عندي سؤالان .. فأفتوني مأجورين !!
السؤال الأول:
أفتوني في هذه الحال ..
السؤال : ما يقول السادة القراء في رجلٍ يظن أن مشكلة الإنسان تكمن في عدم تلقيه شيئًا عن مقارنة الأديان في طفولته ؟!!
قال الكاتب : ( ولكن مشكلة الإنسان أنه يولد بالصدفة في مجتمع مسلم أو مسيحي أو يهودي أو بوذي، فلا يسمع طوال طفولته أي شيء عن الأديان الأخرى. كل ما يسمعه ويقرأه يدور حول معتنق أسرته ومجتمعه. وبالضرورة يتبع الإنسان ملة آبائه لأنه لم يتعرف على ملة غيرها أثناء فترة نموه الجسدي والعقلي ، والقرآن يكرر هذه الحقيقة في عدة آيات ، مثلاً: " واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحق ويعقوب " ( يوسف 38). فالإنسان يكون مسلماً أو مسيحياً بالوراثة ولا خيار له في ذلك ، وعندما يكبر الإنسان ويصبح مستقلاً عن والديه عقلياً، يكون قد تشبع بمعتقداتهم وأصبحت جزءاً منه تسيطر على عقليه الباطن والواعي. )
إذن ..
فلو بحثتم عن بنيان مشكلة الإنسان التي جعلها الكاتب ضرورة بقوله : " و بالضرورة … " لوجدتم أن أسبابها هي كالتالي :
1- الإنسان يولد بالصدفة في مجتمع يؤمن بعقيدةٍ ما .
2- الإنسان في طفولته لا يعرف شيئًا عن الأديان الأخرى .
إذن ..
فحل هذه المشكلة – إن كان لها حل – هو أحد أمرين :
1- أن نقوم بعملية للجنين داخل الرحم فندخل له مجموعة من الكتب الصغيرة بما لا تسمح به الأرحام ، و يقرأ الجنين هذه الكتب ، ثم يقرر البيئة التي سيختارها ، والنشأة و العقيدة التي يطمح أن يتربى عليها !!
2- أن نُعطي الطفل عرضًا شاملًا للأديان المختلفة ، و العقائد المتناقضة ، و نبين له خطأ ما فيها ، ثم نعطيه نبذة عن التخلف العقلي المسمى " إنكار وجود الله " و نبين له كيف هو تخلف عقلي ، و بين الحين و الآخر نلقنه الأبجدية العربية ، ثم لا نحرمه من قراءة الكتب المختلفة بلغتها الأصلية ، فنعلمه كل لغةٍ اعتمد عليها كتاب عقديّ ، و حين يختمر الأمر في رأس الطفل ، فإنه يختار قبل اكتمال نموه العقلي و الجسدي – و لا أدري ما علاقة الجسد لكن هكذا شاء الكاتب أن ينتفخ !!
ما رأيكم معشر القراء ؟!!
أي الأمرين يروق لكم ؟!!
إن كان الأول فأبشروا بأنهم يستطيعون إجراء عمليات للأجنة في الأرحام – هذه الأيام – و قد يحمل لنا المستقبل القريب أنباءً عن تعليم الأجنة القراءة و الكتابة !! و إن كان الثاني فكتب مقارنة الأديان موجودة و الأطفال لن يمانعوا من تلك الجرعة العلمية بعد " مباراة كرة قدم " أو " اللعب بالعرائس " !! و إن لم يكن أيهما لكم مقنعٌ فأفتوني مأجورين !!
ليوضح لنا الكاتب – إذن – حل المشكلة العضال التي شخَّصَها !!
أهو مثلًا أن نُعلم الطفل فنقول له : ( اعلم – بُنيّ – أن المسيح رسول الله حقًّا لأنه كذا و كذا ، و هذه عقيدة المسلمين ، و هو ابن الله عند النصارى و حجتهم كيت وكيت ، لكن منهم من يجعله إلهًا ، و هذا راجع بني إلى قولهم بحلول اللاهوت في الناسوت و اختلافهم في فهمه ، و عن اليهود فاعلم – بني – أن اليهود ينكرون أن المسيح قد جاء ، و يقولون إن عيسى – عليه السلام – ليس المسيح ، و حجتهم في ذلك كذا وكذا ، و في المرة القادمة سأعلمك كيف يرد كلٌّ منهم على الآخر ، تستطيع الآن الحصول على هذه " الكرة !! " جائزة على حسن استماعك !! لكن لماذا أنت فاغرٌ فاك هكذا يا بني ؟!! ) ؟!!
ما رأي الكاتب ؟!! أهذا يحل المعضلة الضرورية للإنسانية ؟!!
ذات يوم .. سمعت من " ملحدة " جَهَالة أخرى في هذا الصدد ، على أنها أكثر واقعية من هذا " الكاتب " ؛ فقد نصحت الملحدة السادة الآباء و المعلمين ألّا يتحدثوا مع أولادهم عن الدين ، فإذا بلغ الغلام سن الرشد فهو سيختار !!
و لكم أن تتخيلوا حوارات من هذه النوعية :
( أبي !! من الله الذي يتكلم عنه زملائي ؟! ) فيأتي الجواب : ( ................... )
( أبي !! عندما ماتت أمي أين ذهبت ؟!! ) فيأتي الجواب : ( ................... )
( أبي !! من جعل الأسد قويًّا هكذا ؟!! ) فيأتي الجواب : ( ……… ........ )
كيف تتوقعون أن يشب هذا الصبي ؟! أتتوقعونه " ملحدًا " أو " لا أدريًا " أو " مسخًا لا يعلم شيئًا " !!؟
إذن فقد عاد الأمر لنربي الطفل على عقيدة عبثية كبديل عن عقيدة صحيحة !! و هذا كما لا يخفاكم جهلٌ واضحٌ بمعنى العقيدة و الدين، و أنه لابد أن يشب المرء على معتقد، و الكأس الفارغ يملؤه الهواء !!
إذن أين المشكلة و ما الحل ؟!
المشكلة ليست في كون الطفل لا يقرأ في الأديان الأخرى ، و ليست في كون الطفل يقرأ عن الأديان ، المشكلة في انعدام التربية على الأخلاق الحميدة كالاعتراف بالحق و الصدق و الرجوع عن الباطل ، و حتى يتبين الأمر نفرض وجود طفلين ، الطفل الأول تربى على عقيدة الإسلام ، و الطفل الثاني تربى على النصرانية .
بالنسبة للطفل الأول : عندما يصل لسن التمييز ، لن يجد في الإسلام ما يؤرقه و يمثل له مشكلة ، سيجد نفسه مطمئنًا لوجود الخالق ، ولإمكانية بعث الأنبياء ، ولإمكانية كون محمد صلى الله عليه و سلم نبيًّا ، و مطمئنًا لنبوة محمد صلى الله عليه و سلم ، و ينشرح صدره بالقرآن ، و يركن عقله للحجج التي يسمعها ، و لا يجد في دينه شيئًا من محالات العقول و إن كان سيجد محارات العقول ، فمحالات العقول هي : التي لا يستطيع قبولها بعقله لاستحالتها ، و محارات العقول هي : التي لا يستطيع إدراك كنهها بعقله ، و إن أشكل عليه شيء يسأل عنه فيأتيه الجواب ، فلماذا نطالب مثل هذا بالنظر في الأديان الأخرى و قد انعدم الداعي ؟!!
بالنسبة للطفل الثاني : عندما يصل لسن التمييز ، سيجد نفسه يؤمن بثلاثة و الثلاثة واحد ، سيجد نفسه يؤمن باللاهوت يحل في الناسوت ، سيجد نفسه يؤمن بإله أو ابن إله يصلب و يُهان ، سيجد نفسه يؤمن بأن اللامحدود يصلب فداءً لخطيئة المحدود، مع أن اللامحدود لم يذنب! و من يؤمن بالفداء يتحقق له الخلاص ، فلا يدري لم يُصلب من لم يأتِ بالخطيئة ، سيجد نفسه يقرأ حوادثَ و أفعالًا مخزية في الكتاب المقدس ، و سيجد أن القائمين بتلك الأعمال من الأنبياء ، سيجد نفسه يأكل و يشرب لحم المسيح و دمه حقيقةً أو مجازًا ، و لن يعرف قيمة الأكل من جسد الإله ، فكيف لا يُطالب هذا بالنظر في أمر دينه و قد وُجِد الداعي ؟!!
بالنسبة للطفل الأول : إن تعرض لمن يناظره في دينه حين يصير شابًّا ، فإن كان لا علم له فليُقِم غيره مكانه مناظرًا ، و لينظر فيجد الإسلام يعلو على كل ما عداه ، فلِمَ نطلب منه أن ينظر في الذي سَفُلَ ؟!!
بالنسبة للطفل الثاني : إن تعرض لمن يناظره في دينه حين يصير شابًّا ، فإن كان لا علم له فليُقِم غيره مكانه مناظرًا ، و لينظر فيجد الإسلام يعلو على كل ما عداه ، فلمَ لا نطلب منه أن ينظر في الكلمة العليا ؟!!
المشكلة قد تظهر في حالين :
الحال الأولى : حال بطر الحق :
المشكلة تظهر حين يكسُل الطفل الثاني – في مستقبله - عن البحث ، أو حين يسيء البحث ، أو حين يبحث و يتبين له الحق و يرفض اتباعه عصبية لقومه ، و هذه المشكلة ليس حلها بالعسير ، إنما حلها بتربية الطفل على الاهتمام و حب السؤال عما أشكل عليه و بتربية الطفل على الإنصاف ونبذ التعصب للخطأ ، و هذا هو الحل الذي يوجهنا إليه الإسلام :
قال تعالى : (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ )
وقال تعالى : (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً )
وقال تعالى : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ )
وقال تعالى : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ )
وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) .
الحال الثانية : حال ترك الحق :
المشكلة تظهر حين يترك الطفل الأول – في مستقبله – الحق طمعًا في مال أو غيره من شهوات النفس أو حين يسأل من لا يُحسن الجواب ، أو حين يخاف الاستمرار على الحق ، و هذه المشكلة حلها سؤال من يعلم ، و الصبر على الحق ، و إن أكره على ترك دينه فإن كان الإكراه معتبرًا و الحق يقوم بغيره فله أن يظهر الرضا بالكفر و لا حرج عليه طالما اطمئن قلبه بالإيمان .
قال تعالى : (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ )
وقال تعالى : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً )
وقال تعالى : (مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) .
السؤال الثاني:
أفتونا في هذه الحال ..
لو أن بشرًا اتبع الحق الذي كان عليه الآباء ، و كان آباؤه من أهل العلم و الفضل ، و هو يعلم الحجج التي يقوم عليها إيمانه ، فما المانع من أن يصرّح بذلك الإيمان ، مستدلًّا بفضل آبائه و إنصافهم على صحة مذهبهم ، و باتباع آبائه تلك الملة على أصالتها و أوليتها ، هذا إضافةً إلى باقي الحجج ، أيوجد مانع من هذا التصريح ؟!!
فكيف إذا انضم إلى ذلك أن هذا البشر كان نبيًّا يوحى إليه ؟!!
فهذا هو الذي قاله الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم – عليهم السلام ، و هذا ما ورد في القرآن الكريم :
(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ )
و هذه بعض الفوائد من هذا الحوار :
أولًا : يوسف عليه السلام في أفعاله و أحواله يتسم بالإحسان ، و من كانت تلك حاله فلا يُتوقع معه إضلال غيره أو الكذب عليهم ، و هذا ما ختم به السؤال ، قال تعالى : (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) .
ثانيًا : يوسف عليه السلام فوق اتسامه بالخلق الحسن و الإحسان في المعاملة فهو على علم ، و هذا قول يوسف عليه السلام : (لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ) تنبيه لهما على علمه .
كما قال الألوسي رحمه الله :
(فوصف نفسه أولاً بما هو فوق علم العلماء، وهو الإخبار بالمغيبات، وجعله تخلصاً لما أراد، كالتخلصات المعروفة عندهم، فإن الإخبار بالغيب يناسب ما سألاه من تأويل رؤياهما، وأن من كان هكذا لا محالة يكون بغيره صادقاً، ويقوي أمر المناسبة تخصيص الطعام بالذكر من بين سائر المغيبات كما لا يخفى، ويناسب ما أراده من الدعوة إلى التوحيد، لأنه ثبت صدقه ونبوته وكونه من المرتضين عند الله تعالى الصادقين في أقوالهم وأفعالهم ، وفي حكاية الله تعالى ذلك إرشادٌ لمن كان له قلب ، وقد أدمج فيه أن وصف العالم نفسه لينتفع به لا يحرُم ولا يعد ذلك من التزكية المحظورة) .
ثالثًا : في نفس الحوار يبين يوسف عليه السلام أن مرد الأمر إلى العلم و الدليل ، فيقول : (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ) و يبين أن سبب ترك الدين القيّم عدم العلم بقوله : ( وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) .
رابعًا : يبين يوسف عليه السلام أنه يعلم بوجود فئة لا تؤمن بمثل إيمانه، و يصرح أنه ترك ملتهم، و يبين سبب ترك ملتهم، ثم يبين أنه ليس خاليًا من اعتقاد، بل هو متبع لملة آبائه، فيقول : (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ) .
خامسًا : يذكر عليه السلام اتباعه هذه الملة و هي ملة آبائه فيقول : ( وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ)
و في ذلك يقول ابن عاشور رحمه الله :
(وذكر السلف الصالح في الحقّ يزيد دليل الحقّ تمكّناً، وذكر ضدهم في الباطل لقصد عدم الحجة بهم بمجردهم، كما في قوله الآتي : ( مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم ) .
سادسًا : يوسف عليه السلام أقام عليهم الحجة بصورة قريبة و ذلك في قوله : (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ )
قال ابن عاشور رحمه الله :
(وقد رَتّب لهما الاستدلال بوجه خطابي قريب من أفهام العامة، إذ فرض لهما إلهاً واحداً مستفرداً بالإلهية كما هو حال ملته التي أخبرهم بها، وفرض لهما آلهةً متفرقين، كل إلهٍ منهم إنما يتصرف في أشياء معينة من أنواع الموجودات تحت سلطانه، لا يعدوها إلى ما هو من نطاق سلطان غيره منهم، وذلك حال ملة القبط، ثم فرض لهما مفاضلة بين مجموع الحالين، حال الإله المنفرد بالإلهية والأحوال المتفرقة للآلهة المتعددين؛ ليصل بذلك إلى إقناعهما بأن حال المنفرد بالإلهية أعظم وأغنى، فيرجعان عن اعتقاد تعدد الآلهة، وليس المراد من هذا الاستدلال وجود الحالين في الإلهية والمفاضلة بين أصحاب هذين الحالين لأن المخاطبين لا يؤمنون بوجود الإله الواحد .)
سابعًا : بعد أن بين لهم حجته على صحة ملته ، ذكّرهم بأن ملتهم لا دليل عليها؛ إذ هي مجرد أسماء تواضع آباؤهم عليها و قبلوها هم و أضافوا عليها أسماءً أخرى ، و ذلك في قوله : (مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ) .
ثامنًا : في نفس الحوار يأخذ يوسف عليه السلام على من يحاورهم اتباع الآباء فيقول : " مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ " .
فأفتوني مأجورين : فيمن يقرأ هذا الحوار من القرآن الكريم ثم يقول : (وبالضرورة يتبع الإنسان ملة آبائه لأنه لم يتعرف على ملة غيرها أثناء فترة نموه الجسدي والعقلي ، والقرآن يكرر هذه الحقيقة في عدة آيات ، مثلاً: " واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحق ويعقوب " ( يوسف 38). فالإنسان يكون مسلماً أو مسيحياً بالوراثة ولا خيار له في ذلك. ) ؟!!
أفتوني مأجورين : أهذا الحوار يدعو للتمسك بملة الآباء ؟!! أهذا الحوار يدعو لتوارث الأديان على علتها ؟!! أهذا الحوار ينفي الخيار في اختيار الأديان ؟!!
أفتوني مأجورين :
في هذا الذي يقول هذا الكلام : أتتصورون أنه قرأ هذا الحوار أصلًا أم هو أخذ منه ما يفيد غرضه و انتهى ؟!
أفتوني مأجورين : في هذا الذي فهم هذا الفهم : أتنتظرون منه تأملًا في القرآن الكريم ؟!!
إنه يقول : (وإذا سمع الواحد منهم نقداً لما يقول أو يقرأ انفعل غاضباً واتهم الناقد بالجهل.)
فأفتوني غير غاضبين : لِمَ لا يُوصف بأنه جاهل ؟!! لِمَ لا يُوصف بأنه مُلفِّق ؟!! لأجل ألا نُتَهَم بشخصنة الحوار ؟!! لأجل ألا نُتَهَم بالهجوم الشخصي ؟!! فكيف أفعل و أنا أرى كلامه يفضح جهله ، فما العيب في ذكر حقيقته و بيان دليلها من كلامه ؟!!
إنه يقول : (ومن النادر أن تجد مسلماً يحاول بالمنطق تفنيد أي نقد موجه للإسلام، فكلهم يلجئون إلى الشتائم واتهام الغير بالجهل ) .
و رغم الكذب في قوله : " و من النادر " إلا أني قد رددت عليه بالحجة الواضحة .
فأفتوني الآن :
أبعد الرد عليه بان جهله أم لا ؟!!
يرحم الله ذاك الشاعر الذي سمع جاهلًا يخطب في الناس يومًا، فكثُر غلطه ، و بان جهله بالعربية ، فقال فيه :
بحر لدني في علمٍ و في أدبٍ ... تضل فيه فهوم الخلق و المللِ !
يريك ما لا يراه العقل في نظرٍ ... كأن في مخه شيئًا من الحَوَلِ !
Bookmarks