فلسفة الإسلام من تعدد الازواج
الدكتور عادل عامر
ولنا أن نسأل الآن، لماذا تعدد الزوجات في الإسلام؟ إن الإسلام مع تعدد الزوجات الذي حدد في أربع. وليس مع التفرد بعشيقة واحدة، فضلاً عن أن يكون مع عشيقات متعددة. والذي يجهله الزنادقة أو يتجاهلونه أن الإسلام قلص من تعدد الزوجات الذي كان بلا حد ولا عد إلى الحد والعدد الذي نعلم. فقد كان الرجل يتزوج في الجاهلية العشرة والعشرين والثلاثين من النساء وفي ذلك من ضياع الحقوق ما فيه. هذا زيادة على الجاريات وما ملكت اليمين وهي ظاهرة معروفة في صدر الإسلام. من هنا يبدو أن تحديد الزوجات في أربع هو تقليلٌ للزوجات وليس تكثيراً لهن. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى نضيف إلى هذا أن الإسلام لا يلزم أي امرأة بالزواج من أي رجل. خصوصاً إذا كانت له زوجة أخرى أو زوجات، وإنما الأمر بالخيار وبكامل الحرية. كما أن الزوجة الأولى لها أن تنخلع من زوجها الذي جاء عليها بالضرات.. إذا شاءت دون أن يكرهها أحد على البقاء مع زوج مشترك. فلماذا الشكوى من بلوى وهمية؟ ولماذا هذا التباكي من غير داع؟ أما فوائد تعدد الزوجات فهي لا أول لها ولا آخر. ولذلك شرعه الله تعالى. من هذه الفوائد: 1- الإكثار من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو أمر ممدوح. (ولا أريد الدخول في هذه العجالة في فلسفة الإسلام من استحبابه تكثير الذرية، حتى لا يطول الكلام.) 2 / إحياء سنة مهجورة، بل معابة من طرف الكافرين وبعض الغافلين والمغفلين. 3 / العمل على القضاء على العنوسة، وإعطاء فرصة لمن تخلفت عن الزواج لسبب أو لآخر أن تستمتع بأسرة وبأمومة كباقي العباد. 4 / قد تقع الزوجة الأولى في مكروه فتستحيل معها المعاشرة الزوجية، والإسلام بشريعته في تعدد الزوجات في هذه الحالة أرحم ممن يلقي بالمرأة في قارعة الطريق كلما تعذرت معها مواصلة المشوار. 5 / إشباع الحاجة لدى الرجل والمرأة على السواء ولا سيما عند الاقتضاء الفطري، والحيلولة دون الوقوع فيما حرم الله تعالى من فاحشة. ولا سيما في هذا الزمان حيث الفتنة سائدة. هذا ومعلوم ما هنالك من توجيه ديني وشروط لجواز تعدد الزواج، مثل اشتراط العدل بين الزوجات ولا سيما في الجانب المادي مع العفو النسبي عند الميل العاطفي المحدود : {وَلن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:129] لكن لا نقول ما يقوله الجاهلون حينما يربطون قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء:3] بقوله سبحانه: {وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء:129] فيستنتجون بجهلهم المنع من تعدد الزوجات بناء على استحالة العدل بنص القرآن. هؤلاء لا ينظرون إلى قوله تعالى: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:129] فدل على جواز بعض الميل، وأن الممنوع هو كل الميل حتى لا تبقى المرأة كالمعلقة، لا هي متزوجة ولا هي مطلقة. فإذا أضفنا إلى الجهل بأحكام الله تعالى بهذا الخصوص، ما تعرفه جل الأسر ذات التعدد من ميل كامل أحياناً من طرف الرجل جهة إحدى زوجاته، ومن ظلم ظاهر في حق ضرة دون أخرى أحياناً أخرى، ومن مآسي مؤلمة نابتة من سوء أخلاق الرجل أو المرأة أو كلاهما معاً، وما يتخبط فيه الأطفال الإخوة والأصهار والأنساب من عداوة وبغضاء.. وهذا بسبب سوء التربية، والابتعاد عن منهج الله تعالى، والاستسلام لبعض الأعراف الفاسدة، وليس بسبب التشريع ذاته كما يروج لذلك الزنادقة، أقول: إذا أضفنا هذا إلى ذلك، علمنا كم يجد الزنادقة في هذا الواقع المر من عذر وذريعة للطعن في دين الله تعالى. فهم لا يريدون تغيير الواقع الأليم ليوافق الشرع الحكيم، كما هو الواجب. إنما يريدون تغيير الدين العظيم ليوافق السفهاء ويتفق مع الأهواء فلسفة الأحكام الشرعية الفلسفة تعني حب الحكمة، لكن المعنى الجماهيري الشائع لها هو التحذلق والتكلف، في حين تهتم الفلسفة الحديثة بنقد المنهج والفكر. انشغلت الفلسفة القديمة كثيراً في البحث في المغيبات، وتبعها في ذلك علم الكلام في الفكر الإسلامي، فبحثوا في وجود الخالق واستقروا على أنه لا داخل العالم ولا خارجه. وهذه القضية وغيرها صرفت تلك العقول الجبارة عن البحث في الواقع المحسوس الذي يؤثر في معاشنا، فلم يبحثوا في الأحكام الشرعية وأثرها في حياة الناس. الغريب أنهم جعلوا العقل هو الذي يبحث في الخيالات، وأن الوهم هو الذي يبحث في الواقع وأن أحكامه ظنية، فقلبوا الأمور رأساً على عقب حقاً لقد حرم هؤلاء العباقرة الأمة الإسلامية من التطور العملي والتقدم العلمي، بتركهم البحث في الواقع وانسجام الأفكار الإسلامية معه. لقد آن الأوان لإعادة النظر في هذا المنهج المقلوب، وتوجيه الاهتمام والتركيز نحو فلسفة الأحكام الشرعية لبيان منطقيتها وإبداعها وتوافقها مع الواقع. فنقول لعلماء الكلام والفلسفة القديمة: لقد بذلتم ما في وسعكم، وعظم الله أجركم وشكر سعيكم، لكنكم مثّلتم مرحلة لا بد من الترحم عليكم وعليها. وللأمانة العلمية فقد نعى شيخ الإسلام ابن تيمية منطق الفلاسفة والمتكلمين وكبّر عليه أربعاً، ثم تبعه النبهاني من المعاصرين وقضى بأن فكر الفلاسفة والمتكلمين لا يمت إلى العقل بصلة. وهذه الانتقادات البناءة هي جهود متواصلة لمفكرين سابقين كالسيرافي والنوبختي وغيرهم، والتي كشفت عن عقم الفكر اليوناني وبعده عن الواقع. وهذا يدلل على أصالة الأمة الإسلامية وانعتاقها من الفكر الكلي الخيالي وتشبثها بالواقع، مما يحفزنا على أن نعجل بنحر عقيقه فلسفة الأحكام الشرعية. فلسفة التعدد الاتصال بين الرجل والمرأة متعدد الأشكال ومفتوح العدد، والدين قيده بالزواج الشرعي وبعدد محدد من النساء للرجل الواحد. فالزواج قيد أول، والتعدد المحدود قيد آخر، وهذا يتوافق مع الفطرة النازعة نحو الرابطة المتعددة من قبل الرجل، وقبول المرأة بذلك. كما أنه يمثل انسجاماً مع بنية الدين وإبداعاً منه في تقديم الحلول المرنة المتعددة لما يستجد من مشاكل على مر الأزمان. هذه المرونة مفقودة في الأديان الأخرى كالمسيحية، مع أنهم يقولون بأن المسيح عليه السلام قد تزوج مارثا وأختها ماريا المجدولية. كما أن هذه المرونة مفقودة في العلمانية التي لا تجد حلاً لمشاكلها المتراكمة، مثل تزايد عدد الشذوذيين من اللواطيين وغيرهم، مما يشجع التعدد الخفي الخياني على حساب التعدد الشرعي العلني الموافق للفطرة والواقع. هل الأصل هو التعدد أم التفرد؟الفطرة مفتوحة نسبياً، فالرجل يمكنه أن يرتبط بأي عدد من النساء بحسب الطاقة والإمكانيات والقوانين. ومن رحمة الله أن قيد هذا التوجه بالزواج رأفة بالمرأة، وإن خفف من ضرره في حالة التعدد بشرط العدل. الرسول عليه السلام أمضى زهرة شبابه مع أم المؤمنين خديجة، والتقدير أنه ما كان ليعدد عليها لو بقيت معه. ثم بعد وفاته ارتبط بأمنا عائشة البكر الوحيدة من أمهات المؤمنين، وتزوج غيرها، وبيّن لنا ما يمكن إن يستجد مما يدفع إلى التعدد، وبين لنا أن التعدد يصعب تحقيقه بالزيادة عن النصيب. هذا الفعل من الرسول يبين إن الأصل هو التفرد مع شدة حاجته إليه، كما كان الحال مع سيدنا آدم، وهذا من أجل حفظ حقوق المرأة. مزيد من الحماية للمرأة والزواج الأول التعدد حكم شرعي مباح ومتاح عند الحاجة إليه بشرط العدل، ولا يجوز الإقدام عليه عند مجرد الخوف من عدم العدل، لأن ذلك يؤدي إلى الظلم التعددي الذي يحرمه الدين. والمباح قابل للتنظيم والتقييد بشروط معينة، وإذا حصل ذلك فلا بد من الالتزام به، وتحمل ما يترتب على مخالفته. بناء على ذلك فإنه يمكن تقييد التعدد بحسب الحالات الاجتماعية، مثل ازدياد نسبة العنوسة والأرامل والمطلقات في أوقات معينة دون غيرها. يبيح الإسلام للزوجة أن تشترط في عقد الزواج ألا يتزوج عليها زوجها، ولا بد من الوفاء بهذا الشرط للحديث المتفق عليه: (إن أحق الشروط أن توفوا ما استحللتم به الفروج) أي ما كان وفق عقد الزواج. وكل شرط مدرج في عقد الزواج لا بد من الالتزام به والوفاء به. لكن لا يجوز للزوجة الجديدة إن تشترط مثلاً طلاق الأولى، فهذا يؤدي إلى الضرر والضرار. ولما علم الرسول عليه السلام بعزم علي بن أبي طالب أن يعدد على فاطمة الزهراء من بنت أبي جهل، رفض ذلك، كما في الصحيحين، وقال: (إني لست أحرم حلالاً، ولا أحل حراماً، ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله في مكان واحد أبداً). فليس الأمر منع الحكم من أصله، لكنه تقييد له وإخضاعه لشروط معينة، أو إخضاعه لقواعد معينة مثل قاعدة لا ضرر ولا ضرار. فالتعدد من بنت عدو الله قد يضر بأمن الدولة لأنها تكون قريبة من أعلى رجالات الدولة وقد تنكشف الأسرار بسببها. نخلص مما سبق إلى أن الزواج والتعدد كلاهما حماية للمرأة، بل وللرجل أيضاً، وهذه القراءة الفكرية للإسلام تدلل على عظمته كدين منطقي وإبداعي موافق للفطرة والواقع. يضاف إلى ذلك ما يمكن للمرأة أن تشترطه في عقد الزواج، وما يمكنها أن تتكيف به مع الواقع المفروض بذكائها الأنثوي وحسن تدبيرها لشؤون الأسرة، على الرغم من صلاحية الزوج الرسمية بإدارة هذه الأسرة. ].