحجرات: الآية 6) .

    " يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي- رحمه الله تعالى- في ( أضواء البيان: 7/628): وقد دلت هذه الآية من سورة الحجرات على أمرين:
    الأول: أن الفاسق إن جاء بنبأ ممكن معرفة حقيقته، وهل ما قاله فيه الفاسق حق أو كذب، فإنه يجب فيه التثبت.

    والثاني: هو ما استدل عليه بها أهل الأصول من قبول خبر العدل، لأن قوله تعالى: " إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا " يدل بدليل خطابه، أعني مفهوم مخالفته أن الجائي بنبأ إن كان غير فاسق بل عدلاً لا يلزم التبين في نبئه على قراءة: فتبينوا، ولا على التثبت على قراءة: فتثبتوا، وهو كذلك ( انتهى كلام الشنقيطي).

    إن الله عز وجل بيّن أن التثبت في خبر الفاسق واجب، فأول شيء قبل التثبت من الخبر هو النظر في حال صاحبه، هل هو عدل أم فاسق ؟

    ولذلك ينبغي النظر في حال الجارح، فقد يكون بينه وبين المجروج عداوة، أو حسد وبغضاء، أو تنافس مذموم، أو هو من قبيل كلام الأقران بعضهم في بعض، أو يكون الجارح أصلاً غير مرضي في دينه وأمانته..الخ.

    قال السخاوي في ( فتح المغيث 3/328): رأى ابن عبد البر أن أهل العلم لا يقبل فيهم الجرح إلا ببيان واضح، فإذا انضم لذلك عداوة فهو أولى بعدم القبول. (انتهى كلام السخاوي).

    ويقول السبكي في ( طبقات الشافعية الكبرى 2/9): " بل الصواب عندنا أن من ثبتت إمامته وعدالته، وكثر مادحوه ومزكوه، وندر جارحوه، وكانت هناك قرينة دالة على سبب جرحه من تعصب مذهبي أو غيره، فإنا لا نلتفت إلى الجرح فيه ، ونعمل فيه بالعدالة، وإلا لو فتحنا هذا الباب، أو أخذنا تقديم الجرح على إطلاقه لما سلم لنا أحد من الأئمة، إذ ما من إمام إلا وقد طعن فيه طاعنون، وهلك فيه هالكون " ( انتهى كلام السبكي).

    ولا يعني ذلك رفض الحق، أو العدول عن النصيحة، أو عدم قبول النقد والتوجيه، كما لا يعني ذلك مخالفة الأثر الذي يقول: " الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها ".

    ولكن المقصود من كلامنا هذا أن لا نقدم حسن الظن بأعداء الله وأهل السوء والفساد، بل ينبغي أن نكون على حذر دائم منهم، كما روي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال: " احذروا من الناس بسوء الظن"، وهؤلاء كما أخبر الله عنهم: " كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمةً يُرضونكم بأفوافههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً فصدّوا عن سبيله إنهم سآء ما كانوا يعملون لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمةً وأولائك هم المعتدون " (التوبة 008-10).

    لذلك يتحتم على المسلم أن ينظر في حال الجارح ومثير الشبه والتهم، فإن كان على غير صلاح وتقوى وأمانة وعلم فلا يصدق ما جاء به، ولا يقبل منه حتى يتثبت من كلامه ويتأكد من زعمه، قبل أن يكون المسلم أداة بيد هؤلاء.

    نعم، قد يخرج الصواب ( أحياناً) على لسان العدو، وقد يصدُقك الكاذب، وربما ينطق المجنون بشيء من الحكمة، ولكن ذلك هو الشاذ القليل النادر، أما عادة العدو المكر، وشأن الكاذب الكذب، وديدن المجنون الهذر الذي لا ينفع ولا يفيد، فعلام نتثبث بالشاذ المخالف للعاده، ونترك الأصل الذي فطر الناس عليه، وصدق الله إذ يقول: " والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون ". (الأعراف: الآية 58).

    ارتكاب أخف الضررين


    تتعرض الدعوة الإسلامية إلى كثير من المواقف المحرجة، والأزمات العاصفة، والتي يقف الدعاة بين يديها حائرين، إذ لا تخلو جميع الخيارات التي أمامهم من شر أو ضرر، فإن هم أقدموا وقع ضرر ما، وإن هم أحجموا تعرضوا لضرر آخر، فما هو الحل ؟

    إن الحل واضح عند أهل العلم والفقه، وهو العمل بالقاعدة الأصولية التي تقول: " ارتكاب أخف الضررين، أو فعل مفسدة صغرى من أجل دفع مفسدة كبرى ".

    إن هذه القاعدة هي سبيل للخروج من كثير من المآزق والمواقف الحرجة، وهي دليل على واقعية هذا الدين وعظمته وصلاحيته لكل زمان ومكان.

    تجد بعض المسلمين ممن لا يدركون هذه القاعدة الأصولية يحاكمون الدعوة الإسلامية على بعض مواقفها التي ترتب عليها ضرر ما، فيتمادون في اتهامها وتجريحها وإثارة الشبهات عليها، ولو أنهم فقهوا هذه القاعدة لربما أراحوا أنفسهم من كثرة القيل والقال.

    ولعل من الأمثلة على ذلك ما حدث من مواجهة في إحدى الدول الإسلامية في بداية الثمانينيات، وما ترتب عليه من آثار سيئة وضرر كبير. نقول، رغم تحفظنا على هذه المواجهة ودون الدخول في التفاصيل: إن الدعاة اجتهدوا فوجدوا أن المواجهة فيها ضرر والإحجام فيه ضرر آخر، فقدر بعضهم أن ضرر الإحجام أكبر من ضرر المواجهة، فواجهوا، وقد يكون اجتهادهم خاطئاً، ولكن هكذا كان تقديرهم، وهم بذلك يبقون مجتهدين، وإن أخطؤوا فنرجو أن لا يحرموا أجر المجتهد المخطىء.

    ومن هنا فلا ينبغي أن يتمادى الدعاة والمسلمون كثيراً في اتهامهم، والطعن في نياتهم، وليعتذروا لإخوانهم بأنهم اجتهدوا ففعلوا ما ظنوه أخف الضررين، ولا بأس، بل ينبغي، أن نأخذ العبرة والعظة من هذا الحدث ومن كل حدث ذي بال.

    إن الأمثلة في تطبيق هذه القاعدة كثيرة، ويحتاجها الدعاة في كل يوم، وبعضها قد يمس الأفراد، في حين بعضها قد يمس الدعوات والجماعات والدول.

    يقول الله تعالى: " ولما جاءت رُسلناَ لوطاً سِىْءَ بهم وضاق بهم ذرعاً وقال هذا يوم عصيب، وجاءه قومه يُهرعون إليه ومن قبلُ كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هُنَّ أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفِي أليس منكم رجل رشيد". (هود: الآيات 77-78).

    يقول الإمام الشوكاني (فتح القدير 2/513): " لما خرجت الملائكة من عند إبراهيم، وكان بين إبراهيم وقرية لوط أربعة فراسخ، جاؤوا إلى لوط، فلما رآهم لوط، وكانوا في صورة غلمان حسان مرد ( سيء بهم) أي ساءه مجيئهم ( وضاق بهم ذرعاً ) والمعنى: أنه ضاق صدره لما رأى الملائكة في تلك الصورة، خوفاً عليهم من قومه لما يعلم من فسقهم وارتكابهم لفاحشة اللواط ( وقال هذا يومٌ عصيب ) أي شديد".

    يقول الشيخ عبد الحميد البلالي: " إن لوطاً يواجه الآن منكراً بيناً، وهو لا يملك العدد ولا العدة حتى يردهم عما يريدون من منكر، فكل رجال القرية جاؤوا إليه ( يُهرعون )، وأمام هذه الفورة المحمومة لا بد له أن يفكر بحكمة بالغة، كي يتجنب ما يمكن أن تسببه حدة الإنكار والرفض الجازم من مضاعفات.

    إنه أمام قوم قد انسلخوا من فطرة الإنسان، وأصبحت حتى البهائم خيراً منهم، ومع علمه بسوء أخلاقهم، وانحراف فطرتهم، نراه يعرض بناته الطاهرات العفيفات واللاتي تربين في بيت النبوة، يعرضهن لقومه للزواج، ويقبل بهم كأزواج لبناته مع سوء خلقهم، حتى يتجنب ضرراً ومنكراً أبلغ وأعمق من ضرر زواج بقوم لهم مثل هذه الصفات " يا قوم هؤلاء بناتي هُنَّ أطهر لكم ".

    ثم يبين البلالي أهمية هذه القاعدة وحاجة الدعاة إليها اليوم، ويضرب لذلك العديد من الأمثلة الحية الواقعية فيقول: " إن معرفة هذه القاعدة أصبح ضرورياً اليوم أكثر من كل وقت مضى لشباب الحركة الإسلامية نظراً لشراسة الباطل، وحتى يكسبوا القاعدة الأكبر إلى جانبهم ليكونوا لهم الحماة والقواعد في الغد المشرق.

    فهذا الواعظ المفوه الذي يجتمع إليه آلاف المستمعين، وتتعطل حركة المرور إذا حان موعد الموعظة، والذي يهتدي بتوجيهاته ومواعظه العشرات من الناس، وتُجمع الآلاف من الأموال بعد كل محاضرة للفقراء والأرامل والمجاهدين واليتامى والمشاريع الإسلامية، ماذا عساه أن يجني عندما يقوم بالإنكار الصريح دون استخدام التلميح على فرد من أصحاب النفوذ أو وضع يخالف الشرع، ماذا عساه أن يجني أكثر من فوات كل هذه المصالح التي ذكرناها.

    وهذه المجلة الإسلامية الملتزمة، والتي يقرأها آلاف المسلمين في بقاع الأرض فيتصلوا من خلالها بقضاياهم الإسلامية، ويهتدي بسببها كثير منهم، والتي تقوم بتعديل كثير من الأفكار المتطرفة وغير المتزنة عند بعض المسلمين، والتي تزول كثير من المناكر بسبب موضوعاتها، وغيرها من المصالح الكثيرة التي تسببها، ماذا عساها أن تجني عندما تجاوز الحد في نقدها لمنكر لأحد الأنظمة أو أحد الأفراد المتنفذين أكثر من فوات كل هذه المصالح التي تسببها.

    إن بعض الأفكار المطروحة والتي تحرّم الالتحاق في التعليم الحكومي في بلد ما، بحجة أن هذا النظام لا يحكم بما أنزل الله، ولهذا فهو نظام كافر لا يجوز إعانته ومشاركته بشيء، أو بحجة أن كثيراً من المناهج التربوية في بعض بلادنا الإسلامية تضع في مناهجها أموراً تخالف العقيدة وتدرسها على أنها حقائق مسلمة، كنظرية دارون وبعض نظريات فرويد وكبعض الأطروحات الإقليمية وغيرها من الأفكار المخالفة للشرع.

    ترى ماذا سيجني دعاة الحق عندما يقاطعون التعليم الحكومي أكثر من إعطاء الفرصة لأصحاب الأفكار الهدامة لأن يتسلموا دفة التوجيه التربوي، فيزداد بذلك المنكر على ما كان عليه، وتخلو المناصب المؤثرة في المؤسسات الحكومية من أصحاب الحق، فيكثر نشر الباطل، ويتفشى الفساد الإداري بجميع صوره المرعبة.

    إننا مع علمنا أن بعض ما يوضع في مناهجنا مخالف للشرع، وهذا بلا شك ضرر في ميزان الشرع، ولكن أليس هذا الضرر أخف بكثير من الضرر المترتب على مقاطعة التعليم الحكومي، والذي يسبب فوات تلك المصالح التي ذكرناها " ؟؟

    وبعد هذه الأمثلة ينقل البلالي بعض ما ذكره علماؤنا الأفذاذ فيما يتعلق بهذه القاعدة فيقول: " يقول الإمام ابن تيمية ( الحسبة: ص 122): " فإن الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة، فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر، لم يكن مأموراً به، بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة ".

    ويقول في موضع آخر ( الحسبة ص: 124): " بحيث لا يتمضن الأمر بمعروف فوات أكثر منه أو حصول منكر فوقه، ولا يتضمن النهي عن المنكر حصول أنكر منه أو فوات معروف أرجح منه.

    ومن تطبيقات هذه القاعدة ابن النحاس ( تنبيه الغافلين: 100): " من هذا النوع لو وجدنا رجلاً يرقب امرأة ليفسق بها إذا مرت، فرأى خمراً فاشتغل بشربه ولو منعناه منه لامتنع ولكن يتنبه للمرأة، ولا نقدر على دفعه عنها، فإننا لا نمنعه من شرب الخمر إذا كان شربه يشغله عن منكر أعظم منه، وفي عكس هذه المسألة نمنعه قطعاً ".

    ويذكر في مسألة ثانية " لو رأى رجلاً على ساحل البحر يغصب دجاجة لرجل، ولو دفعه عنها لاندفع، ولكن يعلم إنه يقطع البحر إلى الساحر الآخر ويأخذ شاة لرجل آخر. إن نظرنا إلى المعصية من حيث هي فإنا لا ندفعه عن الدجاجة، لأن دفعه عن هذه المعصية سبب لمعصية أعظم منها، وإن نظرنا إلى أن الإنكار منوط بالاستطاعة قلنا ندفع عن الدجاجة، وأما الشاة فليس في الاستطاعة الدفع عنها، وقد يحول القدر بينه وبينها، والأول أقرب إلى القواعد، والله أعلم ".

    أما إن تساوى المعروف والمنكر عند شخص أو مجموعة بحيث يفعلونهما جميعاً أو يتركونهما جميعاً، فيقول الإمام ابن تيمية ( الحسبة، ص 122-123): " إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر، بحيث لا يفرقون بينهما، بل إما أن يفعلوهما جميعاً أو يتركوهما جميعاً، لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا ينهوا عن منكر، بل ينظر، فإن كان المعروف أكثر أُمر به وإن استلزم ما هو دونه من المنكر، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله، والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وزوال فعل الحسنات ".

    مناهج الدعوات لا أفعال الدعاة


    مما لا شك فيه أن الدعاة مطالبون بأن يكونوا قدوة للآخرين حتى يمثلوا دعوتهم أحسن تمثيل، فيتبعهم الناس، ويؤمنوا بدعوتهم، ويلتفوا حول فكرتهم، إذْ يرون فيهم قدوات حية تقودهم إلى الخير والصلاح.

    ولكن رغم أهمية هذا الأمر وضرورته للدعوة والدعاة إلا أن ذلك لا يعني أن هؤلاء الدعاة معصومون عن الخطأ والزلل مبرؤون من النقص والقصور.

    لذلك فالأولى إذا أردت أن تحاكم فئة ما أن تحاكم فكرها ومنهجها المكتوب، والمتعارف عليه فيما بينها، والذي يتربى أفرادها عليه، وقد بُذل جهد كبير لتأطيره وتأصيله وتقعيده.

    أما محاكمة أقوال أو تصرفات بعض دعاتها أو علمائها أو حتى قيادتها فربما لا تكون هذه المحاكمة دقيقة ولا علمية ولا منصفة، إذ إن هؤلاء العلماء والدعاة بشر يصيبون ويخطئون، وربما تمر على أحدهم بعض الظروف والأحوال التي لا يعلمها إلا الله تعالى، فيضطر أحدهم إلى قول أو فعل ما يكون مجانباً للصواب، أو يكون صائباً في ظرف ما أو في زمان أو في مكان ما، لكنه غير صائب فيما سواه.

    كما أن البشر قد يعتريهم قصور أو نقص، أو ربما يقتنع أحدهم برأي ما مخالف لرأي الفئة التي ينتمي إليها، فيتبع ما يظنه الحق، وإن كان خلاف المنهج الذي ينتمي إليه، كما كان السلف رضوان الله عليهم يفعلون ذلك.

    إن أتباع الأئمة الكرام خالفوا أئمتهم في كثير من الآراء والاجتهادات، فقد خالف ابن العربي الإمام مالك، وخالف أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيبانى شيخهما الإمام أبا حنيفة، وخالف النووي الإمام الشافعي في العديد من المسائل، وخالف ابن تيمية الإمام أحمد، وخالف ابن القيم شيخه الإمام ابن تيمية، وهكذا.

    إن محاكمة الرجال تختلف عن محاكمة المناهج والأفكار، وبينهما فرق دقيق ربما لا ينتبه إليه كثير من الناس، إذ إن الناس جعلوا المناهج مُجَسَّدة في أفعل الرجال، وهذا مطلوب، أي أن يُجَسِّد الرجال مناهج دعوتهم الحقة، ولكنه لا يتحصل دائماً، لذلك فإن المحاكمة العلمية العادلة هي التي تبحث في ما ورد في مناهج الدعوات لا فيما قاله الدعاة.

    يقول صاحب العوائق: " ولقد أسرف بعضهم في الابتعاد عن هذه النظرة ( أي قبول أحسن ما عملنا والتجاوز عن سيئاتنا)، فأحصى ما يظنه من أخطائنا، مما صدر عن آحاد من دعاة حركتنا، حاولوا الاجتهاد، فبعض أصاب وبعض أخطأ.

    أما الأتباع فلا ننكر أن فيهم من قد يخطئ في كلامه أو تصرفه، ولكن لا بد من الانتباه إلى مسألة مهمة جداً، حين تقدير ما يصدر عن الأتباع، ذلك أن الدعوة ليست مجمعاً للكاملين، وإنما هي مجتمع تربوي يسعى لتربية كل وافد إليه إذا كان مبتعداً عن الكبائر شريفاً في الناس.

    وإذا قيل إن فلاناً قد صار من جملة شباب الدعوة فليس معنى ذلك أنه قد استكمل الإيمان وحاز العلم من أقطاره، ولكننا حين نصفه بذلك فإننا نعني أنه قد رضي أن يربيه الدعاة، وإنه قد بدأ السير وفق المنهج الأصح.

    وعلى هذا فإن الأتباع، وحتى القادة، متفاوتون في كمية حيازة خصال الإيمان والفقه الشرعي الذي يجعل أعمالهم صائبة، فمنهم المبتدئ الذي قد يخطئ، ومنهم الوسط في ذلك، ومنهم من الذي كثف خيره وعبق عطره.

    وليست دلالة القِدم أكيدة في ذلك، وإنما هي طاقات مختلفة من التحمل والصبر والذكاء والشجاعة، ولربما تجد القديم في منازل المبتدئين مراوحاً إذْ لم يكن له مقدار وافر من هذه الخصال الابتدائية، فقد يخطئ في تعامله أو في كتاباته وأقواله.

    وأمر التجميع وقبول الأتباع في الصف يعتمد إلى حد كبير على الفراسة عند المربين والقادة، والفراسة من شأنها أن تصيب أو تخطئ، والقاعدة التي نتبعها أن نفتح بابنا لكل طارق أمين مهما قلّ خيره، طالما جاءنا طامعاً في أن يقف في صف صلاتنا خلف إمامنا.

    والحقيقة أن أكثر أخطاء الأعضاء محاسبون عليها، وتشهد على ذلك قصص فيها مفخرة للقيادات في حرصها على الحسبة ونقاء الصف وتقويم الاعوجاج، ولكنها لا تذيع ذلك أو تنشره، لأن في المقصرين الذين حوسبوا شعباً وأنواعاً من الخير لا يراد لها أن تضمحل أو تموت بالتشهير.

    ولو أذاعت القيادات محاضر محاوراتها لأمثال هؤلاء المقصرين، معاتبة ومرشدة ومنبهة لهم، لوقعت في الخطأ الذي نعيبه هنا، ولكنه الستر على أهل الخير يستغله الناقدون بلا علم، فيقدمون على الجرح والقدح بجرأة في موطن تهيبت فيه القيادات واستحسنت الهدوء في معالجة الأمر الذي هيج الناقدون.

    وفي الواقع أن أكثر الانتقادات التي توجه يمكن ردها بسهولة، ونستطيع أن نقنع المنتقد بوجهة نظرنا إذا كان سليم الطوية، صادراً عن حب في الإصلاح ما استطاع.

    ولا يعني ما سبق من كلامنا أن لا يؤاخذ الدعاة بما يقولون أو يفعلون، ولكن نعني بذلك أن لا تؤاخذ الدعوات بخطأ بعض أفرادها.

    لذا، إذا طرحت شبهة ما حول فئة ما، وكان أساس الشبهة خطأ أو انحرافاً وقع فيه بعض أفرادها، فإن الجواب على هذه الشبهة يكون وبكل يسر: إن هذا الخطأ هو خطأ فرد، وليس خطأ منهج أو دعوة .

    ومما يتعجب له المرء أحياناً أن يجد بعض الفئات تتطاول على أخطاء وقع فيها أفراد في دعوات أخرى مخالفة، فتصب عليهم سيل من الاتهامات والشبهات التي لا تلصقها بهؤلاء الأفراد المخطئين ولكن تلصقها بدعوتهم كلها، في حين إذا نظرت إلى هذه الفئة المتطاولة وجدت فكرها ومنهجها يحتاجان إلى إصلاح شديد وإلى إيضاح كثير.

    فسبحان الله كيف يضخم البعض خطأ الأفراد ويحجِّمُوا خطأ المناهج والأفكار، وكيف يرى بعضهم القذاة في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه.

    إجمال لا اجتزاء


    يغلب على كثير من الشبهات التي توجه للدعوة الإسلامية أو الدعاة أنها تصاغ بصورة فيها شيء من المكر والدهاء.

    حيث يقوم مثيرو الشبهات باقتطاع بعض الفقرات أو اجتزاء عدد من النصوص من منهاج الدعوة أو من كلمات بعض الدعاة ثم تجمع بطريقة معينة، فيخيل للسامع أن هذا العالم أو ذاك الداعية المشهود له بالصلاح والاستقامة وصفاء العقيدة والفكر والمنهج، أقول: يخيل للقارىء أو للسامع وكأن هذا العالم صوفي منحرف، أو حلولي كافر، أو انحلالي مفسد، أو مبتدع مضل، أو....الخ.

    إن السبب في ذلك أن هؤلاء القوم ( مثيري الشبهات) اقتطعوا ما يناسبهم من الكلمات وما يحققون به غرضهم في اتهام الصالحين، وتركوا ما سوى ذلك، فلم يريدوا الحقيقة ولكنهم أرادوا الإيقاع بالآخرين واتهامهم ظلماً وزوراً، إذ لو أرادوا الحق لأتوا بالكلام كله، وربطوا أوله بآخره، وقيدوا عامه بخاصه، ومطلقه بمقيده، ومنسوخه بناسخه، ثم أحسنوا الظن.

    إن هؤلاء فعلوا فعل الذي جاء إلى سورة الماعون فقرأ قوله تعالى: " فويلٌ للمصلين " ثم وقف، فاختل المعنى أيما اختلال، ولو أتم لوضح الحق وعرف الصواب.

    ولذلك يقول أبو نواس في ذلك مستهزئاً:
    دع المساجد للعباد تسكنــــها*** وطف بنا نحو خمار ليسقينا
    ما قال ربك ويل للأولى سـكـروا*** وإنما قال ويل للمصليـنا

    نعم، إن هذا فعل غير أولي الصلاح والتقى، لذلك إذا وجهت تهمة تجاه أحد، أو أثيرت شبهة على فئة، فأول رد على هذه الشبهة أن يُطالبَ مثيرها بالإطلاع على جميع ما ورد على لسان ( أو بقلم) هذا العالم أو في منهج هذه الفئة، ثم يجمع بين النصوص، فإذا كانت الأدلة كلها تشير إلى إثبات هذه التهمة، فعندها ينظر في شبهته، إذا كان غير ذلك، فعندها لا يلتفت إلى الشبهة لأنها غالباً ما تكون تلفيقاً يراد بها إيذاء المسلمين. إن هذا المنهج هو المنهج الحق الذي لا ظلم فيه ولا تعد.

    وتأمل معي أيضاً قول الله تعالى: " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هُنَّ أم الكتاب وأُخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغٌ فيتَّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنّا به كلٌّ من عند ربِّنا وما يذَّكَّر إلا أولوا الألباب ". (آل عمران/ 7)

    إنه منهج علمي أمر به القرآن، وسار عليه العلماء والصالحون، وهو تقييد المتشابه بالمحكم ورده إليه، فإذا كان هناك نص متشابه ( أي يحتمل أكثر من معنى) ونص محكم ( أي لا يحتمل إلا معنى ووجهاً واحداً) فهنا لا يجوز تفسير المتشابه وفق ما يشاء السامع أو القارىء، وإنما يرد هذا المتشابه ويفسر بالنص المحكم.

    ذلك لأن المتشابه لا يقاوم النص الصريح القاطع، إذْ ربما لم يكن المتكلم يقصد التفسير الذي ذهب إليه السامع، أو ربما قد خانه التعبير، لذلك لا بد من الاستناد إلى الكلام المحكم الواضح الذي لا لبس فيه ولا غموض.

    وكذلك جعلناكم أمة وسطاً

    لعل من الأسباب الرئيسة في تفرق وتشاحن بعض الدعاة هو ابتعادهم عن المنهج الوسط، فالبعض متساهل إلى درجة التفريط، والبعض متشدد إلى درجة الإفراط.

    ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تبعه تهجم وتجريح واتهام بين هذه الفئات الثلاث ( متساهل، وسط، متشدد). فكل يظن أن الحق معه، وأن الخطأ والباطل مع غيره ( إلا من رحمه الله من أهل العلم والفقه والاعتدال).

    ولا شك أن هذه المسألة تحتاج إلى وقفة متأنية، خاصة أن الأدلة في ضرورة الاعتدال والتوسط وافرة وكثيرة، ولكن المشكلة تكمن في تحديد ذلك الوسط، فالمتساهل يصف نفسه بالاعتدال والتوسط، وكذلك يفعل المعتدل والمتشدد، فكل يصف نفسه بأنه هو الوسط هو المتطرف.

    ليت الدعاة إلى الله حرصوا على ضرورة تتبع المنهج الوسط، وذلك بمزيد من العلم والقفه في دين الله وما كان عليه سلف هذه الأمة، فأمة السلف هي أمة الوسط والاعتدال.

    والوسط لا يعني التفريط في شيء من دين الله، وإنما هو الالتزام التام بدين الله المبني على الفقه والوعي ومراعاة الواقع.

    إن كثيراً من الشبهات والاتهامات ( لا سيما بين الدعاة بعضهم بعضاً) سوف تختفي إذا ما حرص المسلم على الاعتدال والتوسط واتباع منهج السلف في ذلك، في حين أن التساهل أو التشدد داءان سبباً كثيراً من التوتر واشتعال الخلاف والقذف بالتهم وإثارة الشبهات في أوساط الدعاة.

    وقد أورد الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه " الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم) أمثلة عديدة على ضرورة الاعتدال والتوسط والبعد عن التنطع والتشدد أنقل بعضها إتماماً للفائدة، فكان مما قال:

    " مما ينبغي الحرص عليه لتوحيد صف الدعين إلى الإسلام، أو – على الأقل- تقريب الشقة وإزالة الجفوة بينهم: اتباع المنهج الوسط الذي يتجلى فيه التوازن والاعتدال، بعيداً عن طرفي الغلو والتفريط، فهذه الأمة أمة وسط في كل شيء، ودين الله – كما أثر عن السلف- بين الغالي فيه والجافي عنه.

    ومن كلمات الإمام علي رضي الله عنه: " عليكم بالنمط الأوسط، يلحق به التالي، ويرجع إليه الغالي".

    فالوسط هو مركز الدائرة التي ترجع إليه الأطراف المتباعدة عن يمين وشمال، وهو يمثل الصراط المستقيم، والذي علّمنا الله تعالى أن نسأله الهداية إليه كلما قرأنا فاتحة الكتاب في صلواتنا اليومية أو خارجها: " اهدنا الصراط المستقيم ". (الفاتحة: الآية 6) وهو الذي جاء فيه قوله تعالى: " وهذا صراطُ ربك مستقيماً ". ( الأنعام: الآية 126) وقوله تعالى: " وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوا ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصّاكم به لعلكم تتقون ". ( الأنعام: الآية 153)

    ويلزم في اتباع المنهج الوسط أن يتجنب المسلم التنطع في الدين وهو ما أنذر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الهلاك، فيما وراه عنه ابن مسعود رضي الله عنه قال: " هلك المتنطعون " قالها ثلاثاً. (رواه مسلم) سواء كان هذا القول إخباراً عن هلاكهم أو دعاء عليهم.

    والمتنطعون- كما قال الإمام النووي: المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم ". (شرح النووي على مسلم، ج5، ص 225)

    وقال غيره: المراد بالمتنطعين: الغالون في عباداتهم، بحيث يخرج عن قوانين الشريعة، ويسترسل مع الشيطان في الوسوسة. وقيل: المتعنتون في السؤال عن عويص المسائل التي يندر وقوعها.

    ومنه: الإكثار من التفريع على مسألة لا أصل لها في كتاب ولا سنة ولا إجماع، وهي نادرة الوقوع، فيصرف فيها زمناً كان صرفه في غيرها أولى، سيما إن لزم منه إغفاله التوسع في بيان ما يكثر وقوعه.

    وأشد منه: البحث عن أمور معينة، ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها، ومنه ما لا يكون له شاهد في عالم الحس كالسؤال عن الساعة والروح ومدة هذه الأمة إلى أمثال ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل الصرف.

    وقال بعضهم: مثال التنطع إكثار السؤال حتى يفضي بالمسؤول إلى الجواب بالمنع، بعد أن يفتي بالإذن.

    وكل هذا من الحرج الذي نفاه الله عن هذا الدين القائم على التيسير لا التعسير، والتبشير لا التنفير.

    وروى ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم: " إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين ".

    ولا ريب أن التنطع والغلو في الدين يدفع إلى التشديد في الأمور الصغيرة، والضيق بكل مخالف فيها، على حين تكون السماحة واليسر من أسباب التقارب والوفاق.

    وهذه الروح هي التي جعلت الصحابة ومن تبعهم بإحسان يتسامحون في الفروع الجزئية، ولا تضيق صدورهم بالخلاف فيها، بل كانوا ينكرون على من يجعل البحث عن هذه الأمور شغله الشاغل، ولا يرحبون بهذا النوع من السؤال الذي لا يأتي من ورائه إلا التشديد.

    والقرآن نفسه نبه على هذا الأصل حين قال: " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين يُنزّل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم ". ( المائدة: الآية 101)

    والنبي صلى الله عيله وسلم يحذر من كثرة الأسئلة التي تنتهي بالتشديد على المسلمين، وذلك حين قال: " إن أعظم المسلمين جرماً رجل سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته ". (رواه البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص)

    وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن، منهن: " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير " ، " ويسألونك عن المحيض " قال: ما كانوا يسألونه إلا عما ينفعهم.

    وقال ابن عمر: لا تسأل عما لم يكن، فإني سمعت عمر بن الخطاب يلعن من سأل عما لم يكن.

    وقال القاسم: إنكم تسألون عن أشياء ما كنا نسأل عنها وتنقرون عن أشياء ما كنا ننقر عنها، تسألون عن أشياء ما أدري ما هي ولو علمناها ما حل لنا أن نكتمها.

    وعن عمر بن إسحاق قال: لمَنْ أدركتُ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ممن سبقني منهم، فما رأيت قوماً أيسر سيرة ولا أقل تشديداً منهم.

    وعن عبادة بن يسر الكندي، وقد سئل عن امرأة ماتت مع قوم ليس لها ولي، فقال: أدركت أقواماً ما كانوا يشددون تشديدكم، ولا يسألون مسائلكم ( انتهى كلام الدكتور القرضاوي ).

    هذه بعض الأمثلة على ضرورة فهم الدين على قاعدة التوسط والاعتدال والابتعاد عن الغلو التنطع، فهل يا ترى فقه الدعاة هذه القاعدة وعملوا بمقتضاها؟ وهل يا ترى رحمنا أنفسنا وحفظنا دعوة ربنا باتباعنا هذا المنهج الرباني الكريم ؟

    الجبال الجليدية

    أغلب الشبهات والاتهامات تصدر عن أناس ليس بينك وبينهم صلة أو علاقة طيبة، إذ إن إغفال العلاقات الإنسانية سبب رئيس في تجرؤ الناس بعضهم على بعض.

    إن الحواجز النفسية التي يوجدها بعض الدعاة في نفوسهم تجاه الآخرين ( سواء كانوا إسلاميين مخالفين أم غير إسلاميين) هي المشجع للآخرين لأن يتهجموا عليهم بوابل من الاتهامات التي لا تنتهي، وعلاج ذلك هو الاتصال بهم.

    نعم إنه لا ينبغي للداعية الذي يعتقد أن الحق معه أن ينعزل عن الناس، ويحيط نفسه مع نفر من أصحابه بسياج وهمي من القناعات المزيفة التي لا توصل حقاً ولا تمنع باطلاً.

    إن الرسول صلى الله عليه وسلم خالط الناس أجمعين، وأمر بذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ". ( رواه الترمذي)

    ولما سأل ابن عباس رضي الله عنهما الرسول صلى الله عليه وسلم عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل ولكنه لا يحضر الجمعة ولا الجماعات، فقال: " خبروه أنه من أهل النار ". ( رواه الترمذي)

    ويقول الشيخ محمد الغزالي: " إن الإسلام دين تجمع وإلفه، ونزعة التعرف إلى الناس والاختلاط بهم أصيلة في تعاليمه، وهو لم يقم على الاستيحاش، ولا دعا أبناءه إلى الغزلة العامة والفرار من تكاليف الحياة، ولا رسم رسالة المسلم في الأرض على أنها انقطاع في دير أو عبادة في صومعة، كلا فإن الدرجات العالية لم يعدها الله عز وجل لأمثال أولئك المنكمشين الضعاف ".

    نعم، إن على المسلم، لا سيما الداعية، أن يقيم جسوراً مع جميع المسلمين بجميع مذاهبهم وجماعاتهم ودعواتهم، إذ أنهم إخوانه في الدين، وصدق الله تعالى إذ يقول: " إنما المؤمنون إخوة ". ( الحجرات: الآية 10)
    بل ينبغي أن يتعدى الأمر ذلك بحيث تقيم الدعوات الإسلامية أيضاً جسوراً وتفتح حوارات مع الملأ والمتنفذين، وكذلك مع القوميين والعلمانيين وغيرهم.

    إن واجب الدعاة والدعوات الإسلامية دعوة الناس أجمعين وإيصال الخير لهم، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا بالاتصال بهم وإزالة الشبهات والتهم العالقة في أذهانهم، أو التخفيف من حدتهم وشرها.

    ولا يعني ذلك أن هذه الدعوات الهدّامة ليس فيها خبث ولا دناءة ولا مكر ولا خديعة، كلا، إن كثيراً منها فيها ذلك، وربما أكثر، ولكن اقتضت الحكمة الإلهية أن الإنسان يستطيع أن يشتري الآخرين بحسن تعامله معهم. وصدق الشاعر إذ يقول:
    أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم***فطالما استعبد الإنسان إحسان

    إن الحياء والخجل من طبيعة البشر، ويصعب على كثير من الناس أن يسيء إليك صراحة إذا تقربت إليه وأحسنت التعامل معه، أو على الأقل فإن حدة محاربته لك واتهامه إياك وتشنيعه بك سوف تقل إلى درجة كبيرة، وهذا مجرَّب ومعروف.

    أما بالنسبة للمسلمين والمحايدين وعامة الناس، فأمرهم أيسر من أصحاب الأفكار والمبادئ المنحرفة. لقد صرح كثير من المتنفذين أنهم كانوا يحملون كثيراً من الشبهات تجاه بعض المؤسسات الإسلامية، بل إن هناك من يسعى لإثارة هذه الشبهات وإقناعهم بها، فلما اتصلت هذه المؤسسات بأولئك المتنفذين وجرى بينهم احتكاك ومباسطة وحوار وتبادل زيارات انقلب الأمر، وقالوا: والله لقد كنا مخطئين في اتهامنا لكم، فأنتم خير من عرفنا.

    وإزالة الحواجز النفسية والجبال الجليدية مع جميع فئات المجتمع يحتاج إلى قناعة بأهمية هذا الأمر، وإلى التربية الاجتماعية التي لا انعزال فيها ولا احتقار للمجتمع، وإلى صبر وتحمل للشدائد والإيذاء، وإلى علم وحجة وثقافة عالية، وإلى أن يكون المتصل ( الغالب) مكافئاً ( في العلم أو المستوى الاجتماعي أو الفكري أو في السن أو في غيره ) للمتصل به.

    إننا في عصر الاتصال والعلاقات العامة، ومن لا يدرك هذه الحقيقة يرجع إلى الوراء عقوداً وربما قروناً. لذا على الدعوة الإسلامية أن تواكب العصر الذي تعيش فيه لتبلغ دين الله بيسر وعقل وفطنة.

    إن كثيراً من الشبهات يمكن القضاء عليها بهذه العلاقات، ومن لا يرى ذلك فليجرب، ولو مرة واحدة، ثم يحكم بعد ذلك.

    ولكن نود أن ننوه هنا إلى مسألة مهمة وهي أنه لا ينبغي للمسلم أن يخلط بين الولاء وبين حسن المعاملة، فالفرق بينهما دقيق وكبير، ولعل من أوضح الآيات التي تبين الفرق بين الولاء وبين البر وحسن التعامل هي آية الممتحنة التي يقول الله تعالى فيها:
    " لا ينهاكم الله عن الذين لم يُقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرُّوهم وتُقسطوا إليهم إن الله يُحبُّ المُقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولَّوهم ومَنْ يتولَّهم فأولئك هم الظالمون ". (الممتحنة 8-9)

    إن الولاء هو المحبة والنصرة، ولا تكون إلا للمسلمين، فلا يجوز للمسلم أن يحب وينصر غير المسلمين فيكون لهم خليلاً ومحباً وناصراً.

    بل ينبغي أن يتبرأ من كفرهم وشركهم وانحرافهم، ولكن لا يعني ذلك أن يسيء معاملتهم أو يظلمهم أو يأكل حقوقهم أو يفحش لهم القول، فهذا لا يجوز بنص كتاب الله في الآية سالفة الذكر.

    إن التعامل هو السلوك الظاهري، وقد أمرنا الله أن يكون هذا السلوك حسناً للمسلم ولغيرهم المسلم، ممن لم يقاتل المسلمين، لا سيما إذا قصدت دعوتهم، أو الحد من شرهم، أو تحييدهم، أو ربما تجييرهم لخدمة دين الله، فقد ينصر الله الدين بالرجل الفاجر.

    وخلاصة القول إن الولاء هو سلوك الباطن والمحبة القلبية وهي للمؤمنين فقط، أما حسن التعامل فهو سلوك الجوارح والعلاقة الظاهرية وهي للمسلم ولغيره.

    افصل بين الشبهة وقائلها


    وهي قاعدة جليلة لا يدركها كثير من الناس، كما أنها دقيقة لدرجة أنه قد لا يجيدها إلا العقلاء من أصحاب الفطنة والذكاء.
    إن الهدف الرئيس الذي تسعى إليه الدعوة هو دحض الشبهة التي أثيرت حولها، وليس هدفها القضاء على مثيرها، بل إن الدعوة الحقة هي التي تسأل الله تعالى الهداية لمثير هذه الشبهة، وتتمنى لو أن الله يشرح صدره إلى الحق فينجو من سخط الله وغضبه.
    إن الحرب ليست حرب أشخاص بالدرجة الأولى وإنما هي حرب أفكار وقناعات وآراء ومعتقدات. من هذا المنطلق فإنه ينبغي التمييز في التعامل بين الشبهة وبين قائلها.
    ولقد أشار صاحب " أصول الحوار " إلى أهمية هذه القاعدة فقال: " في أغلب المناقشات يحسن تناول الشبهة بالبحث والتحليل، أو بالنقد والنقض، بعيداً عن صاحبها أو قائلها، وذلك حتى لا يتحول الحوار إلى مبارزة كلامية طابعها الطعن والتجريح، والعدول عن مناقشة القضايا والأفكار إلى مناقشة التصرفات والأشخاص.
    وفي حالات قليلة يستحب الخروج عن هذه القاعدة، وذلك عندما تقتضي مصلحة الحق- لا النوازع الشخصية- تعرية الطرف الآخر وبيان ما فيه.
    ومع ذلك فيجب أن يتم هذا وفق الأدب الإسلامي على ضوء النصوص الواضحة، كقوله تعالى: " ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب ". ( الحجرات: الآية 11). أي: لا يطعن بعضكم في بعض، ولا يدعو أحد أخاه باسم أو وصف يكرهه.
    وكقوله صلى الله عليه وسلم، فيما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " ليس المؤمن بطعّان، ولا لعّان، ولا فاحش، ولا بذيء ".
    وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ".
    وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه جابر بن عبد الله رضي الله عنه: " إن الله لا يحب الفاحش المتفحش، ولا الصياح في الأسواق ". (رواه البخاري في الأدب المفرد).
    إن الذين يثيرون الشبهات هم بشر مثلنا، يتأثرون كما نتأثر، فتثيرهم العبارة الفجة، وتغيظهم الكلمة الجارحة، كما يأسرهم الثناء اللطيف، ويقربهم الإحسان إلى أشخاصهم، لذا ينبغي أن نرفع من قدرهم ونكرمهم كأشخاص ولكننا في الوقت ذاته نبين خطأ اتهاماتهم وفساد شبههم، ونشعرهم أن الخلاف الذي بيننا وبينهم ليس خلافاً شخصياً وإنما هو خلاف في الأفكار والقناعات.
    ومما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
    يصابُ الفتى مِنْ عثْرةٍ بلسانه ***وليس يُصابُ المرءُ مِنْ عثْرةِ الرِّجْلِ
    فعثْرتُهُ بالقولِ تُذهِبُ رأسـَهُ***وعثْرَتُهُ بالرِّجْلِ تَبْرا على مَهـــْلِ

    ليسوا سواء


    فالناس وأصحاب الفِرق والمناهج ليسوا على درجة واحدة من الصلاح، أو من الابتداع، فمنهم المغالي المتعمق في انحرافه، ومنهم صاحب البدعة أو الزّلة الخفيفة، وإن كانوا ينتمون إلى نفس المنهج أو المذهب.

    لذلك من الخطأ النظر إليهم والتعامل معهم بنفس الأسلوب، وإنما ينبغي التمييز بينهم. ولا تغرنا الأسماء وتخدعنا الألفاظ، بل ينبغي أن نغوص إلى المسميات والحقائق، ونحكم على أساسها.

    يقول صاحب " الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم ": " يقول بعض المخلصين المتحمسين: كيف نتعاون أو نتجمع مع المبتدعين ونغض الطرف عن بدعتهم، وقد أُمرنا أن نهجرهم ولا نسلِّم عليهم؟

    ونقول: إن البدع مراتب وأنواع، فمنها ما يصل بصاحبه إلى درجة الكفر البواح، ومنها ما دون ذلك.

    ومنها ما هو متفق على بدعيته، ومنها ما هو مختلف فيه، وما يدخل في نطاق الاجتهاد، فيعذر فيه المخطىء المتأول، وقد يؤجر أجراً واحداً، إن كان من أهل الاجتهاد.

    ومن المبتدعين من هو تابع، ومنهم من هو متبوع وداعية لبدعته، ومنهم السهل القريب، ومنهم الحاد العنيف.

    فلا ينبغي أن يعامل الجميع معاملة واحدة، وقد يكون الاقتراب من هؤلاء والتعامل معهم بالحسنى، سبيلاً إلى إقناعهم بخطئهم، وتقريبهم من الصراط المستقيم.

    وقد رأينا مثل الإمام البخاري يخرج في صحيحه لبعض أهل البدع، ومنهم من كان داعية لبدعته، وذلك لأنه رآهم من أهل الصدق والضبط، حتى إنه أخرج لعمران بن حطان أحد دعاة الخوارج وشعرائهم، على ما رُوي عنه من شعر مدح فيه ابن مُلجم قاتل أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه.

    على أن من القواعد المقررة شرعاً: ارتكاب أخف الضررين، وأهون الشرين، ولهذا يجوز التعاون مع مبتدع ضد مبتدع أغلظ منه ابتداعاً، أو ضد كافر معاد للملة كلها.

    بل يجوز التعاون أو التحالف مع كافر ضد من هو أكفر منه، أو التعاون مع كافر حسن الرأي والمودة للمسلمين، ضد كافر ظاهر العداوة والكيد للمسلمين.

    وقد حالف النبي صلى الله عليه وسلم- بعد صلح الحديبية- قبيله خزاعة، ضد قريش الذين ناصبوه العداء، وشنُّوا عليه الغارات.

    وفي قصة الحرب بين الفرس والروم التي انتصر فيها الفرس المجوس على الروم النصارى في أول الأمر، وما وقع من جدال بين المسلمين والمشركين من قريش في مكة، حول نتيجة هذا الصراع وعاقبته، إلى حد أن راهن أبو بكر على أن الروم سينتصرون، دليل على أن الكفر بعضه أهون من بعض، وأن بعض الكفار أقرب إلى المسلمين من بعض.

    وهذا ما أدركه كل من المسلمين والمشركين في مكة، فقد اعتبر المشركون انتصار الفرس على الروم أمراً يغيظ المسلمين، لأن الفرس يعبدون النار، ويقولون بإلهين اثنين: للخير والشر، بخلاف الروم فهم أهل كتاب، وأصحاب دين سماوي.

    ولا غرو أن نزل القرآن يبشر المسلمين أن الدائرة ستدور على الفرس وأن الدولة ستكون للروم.

    ويقول الله تعالى: " آلم غُلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون، بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيزُ الرحيم ". ( الروم: الآية 1-5)

    ويقول الدكتور عصام البشر وهو يرد على شبهة التصوف التي اتهم بها الإمام حسن البنا فيقول: " إن البنا لم يكن مبتدعاً لهذا الموقف من التصوف، بل هو منهج الأئمة الأعلام والجهابذة الكبار، وإليك طرفاً منها:
    الحاكم النيسابوري يقول في مستدركه على الصحيحين: " الصوفية طائفة من طوائف المسلمين، فمنهم أخيار ومنهم أشرار ".

    ابن تيمية وهو أكثرهم استيعاباً لمضمون التصوف، والغوص في معانيه، وتمييز حقه من باطله، وغثه من سمينه، يقول رحمه الله تعالى: " لأجل ما وقع في كثير من الاجتهاد والتنازع فيه، تنازع الناس في طريقهم، فطائفة ذمت ( الصوفية والتصوف) وقالوا إنهم مبتدعون، خارجون عن السنة، ونقل عن طائفة من الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف، وتبعهم على ذلك طوائف من أهل الفقه والكلام.

    وطائفة غالت فيهم، وادّعوا أنهم أفضل الخلق، أكملهم بعد الأنبياء، وكلا طرفي هذه الأمور ذميم.

    والصواب أنهم متجهدون في طاعة الله، كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله، ففيهم السابق المقرَّب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطىء، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب.

    ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه، عاص لربه، وقد انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة ولكن عند المحققين من أصل التصوف ليسوا منهم: كالحلاج مثلاً، فإن أكثر مشايخ الطريق أنكروه، وأخرجوه عن الطريق مثل الجنيد بن محمد سيد الطائفة وغيره ".

    ابن القيم: وهو يسلك المنهج الوسط القويم الذي سلكه شيخه من قبل، وذلك من خلال عرضه لمواقف الناس إزاء شطحات المتصوفة، فقرر أن هذه الشطحات أوجبت فتنة على طائفتين من الناس:
    الطائفة الأولى: حجبت بها عن محاسن هذه الطائفة ولطف نفوسهم وصدق معاملتهم، فأهدروها لأجل هذه الشطحات، وأنكروها غاية الإنكار، وأساؤوا الظن بهم مطلقاً، وهذا عدوان وإسراف، فلو كان كل من أخطاء أو غلط ترك جملة وأهدرت محاسنه لفسدت العلوم والصناعات والحكم وتعطلت معالمها.

    والطائفة الثانية: حجبوا بما رأوه من محاسن القوم وصفاء قلوبهم وصحة عزائمهم وحسن معاملاتهم عن رؤية عيوب شطحاتهم ونقصانهم، فسحبوا عليها ذيل المحاسن، وأجروا عليها حكم القبول والانتصار لها، واستظهروا بها في سلوكهم، وهؤلاء أيضاً معتدون مفرطون.

    أما الطائفة الثالثة: وهم أهل العدل والإنصاف الذين أعطوا كل ذي حق حقه، وأنزلوا كل ذي منزلة منزلته، فلم يحكموا للصحيح بحكم السقيم المعلول، ولا للمعلول السقيم بحكم الصحيح، بل قبلوا منها ما يقبل، وردوا منها ما يرد. وهذه الشطحات ونحوها هي التي حذر منها سادات القوم، وذموا عاقبتها وتبرؤوا منها.

    ولما عقب رحمه الله تعالى على كلام للإمام الهروي وجّه كلامه وحمله على أحسن المحامل ثم قال: هذا ونحوه من الشطحات التي ترجى مغفرتها بكثرة الحسنات، ويستغرقها كمال الصدق، وصحة المعاملة، وقوة الإخلاص، وتجريد التوحيد، ولم تضمن العصمة لبشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    فهذا هو منهج أهل السنة والجماعة العلم والإيمان أنهم يقبلون من كل طائفة ما وافق الكتاب والسنة، ويدعون من كل طائفة ما خالف الكتاب والسنة " وكثير من الناس إذا علم من الرجل ما يحبه، أحب الرجل مطلقاً، وأعرض عن سيئاته، وإذا علم منه ما يبغضه، أبغضه مطلقاً، وأعرض عن حسناته، وهذا من أقوال أهل البدع والخوارج والمعتزلة والمرجئة.

    وأهل السنة والجماعة يقولون ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، وهو أن المؤمن يستحق وعد الله وفضله والثواب على حسناته، ويستحق العقاب على سيئاته، وإن الشخص الواحد يجتمع فيه ما يثاب عليه، وما يعاقب عليه، وما يحمد عليه، وما يذم عليه، وما يحب منه، وما يبغضه منه" .

    وخلاصة القول أن منشأ التصوف كان بالبصرة التي كان فيها من يسلك طريق الزهد والعبادة ما ليس في سائر الأمصار، ثم أصبح مصطلحاً لمجاهدة النفس ورياضتها للخروج بها عن الأخلاق الرذيلة والدخول بها في الأخلاق الحميدة والخصال الحسنة ".

    وكان التصوف في أول عهده منضبطاً بأصول السنة والاعتماد، وأئمته مشهود لهم بالاستقامة، كبشر الحافي، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، والفضيل بن عياض، والسري السقطي، وسهل بن عبد الله التستري، وعبد القادر الجيلاني، وأمثالهم ممن وثقهم علماء السنة، وشهدوا لهم بصحة المسلك وسلامة المنهج، ونقلوا من أقوالهم ما يدل على ذلك.

    قال سهل بن عبد الله التستري: " كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل ".

    وقال أبو سليمان الداراني: " إنه لتعلم بقلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنة.

    وقال أبو سليمان أيضاً: " ليس لمن ألهم شيئاً من الخير أن يفعله، حتى يجد فيه أثراً، فإذا وجد فيه أثراً كان نوراً على نور ".

    وقال الجنيد بن محمد: " علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم في علمنا".ثم منهم من نالته بدعة طفيفة ثم تاب، أو أخطأ في التركيز على التخويف دون فتح باب الرجاء كالحارث المحاسبي.

    ولكن التصوف لم يقف عند هذا الحد، بل خرج عن أصل وضعه حين استقل عن محكمات الاعتماد، وقواعد الشريعة، فدخلت عليه البدع الاعتقادية والعملية حين اختلط بالفلسفات، حتى أخرجت بعض منتسبيه إلى القول بوحدة الوجود والحلول والاتحاد التي حكم العلماء بكفر معتنقيها، وظهرت دعاوى الشطحات وإسقاط التكاليف ونحوها من الضلالات.

    فلا بد لنا من التفريق بين مراحل التصوف، فلا نقبله بجملته، ولا نرده كله بل نقبل حق ونحرره مما علق به من ذخن، ونرد باطله ونكشف زيفه، وهذا هو القسطاس المستقيم والسنن القويم " وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان ".

    وإن من الإنصاف أن يكتال المرء لغيره بالصاع الذي يكتال به لنفسه، فإن في كل شيء وفاءً وتطفيفاً " ( انتهى كلام الدكتور البشير).

    نبغض الباطل ونشفق على أهله


    إنها مسألة دقيقة جداً، ربما يصعب إدراكها على كثير من الدعاة والصالحين وغيرهم، إذ يخلط كثير من الناس بين الباطل وفاعله، مما يجعلهم يعادون المقصرين وأصحاب المعاصي إلى درجة كبيرة، وينزعون من قلوبهم الشفقة والرحمة، بل ربما تجدهم يشهرون بهم يسدون أمامهم أبواب التوبة والإنابة، أو لا يكونوا سبباً في محبة هؤلاء العصاة للتوبة والعودة إلى الله عز وجل.

    إن على الداعية أن يبغض الباطل وينكره وينهى عنه، ولكنه رفيق شفيق رحيم بالمسلمين، يدرك أن كل ابن آدم خطاء، وأن الشيطان يزين الفساد والانحراف، ويذكي الشهوة المحرمة في نفوس الناس، فيقع بعضهم في المعصية.

    وربما نجد كثيراً من العصاة لا يحبون المعصية، ولكنهم ضعاف الإرادة لا يستطيعوا أن ينفكوا عنها، لذا يحسن بالداعية أن يرفق بهؤلاء، وأن يأخذ بأيديهم إلى طريق الحق سبحانه وتعالى، وأن يشعرهم أنه يريد لهم الخير، ويحب لهم الصلاح، لأن ذلك أدعى لقبولهم دعوة الداعي. ولو أنهم شعروا أن الداعية يبغضهم ويكرههم لكرهوا هذا الداعية ورفضوا ما جاء به من الحق.

    تأمل معي قصة أبي الدرداء رضي الله عنه الذي يرويها الإمام ابن قدامة المقدسي رحمه الله، حيث مرّ أبو الدرداء على رجل قد أصاب ذنباً والناس يسبونه، فقال: أ رأيتم لو وجدتموه في قليب ألم تكونوا مستخرجيه؟ قالوا: بلى، قال: فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم، فقالوا: أ فلا نبغضه؟ فقال: إنما أبغض عمله، فإذا تركه فهو أخي .

    ومرّ فتى يجر ثوبه على صلة بن أشيم رحمه الله، فهمّ أصحابه أن يأخذوه بألسنتهم أخذاً شديداً، فقال صلة: دعوني أكفكم أمره، ثم قال: يا ابن أخي، إن لي إليك حاجة، قال: ما هي؟ قال: أحب أن ترفع إزارك، قال: نعم ونعمى عين، فرفع إزاره، فقال صلة لأصحابه: هذا كان أمثل مما أردتم، فإنكم لو شتمتموه وآذيتموه لشتمكم .

    إننا بحاجة أن نحمد الله على نعمة الصلاح والهداية، وفي نفس الوقت ينبغي علينا أن نشفق على أهل المعصية من المسلمين، وأن نعمل على إيصال الخير الذي نحن فيه إليهم، وأن ندعو الله أن يهديهم، مع بغضنا للباطل وكرهنا كل عمل يعصى الله فيه.

    من قال لا أعلم فقد نجا


    بعض الناس ينصبون أنفسهم حماة لدعوتهم ومذهبهم وهم لا يملكون الأسلحة التي يدافعون بها عن دينهم وعقيدتهم أو ربما عن دعوتهم وجماعتهم.

    فلا تجد عندهم علماً ولا فقهاً ولا تجربة ولا دراية بواقعهم، وهم مع ذلك يريدون التصدي للشبهات ودحضها بكلمات جوفاء وصراخ وعويل واتهام للطرف الآخر بالتعدي والظلم دون أن يفندوا هذه الشبهات تفنيداً علمياً ومنهجياً، والسبب في ذلك هو جهلهم.

    لذلك من لا يحسن العلم، فلا أقل من أن يحسن الاعتراف بقلة العلم، إذ من قال لا أعلم فقد أفتى ونجا من مواقف حرجة هو في غنى عن الوقوع فيها.

    إن الصواب والنجاة في أن لا يقحم الإنسان نفسه في مجادلة أصحاب الشبهات ومحاورتهم وهو غير مستعد لذلك علمياً ومنطقياً، لأنه إن فعل ذلك، لا سيما أمام محفل من الناس، فإنه سيهزم لا محالة وإن كان الحق معه، وسيبدو للناس أن زعم أصحاب الشبهات والاتهامات صحيح، فيقتنعون بذلك، ويظهر الباطل على حساب الحق، فمن يكون السبب حينئذ؟ إن السبب هو ذلك الذي أقحم نفسه فيما لا طاقة له به ولا علم.

    إن الحل سهل ويسير، وهو أن يعترف أنه لا علم له في هذه الجزئية، وأنه يحتاج أن يبحث فيها أو يسأل عنها ثم يجيب، أو أنه يحول مثير الشبهة إلى من هو أعلم منه وأكثر قدرة على الإجابة والرد، مصداقاً لقول الله عز وجل: " فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " ( النحل: الآية 43).

    " نعم، إذا واجهك مناقشك أو مناظرك بشيء لا تعرفه فلا تخجل من السؤال والاستيضاح حتى تتكلم فتستطيع الإجابة، لأنه إذا لم تفعل فربما تُحرج فيما بعد، وتُتهم بالجهل.

    واعلم أن هناك من الأئمة الكبار من كان لا يخجل من أن يقول لا أدري، ويتحرج من الفتوى بغير علم تام.

    قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أدركت في هذا المسجد " مسجد النبي صلى الله عليه وسلم" مائة وعشرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما منهم أحد يسأل عن حديث أو فتيا إلا ودّ أن أخاه كفاه ذلك.

    وفي لفظ آخر: كانت المسألة تعرض على أحدهم فيردهم إلى الآخر، ويردها الآخر إلى الآخر، حتى ترجع إلى الذي سئل عنها أول مرة.

    وروي عن الإمام مالك رحمه الله أنه سئل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في اثنين وثلاثين منها: لا أدري.

    وكان علماء السلف يقولون: إذا أخطأ العالِمُ قول: لا أدري أصيبت مقالته.

    ويقولون: ينبغي للعالم أن يعلم جلساءه قول: لا أدري، حتى يكون ذلك في أيديهم أصل يلجأون إليه فإذا سئل أحدهم عما لا يدري قال: لا أدري".

    عقيدة الولاء


    إن من الأصول الرئيسة التي جاء بها الإسلام، وأكد عليها القرآن هو أصل " الولاء والبراء ".
    الولاء هو المحبة والنصرة، ولا تكون إلا لله ولرسوله وللمؤمنين. أما البراء فهو ضد الولاء، ويكون من غير المسلمين بجميع ألوانهم وأشكالهم، من يهود ونصارى وهندوس ومجوس وعبَدَة أصنام وطواغيت وعلمانيين يقول الله تعالى: " إنما وليّكم اللهُ ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، ومن يتولَّ الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون " (المائدة 55-56).
    ويقول تعالى: " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويُقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم " ( التوبة: الآية 71).
    ويقول تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتولَّوا قوماً غضب الله عليهم قد يئسوا مِن الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور " (الممتحنة: الآية 13).
    ويقول الله تعالى: " ومن يتولَّ الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون " (المائدة: الآية 56) أي من يتخذ الله ولياً له، ويجعل النبيَّ والمؤمنين سنداً وعوناً له، يكن من حزب الله، وحزبُ الله هم الغالبون دوماً، وفي الآية تعريض بأنَّ من والَى اليهودَ والنصارى، فهو من حزب الشيطان، لا من حزب الرحمن، ثم جاء التحذير من موالاة أعداء الله كلهم ( اليهود، والنصارى، والمنافقين، والمشركين)، فقال سبحانه: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين " (المائدة: الآية 57). أي لا تصادقوا يا معشر المؤمنين أعداء الله، من اليهود والنصارى، أهل الكتاب المحرَّف، ومن الكفار عَبدَةِ الأوثان، والمنافقين الذين يسخرون ويهزءون من دينكم، فإن هؤلاء جميعهم لكم أعداء، وخافوا ربكم وعذابه، إن كنتم حقاً مؤمنين".
    إن كثيراً من المسلمين لا يفقهون هذا الأصل الأصيل في ديننا، إذ تجد أحدهم حرباً ضروساً على إخوانه المسلمين، ولسانه جارحاً لكل مسلم ملتزم بدينه، وقلبه غائضاً عليهم، في حين تجده حملاً، وديعاً، الابتسامة قد مزقت وجنتيه، ويكاد يطير فرحاً إذا وجد صليبياً أو هندوسياً أو علمانياً أو عدواً من أعداء الله تعالى.
    إن موالاتك للمؤمنين تعني أن تحبهم، وتذود عن حياضهم، وتكف الأذى عنهم، وتنصرهم على أعدائهم، وإذا وجدت منهم زللاً فينبغي أن تنصحهم بالحسنى، فلا تفضحهم، ولا تجرحهم، ولا تعين الشيطان عليهم، ولا تمكّن أعداءهم ليصطادوا في الماء العكر.
    كما لا يكون همك أن تشوه سمعتهم أمام العالمين لتعلو على حساب أعراضهم، إذ ليس ذلك من شيم العدو الشهم فضلاً عن أن يكون ذلك من أخلاق الولي المحب.
    إن المؤمن الصادق يأبى أن يعيش مع التهم والشبهات والأباطيل، مثيراً لها أو داعماً إياها أو مصدقاً لأكثرها، تجاه إخوانه المسلمين، والذي يدعوه إلى مثل ذلك الإباء هو دينه وتقواه لربه وموالاته لمن أمر الله ورسوله أن يواليهم.
    هذا الأصل هو مما عَلِمَهُ المؤمنون المصلحون بالضرورة، فهو لا يحتاج إلى كثير فلسفة، إذ تدركه الفطر السليمة المؤمنة.
    وأخيراً، ونحن نواجه اليوم عداوةً ضروس وحرباً لا هوادة فيها من قبل أمريكا والصهاينة اليهود، لا بد لنا أن نكون يداً واحداً وأن نذب عن إخواننا في فلسطين والعراق وأن نعلن بوضوح موالاتنا لهم وبراءتنا من أعدائهم حتى يفتح الله لنا ولهم وهو خير الفاتحين.

    سمو الهمم والاهتمامات


    لا بد أن تسمو الاهتمامات، وتعلو الهمم حتى تتناول القضايا العظمى بدلاً من أن تغوص في أمور هامشية أو فرعية فيكثر الخلاف والشقاق.

    إن التوجه إلى الهموم الكبرى للأمة يجعل المسلمين يرتفعون عن تجريح بعضهم بعضاً في أمور لا تُسمن ولا تُغني من جوع.

    إن خصومنا يريدون منا أن ننشغل في التوافه، فيدور حوارنا وتفكيرنا ومن ثم تجريحنا لبعضنا بعضاً وقذف بعضنا بعضاً بالتهم والشبهات، يريدون أن يدور كل ذلك في دائرة المرجوح لا الراجح، وفي دائرة الفروع لا الأصول،وربما في دائرة المهم لا الأهم.

    لقد أرهقت الأمة الإسلامية بهذا التفكير السطحي، وأضناها هذا الانشغال فيما لا ينبغي الانشغال به، حتى تقدم عليها أحفاد القردة والخنازير وعباد الصليب وغيرهم ممن كانوا في يوم من الأيام تبعاً لأمة التوحيد.
    أرسل أحد التجار الأغنياء ولده في تجارة ليعوّده على الأسفار واقتحام الأخطار، فرأى في طريقه ثعلباً طريحاً يتلوّى من الجوع فقال: مِنْ أين يتغذى هذا المسكين؟

    وإذ بأسد أقبل يحمل فريسته، فانزوى الولد وهو يرتعد ثم راقب الأسد حتى أكل فريسته وترك منها بقية لا خير فيها ومضى.

    فقام الثعلب وأكل من فضلة الأسد، والولد يعجب من صنع الله في خلقه، وما ساقه إلى هذا الحيوان العاجز من الرزق، وقال في نفسه: إذا كان المولى سبحانه وتعالى قد تكفل لخلقه بالأرزاق فلأي شيء احتمال المشاق وركوب البحار واقتحام الأخطار؟ ثم انثنى راجعاً إلى والده وأخبره بما رآه، وأنه بسببه قد عدل عن السفر.

    فقال له أبوه: يا بني، لقد أخطأت النظر فإنما أردتُ أن تكون أسداً يأكل من فضلاتك الضعاف الجياع، لا أن تكون ثعلباً جائعاً تنتظر قوتك من فضلات غيرك ؟

    ودخل عمرو بن سعيد على معاوية بعد موت أبيه، وعمرو يومئذ غلام، فقال معاوية: مَن أوصى بك أبوك يا عمرو؟ قال: إن أبي أوصى إليّ ولم يوص بي، فقال: وبأي شيء أوصاك؟ قال: أوصاني أن لا أفقد منه إلا شخصه، فقال معاوية لأصحابه: إن ابن سعيد هذا سيكون نعم الخلف لأبيه.
    يقول الشاعر:
    وما المرء إلا حيث يجعل نفسه فكن طالباً في الناس أعلى المراتب

    " إن من أكثر ما يوقع الناس في حفرة الاختلاف، وينأى بهم عن الاجتماع والائتلاف: فراغ نفوسهم من الهموم الكبيرة والآمال العظيمة والأحلام الواسعة، وإذا فرغت الأنفس من الهموم الكبيرة، اعتركت على المسائل الصغيرة، واقتتلت - أحياناً- فيما بينها على غير شيء!.

    ولا يجمع الناس شيء كما تجمعهم الهموم والمصائب المشتركة، والوقوف في وجه عدو مشترك، وما أصدق ما قاله أحمد شوقي: إن المصائب يجمعن المصابين!.

    وإن من الخيانة لأمتنا اليوم أن نغرقها في بحر من الجدل حول مسائل في فروع الفقه أو على هامش العقيدة، اختلف فيها السابقون، تنازع فيها اللاحقون، ولا أمل في أن يتفق عليها المعاصرون، في حين ننسى مشكلات الأمة ومآسيها ومصائبها، التي ربما كنا سبباً أو جزءً من السبب في وقوعها.

    وهذا ما حدا بابن عمر رضي الله عنهما، حينما سأله من سأله من أهل العراق عن دم البعوض في حالة الإحرام، فأنكر على السائل هذا التنطع والتعمق في السؤال عن هذه الدقائق، على حين أن قومه خذلوا الحسين بن علي رضي الله عنهما، حتى سفك دمه، ولقي ربه شهيداً.

    وهكذا قال ابن عمر: " هؤلاء يسألون عن دم البعوض، وقد سفكوا دم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

    من الخيانة أن يحمى الوطيس، وتنصب المجانيق، ويتقاذف الناس بكلمات أشد من الحجارة وأنكى من السهام، من أجل مسائل تحتمل أكثر من وجه، وتقبل أكثر من تفسير، فهي من مسائل الاجتهاد التي دلت على سعة هذا الدين ومرونته، المصيب فيها مأجور، والمخطئ فيها معذور، وخطؤه فيها مغفور، بل هو بنص الحديث مأجور.

    لهذا كان من الواجب على الدعاة والمفكرين الإسلاميين أن يشغلوا جماهير المسلمين بهموم أمتهم الكبرى، ويلفتوا أنظارهم وعقولهم وقلوبهم إلى ضرورة التركيز عليها والتنبه لها، والسعى الجاد ليحمل كل فرد جزءاً منها، وبذلك يتوزع العبء الثقيل على العدد الكبير، فيسهل القيام به.

    إن أبناء المسلمين في أقطار شتى يموتون مادياً من الجوع والمرض، ويموتون معنوياً بالجهل والأمية وانتشار المخدرات، ويتعرضون لأخطار التنصير والتفكير والتضليل، فكيف لا نهتم بأمرهم، ونسعى لإنقاذهم، ومن لم يهتم لأمر المسلمين فليس منهم ؟

    إن الأمة المسلمة لا تزرع ما تأكل من القوت الضروري، ولا تصنع ما تستخدمه من السلاح اللازم للدفاع عن الحرمات، ولا من الآلات ما يجعل لها وزناً واعتباراً. فهي ضمن العالم الثالث، ولو كان هناك عالم رابع لنسبت إليه! وكثيراً ما اتهم الإسلام ظلماً بأنه سبب تخلفها، مع أنها يوم تمسكت به كانت سيدة الأمم وأستاذة البشرية!

    أفيسع مسلماً غيوراً على دينه، مهتماً لأمر أمته، عنده شيء من عقل، أن يُعرض وينأى بجانبه عن هذه الهموم الضخمة، ثم تراه يقوم ويقعد ويبرق ويرعد من أجل جزئيات علمية أو سلوكية، لا تدخل في دائرة الضرورات ولا الحاجيات، وإنما هي في نطاق التحسينات والكماليات، وفي سبيل هذه الفرعيات لا يبالي أن يمزق الشمل الملتئم، ويوقظ الفتن النائمة، ويحرك العصبيات الساكنة!

    هذا على حين نجد العالم من حولنا يتناسى الخلافات الجذرية بين بعضه و بعض، وهو ما أثمر التقارب العالمي الذي نشهده اليوم على أصعد شتى.

    لهذا يجب ألا نشغل الناس بالمسائل الفرعية، ونقيم الدنيا ونقعدها من أجل قضايا جزئية أو خلافية، ونلهيهم بذلك عن الأصول الكلية والقضايا المصيرية.

    إن مشكلتنا اليوم ليست مع من يقول بأن القرآن كلام الله مخلوق، بل مع الذين يقولون: القرآن ليس من عند الله بل هو من عند محمد، أي الذين يقولون ببشرية القرآن.

    ثم مشكلتنا كذلك مع الذين يؤمنون بإلهية القرآن، ولكنهم لا يرتضونه منهجاً للحياة ودستوراً للدولة والمجتمع ".

    رد الغيبة على المغتاب والشبهة على صاحبها


    إن الحزم مطلوب مع مثيري الشبهات ومروجي الاتهامات، فلا يجوز مجاراتهم في فعلهم الشنيع وغيبتهم لإخوانهم المسلمين، لا سيما إذا كانت الغيبة موجهة لعالم أو داعية أو مصلح أو دعوة لها باع طويل في الدعوة إلى الله وإصلاح البشر.

    وعلى المسلم الذي يرجو ثواب الله أن يعف سمعه، وأن يعلم أن للمسلم حقوقاً على إخوانه المسلمين، ومن أبرز حقوقه الذب عن عرضه والدفاع عنه في حال غيبته، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من ذبَّ عن عرض أخيه بالغيبة كان حقاً على الله أن يعتقه من النار " .

    وقال سفيان بن الحصين: " كنت جالساً عند إياس بن معاوية، فمر رجل فنلت منه، فقال: اسكت. ثم قال لي سفيان: هل غزوت الروم؟ قلت: لا. قال: غزوت الترك ( أي التتار)؟ قلت: لا. قال: سلم منك الروم، وسلم منك الترك، ولم يسلم منك أخوك المسلم ؟ قال: فما عدت إلى ذلك بعد ".

    وذكر عن إبراهيم بن أدهم- رحمه الله تعالى-: " أنه أضاف أناساً، فلما قعدوا على الطعام، جعلوا يتناولون رجلاً. فقال إبراهيم: إن الذين كانوا قبلنا كانوا يأكلون الخبز قبل اللحم، وأنتم بدأت باللحم قبل الخبز ".

    وللإمام ابن تيمية كلام جميل في هذا الباب، حيث يقول في الفتاوى: " فمن الناس من يغتاب موافقة لجلسائه وأصحابه وعشائره، مع علمه أن المغتاب بريء مما يقولون، أو فيه بعض ما يقولون، لكنه يرى أنه لو أنكر عليهم قطع المجلس واستثقله أهل المجلس ونفروا عنه، فيرى موافقتهم من حسن المعاشرة وطيب المصاحبة، وقد يغضبون فيغضب لغضبهم فيخوض معهم.

    ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتى، تارة في قالب ديانة وصلاح فيقول: ليس لي عادة أن أذكر أحداً إلا بخير، ولا أحب الغيبة ولا الكذب، وإنما أخبركم بأحواله، ويقول: والله إنه مسكين، أو رجل جيد ولكن فيه كيت وكيت، وربما يقول: دعونا منه، الله يغفر لنا وله، وإنما قصده استنقاصه وهضماً لجنابه، ويخرجون الغيبة في قوالب صلاح وديانة، يخادعون الله بذلك كما يخادعون مخلوقاً، وقد رأينا منهم ألواناً كثيرة من هذا وأشباهه.

    ومنهم من يحمله الحسد على الغيبة، فيجمع بين أمرين قبيحين: الغيبة والحسد، وإذا أثنى على شخص أزال ذلك عنه بما استطاع من تنقصه في قالب دين وصلاح، أو في قالب حسد وفجور وقدح ليسقط ذلك عنه.

    ومنهم من يخرج الغيبة في قالب تمسخر ولعب، ليضحك غيره باستهزاءئه ومحاكاته واستصغار المستهزأ به.

    ومنهم من يخرج الغيبة في قالب التعجب، فيقول: تعجبت من فلان كيف لا يفعل كيت وكيت؟ ومن فلان كيف وقع منه كيت وكيت ؟ وكيف فعل كيت وكيت ؟ فيخرج اسمه في معرض تعجبه.

    ومنهم من يخرج الغيبة في قالب الاغتمام، فيقول: مسكين فلان، غمني ما جرى له وما تم له، فيظن من يسمعه أنه يغتم له ويتأسف، وقلبه منطو على التشفي به، ولو قدر لزاد على ما به، وربما يذكره عند أعدائه ليشتفوا به، وهذا وغيره من أعظم أمراض القلوب والمخادعات لله ولخلقه.

    ومنهم من يظهر الغيبة في قالب غضب وإنكار منكر، فيظهر في هذا الباب أشياء من زخارف القول وقصده غير ما أظهر، والله المستعان ".

    ليت الدعاة إلى الله يفقهون هذا الكلام، ويدركون مغزاه، ويعملون بمقتضاه، فإنهم إن فعلوا ذلك قضوا على كثير من خلافاتهم، وتصافت قلوبهم، ولأصبحت لهم شوكة مهابة، ولحسب لهم أعداؤهم ألف حساب.

    إننا لا يهمنا كثيراً ما يقوله أعداء الله، وما يروجون من تهم وإشاعات وشبهات، إذ أن هذا هو ديدنهم ومقصدهم وسلوكهم الذي لا يريدون إن ينفكوا عنه، ولكن يهمنا ويدمي قلوبنا ما يصنعه بعض الصالحين الذين كثر خيرهم وقلّ شرهم ولكنهم لم يلتفتوا إلى تحذيرات الله ورسوله والسلف رضوان الله عليهم، فخاضوا في غيبة إخوانهم المسلمين، وانتهكوا حرماتهم، فاصطاد غيرهم في الماء العكر، نسأل الله لنا ولهم الهداية والسداد.

    تعلم كيف تختلف


    الاختلاف سنة ماضية إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، وهو حقيقة ماثلة للعيان، ولا يمكن جمع الناس على رأي واحد أو قناعة واحدة، سواء كان ذلك في أمور الدنيا أو في قضايا الآخرة.

    " وسبب ذلك أنهم خلقوا مختلفين في الفهم والعلم، كما خلقوا مختلفين في الأمزجة والميول والرغبات، وفي الضعف والقوة والصبر على العلم والعمل. وسبب الاختلاف في الأمور الدينية أن كثيراً من نصوص القرآن والسنة ظنية الدلالة، أي تحتمل أكثر من وجه من وجوه التأويل، فإذا أُضيف إلى هذا اختلاف العقول في العلم والفهم كانت النتيجة والطبيعة اختلاف وجهات النظر، هذا فيما عدا ما هو معلوم من الدين بالضرورة، وفي أساسيات الدين وأركانه: كأركان الإيمان وأركان الإسلام، فهذه مما لا يجوز اختلاف الآراء فيه.

    ولو كانت نصوص القرآن والسنة الدلالة، لا تحتمل سوى وجه واحد من وجوه التفسير، ولو تساوت العقول والأفهام لما كان هناك اختلاف، وهذا هو خلاف الواقع المحسوس. ولكن اختلاف الآراء ينبغي ألا يؤدي إلى اختلاف القلوب، لأن الاختلاف القلوب حرام، وهو خطر يتهدد الإيمان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه: " لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا..." ( رواه البخاري).

    فالإيمان شرط لدخول الجنة، ومحبة المسلمين بعضهم بعضاً شرط لكمال الإيمان ".

    وأود هنا أن أورد كلاماً نفيساً قيماً ذكره صاحب كتاب " ثلاث رسائل في الدعوة " سوف يغنيني عن كثير من التعليق والشرح والتوضيح فيقول: " إن الله عز وجل يقول: " إن هذه أمتكم أمة واحدةً وأنا ربُّكم فاعبدون " ( الأنبياء: الآية 92). ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " لا تختلفوا فتختلف قلوبكم ". ( متفق عليه) نعم، لم يكن شيء أبغض إليه صلى الله عليه وسلم بعد الكفر من الاختلاف والتنازع، ومن أجل ذلك قال: " الجماعة رحمة والفرقة عذاب " ( رواه أحمد).

    وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلاف والنزاع هو سبب الهلاك، فقال: " إنما هلك بنو إسرائيل بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم " ( رواه مسلم وأحمد).

    ولقد كره سلفنا الصالح الخلاف والشقاق واعتبروه شراً لا خير فيه، قال ابن مسعود رضي الله عنه: " الخلاف شرٌّ ".

    ولكن مشيئة الله سبحانه وتعالى قد اقتضت أن يكون الخلاف بين البشر سنة من سنن الله الكونية، قال تعالى: " ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدةً ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمّت كلمة ربك لأملأنّ جهنم من الجنة والناس أجمعين " ( هود: الآيتان 118-119).

    ونودّ أن نُشير هنا إلى أن الاختلاف الذي يقع بين الأمة منه ما يكون في أمور العقيدة والأصول، ومنه ما يكون في مسائل الفروع والأحكام. ولا خلاف في أنه بالنسبة للنوع الأول لا بدّ من الإنكار على من خالف العقيدة الصحيحة، ولا بدّ من دحض شبهات أصحابه.

    وأما النوع الثاني فهو الذي نقصده بحديثنا هنا، ونُريد أن نبين شيئاً من الأدب الذي كان يلتزمه سلفنا الصالح إذا ما وقع بينهم شيء من هذا الخلاف.

    ويقول الشيخ رشيد رضا في تقدمته لكتاب ( المغني) لابن قدامة: " ولما كان الاختلاف في الفهم من طبائع البشر خصّ الاختلاف المذموم بما كان عن تفرقة أو سبباً للتفرق، وجرى على ذلك السلف الصالح، فحظوا فتح الباب الآراء في العقائد، وجعلوها في الفروع، وكان بعضهم يعذر بعضاً في المسائل الاجتهادية ولا يكلفه موافقته في فهمه ".

    إن مثل هذه الصورة المتسامحة التي ذكرها الشيخ رشيد عن السلف الصالح، جعلت بعض العلم يُحاولون أن يجعلوا اختلاف الأمة في مسائل الأحكام رحمة، وذكروا في ذلك حديث: " اختلاف أمتي رحمة ". ولما كان هذا الحديث لا أصل له، كما يقول المحدثون، فقد قال بعضهم، وهو الإمام السيوطي: " لعلّ له أصلاً ".

    كان في بعض الكتب ثم سقط، هذا بينما ينكر بعض العلماء، كابن حزم، أن يكون الاختلاف رحمة على أي وجه من الوجوه، ويراه كله عذاباً. وأياً ما كان الأمر، فإننا نُريد أن نصل على قضية مهمة وهي: " كيف نعالج وجود هذا الخلاف ؟ وكيف نتعامل معه ؟ فتلك قضية جديرة بالبث والدراسة، ذلك أن الأمة قد ابتُليت على مدار تاريخها بمن يسيء فهم هذه القضية.

    ولقد وصل الحال ببعض الحنفية المتأخرين أن يأبوا أن يزوجوا بناتهم من الشافية، أو يتزوجوا هم من نسائهم، وذلك لأن الشافعية يُجوّزون أن يستثني المرء في إيمانه، فيقول: أنا مؤمن – إن شاء الله- وهذا عند الحنفية غير جائز، لأنه شكّ في الإيمان، ومن شكّ في إيمانه فليس مسلم، ثم تساهل بعضهم فقالوا: لا بأس أن نعامل الشافعية معاملة أهل الكتاب فنتزوج نساءهم ولا نزوجهم نساءنا!!

    أما العامة فحدّث عن تعصبهم لأئمتهم ولا حرج، وقد ذكر الشيخ رشيد رضا في تقدمته لكتاب " المغني ": "أنه علم أن أفغانيّاً حنفيّاً كسر سبابة رجل كان يصلي إلى جواره، لأنه وجده يُشير بها في التشهد ".

    ولقد كان الناس في بعض البلدان إلى عهد قريب يصلون في المسجد الواحد أربع جماعات، لكل مذهب جماعة وإمام.وإحقاقاً للحق فإن هذه الصورة الذّميمة قد انقرضت من كثير من بلدان المسلمين، ومع انتشار الصحوة الإسلامية المباركة نأمل أن تزول البقية منها. إننا نلمح في كتاب الله- عز وجل – إشارات إلى أدب الخلاف، فمن ذلك ما رواه البخاري عن عبد الله، قال: كاد الخيّران أن يهلكا، أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما- رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم، وحين قدم عليه ركب من بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس، وأشار الآخر بالقعقاع بن معد بن زرارة، فقال أبو بكر لعمر: " ما أردت إلا خلافي، قال عمر: ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون " ( الحجرات: الآية 2).

    قال ابن الزبير: " فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه ".

    وهذا النص يوضّح لنا كيف نختلف في الرأي ومع ذلك لا يعتدي بعضنا على بعض، ولا ترتفع أصواتنا عند الخلاف، ومن ذلك قوله تعالى: " وداود وسُليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشتْ فيه غنم القوم وكُنّا لحكمهم شاهدين، ففهّمناها سليمان، وكلاً آتينا حكماً وعلماً وسخرنا مع داود الجبال يسبِّحن والطير، وكنا فاعلين" فخصَّ سليمان بالفهم، وأثنى عليهما بالحكم والعلم.

    ومن هنا هذا النص نستخلص: أن القرآن الكريم يذكر طائفتين اختلفتا، ومع ذلك لا يذمّ واحدة منهما، ليعلّمنا أنه في مثل هذه الأمور ينبغي أن يقرّ بعضنا بعضاً.

    وفي قصة سليمان وداود ما يُشير- والله أعلم- إلى ن الرأيين ليس متساويين، بل حكم سليمان أصوب، لأنه خصّ بالفهم، مع ذلك أثنى عليهما جميعاً بالحكم والعلم.

    وفي السنة المطهرة حوادث كثيرة تجسد أدب الخلاف، فمنها ما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيداً طيباً، فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الوضوء والصلاة، ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد: أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك، وقال للذي توضأ وأعاد: لك الأجر مرتين" ( رواه أبو داود والنسائي).

    وروى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب: " لا يُصلينَّ أحدكم العصر إلا في بني قُريضة ". فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال: لا نُصلي حتى نأتيها، أي ديار بني قريضة، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يُرد منا ذلك، فذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحداً منهما.

    فها هنا فريقان: فريق تمسَّك بظاهر النصّ، فأبى أن يُصلِّي إلا في بني قريضة، حتى لو خرج وقت الصلاة، وفريق استنبط من النصّ معنى خصّصه به، ففهموا أن المقصود هو الإسراع، فصلّوا في الطريق وأسرعوا، ومع ذلك لم يُعنّف رسول الله صلى الله عليه وسلم أياً منهما.

    وقد ذكر ابن القيم – رحمه الله – في زاد المعاد: أن كلاًّ من الفريقين مأجور بقصده، إلا من صلى حز الفضيلتين: امتثال الأمر في الإسراع، وامتثال الأمر في المحافظة على الوقت، وإنما لم يعنف الذي أخروها، لقيام عذرهم للتسمك بظاهر الأمر، ولأنهم اجتهدوا، لكنهم لم يصلوا إلى أن يكون اجتهادهم أصوب من الطائفة الأخرى.

    ونودّ التركيز هنا على كون إحدى الطائفتين أصوب من الأخرى، لأن معنى ذلك أن ترك الإنكار لا يكون فقط إذا كان القولان متساويين، بل حتى لو كنت ترى قولك أصوب من الآخر. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم " اقرأوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فيه فقوِّموا " ( متفق عليه).

    فما هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُنبههم إلى ترك القراءة إذا ما حدث خلاف في بعض أحرف القراءة، أو فهم بعض المعاني حتى لا تختلف القلوب، ويحدث الشقاق والنزاع، فأي بيان لمراعاة أدب الخلاف أفضل من هذا ؟

    والأمثلة التطبيقية من سيرة علمائنا الإجلاء كثيرة، وأكثر من أن تعد، فمنها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
    أ‌.لما كتب الإمام مالك الموطأ أراد أبو جعفر المنصور أن يحمل الناس جميعاً عليه، فأبى مالك – رحمه الله- فقال: يا أمير المؤمنين إن أصحاب رسول الله قد تفرقوا في الأمصار، ومع كل منهم علم، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم.
    ب‌.وكان الإمام أحمد بن حنبل يرى أن خروج الدم ينقض الوضوء، ولكنه لما سئل: أتصلي خلف رجل احتجم ولم يتوضأ؟ قال: سبحان الله!! كيف لا يصلي خلف مالك ابن أنس وسعيد بن المسيب.
    ج‌.وورد عن الشافعي – رحمه الله- أنه صلى مع جماعة من الأحناف في مكان قرب قبر أبي حنيفة، فترك القنوت في صلاة الصبح مع أنه سنة مؤكدة عنده.
    د‌.وصلّى أبو يوسف خلف هارون الرشيد، وقد احتجم، وأفتاه مالك بعدم وجوب الوضوء، فصلى خلفه أبو يوسف، ولم يعد الصلاة مع أن مذهب أبي يوسف أن الحجامة تنقض الوضوء.

    في ضوء ما سبق يمكننا أن نستخلص بعض الآداب التي يجب أن نتحلّى بها عند الخلاف، وهي:
    أولاً: ينبغي على المسلمين أن يحاولوا أن لا يختلفوا ما أمكنهم ذلك، لأن الخلاف شرّ والفرقة عذاب.

    ثانياً: فإذا ما وقع الخلاف فإن القاعدة في ذلك هي قوله تعالى: " وما اختلفتم فيه من شيء فحُكمه إلى الله " فلا بدّ من الردّ إلى كتاب الله وسنّة رسوله.

    ثالثاً: فإن حدث، نتيجة اختلاف الأفهام، أن بقي خلاف بعد ذلك، فإن الخلاف في مسائل الفروع لا يُوجِد فرقةً ولا شقاقاً!! ويمكننا أن نستخلص من سيرة السلف الصالح ما يلي:
    1.أنهم كانوا يختلفون ومع ذلك كانوا متحابين متآخين، فعلى سبيل المثال: اختلف أبو بكر وعمر في مسائل مثل سبي المرتدين، وقسمة الأراضي المفتوحة، والمفاضلة في العطاء، ومع ذلك لم يكن بينهما إلا الودّ والمحبة، وحينما استخلف أبو بكر عمر، وأخذ بعض الناس يخوّفونه بالله، وأنه ولّى عليهم فظاً غليظاً، ويقولون له: ماذا تقول لربك غداً، فيقول – رضي الله عنه: " أقول اللهم إني استخلفت عليهم خير أهلك.
    2.كان يُقر بعضهم بعضاً، ولا يُنكر بعضهم على بعض، يقول ابن أبي العزّ في شرح الطحاوية بعد كلام له حول هذا الموضوع: " فإنهم – يرحمهم الله- أقر بعضهم بعضاً، ولم يبغِ بعضهم على بعض، كما كان الصحابة في خلافة عمر وعثمان يتنازعون في بعض مسائل الاجتهاد، فيقرّ بعضهم بعضاً، ولا يعتدي عليه ".
    3.أنهم كانوا يعذر بعضهم بعضاً في هذه المسائل ويقول: لعلّ له تأويلاً في المسألة، أو لعلّ الحديث لم يصله، ولذلك يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في " رفع الملام ": " أننا إن وجدنا لواحد من الأئمة المقبولين قولاً يُخالف حديثاً صحيحاً فلا بدّ له من عذر في تركه ".

    ويقول: " إن جميع الأعذار ثلاثة:
    أحدهما: عدم اعتقاده أن النبي صلى الله قاله.
    الثاني: عدم إرادة تلك المسألة بذلك القول.
    الثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم مسنوخ " ( انتهى كلام صاحب كتاب ثلاث رسائل في الدعوة ).

    كان يدعو بعضهم لبعض، ويثني بعضهم على بعض ثناءً جميلاً كريماً رغم ما بينهم من اختلاف في الرأي، لذا يقول الإمام أحمد بن حنبل: " ما صليت صلاة منذ أربعين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي رحمه الله ".

    فقال له ابنه عبد الله: أيّ رجل كان الشافعي حتى تدعو له كل هذا الدعاء؟ فقال أحمد: " يا بني كان الشافعي رحمه الله كالشمس للدنيا وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف " ؟

    ويقول كذلك: " ما مسّ أحد بيده محبرة إلا وللشافعي في عنقه منة ".

    وقال الشاقعي: " إذا ذكر العلماء فمالك النجم الثاقب، وما أحد أمنّ علي من مالك ".

    التعميم الجائر


    بعض مثيري الشبهات، بل كثير منهم، لا يلتزمون الدقة عند اتهامهم للآخرين، فليلجؤون إلى التعميم دون التخصيص، وإلى الإطلاق دون التقييد، فتزل ألسنتهم وأقدامهم في ظلم الآخرين.

    لذا ينبغي للمسلم أن يكون حذراً من هذه التعميمات، فإن اتُّهم شخص ( أو فكرة) أمامه بسوء فقيل أنه شخص منحرف أو هذه فكرة سيئة، فيتوجب عليه أولاً أن يسأل عن سبب هذا الانحراف ووجوهه، وهل هو في السلوك، أم في الاعتقاد، أم في المنهج، أم في اجتهاد أخطأ فيه وهو معذور.

    ثم عليه بعد ذلك أن يرفض هذا التعميم بأن يكون دقيقاً في وصفه للآخرين، وذلك بأن يقول فلان انحرف في مسألة كذا وفي جزئيه كذا، إذ ربما يكون لهذا الشخص حسنات كثيرة ولكنه اجتهد في هذه المسألة فأخطأه.

    إن السلف رضوان الله عليهم ( ليتخلصوا من هذا التعميم الظالم) لجأوا إلى الدقة والتخصيص والتقييد في جميع أمورهم، فكانوا إذا اتهموا إنساناً أو مدحوه ذكروا جوانب اتهامهم له أو مدحهم إياه، وكذلك إذا فاضلوا بين الأشخاص أو المناهج أو الآراء فعلوا ذلك.

    كما أن السلف جعلوا التفضيل بين الناس على وجهين وهما تفضيل مطلق وتفضيل مقيد ( فأما التفضيل المطلق بين الناس، فيكون على أساس التقوى، وقوة الإيمان- ولنا الظاهر والله يتولى السرائر- فمن ظهر لنا أنه ) على تقوى أعظم من غيره كان أحب إلينا.

    وأما التفضيل المقيد: فهو بحسب قيده، فإن الناس يتفاضلون في أمور ومواهب وقدرات، فالناس يتفاضلون في العلم، وفي الذكاء والفهم، وفي قوة الحفظ، أو في حسن الإدارة والتنظيم، وأمثال ذلك، فهنا المفاضلة تكون بحسب الحاجة إليها، وهي مفاضلة مقيدة لا علاقة لها بالأفضلية عن الله تعالى.

    فهذا السهروردي يقول عنه الذهني في سير أعلام النبلاء ( 21/207): " كان يتوقد ذكاء، إلا أنه قليل الدين ".

    إن أكثر الناس إذا تكلم أحدهم في التفضيل لم يفصل جهات الفضل، ولم يوازن بينهما، فيبخس الحق، وإن انضاف إلى ذلك نوع تعصيب وهوى لمن يفضله تكلم بالجهل والظلم.

    وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن مسائل عديدة من مسائل التفضيل فأجاب عنها بالتفضيل الشافي:
    فمنها أنه سئل عن تفضيل الغني الشاكر على الفقير الصابر أو بالعكس، فأجاب بما يشفي الصدور فقال: " أفضلهما أتقاهما لله فإن استويا في التقوى استويا في الدرجة.

    ومنها أنه سئل عن خديجة وعائشة أميّ المؤمنين أيهما أفضل ؟ فأجاب بأن سبق خديجة وتأثيرها في أول الإسلام، ونصرها وقيامها في الدين لم تشركها فيه عائشة ولا غيرها من أمهات المؤمنين، وتأثير عائشة في آخر الإسلام وحمل الدين وتبليغه إلى الأمة وإدراكها من العلم ما لم تشركها فيه خديجة ولا غيرها مما تميزت به عن غيرها".

    فتأمل هذا الجواب الذي لو جئت بغيره من التفضيل مطلقاً لم تخلص من المعارضة، فعلى المتكلم في هذا ا لباب:
    1.أن يعرف أسباب الفضل أولاً.
    2.ثم درجاتها ونسبة بعضها إلى بعض والموازنة بينها ثانياً.
    3.ثم نسبتها إلى من قامت به- ثالثاً- كثرة وقوة.
    4.ثم اعتبار تفاوتها بتفاوت محلها رابعاً.
    5.فرب صفة هي كمال لشخص وليست كمالاً لغيره، بل كمال غيره بسواها، فكمال خالد بن الوليد بشجاعته وحروبه، وكما ابن عباس بفقهه وعلمه، وكما أبي ذر بزهده وتجريده عن الدنيا.

    فهذه أربع مقامات يضطر إليها المتكلم في درجات التفضيل، وتفضيل الأنواع على الأنواع أسهل من تفضيل الأشخاص على الأشخاص، وأبعد من الهوى والغرض ".

    النجاة في اجتناب مزالق الحب والبغض


    كثير من الشبهات والاتهامات التي تُثار على الدعاة والصالحين هي نتيجة عدم فهم هذه القاعدة، حيث يكيل بعض الناس النقد اللاذع والاتهامات المتتالية على إخوانهم المخالفين لهم في الرأي والفكرة وذلك لخطأ وقعوا فيه أو ربما لمجرد مخالفتهم لهم، فأبغضوهم جملة وتفصيلاً، واتخذوا منهم موقفاً عدائياً، بل يتقرب بعضهم إلى الله تعالى بهذا البغض والذم والنقد والاتهام.

    والأصل في هذه القاعدة قوله تعالى: " وآخرون اعترفوا بذُنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيِّئاً عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم ". ( التوبة: الآية 102)

    " فمن المسلمين من يجتمع فيه أمران: أمر من الخير فيجب بسببه ويمدح عليه، وأمر من الشر فيذم بسببه ويبغض من جهته.

    وأما الحب والولاء ( بإطلاق) فهو للمؤمنين، والبغض والبراء ( بإطلاق أيضاً) فهو للكافرين، فإن الحب والبغض من أوثق عرى الإيمان، كما ثبت ذلك في مسند الإمام أحمد وغيره.

    وإنما القاعدة في المسلم الذي يخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً أنه يحب من جهة عمله للصالحات، ويمدح لذلك، ويبغض من جهة عمله للسيئات، ويذم لذلك.

    فمن أخطأ أو زلَّ فلا ينبغي أن نبغضه ونذمه بإطلاق، كما فعلت الخوارج، فكفّرت مرتكبي المعاصي، كما أننا لا نمدحه مدحاً مطلقاً، ولا نوصله إلى درجة أبي بكر وعمر بل وجبريل وميكائيل عليهما السلام، كما فعلت المرجئة، وإنما دين الله وسط بين الغالي فيه الجافي عنه.

    ويقول الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: " ولا منافاة بين أن يكون الشخص الواحد يرحم ويحب من وجه، ويعذب ويبغض من وجه آخر، يثاب من وجه آخر، ويعاقب من وجه، فإن مذهب أهل السنة والجماعة أن الشخص الواحد يجتمع فيه الأمران، خلافاً لما يزعمه الخوارج ونحوهم من المعتزلة فإن عندهم أن من استحق العذاب من أهل القبلة لا يخرج من النار فأوجبوا خلود أهل التوحيد، وقالوا: من استحق العذاب لا يستحق الثوب ".

    ويقول الإمام الذهبي رحمه الله تعالى عن أبي جعفر الباقر: " ولقد كان أبو جعفر إماماً مجتهداً، تالياً لكتاب الله، كبير الشأن، لكن لا يبلغ في القرآن درجة ابن كثير ونحوه، ولا في الفقه درجة أبي الزناد وربيعة، ولا في في الحفظ ومعرفة السنن درجة قتادة وابن شهاب، فلا نحابيه، ولا نحيف عليه، ونحبه في الله لما تجمع فيه من صفات الكمال ".

    وينبغي هنا التنبيه إلى أمر مهم، وهو: " أن من التاس من يبني الحب والبعض على مدى موافقة الآخرين له، فتجد من يحب فلاناً من الناس لأنه على مذهبه، أو على طريقته في الدعوة، أو لأنه ضمن جماعته، يبغض الآخرين إذا خالفوه في رأي فقهي اجتهادي.

    وهذا كله دليل على اختلال الإيمان في القلب، لأن هذا الأمر مبني على أوثق عرى الإيمان، فإن كان مختلاً في الواقع، فهو كذلك في القلب ".

    كتبه علي الحمادي.
    التعديل الأخير تم 08-25-2008 الساعة 01:46 AM
    {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}

    وكيف يعرف فرق ما بين حق الذمام وثواب الكفاية من لا يعرف طبقات الحق في مراتبه، ولا يفصل بين طبقات الباطل في منازله‏. [ الجاحظ ]

  2. افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
    جزاك الله خيرا
    ---------------------
    اللهم صلي على نبينا محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وبارك على نبينا محمد وعلى ازواجه وذريته كما باركت على إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد
    سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم
    يا أمة محمد

  3. افتراضي

    جزاك الله خيرا لو جعلتها في ملف وورد مع شيء من الإحالات لصارت رسالة علمية مفيدة

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    المشاركات
    1,636
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    بارك الله لكما، لكن المقال للدكتور علي الحمادي -كما بينته في آخر المقال-، وهو الجزء الثاني من كتاب خفافيش أعماها النهار.
    {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}

    وكيف يعرف فرق ما بين حق الذمام وثواب الكفاية من لا يعرف طبقات الحق في مراتبه، ولا يفصل بين طبقات الباطل في منازله‏. [ الجاحظ ]

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. منهجية التعامل مع الشبهات وقواعد دحضها
    بواسطة حمادة في المنتدى المكتبة
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 07-28-2012, 10:52 PM
  2. جيشنا الحر هو الحل
    بواسطة د. أحمد إدريس الطعان في المنتدى قسم الحوار العام
    مشاركات: 11
    آخر مشاركة: 01-27-2012, 07:58 PM
  3. منهج التعامل مع الشبهات + جنون الافتراضات المسبقة عند الملحد
    بواسطة طالب العفو في المنتدى الصوتيات والمرئيات
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 10-26-2010, 01:56 AM
  4. منهجية التعامل مع أحاديث الطب النبوي
    بواسطة رحيم في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 02-08-2005, 12:55 PM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء