تتردد حاليا وعلى نطاق واسع دعوى أن العلم التجريبى قد أبطل فكرة اليقين التى كثيرا ما ترددت فى كلام الفلاسفة وعلماء الدين،ويستند أصحاب تلك الدعوى إلى معطيات التجارب التى أجريت على الأجسام الذرية وتفسيرها فى ضوء نظرية الكم والتى اشتملت على ما يعرف بمبدأ (عدم التيقن) أو (مبدأ الريبة) ويسمى أيضا (مبدأ هيزنبرج) نسبة لواضعه الفيزيائى الألمانى Werner Heisenberg
والسؤال الذى يتبادر إلى الذهن الآن: ما الذى يعنيه ذلك المبدأ (بغض النظر عن اسمه)؟وما هى قيمته العلمية؟ وما وجه استدلالهم به على نفى اليقين؟
إن الفكرة الرئيسية هى أننا عندما نقوم بإدراك حقيقة شىء ما فإننا نتفاعل معه تماما كما يحدث فى عملية الشم والتذوق، وهذا الامتزاج والتفاعل يؤثر على ذلك الشىء الذى نعمل على إدراكه ويغيره، وبالتالى فنفس عملية الإدراك هى التى تجعل من الإدراك التام اليقينى للأشياء غير ممكن بحيث لا بد من وجود نسبة خطأ فى معارفنا.
والواقع أنه لم تكن لتلك الفكرة أهمية فى حياتنا قبل اكتشاف الذرة وما دونها وإجراء التجارب على هذا المستوى، فتلك النسبة من الخطأ أو ما يسمى بهامش الدقة الناشئة عن استعمال أدوات الإدراك لم يكن له قيمة تذكر من الناحية العملية فى تعاملنا مع الأجسام، أما تلك الجسيمات المتناهية فى الصغر فإن أى تأثير مهما كان ضئيلا يصبح ذا فاعلية بالنسبة لها، وإذا كنا معنيين بإدراكها والتعامل معها فلا بد من أن يؤخذ ذلك المبدأ فى الاعتبار.
ومبدأ (عدم التيقن) هو تطبيق لتلك الفكرة فى مجال الجسيمات الذرية ويعنى أنه لا يمكن تحديد خاصيتين مقاستين من خواص جملة كمومية إلا ضمن حدود معينة من الارتياب، أي أن تحديد أحد الخاصيتين بدقة ارتياب ضئيلة يستتبع ارتيابا كبيرا في الخاصية الأخرى.
ويشيع تطبيق هذا المبدأ بكثرة على خاصيتي الموضع والسرعة لجسيم كمومي.
ولتوضيح ذلك: إذا أردنا مثلا أن نعرف مكان وجود كرة داخل حجرة مظلمة فإننا لو قمنا باستخدام اليد فإننا سنظل نبحث حتى تصطدم أيدينا بالكرة، وسنقول إننا وجدنا الكرة ليس فى مكان محدد بدقة تامة لأن فى لحظة الإدراك اصطدمت اليد بالكرة فحركتها من مكانها، ومهما حاولنا فلن نستطيع أن ندرك مكان الكرة الحقيقى لحظة الاصطدام ولكننا سنقترب فقط منه بقدر ما نتمكن من تقليل نسبة الطاقة التى تكتسبها الكرة من اليد وبقدر معرفتنا بسرعة الكرة، وسنبقى دائما غير متيقنين 100 % من مكان الكرة فى لحظة ما.
نفس الشىء ينطبق على تحديد موقع الإلكترون فإننا حتى نحدد موضع إلكترون فى لحظة معينة فإننا نسقط عليه سيلا من الفوتونات ثم نستقبلها، وبفرض أنها تسلك مسلك الجسيمات فقط وليس مسلك الموجات والجسيمات معا من باب التبسيط فإن الإلكترون سيكتسب طاقة نتيجة لاصطدامه بالفوتون، وبالتالى يحدث له ما يشبه حالة الكرة عند اصطدام اليد بها ،وبالتالى لا يمكن أن نحدد مكانه.
أما عن قيمته العلمية فهو من الركائز الأساسية فى نظرية الكم والتى هى من أنجح النظريات فى الفيزياء الذرية، كما أنه أمكن بواسطته التعبير بدقة عن هامش عدم التيقن الذى يمكن أن نصل إليه عن طريق وضع المعادلة الرياضية التى تحكم العلاقة بين درجتى الارتياب فى كمية التحرك والموضع عن طريق تحديد الثابت فى العلاقة العكسية وهو ثابت بلانك .
فمبدأ هيزنبرج إذن هو من المسلمات التى لا مجال لإنكارها، وهو يعنى فقط محدودية وسائل الإدراك وأن هناك تبعا لذلك سقفا معرفيا لا يمكن تجاوزه، وهو ما أكد عليه الفلاسفة والأصوليون كإمام الحرمين منذ أمد بعيد، فهو يقرر أن معرفة خصائص الأجسام على التحقيق يتراوح بين كونه من مواقف العقل وبين كونه متعذرا، ولا أدرى الفرق بين الاستحالة والتعذر فيما يتعلق بهذا الأمر إلا إذا كان إمام الحرمين يريد انتقاد الأوائل ( يعنى بها فلاسفة اليونان ) على أصولهم غير أنه لا يستطيع أن يخالفهم فى أمر لا يسعه إلا أن يوافقهم فيه، يقول إمام الحرمين( وقد صار معظم الأوائل إلى أن درك خواص الأجسام وحقائقها من مواقف العقول فليس من الممكن أن يدرك بالعقل الخاصية الجاذبة للحديد في المغناطيس.. وهذا عندي فيه نظر؛ فإنها وإن دقت فهي من عالم الطبائع فالجزئي من العقل مسيطر على كل الطبائع، ولكن ينقدح عندي في ذلك أمر يحمل التعذر عليه وهو إن تهيأ مفيض العقل من الإنسان للفيض الطبيعي فلا يكاد يبلغ هذا التركيب والتهيؤ مبلغا يفيض من العقل عليه ما يحيط بالخواص..))
فالمشكلة إذن لا بد وأنها تكمن فى وجه استدلالهم بهذا المبدأ، فالفكرة فى الأصل ذات بعد إحصائى وقابل للتطبيق على مجاميع من الإلكترونات، ثم إنها بدأت تأخذ بعدها الفلسفى على يد هيزنبرج فجعل منها دليلا على استحالة التعرف على طبيعة المادة وهل هى طاقة أم جسيمات ، ثم تطور هذا المفهوم -أو لنقل انحرف كثيرا- على يد عالم الفيزياء النظرية الدانمركى نيلز بور Bohr بإعطائه ذلك المبدأ معنى فلسفيا عاما وشاملا أقرب ما يكون إلى مذهب السفسطة، وقال إن مبدأ هيزنبرج لا يعكس فقط عدم قدرتنا على إجراء قياسات دقيقة بل أيضا عدم وجود حقيقة موضوعية محددة بمعزل عن عملية القياس، وأن العشوائية ليست سمة التجربة فحسب بل هى خاصية مميزة للكون.
وبالطبع لم يلق هذا التفسير غير العلمى رواجا تاما فى أوساط الفيزيائيين، فقد عارضه الكثيرون وهاجموه بضراوة، ومن أبرزهم ألبرت آينشتاين Einstein والذى لم ير مبررا على الإطلاق لما زعمه بوهر؛ فالعشوائية الحاصلة فى عملية القياس لا تدل إلا على أن هناك عناصر لم تؤخذ فى الاعتتبار تؤثر على التجربة، وأكد على أن هناك حقيقة موضوعية ثابتة للأشياء مستقلة عن المراقب، وسمى هذا الموقف ب ( الواقعية الموضوعية ) وقد قام لإثبات ذلك بإجراء تجربة ذهنية معقدة بمساعدة عالمين آخرين عرفت باسم(مفارقة آينشتاين- بودولسكى – روسين، أو EPR)..
ولا شك فى صحة ما ذهب إليه آينشتاين من أن حقيقة الأشياء لا تخضع لمعارفنا، فهذا لا يحتاج لبرهان، ولا شك أن الكون يسير وفق نظام مطرد، ولا شك أن العشوائية التى نجدها نحن فى عملية القياس وتقديرنا للأشياء لا ترجع إلى حقيقة تلك الأشياء..
إذن المسألة برمتها قد أسىء فهمها مرتين:
الأولى: حين اعتقدوا أن اليقين يعنى العلم المطلق الكامل المحيط بالمعلوم، وهذا ليس مفهوم اليقين بل هو مفهوم العلم الإلهى، ولو كان هذا هو المقصود باليقين لاستنكر الناس وجوده لهم لأول وهلة، ولما تطلب الأمر أن ينتظروا كل هذه المبادئ والتجارب والمعادلات لإثبات عدم وجوده.
والثانية: حين خلطوا بين نسبية المعرفة ونسبية الحقيقة فظنوا أن نسبية المعرفة تستلزم نسبية الحقيقة وأن وجود حاجز معرفى لا يمكن تجاوزه بالنسبة للإنسان يعنى أنه لا توجد حقيقة تامة للأشياء، وكأن لمعرفة الإنسان بالأشياء أثر فى وجودها!!