النتائج 1 إلى 9 من 9

الموضوع: حتمية السنة النبوية وضمان استمرارها / د محمد حمزة بن علي الكتاني

  1. #1

    افتراضي حتمية السنة النبوية وضمان استمرارها / د محمد حمزة بن علي الكتاني

    حتمية السنة وضمان استمرارها

    -------------------------------------


    بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله وسلم وبارك على نبيه الكريم وآله

    حتمية السنة النبوية وضمان استمرارها

    بقلم: الدكتور الشريف محمد حمزة بن علي الكتاني:

    الحمد لله الذي ضمن لنا الدين وجعله خاتمة الأديان وناسخها، وحجة الرسل إلى يوم القيامة ووسيلتها وشريعتها، وأخذ العهد على سائر الأنبياء والرسل لإن أدركوا النبي  ليعزرنّه ولينصرُنه وليتبعنه، فكان عهد المتبوعين عهدا لأتباعهم جاحِدِهم ومن استنّه، وضمن بذلك حفظ الوحي الأغر طول الدهور والأجيال، بطرفيه القرآن والسنة كما صح وتواتر من الأنقال.

    وصلى الله وسلم وبارك على يعسوب الكمالات ومَنبعها، وقاموس الرسالات ومُجمَلها، الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى، والمقتدى بقوله وفعله وسكوته ونطقه بالفصيحة الفصحى، فألبس عليه الحق بذلك جلبابا من اللاهوتية، على أتم ما يكون من الناسوتية العبدية.  ما تواتر الليل والنهار، والظل والإسفار، وعلى آله السفينة التي من ركبها نجا، والنجوم الذين من اقتدى بهم التجا، وأصحابه المؤتمنين الموثقين المعَدّلين من الله العلي، رسُل الرسالة وأمنتها من الدخيل والغوي، وتابعيهم من رواة الآثار، وحماة السنة الأبرار.

    أما بعد؛ فقد روينا بالأسانيد المتصلة إلى النبي ، بسند حسن صحيح عن سيدنا علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه - مرفوعا إلى النبي  أنه قال: "يحملُ هذا العلمَ من كل خَلَفٍ عُدُوله، يُنفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين"( ). يعد هذا الحديث الشريف من علامات النبوة، ومن الأحاديث الكريمة التي أثبتت اتصال العلم الشريف وحفظه وبقاءه، علاوة على قول الله تعالى عن الوحي الكريم: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}.[الحجر: 9]. والقرآن – كما لا يخفى – إشارة للدين ككل، وهو من باب إضافة الخاص على العام.

    فقد تكفل الله تعالى بحفظ دينه إجمالا، وعصمته من طوارق الحدثان عليه، وشقشقات وهذيان أهل الدسائس والمكر والزيغ، فلا يأتي زمن تبرد فيه جذوة الشريعة الإلهية، وتتفصم فيه عرى الدين المحمدي إلا ويبعث الله تعالى من يجدد أمر الدين، ويحيي دارسه، ويبعث الروح في أطرافه، وهو مصداق قول النبي  فيما رواه عنه أبو داود والحاكم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه: "إن الله يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"( ).

    جهود مضنية للتشكيك في السنة النبوية:
    وقد طعن أهل الأهواء قديما وحديثا على السنة النبوية، متخذينها معولا لهدم الإسلام كله، فقد عمل المعتزلة قديما جهدهم في الطعن فيها، وهم كما قال الأستاذ مصطفى السباعي: بين منكر للسنة كلها، وما بين مشترط في قبولها شروطا لا يمكن أن تقع. مع ما كانوا فيه من رقة في الدين، وشعوبية أوصلت بعضهم للطعن في النبي ( ).

    كما عمل المستشرقون – وعلى رأسهم جولد تسيهر – في خطة استعمارية لهدم الإسلام والتشكيك فيه، على نشر مختلف الشبهات والآراء المغرضة حول السنة النبوية وجمعها، وطريقة نقلها إلى أن دونت في المصنفات الشهيرة.

    وبين هؤلاء وأولئك، نشطت مجموعة من الشيعة الإمامية، والعلمانيين في تصنيف المصنفات، وكتابة الأبحاث والمقالات التي تطعن في السنة النبوية، وتُعمل المعاول لهدمها وإبطالها، سواء بالطعن في حجيتها أصلا، أو بالطعن في رواتها وعدالتهم، خاصة الصحابة الكرام، أو بالطعن في علوم الجرح والتعديل التي تمالأ الناس عليها منذ عصر النبوة حتى تبلورها في القرن الثالث والرابع إلى الآن.

    وقد نبتت نابتة في عصرنا يسمون بالقرآنيين، يقولون: "القرآن قطعي الدلالة، قطعي الثبوت، فنأخذ به، ونُحاج به. أما السنة؛ فقد دخلها ما دخلها من الاعوجاج والدخيل، والأطماع السياسية والأهواء المذهبية، على أنها إنما دونت بعد نحو مائة عام من الهجرة، ولم تُحفظ إلا في أفواه الرجال، الذين كان كثير منهم غير متفقهة ولا يعرفون ما يروون"..إلخ مغالطاتهم.

    ردود الأعلام على محاولات التشكيك في السنة:
    وقد رد على هؤلاء القوم جمهرة من أعلام الإسلام في السابق واللاحق؛
    فمما ألف في السابق:
    "السنة". للإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل.
    ومنها: "السنة". لأبي بكر أحمد بن محمد الخلال.
    ومنها: "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة". للإمام الحافظ أبي القاسم هبة الله اللالكائي.
    ومنها: "السنة". للحافظ أحمد بن عمرو ابن أبي عاصم.

    ومن أعظم ما كتب في ذلك حديثا: "دفاع عن السنة، ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين، وبيان الشبه الواردة على السنة قديما وحديثا، وردها ردا علميا صحيحا". للعلامة محمد بن محمد أبو شهبة.
    ومنها: "ابتداء التدوين في صدر الإسلام". للحافظ الشيخ عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني.
    ومنها: "السنة قبل التدوين". للعلامة محمد عجاج الخطيب.
    ومنها: "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي". للعلامة الأستاذ مصطفى السباعي.

    ولا شك أن هذا من دلائل النبوة، فقد روي في الحديث الصحيح عن أبي رافع مرفوعا: "لا ألفينَّ أحدًا متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه!".

    غير أنني ارتأيت في هذا البحث المختصر، أن أدلو بدلوي، حتى تكون لي يد في الدين، ومع رسول الله ، ولله در الإمام البوصيري حيث قال في همزيته:


    وإذا سخر الإله أناسًا=== لسعيد فإنهم سعداء
    وإذا عظمت سيادة متبو===ع أجَلَّ أتباعه الكبراء

    خطة البحث:
    ولذلك ارتأيت أن يدور بحثي على المحاور التالية:
    مقدمة في تعريف السنة النبوية.
    1- تعريف كلمتي الشهادة، وتلازمهما.
    2- الإيمان بالنبي  يقتضي الإيمان بالسنة.
    3- دلائل القرآن الكريم على وجود السنة وحجيتها.
    4- تدوين السنة في العصر النبوي والرد على شبهات الطاعنين.
    5- عدالة الصحابة الكرام.
    6- علوم الحديث وتميُّزها.
    7- السنة أحد طرفي الوحي.
    8- لا إسلام من غير السنة النبوية.
    الخاتمة.

    جعل الله تعالى ذلك لوجهه مقتصرا، وعلى الحق والتوفيق قاصرا، ووقاني أمراض القلوب ووساوس الشياطين، بمنه وكرمه...آمين.


    المقدمة في تعريف السنة النبوية

    السنة لغة: الصورة والوجه، قال ذو الرمة:


    تُريك سُنة وجه غيرِ مُفرِقة===ملساء ليس بها خال ولا نَدَب
    ُ

    والطريقة، محمودة كانت أو مذمومة، ومنه قوله : "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة"( ). ومن حديث: "لتتبعن سَنن من كان قبلكم، شبرا بشبر وذراعًا بذراع"( ). والسنة: السيرة، والسنة: الطبيعة والفطرة. وسنة الله: أحكامه وأمره ونهيه. وتطلق السنة لغة على القرآن والحديث( ).

    والسنة في اصطلاح المحدثين: ما أثر عن النبي  من قول أو فعل أو تقرير، أو صفة خَلقية أو خُلقية، أو سيرة، سواء كانت قبل البعثة أم بعدها، وهي بهذا ترادف الحديث عند بعضهم( ).

    وفي اصطلاح الأصوليين: ما نقل عن النبي  من قول أو فعل أو تقرير( ). وقد تطلق "السنة" عندهم على ما دل عليه دليل شرعي، سواء كان ذلك في الكتاب العزيز أو عن النبي ، أو اجتهد فيه الصحابة، كجمع المصحف الكريم، وحمل الناس على القراءة بحرف واحد، وتدوين الدواوين. ويقابل ذلك: البدعة. ومنه: قوله : "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي"( ).

    وفي اصطلاح الفقهاء: ما ثبت عن النبي  من غير افتراض ولا وجوب، وتقابل الواجب وغيره من الأحكام الخمسة، وقد تطلق عندهم على ما يقابل البدعة، ومنه قولهم: طلاق السنة كذا، وطلاق البدعة كذا( ).

    ومرد هذا الاختلاف في الاصطلاح: إلى اختلافهم في الأغراض التي يعنى بها كل فئة من أهل العلم( ).

    ونحن هنا نعني بالسنة: ما عناه المحدثون والأصوليون، لأنها بتعريفهم هي التي يبحث عن حجيتها ومكانتها في التشريع.

    الحواشي:
    ( ) صحح هذا المتن الإمام أحمد – رحمه الله – كما نقل ذلك عنه الخطيب البغدادي كما في "الجامع الكبير" للسيوطي (8/ 62 – 63).
    ( ) رواه أبو داود في "السنن" (4/ 109)، والحاكم في "المستدرك على الصحيحين" (567، 568).
    ( ) "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" تأليف الدكتور مصطفى السباعي ص21. الطبعة الثانية – دار الوراق، ودار السلام.
    ( ) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه (==) عن جرير بن عبد الله البجلي.
    ( ) أخرجه البخاري في صحيحه ()، ومسلم في صحيحه ()، عن أبي سعيد الخدري.
    ( ) "لسان العرب" (13 /224).
    ( ) "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" ص57.
    ( ) "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" ص57.
    ( )"الموافقات" للشاطبي (4/ 6)، والحديث أخرجه أبو داود في سننه ()، والترمذي في سننه ()، عن العرباض بن سارية، وقال الترمذي: "حسن صحيح".
    ( ) "إرشاد الفحول" ص31.
    ( ) "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" ص58.


    -يتبع-

  2. #2

    افتراضي


    الفصل الأول
    تعريف كلمتي الشهادة وتلازمهما

    كلمتا الشهادة هما: لا إله إلا الله محمد رسول الله.

    لا إله: نفي لوجود أي إله، فلا النافية، تعني: عدم الوجود الحسي والمعنوي، الحسي كالأصنام، والأنواء، والعباد، والطواغيت، والحكام، وعلماء السوء، وأولياء الباطل.

    ومعنوي؛ كالقوانين الوضعية، والعادات والطقوس، وما هو في حكم ذلك.

    والإله؛ هو كل ما عبد، وقصد بصرف العبادة والنية في الأفعال والأقوال، ولوحظ في الباطن، واعتُصم بحبله تمسكا ومنافحة.
    إلا؛ أداة استثناء، فبعد النفي المطلق، ومحو الاعتقاد والجنان من كل راسب إله صنعه الهوى، وتنقيته من كل وجود للسوى، دخلت أداة الاستثناء، وهو استثناء مفرغ، مفيد لتحقيق ما بعد الاستثناء، والاقتصار عليه حسا ومعنى.

    الله؛ رب العزة والجلال، فهو – سبحانه – الإله الواحد، الموصوف بجميع صفات الاستبداد والكمال، الأحد الذي لا شريك له، المستقل بصفات الألوهية، الفاعل في الوجود وحده. والأهل لأن تُفْرَد له العبودية، فهو الرب تعالى الذي نصرف إليه نياتنا، ونلتجيء في دعواتنا، ونلاحظ أوامره ونواهيه، وأحكامه في سائر تحركاتنا وسكناتنا.

    محمد؛ النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، ابن عبد الله بن عبد المطلب، الرجل العربي الهاشمي القرشي، الذي جاء بالوحي والقرآن، والمعجزة المثبتة للرسالة التي لا يساويها ولا يعادلها ولا يدانيها برهان.

    رسول الله: مبعوث من الله تعالى بالرسالة، وهي: القرآن والشريعة، وفي الحديث: "إني أوتيت القرآن وأوتيت مثله معه"، فهو موصوف بكل ما يتصف به الرسول الأمين من الصفات؛ وهي: الصدق والأمانة، والعدالة، والعصمة، وسلامة الحواس. فهو الواسطة بين الله تعالى: معرفته، شريعته، إلينا، ولولاه لما عرفنا الحق تعالى، ولما عرفنا شريعته ولا دينه.

    وقد روى الإمام أحمد والترمذي وحسنه عن عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه أنه: سمع النبي e وعلى آله يقرأ هذه الآية: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم}. [التوبة/ 34]، قال: "فقلت: إنا لسنا نعبدهم"، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟". فقلت: "بلى". قال: "فتلك عبادتهم!".

    فلا إله إلا الله؛ قصرٌ للعبودية وجميع متعلقاتها على الله تعالى، باعتقاد أنه النافع الضار، القابض الباسط...إلخ أسمائه الحسنى، بيده الأمر وهو على كل شيء قدير، ليس ذلك لغيره في الوجود، فيصرف إليه تعالى نيته، ويقصر عليه توكله وعمله، ولا يرى غيره أهلا لشيء من ذلك.
    وأعلى من ذلك: أن يرى الوجود كله إنما هو منفعل بأمر الحق تعالى، وتجل لقدرته وصفاته ومشيئته، وجودا وتصرفا، فيكون له من كل متحرك في الوجود أو ساكن دليل على الحق تعالى يشاهد فيه صفة من صفاته، ونعتا من نعوته، وحكمة من حكم الحق تعالى. فيخاطبه ويعامله وينفعل له بمقدار ما شاهد فيه من عظمة الحق جل جلاله، فيخاطبه الحق تعالى، ويفهم منه خطابه. وهو المسمى عند الخاصة بوحدة الشهود، ووحدة الوجود.
    ومقتضى "محمد رسول الله" e وعلى آله؛ أن يكون اعتقاده في الحق تعالى طبق ما علمناه النبي e وعلى آله، فلا يسبقه عقله على الآثار، ولا فهمه على السنن، ويلتزم في كل أمر إلهي هدي النبي e وعلى آله، في القول والصفة والعمل، إذ كل بدعة إنما هي شرود عن هديه الكريم، وكل شرود إنما هو شرود عن الحق تعالى في الحقيقة.

    لا إيمان بالله تعالى من دون الإيمان بالنبي e:
    وحيث كان النبي e رسول رب العالمين، وواسطة الرسالة إلينا، كما أسلفنا ذكره، والمترجم عن الحق جل ذكره أوامره، وسائر دينه؛ صار لا إيمان بالله تعالى إلا بالإيمان بنبيه سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، إذ هو صورة الأوامر الإلهية إلينا، ولا نتوصل إلى معرفة الله تعالى، ولا إلى معرفة أحكامه إلا من طريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

    فالإيمان به صلى الله عليه وآله وسلم واسطة الإيمان بالله تعالى، وعدم الإيمان به صلى الله عليه وآله وسلم، تكذيب لما جاء به، وهو صلى الله عليه وآله وسلم ما جاء إلا بأمر الله تعالى ونواهيه، فاقتضى ذلك الكفر بأوامر الله تعالى ونواهيه، ومعرفته التي عرّفنا بها، فاقتضى الكفر بالله عز وجل.
    فلا إله إلا الله، نعرف مقتضاها عقلا، ولكن لا نعرف ماهيتها ومبتناها، إلا بواسطة سيدنا محمد رسول الله e، فهما لفظتان متداخلتان، متشابكتان، لا انفصام بينهما، ولا يتصور أصلا ذلك.

    قال الشيخ أبو الفيض محمد بن عبد الكبير الكتاني - قدس سره - في رسالته في وجوب اقتران لفظي التوحيد: "إن هاتين الكُليمتين الشريفتين متقاربتان كما قال اليوسي، لا تقوم إحداهما بدون الأخرى، شرعا وعقلا".

    "أما شرعا؛ فلأن الإيمان لا يقبل من أحد اليوم إلا بمجموعهما، ألا ترى أن من لم يؤمن بسيدنا محمد e فهو كافر؟، وإن وحد الله أو لم يوحد فهو كافر، وإن آمن بالرسل؟. ولأجل هذا التقارن يكتفى بالأول كثيرا، نحو: من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة".

    "وأما عقلا؛ فلأن الأولى مادة للثانية، والثانية مظهرة للأولى، وبيان ذلك: أن الألوهية منها نشأت الرسولية وظهرت، فكانت الأولى مقتضية للثانية باقتضاء السبب للمسبب، والثانية مقتضية للأولى على العكس...إلخ". فانظره( ).

    كما أن "لا إله إلا الله" لا مدلول لها ولا معنى إلا بكون نبي يعرفنا بالله تعالى، وبصفات الاستبداد له سبحانه، معرفة لا تدركها العقول، ولا تستوعبها الحواس..فهب أن ثمة إلها، ولا إله إلا هو؛ فكيف نتعرف إليه ويتعرف إلينا إلا بوجود الوساطة التي هي الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وخاتمتهم هو "محمد رسول الله" e وعلى آله.

    معرفة الله تعالى من دون طريق النبي e معرفة باطلة:
    ومن هنا؛ فإن أي معرفة للحق تعالى ولصفاته ولهديه خارج طريق النبي e وعلى آله تعتبر معرفة باطلة، أو في حكم الباطل، لأنها جاءت من غير الطريق الذي أراد الله تعالى أن تأتي، فلو توافقت مع الهدي النبوي في بعض؛ فلا تعدو أن تكون من باب الصدفة، ولا أجر ولا ثواب ولا توفيق بها، ولا وجود أصلا في ميزان التدين، لأنها لم تخالطها نية الاتباع والتسليم. {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدون حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}. [النساء/ 65].

    وكذلك؛ فإن كون الحق تعالى لا إله إلا هو يقتضي معرفة هذا الإله المفرد، والحق تعالى لا يتعرف للخلق إلا بالوسائط، إذ لا مجانسة بينه تعالى وبيننا، وإلا فلا مقتضى للألوهية، إذ صفة الحق تعالى أنه: {ليس كمثله شيء وهو السميع العليم}. [الشورى/ 11]، فاقتضى أنه لا يتعرف لخلقه إلا بذلك، وما كانت الواسطة إلا بالأنبياء والرسل الذين خاتمتهم سيدنا محمد e وعلى آله، فلا معنى لقول: لا إله إلا الله، إلا بقولنا: محمد رسول الله. وقولنا: محمد رسول الله، يقتضي أنه: لا إله إلا الله كما أسلفنا.

    الإيمان بالنبي e شرط للدخول في الإسلام:
    قال تعالى: {واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخره إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون. الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراه والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون. قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون}. [الأعراف/ 156- 158].

    بل خصصت آية سورة "محمد" اسم نبينا الجليل تصريحا لا تلويحا في قوله تعالى: {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم. والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم. ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم}. [محمد/ 1-3]. فجعل الحق تعالى من لم يؤمن بمحمد e كافرا صادا عن سبيل الله، وأنه اتبع الباطل. فكانت الحكمة من تخصيص اسم النبي e في هذه الآية - كما في أربعة مواضع من القرآن، خلافا لما عود الله تعالى عليه نبيه من خطابه بالرسول والنبي تعظيما له وتشريفا - التخصيص بسيدنا محمد بن عبد الله النبي الخاتم e وعلى آله لمن قد يتبادر لذهنه أن غيره من الرسل يشمله في المعنى( ).

    وهذا خلافا لما يزعمه بعض جهلة العلمانيين المعاصرين من أن الحق تعالى أورد في القرآن الكريم موسى وعيسى عليهما السلام أكثر من "محمد" e، مستدلين بذلك على عدم التفريق بين اليهود والنصارى والمسلمين، غافلين أن القرآن كله خطاب للنبي e، وتأريخ لسيرته، وتبيين لشريعته، وثناء عليه، وتصبير له، وتحفيز له، وحض على اتباعه والاقتداء به e. وقد استدل العلماء بقوله تعالى في معرض ذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}. [الأنعام/ 90]، بأنه e حاز جميع فضائلهم وجمعها، فصار له من الفضل ما تفرق فيهم منة من الحق تعالى( ).


    الفصل الثاني
    الإيمان بالنبي e يقتضي الإيمان بالسنة

    فلما تقرر كلمتا التوحيد، وارتباطهما ببعض، وعدم الإيمان ما لم يكن بالنبي الواسطة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ اقتضى ذلك تعريف الإيمان بهذا النبي ما هو؟.

    فالإيمان بالشيء هو: الاعتقاد بصحته وأصوبيته، وهو يقتضي التصديق، والتصديق يقتضي المصدق به، وحيث إن شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم غاب في هذه الأزمان بموته e، فلم يبق إلا مقتضاه صلى الله عليه وآله وسلم، وهو أثره المستمر إلينا.

    ولا شك أن أثره المستمر إلينا صلى الله عليه وآله وسلم، هو خصوصياته المشيرة إليه، وأبرزها كلامه وهديه، إذ كلامه وهديه هما الذان ينقلان لنا نبوته ورسالته، ولولا كلامه المفصل لهديه وشريعته، وبشائره ودلائله، وما يصل إلينا من أخباره؛ لما اعتبر له وجود، إذ لن يزيد أن يكون وجودا توهميا.
    ولذلك فإن قولنا: "محمد رسول الله" يقتضي إيماننا بكل ما صحت نسبته إليه من قول وصفة وعمل، ويقتضي وجوب أن يصلنا عنه صحيحُ خبَر يكون كافيا للقيام بنبوته، وعدم إيماننا بذلك يقتضي – بالضرورة – عدم إيماننا برسالته وبهديه e.

    فالرسول بمعنى: الهادي والدليل؛ إنما هو تصرفات هذا النبي الكريم وتوجيهاته، وليست إلا السنة المطهرة، فالتصديق بها واعتقاد استمرارها وصحتها تصديق بالنبوة والرسالة، وعدم ذلك كفر بالنبوة والرسالة.

    ومن هنا يظهر ضلال الشرذمة المعاصرة من العلمانيين وأشباههم الذين يدعون الإيمان بالقرآن الكريم والاكتفاء به عن السنة النبوية الطاهرة البلجاء، يقولون – وقد زعموا – ما في القرآن أخذنا به، وما في السنة لا نؤمن به لدخول الحق والباطل فيه؛ فقولهم يضاهئ قول الذين كفروا في عدم الإيمان بالنبي e، وطعن في شريعته وهديه. فهم حيث شككوا في السنة النبوية؛ إنما شككوا في رسالة النبي e وعلى آله، وأنكروا رسالته وبعثته لزوما، وفي ذلك ما فيه من عدم الإيمان بالله تعالى ودين الإسلام.

    اعتقاد خطأ النبي e مناف للإيمان به:
    وقريب منهم الطائفة الحديثة ممن يزعمون أن للنبي e وعلى آله تصرفات وأحكاما هو فيها مشرع عن ربه تعالى، وأخرى إنما هو فيها بشر من الأبشار لسنا ملزمين باتباعه فيها، ولا هو معصوم فيها. وهذا مبطل – بالضرورة – لكثير من السنة النبوية، وفاتح الباب على مصراعيه للطعن فيها وردها بالصدر، بل أعظم بلاء وإفكا أن يؤمن المرء بصحة نسبة الحديث للنبي e ثم يخطيء نبيه فيه. وهو نهاية ما يكون في المقت عياذا بالله تعالى.
    غافلين عما ورد في القرآن الكريم من الآيات الصريحة المقتضية أنه e وعلى آله لا يتصرف إلا بوحي وهدى، قال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}. [الحشر/ 7]، وقال جل جلاله: {إن هو إلا وحي يوحى}. [النجم/ 4]. فمثلهم مثل من قال فيهم تعالى: {ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين. وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين. أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون}. [النور/ 49، 50]( ).

    إذ لا مبرر لوجود النبوة إلا وجود مقتضاها؛ وهو: كلام النبي e وعلى آله، وهديه، ولا طريقة لفهم القرآن الكريم – كلام الحق تعالى وعلامة التوحيد – إلا بتفهيم من أرسله الحق تعالى لتوضيحه وتبيينه، قال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم}. [النحل/ 44]، وليس إلا كلام النبوة الطاهر.
    وقد أشارت الآيات القرآنية المتكاثرة، والأحاديث المتواترة، والدليل النقلي والعقلي بما لا شك فيه – كما يأتي لاحقا بإذنه تعالى – إلى حفظ السنة النبوية الطاهرة كما حفظ الله تعالى القرآن، وأنها قسم من الوحي لا قيام للدين إلا بحفظه.


    -يتبع-

  3. #3

    افتراضي

    الهوامش:
    ( ) انظر "وجوب اقتران ذكر رسول الله e بذكر الله تعالى، وكلام في وجوب الأدب". تأليف الإمام أبي الفيض محمد بن عبد الكبير الكتاني. ضمن "النفائس الكتانية" من رسائل الإمام محمد بن عبد الكبير الكتاني في الآداب والسلوك، الرسالة 6، ص178. بتحقيقنا.

    ( ) وبقية الآيات: قوله تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم}. [آل عمران/ 144]، ومن حكم إظهار الاسم الشريف هنا: حتى لا يتوهم متوهم عدم موته، أو أنه رفع وسيأتي آخر الزمان، وقد ظهر مصداق ذلك يوم موته واستهالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك وقوله: "من قال إن محمدا قد مات فسأضرب عنقه...". الأثر، فاستدل عليه أبو بكر الصديق بهذه الآية، فلم يجد جوابا وعاد إلى رشده. ولو جاء اللفظ بغير الاسم الصريح للنبي e لاحتمل وجها آخر في محل لا يقبل التأويل.

    وثانيها: آية: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين}. [الأحزاب/ 40]، فالمقصود هنا أن محمد بن عبد الله، النبي المعروف e لم يكن له ابن ذكر من صلبه يأتي بعده ويخلفه، كما أنه رسول ونبي خاتم لا يأتي بعده نبي، فأحرى رسول، وهو النبي الذي نزل عليه كتاب وشريعة أمر بتبليغهما. فسد ذكر الاسم الشريف هنا أي تأويل أو إشراك محتمل إذا ذكر لفظ آخر.

    وثالثها: الآية المذكورة أعلاه. ورابعها: قوله تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم...} الآية [الفتح/ 29]، ففيها تصريح ظاهر بفضل أصحاب النبي e، ووصفهم والثناء عليهم خاصة دون أصحاب الرسل الأخر عليهم السلام، وتأهيلهم لحمل الشريعة الخالدة والكتاب المحفوظ، والله أعلم حيث يجعل رسالاته. كما يلاحظ أن جميع تلك الآيات اقترنت بعظيم التفضيل والتبجيل للنبي e وعلى آله، وبقرن اسمه بالرسالة تصريحا، وفي الثالثة تفسيرا مضعّفا: "نزِّل". وأنها كلها جاءت لتشريع أمر ما متعلق بشخص النبي e وله مساس بالاعتقاد، فاقتضت التصريح بالاسم دون التلويح.

    ( ) هذا الاستدلال من فوائد شيخنا العلامة العارف بالله سيدي عبد الحميد بن عمر زويتن الفاسي، حسبما شافهني به حفظه الله تعالى..

    ( ) انظر: "دلالة القرآن المبين على أن النبي e أفضل العالمين" لشيخنا الإمام أبي الفضل عبد الله بن الصديق الغماري رحمه الله ص103 فله كلام نفيس في الموضوع.



    -يتبع-

  4. #4

    افتراضي


    الفصل الثاني
    الإيمان بالنبي e يقتضي الإيمان بالسنة

    فلما تقرر كلمتا التوحيد، وارتباطهما ببعض، وعدم الإيمان ما لم يكن بالنبي الواسطة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ اقتضى ذلك تعريف الإيمان بهذا النبي ما هو؟.

    فالإيمان بالشيء هو: الاعتقاد بصحته وأصوبيته، وهو يقتضي التصديق، والتصديق يقتضي المصدق به، وحيث إن شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم غاب في هذه الأزمان بموته e، فلم يبق إلا مقتضاه صلى الله عليه وآله وسلم، وهو أثره المستمر إلينا.

    ولا شك أن أثره المستمر إلينا صلى الله عليه وآله وسلم، هو خصوصياته المشيرة إليه، وأبرزها كلامه وهديه، إذ كلامه وهديه هما الذان ينقلان لنا نبوته ورسالته، ولولا كلامه المفصل لهديه وشريعته، وبشائره ودلائله، وما يصل إلينا من أخباره؛ لما اعتبر له وجود، إذ لن يزيد أن يكون وجودا توهميا.
    ولذلك فإن قولنا: "محمد رسول الله" يقتضي إيماننا بكل ما صحت نسبته إليه من قول وصفة وعمل، ويقتضي وجوب أن يصلنا عنه صحيحُ خبَر يكون كافيا للقيام بنبوته، وعدم إيماننا بذلك يقتضي – بالضرورة – عدم إيماننا برسالته وبهديه e.

    فالرسول بمعنى: الهادي والدليل؛ إنما هو تصرفات هذا النبي الكريم وتوجيهاته، وليست إلا السنة المطهرة، فالتصديق بها واعتقاد استمرارها وصحتها تصديق بالنبوة والرسالة، وعدم ذلك كفر بالنبوة والرسالة.

    ومن هنا يظهر ضلال الشرذمة المعاصرة من العلمانيين وأشباههم الذين يدعون الإيمان بالقرآن الكريم والاكتفاء به عن السنة النبوية الطاهرة البلجاء، يقولون – وقد زعموا – ما في القرآن أخذنا به، وما في السنة لا نؤمن به لدخول الحق والباطل فيه؛ فقولهم يضاهئ قول الذين كفروا في عدم الإيمان بالنبي e، وطعن في شريعته وهديه. فهم حيث شككوا في السنة النبوية؛ إنما شككوا في رسالة النبي e وعلى آله، وأنكروا رسالته وبعثته لزوما، وفي ذلك ما فيه من عدم الإيمان بالله تعالى ودين الإسلام.

    اعتقاد خطأ النبي e مناف للإيمان به:
    وقريب منهم الطائفة الحديثة ممن يزعمون أن للنبي e وعلى آله تصرفات وأحكاما هو فيها مشرع عن ربه تعالى، وأخرى إنما هو فيها بشر من الأبشار لسنا ملزمين باتباعه فيها، ولا هو معصوم فيها. وهذا مبطل – بالضرورة – لكثير من السنة النبوية، وفاتح الباب على مصراعيه للطعن فيها وردها بالصدر، بل أعظم بلاء وإفكا أن يؤمن المرء بصحة نسبة الحديث للنبي e ثم يخطيء نبيه فيه. وهو نهاية ما يكون في المقت عياذا بالله تعالى.
    غافلين عما ورد في القرآن الكريم من الآيات الصريحة المقتضية أنه e وعلى آله لا يتصرف إلا بوحي وهدى، قال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}. [الحشر/ 7]، وقال جل جلاله: {إن هو إلا وحي يوحى}. [النجم/ 4]. فمثلهم مثل من قال فيهم تعالى: {ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين. وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين. أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون}. [النور/ 49، 50]( ).

    إذ لا مبرر لوجود النبوة إلا وجود مقتضاها؛ وهو: كلام النبي e وعلى آله، وهديه، ولا طريقة لفهم القرآن الكريم – كلام الحق تعالى وعلامة التوحيد – إلا بتفهيم من أرسله الحق تعالى لتوضيحه وتبيينه، قال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم}. [النحل/ 44]، وليس إلا كلام النبوة الطاهر.
    وقد أشارت الآيات القرآنية المتكاثرة، والأحاديث المتواترة، والدليل النقلي والعقلي بما لا شك فيه – كما يأتي لاحقا بإذنه تعالى – إلى حفظ السنة النبوية الطاهرة كما حفظ الله تعالى القرآن، وأنها قسم من الوحي لا قيام للدين إلا بحفظه.



    الفصل الثالث
    دلائل القرآن الكريم على وجود السنة وحجيتها

    نص القرآن الكريم في كل آياته التشريعية، والعقيدية، تلويحا أو تصريحا بوجوب اتباع هدي سيدنا محمد ، واقتفاء أوامره ونواهيه، ولولا وجود تلك الأوامر والنواهي، وذلك الهدي، وحفظه على مر الأيام والأزمان؛ لما أمرنا الحق تعالى باتباعه، واقتفاء نهجه، ولزوم غرزه. وإلا لاقتضى أن تكون تلك الآيات الناصة على مثل ذلك لغوا، وكلاما في غير محله، والقرآن منزه عن ذلك، وإلا اقتضى بطلانه كلا، إذ بطلان البعض بطلانٌ للكل.

    فقد نص القرآن الكريم أن مهمة الرسول بالنسبة للقرآن أنه مبين له وموضح لمراميه وآياته، حيث يقول تعالى في كتابه: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزل إليهم ولعلهم يتفكرون}. [النحل/ 44]، كما بين أن مهمته: إيضاح الحق حين يختلف فيه الناس: {وما أنزلنا إليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}. [النحل/ 64]، وأوجب النزول على حكمه في كل خلاف: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}. [النساء/ 65]، وأخبر أنه أوتي القرآن والحكمة ليعلم الناس أحكام دينهم، فقال: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}. [آل عمران/ 164].
    وقال تعالى في صفة المؤمنين: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراه والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون}. [الأعراف/ 156]. وهذه من أشمل الآيات وأقواها دلالة على حجية وصحة السنة النبوية، إذ جعل من صفة المؤمنين اتباع النبي ، وفصل مهامه: في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحليل الطيبات وتحريم الخبائث، والتشريع مطلقا بنسخ الديانات السابقة، ثم أمر بالإيمان بمن هذه صفته، ومناصرته، وتعظيمه، والإيمان بالقرآن الكريم الذي أنزل معه، وفي هذه الآية من التمييز بين القرآن الكريم وبين السنة النبوية ما لا ينكره إلا جاحد للحق.

    وقال تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله}. [النساء/ 80]، {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}. [الأنفال/ 24]، {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}. [الحشر/ 7]، واعتبر الحق تعالى طاعة نبيه طاعة له، واتباعه إيمانا وحبا له، فقال عز من قائل: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم}. [آل عمران/ 31]. بل حذر تعالى من مخالفة أمره فقال: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}. [النور/ 63]، بل أشار إلى أن مخالفته  كفر: {قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين}. [آل عمران/ 32]، ولم يبح مطلقا للمؤمنين أن يخالفوا حكمه وأوامره، فقال تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا}. [الأحزاب/ 36].

    بل جعل الحق تعالى كلام نبيه وحيا لا يختلجه الخطأ، ولا يعتوره الشرود، بل جانس بينه وبين الوحي في خصائصه ومميزاته، حتى قال تعالى: {والنجم إذا هوى. ما ضل صاحبكم وما غوى. وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى}. [النجم/ 1-4]، وقال جل جلاله: {وما صاحبكم بمجنون. ولقد رأه بالأفق المبين. وما هو على الغيب بضنين. وما هو بقول شيطان رجيم. فأين تذهبون. إن هو إلا ذكر للعالمين}. [التكوير/ 22- 27]. إلى غير ذلك مما يطول إيراده من الآيات.

    فليس وراء هذا البيان والإيضاح من كلام رب الأرباب، مما لا يدع شكا لمؤمن بالقرآن الكريم، أن سنة النبوي  وأقواله وأفعاله؛ أمرنا الحق تعالى باتباعها، والانتهاج بها، والاهتداء بهديها، وأن ذلك واجب مقترن بوجوب الإيمان، وأنها وحي لها ما للوحي، فهي دائمة بدوامه، محفوظة بحفظه.
    وبعد إثبات حتمية السنة النبوية، عقلا ونقلا، سأعمل في الفصول القادمة – بإذنه تعالى – على دحض شبهات ما فتيء أعداء الإسلام يبثونها لتشكيك المسلمين في دينهم وسنة نبيهم .


    الهوامش:

    ( ) انظر: "دلالة القرآن المبين على أن النبي e أفضل العالمين" لشيخنا الإمام أبي الفضل عبد الله بن الصديق الغماري رحمه الله ص103 فله كلام نفيس في الموضوع.


    -يتبع-

  5. #5

    افتراضي


    الفصل الرابع
    تدوين السنة في العصر النبوي والرد على شبهات الطاعنين

    من الأمور التي دندن حولها المستشرقون قديما وحديثا، وكثرت كتاباتهم حولها: تدوين السنة النبوية، وأن السنة النبوية إنما دونت بعد مائة سنة من الهجرة، ولذلك فلا شك أن فترة كتلكم، اعتورتها صراعات سياسية طويلة، وانتشأت عنها طوائف ومذاهب، وتفرق فيها الصحابة في الأمصار، لا شك أن يدخلها الدخيل، ويُدس فيها ما ليس منها حسب زعمهم. واعتمدوا في ذلك على روايات في غير محلها، تشكيكا في نزاهة أئمة – كالزهري الذي نُسب إليه أنه أول من دون السنة النبوية – وفي الدولة الأموية التي ادعوا بأن حكامها عملوا جهدهم على التزوير في الحديث النبوي بإقصاء روايات في غير صالحهم، وإثبات أخرى في مصلحتهم السياسية.

    من شبهات من ادعوا عدم تدوين السنة في القرن الأول:
    ومما احتجوا به على ذلك؛ ما روي من الآثار عن النبي ، ثم عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، في النهي عن تدوين الحديث، حتى لا يختلط بالقرآن الكريم..

    وما ذكره الهروي في "ذم الكلام" له عن عبد الله بن دينار قال: "لم يكن الصحابة ولا التابعون يكتبون الأحاديث لفظا ويأخذونها حفظا إلا كتاب الصدقات، والشيء اليسير الذي يقف عليه الباحث بعد الاستقصاء حتى خيف عليه الدروس، وأسرع في العلماء الموت، فأمر عمر بن عبد العزيز أبا بكر بن حزم فيما كتب إليه أن: انظر ما كان من سنة أو حديث عمر فاكتبه". وقريب منه لمالك في موطئه من رواية الشيباني، وأورده البخاري معلقا.
    وعلى ما في "قوت القلوب" لأبي طالب المكي قال: "هذه المصنفات من الكتب حادثة بعد سنة عشرين أو ثلاثين ومائة من التاريخ، وبعد وفاة كل الصحابة وعلية التابعين، ويقال: إن أول ما صنف في الإسلام كتاب ابن جريج في الآثار وحروف التفسير بمكة"( ). اهـ.

    هذا ما دعا بعض الكتاب – خاصة من المستشرقين والنصارى – إلى اعتباره طعنا في مصداقية السنة النبوية، وفي التاريخ الإسلامي، حتى قال جرجي زيدان في "التمدن الإسلامي" بعد أن ذهب إلى أن الخلفاء الراشدين كانوا يخافون الحضارة على العرب فلذلك كانوا يمنعونهم من تدوين الكتب قال( ): "لأن علومهم في أول الإسلام كانت قاصرة على القرآن والتفسير ورواية الأحاديث، وكان الاعتقاد فاشيا في الصحابة والتابعين..قال: فقضى العرب عصر بني أمية ولم يدونوا شيئا غير القرآن". وقال( ): "العرب قضوا القرن الأول ونصف الثاني وأبحاثهم قاصرة تقريبا على العلوم الإسلامية ولم يدونوها إلا في أواخر تلك المدة".

    وقد انطلت هذه الفكرة على الكثير من البحاثة المتأخرين، ممن كتب في الدفاع عن السنة النبوية، أو تاريخ تطور علومها، غير أن ثلة من العلماء ألفوا أبحاثا قيمة لرد هذه الشبهة، وإثبات التدوين من عهد النبي ، مفرقين بين التدوين والتصنيف، وأن التصنيف على الأبواب والفصول هو الذي ابتدأ في القرن الثاني لا التدوين مطلقا.

    "ابتداء التدوين في الإسلام" للحافظ الكتاني:
    ولعل أوسع بحث في الموضوع هو: رسالة حافظ المغرب الشيخ عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني المتوفى عام 1382/ 1962، المعنونة بـ: "ابتداء التدوين في صدر الإسلام"، والتي تعتبر قفزة مهمة في أعمال الدراسات الحديثية.

    أصل هذه الرسالة محاضرة ألقاها صاحبها في مؤتمر المستشرقين بالرباط نحو عام 1342/ 1924، ونشرت ضمن فعاليات ذلك المؤتمر، ثم أعدتُ طباعة نصها في مجلة "السنة" الصادرة بالرباط بالمغرب، في العدد الأول منها، غير أن هاته الطبعة اعتورتها أخطاء وتصحيفات.
    قال الحافظ عبد الحي الكتاني( ): "من تتبع كتب أئمة الحديث والتاريخ والأخبار بمزيد روية وتأمل، يجد ما ينافي ذلك، ويثبت لعصر الصحابة – عصر العلم والنور والإيمان والفتح – غيرما جمع ونسخ وكتابة وتدوين وتصنيف لهم ولأتباعهم في القرن الأول الهجري وأول الذي بعده، بل إن تأمل المتأمل يجد أن التدوين والجمع وقع في زمنه عليه السلام، ومنه، فقد كتب عليه السلام كتبا لأهل الإسلام في الشرائع والأحكام"..

    التدوين والجمع في العصر النبوي:
    ثم استعرض الحافظ الكتاني ما ألفه أهل القرن الأول ودونوه من المجاميع المتضمنة لأقوال النبي  وتوجيهاته الشريفة، مبتدئا بالنبي ، فقال:
    "إن تأمل المتأمل يجد أن التدوين والجمع وقع في زمنه عليه السلام ومنه. فقد كتب عليه السلام كتبا لأهل الإسلام في الشرائع والأحكام؛ منها: كتابه عليه السلام في الصدقات، وكان عند أبي بكر. وكتابه عليه السلام في نصاب الزكاة وغيرها الذي كان عند عمر. وكتابه إلى أهل اليمن بأنواع الفقه وأبواب مختلفة في الزكاة والديات والأحكام، وذكر الطلاق والعتاق، وأحكام الصلاة ومس المصحف، وغير ذلك، وهو كتاب جليل، احتج الفقهاء وغيرهم بما فيه من مقادير الديات وغيرها".

    أخرج أحمد وأبو داود وحسنه، والحاكم من طريق أبي سفيان عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: "كتب رسول الله  كتاب الصدقة فلم يخرجه إلى عماله، وقرنه بسيفه حتى قبض، فعمل به أبو بكر حتى قبض، ثم عمل به عمر حتى قبض".

    وقد ساقه الإمام مالك في "الموطأ" في باب: صدقة الماشية من كتاب الزكاة قائلا: "مالك: إنه قرأ كتاب عمر في الصدقات"...فساقه.
    وقال الإمام أبو علي الحسن بن مسعود اليوسي في "القانون" لما تكلم على طرق نشر العلم وأنها مأثورة قديمة قال: "وأما التأليف؛ فأصله ما كان النبي  يفعله من كتب الوحي إذا نزل، وكتب الرسائل إلى الملوك وغيرهم، وكتاب الصدقات، وقد جمع فيه مسائل، فهو علم مدون، وذلك هو التأليف، ولكن كان المصطفى لا يكتب بيده لما أغناه الله عن ذلك، لقد كان يأمر بالكتب، والمقصود إنما هو: وضع العلم وتدوينه وتخليده، سواء كتب العلم بيده أم لا، وكم من عالم يملي ولا يكتب، ويكون ذلك تأليفا".

    وقال القاضي عياض: "اعتمد مالك، والعلماء والخلفاء قبلهم كل ما في هذا الكتاب، يعني: كتابه عليه السلام لعمرو بن حزم، ولم يرد عن الصحابة إنكار شيء منه". هـ. قال الباجي: "هو أصل في كتابة العلم وتصنيفه في الكتب". هـ.

    وقال بحجية هذا الكتاب وشهرته كل من الأئمة: ابن عبد البر، والنووي، وابن كثير، حتى قال: "هذا الكتاب متداول بين أئمة الإسلام قديما وحديثا، يعتمدون عليه في مهمات هذا الباب كما قال يعقوب السفياني: "لا أعلم في جميع الكتب أصح من كتاب عمرو بن حزم هذا، كان الصحابة والتابعون يرجعون إليه ويدعون آراءهم، وصح أن عمر ترك رأيه ورجع إليه".

    بل قال الإمام الشريف ابن الوزير اليماني في "الزهر الباسم"( ) إثر كلام ابن كثير: "ظاهر كلامهم: دعوى إجماع أهل الصدر الأول على قبول حديث عمرو بن حزم، وذلك يقتضي الإجماع على العمل بالوجادة". هـ.

    قال الحافظ الكتاني: "وفي هذا: مكاتبه – عليه السلام – إلى الملوك والأطراف وولاته، فقد كانت بإملائه – عليه السلام – على كُتابه، واعتنى الصحابة ومن بعدهم بجمعها ونسخها وحفظ نصوصها".

    قلت: إلى أن وصلتنا في القرن الخامس عشر الهجري، وكثير منها محفوظ في متحف إصطنبول وغيره.

    وقد استوعب أكثر نصوصها الإمام ابن سعد في "الطبقات"، وكذا الإمام محمد بن علي ابن حديدة الأنصاري في كتابه: "المصباح المضي، في كتاب النبي الأمي، ورسله إلى ملوك الأرض من عربي وعجمي".

    ووقوفنا على ذلك يفهمنا احتفاظ الصحابة والسلف بتلك المكاتب، وجمعهم نصوصها، وإلا؛ لما وصلت لابن سعد في القرن الثالث، وابن حديدة في القرن السابع، ثم وصولها إلى زماننا.

    بل في سيرة ابن هشام: "قال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن أبي حبيب المصري أنه: وجد كتابا فيه ذكر بعث النبي  إلى البلدان وملوك العرب والعجم، وما قال لأصحابه حين بعثهم. قال: فبعثت به إلى ابن هشام فعرفه".

    وفي آخر "نصب الراية" للحافظ الزيلعي( ): أن الواقدي استدعى عكرمة قال: "وجدت هذا الكتاب في كتب ابن عباس بعد موته فنسخته، فإذا فيه"..وأتى بنص كتاب النبي  للمنذر بن ساوى، وجواب المصطفى له عليه السلام.

    قال الشيخ عبد الحي الكتاني: "فيؤخذ منه أنه كان لابن عباس الكتب، إما من تصنيفه، أو من تصنيف من قبله، أو كان معه، ويفيد على كل حال وجود الكتب في تركة الصحابة وممتلكاتهم، ويفيد أنهم كانوا يعددون النسخ من مكاتبه عليه السلام ويدخرونها، وهذا هو الجمع والتدوين!".
    ثم نقل الحافظ الكتاني في رسالته المنوه إليها نصوصا تقتضي تدوين الصحابة لرسائل النبي ، وخطبه، وطبقات من تلفظ بالإسلام، وأسماء من يتعين خروجهم في المغازي.

    قال المقريزي في خططه: "كانت كتابة الديوان في صدر الإسلام: أن يجعل ما يكتب فيه صحفا مدرَجة".

    قال الحافظ عبد الحي الكتاني رحمه الله: "فيمكننا الجزم بأن هذا أول تدوين وقع في الإسلام، إذ كتابة الناس على اختلاف مراتبهم في السبقية للإسلام، والهجرة والنصرة والغزو؛ المادة الأولى لكتب تراجم الصحابة وتراجم زعماء الإسلام وأبنائهم".

    "وكان – عليه السلام - اتخذ كتابا يكتبون له أموال الصدقات؛ وهم: الزبير بن العوام، فإن غاب أو اعتذر كتب جهين بن الصلت أو حذيفة بن اليمان. ذكر ذلك ابن حزم في كتابه: "جوامع السيرة"، والقضاعي في كتاب "الأنباء".

    "وهذا يدل على أن النظام والضبط وصل في زمنه عليه السلام إلى تقييد الداخل والخارج مما يتعلق بالأموال ونحوها، فكيف لا يقيدون الدين وهو أهم وأكبر وأكثر وقعا؟".

    "...فهي أصل ديوان العطاء الذي دون في زمن عمر وبإذنه، وانتدابه لكتبه: عقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل، وجبير بن مطعم، قال الماوردي: كانوا شباب قريش، وقال لهم: اكتبوا الناس على منازلهم...".

    "فهذا الديوان العمري المادة الوحيدة لتواريخ البيوتات الإسلامية العربية وغيرها، وكان الأساس الأكبر للتدوين الإسلامي في الأنساب وأهل السبقيات". اهـ بخ.

    تدوين الصحابة رضوان الله عليهم:
    ثم نقل الشيخ عبد الحي الكتاني – رحمه الله – في رسالته المنوه إليها نصوصا تثبت تدوين أمة من الصحابة والتابعين إلى أواسط القرن الثاني، بما لا يدع مجالا للشك أن الأمة الإسلامية عرفت تدوين حديث نبيها ، وسيرته، وأخباره، وأخبار أصحابه، وأحوال الأمة من سياسة واجتماع وتراجم، ودواوين...إلخ.

    فمنهم: أبو بكر الصديق؛ جمع في رق خمسمائة حديث من حديث رسول الله ، وكان يرجع إليها إذا روجع.

    وعمر بن الخطاب؛ استكتب ما روي من شعر الجاهلية والإسلام. وله كتابه المشهور إلى قاضيه على البصرة أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما، قال ابن القيم في "إعلام الموقعين": "هو كتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول، وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه وإلى تأمله والتفقه فيه". وسبق الحديث عن ديوانه، وكان له تابوت يجمع فيه كل معاهدة كانت بينه وبين الناس.

    وعلي بن أبي طالب؛ له كتاب في أقضيته، وكتاب القضاء والقضاة ساقه صاحب "نهج البلاغة".

    وعبد الله بن عباس؛ كان له كاتب يكتب رواياته عن النبي ، فاجتمع منها حمل بعير، وكان يكتب الفتاوى التي يُسأل عنها، وكتب عنه ابن الأزرق غريب القرآن، بل كانت له كتب يكتب عنها الناس كعكرمة وغيره.

    وعبد الله بن عمرو بن العاص؛ كان يكتب الحديث زمن النبي  بإذنه، وكان يسمي صحيفته: "الصادقة"، واعتبر بعض العلماء إذن النبي  له في ذلك نسخا للنهي المتقدم عنه.

    وزيد بن ثابت؛ نسب له كتاب في الفرائض.

    وجابر بن عبد الله؛ له منسك صغير خرجه الإمام مسلم، ألف فيه ابن المنذر جزءا كبيرا، استقصى منه نحو مائة ونيف وخمسين نوعا من الفقه. وله صحيفة فيما رواه عن النبي ، حدث عنها مجاهد.

    وعبد الله بن مسعود؛ كان له كتاب، رواه عنه ابنه عبد الرحمن.

    وأبو هريرة حافظ الصحابة، كانت لديه كتب كثيرة جمعها من حديث رسول الله .

    وأنس بن مالك؛ كان له كتاب دون فيه مروياته عن النبي  وضبطها وعرضها.

    ومعاوية بن أبي سفيان؛ استكتب فضائل عثمان بن عفان، ودون رواته وأحوالهم، وكانت تسرد عليه الكتب الكثيرة في التواريخ والكتابات، حتى قيل بأنه أول من جمع مكتبة، والصحيح أن أبا بكر الصديق هو أول من جمع مكتبة حسبما في "تاريخ المكتبات الإسلامية" للشيخ عبد الحي الكتاني، وكثرت في عهد معاوية الدواوين، حتى دون الولادات، والوافدين من الخارج.

    بل حدَّث هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه عروة – كما في طبقات ابن سعد( ) - أنه: "أحرق يوم الحرة – سنة ثلاث وستين للهجرة – كتب فقه كانت له، فكان يقول بعد ذلك: لأن تكون عندي أحبُّ إلي من أن يكون لي مثل أهلي ومالي".

    فثبت بذلك أن كتب الفقه كانت موجودة مدونة في الصدر الأول للإسلام، وكتابة بعض الصحابة فتاواهم ومسموعاتهم وأحكامهم القضائية إنما يدل على كتابة غيرهم من أمثالهم ومن تلامذتهم، ما مؤداه أنها: كانت سلعة نافقة في ذلك العصر.

    وقد خص الحافظ الدارمي في مسنده بابا سماه: "باب من رخص في كتابة العلم"، ملأه آثارا وأحاديث في الموضوع، أردف به بابا بعنوان: "باب من لم ير كتابة الحديث". فكأنه يثبت به نسخ الحكم الأول أو تأويله، بل هو نفسه يدل على شيوع الكتابة في الصدر الأول. فليراجع.

    تدوين التابعين وتابعيهم:
    وممن دون كذلك بعد تلك الطبقة: الحارث بن كلدة، وصبيغ التميمي، والحسن البصري، وزائدة بن قدامة الثقفي ابو الصلت الكوفي، وحجر بن عدي، وسليم بن قيس الهلالي، وعلي بن أبي رافع، وعبيدة بن قيس السلماني، وعروة بن الزبير، وكعب الأحبار، وابن شهاب الزهري، وخالد بن يزيد بن معاوية، وأبو خلف الأزدي، والضحاك بن مزاحم، وعوانة بن حكيم الأزدي، وعكرمة مولى بن عباس، وأبو قلابة، وقتادة بن دعامة السدوسي، وأبو الأسود الدؤلي، ووهب بن منبه، وزيد بن أسلم مولى ابن عمر.

    قال الحافظ عبد الحي الكتاني: "فظهر لك بما سطر وقدر: أن التدوين والجمع إنما وقع في زمن عمر بن عبد العزيز وبأمره في الأحكام والحلال والحرام، تدوينا مرتبا على الكتب والأبواب والمسائل، لا التدوين المفرد في الأبواب، ولا في التاريخ والأخبار والحكمة والطب، التي علمتَ مما سبق أن جمعا ألفوا فيها فيما قبل".

    الهوامش:
    ( ) "قوت القلوب" (1/ 159).
    ( ) "التمدن الإسلامي" (3/ 50).
    ( ) "التمدن الإسلامي" (3/ 205).
    ( ) "ابتداء التدوين" ص2.
    ( ) ص35.
    ( ) (2/ 371).
    ( ) طبقات ابن سعد، ج5، ص179- 180.


    -يتبع-

  6. #6

    افتراضي


    الفصل الخامس
    عدالة الصحابة الكرام

    الصحابة هم تلاميذ النبي  الذين رأوه، وجالسوه، ونقلوا علومه ومعارفه، ونصروه، ونصروا دينه، وثبتوا معه في المعامع، ثم بعد وفاته  حفظوا شريعته، ونقلوها إلينا، وهم الواسطة فيما بيننا وبين الوحي الكريم، سواء القرآن العظيم، أو السنة النبوية، فالطعن فيهم طعن في الوحي الكريم، والتشكيك في عدالتهم تشكيك في الله ورسوله، وعدالتهم وتثبتهم وأمانتهم واجبة وجوب حفظ الوحي.

    وقد عمل الطاعنون في السنة النبوية على توهين قدر الصحابة رضوان الله عليهم، سواء في التشكيك في مصداقيتهم، أو التقليل من عدالتهم، أو الدخول فيما شجر بينهم مما هو أمر طبيعي بين البشر، ومحاولة جعل ذلك مطية للطعن في مصداقيتهم، ورواياتهم، ومن ثمة الطعن في السنة النبوية الذي هو بريد مباشر للطعن في القرآن الكريم، ومن ثمة الدين الإسلامي ككل. ولا شك أن حفظ الدين من حفظ الصحابة، إذ لولا الواسطة لذهب الموسوط.

    ثناء القرآن الكريم على الصحابة الكرام:
    والقرآن الكريم أثنى عليهم في غيرما محل، وحكم بغفران ذنوب جميعهم، والرضا عنهم، وأنهم أنقى الناس قلوبا، وأصلحهم للصحبة، وأنهم من أهل الجنة؛

    قال الله عز وجل: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً}. [الفتح: 18].
    قال ابن حجر الهيتمي رحمه الله: "فهذه الآية ظاهرة الدلالة على تزكية الله لهم، تزكية لا يخبر بها ولا يقدر عليها إلا الله. وهي تزكية بواطنهم وما في قلوبهم، ومن هنا رضي عنهم، ومن رضي عنه تعالى لا يمكن موته على الكفر؛ لأن العبرة بالوفاة على الإسلام. فلا يقع الرضا منه تعالى إلا على من علم موته على الإسلام"( ).

    وقال تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ترااهم رُكعاً سُجدا يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مَثَلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سُوقه يُعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً}. [الفتح: 29]

    قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: "بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة - رضي الله عنهم - الذين فتحوا الشام، يقولون: والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا. وصدقوا في ذلك؛ فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة، وأعظهما وأفضلها: أصحاب رسول الله -  - وقد نوه الله تبارك وتعالى بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى هنا: {ذلك مثلهم في التوراة}. ثم قال: {ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه - أي فراخه – فآزره - أي: شده – فاستغلظ - أي: شب وطال - فاستوى على سوقه يعجب الزراع – أي: فكذلك أصحاب رسول الله  آزروه وأيدوه ونصروه، فهو معهم كالشطء مع الزراع - ليغيظ بهم الكفار}"( ).

    وقال ابن الجوزي: "وهذا الوصف لجميع الصحابة عند الجمهور"( ).

    وقال عز من قائل: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم}. [التوبة: 100].

    والدلالة في هذه الآية ظاهرة؛ قال ابن تيمية: "فرضي عن السابقين من غير اشتراط إحسان. ولم يرض عن التابعين إلا أن يتبعوهم بإحسان"( ). ومن اتباعهم بإحسان: الترضي عنهم والاستغفار لهم.

    وقال عز من قائل: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتوا وكلا وعد الله الحسنى}. [الحديد: 11].

    والحسنى: الجنة. كما قال مجاهد وقتادة. واستدل ابن حزم من هذه الآية بالقطع بأن الصحابة جميعاً من أهل الجنة لقوله عز وجل: {وكلا وعد الله الحسنى}( ).

    وقال تعالى جده: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم}. [التوبة: 117].

    وقد حضر غزوة تبوك جميع من كان موجوداً من الصحابة، إلا من عذر الله من النساء والعجزة. أما الثلاثة الذين خُلفوا فقد نزلت توبتهم بعد ذلك.
    وقال الله تعالى في سورة الحشر: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}. [8-10].

    قال القرطبي في تفسيرها إثرها: "هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى وُجُوب مَحَبَّة الصَّحَابَة؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ لِمَنْ بَعْدهمْ حَظًّا فِي الْفَيء مَا أَقَامُوا عَلَى مَحَبَّتهمْ وَمُوَالَاتهمْ وَالِاسْتِغْفَار لَهُمْ، وَأَنَّ مَنْ سَبَّهُمْ أَوْ وَاحِدًا مِنْهُمْ أَوْ اِعْتَقَدَ فِيهِ شَرًّا أنَّهُ لَا حَقّ لَهُ فِي الْفَيء؛ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِك وَغَيْره. قَالَ مَالِك: مَنْ كَانَ يُبْغِض أَحَدًا مِنْ أَصْحَاب مُحَمَّد ، أَوْ كَانَ فِي قَلْبه عَلَيْهِمْ غِلّ؛ فَلَيْسَ لَهُ حَقّ فِي فَيء الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدهمْ}...الْآيَة".

    ثناء السنة النبوية على الصحابة الكرام:
    وكذا السنة النبوية أوصت بحقوقهم، ونهت عن الطعن فيهم:

    فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مُد أحدهم ولا نصيفه"( ).
    قال ابن تيمية في "الصارم المسلول": "وكذلك قال الإمام أحمد وغيره: كل من صحب النبي  سنة أو شهراً أو يوماً أو رآه مؤمناً به، فهو من أصحابه، له من الصحبة بقدر ذلك. فإن قيل: فلِمَ نَهى خالداً عن أن يسب أصحابه إذا كان من أصحابه أيضاً؟، وقال: لو أن أحدكم انفق مثل اُحُد ذهباً ما بلغ مُد أحدهم ولا نصيفه؟".

    "قلنا: لأن عبد الرحمن بن عوف ونظراءه من السابقين الأولين الذين صحبوه في وقت كان خالد وأمثاله يعادونه فيه، وأنفقوا أموالهم قبل الفتح وقاتلوا، وهم أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا، وكلا وعد الله الحسنى. فقد انفردوا من الصحبة بما لم يشركهم فيه خالد ونظراؤه، ممن أسلم بعد الفتح الذي هو صلح الحديبية وقاتل. فنهى أن يسب أولئك الذين صحبوه قبله. ومن لم يصحبه قط نسبته إلى من صحبه، كنسبة خالد إلى السابقين وأبعد"( ).

    وقال  لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: "وما يدريك، لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"( ).
    وعن عمران بن الحصين رضي الله عنه، قال: قال رسول الله : "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". قال عمران: "فلا أدري؛ أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثا"( ).

    عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله  قال: "النجوم أمَنةٌ للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يوعدون، وأنا أمَنَةٌ لأصحابي، فإذا ذهبت أنا أتى أصحابي ما يُوعَدُون، وأصحابي أمَنَةٌ لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يُوعَدُون"( ).

    وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله  قال: "أكرموا أصحابي؛ فإنهم خياركم"( ). وفي رواية أخرى: "احفظوني في أصحابي"( ).

    وعن واثلة يرفعه: "لا تزالون بخير ما دام فيكم من رآني وصحبني، والله لا تزالون بخير ما دام فيكم من رأى من رآني وصاحبني"( ).
    وعن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله : "اتقوا الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا، من أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه"( ).

    تحذير سلف الأمة من الوقيعة في الصحابة الكرام:
    ومازال سلف الأمة يحذرون من الوقيعة في الصحابة الكرام، حتى قال حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه خص نبيه محمداً  بصحابة آثروه على الأنفس والأموال، وبذلوا النفوس دونه في كل حال، ووصفهم الله في كتابه فقال: {رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَـٰهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِى ٱلإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}، قاموا بمعالم الدين وناصحوا الاجتهاد للمسلمين، حتى تهذبت طرقه وقويت أسبابه، وظهرت آلاء الله واستقر دينه، ووضحت أعلامه، وأذل بهم الشرك وأزال رؤوسه ومحا دعائمه، وصارت كلمة الله العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، فصلوات الله ورحمته وبركاته على تلك النفوس الزكية والأرواح الطاهرة العالية، فقد كانوا في الحياة لله أولياء، وكانوا بعد الموت أحياء، وكانوا لعباد الله نصحاء، رحلوا إلى الآخرة قبل أن يصلوا إليها، وخرجوا من الدنيا وهم بعد فيها"( ).

    وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "من كان مستناً فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد ، كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه  ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد  كانوا على الهدى المستقيم"( ).
    وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد  فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيئ"( ).

    وقال الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى: "قد ثبت إجماع الأئمة من أهل البيت على تحريم سبِّ الصحابة و تحريم التكفير و التفسيق لأحد منهم". ثم ذكر النقول عنهم من اثنتي عشر طريقًا( ).

    وقد نقل القاضي عياض رحمه الله تعالى عن أيوب السختياني، أحد كبار التابعين من مشايخ الإمام مالك أنه قال: "و من انتقص أحدًا منهم – الصحابة – فهو مبتدع مخالف للسنة والسلف الصالح وأخاف ألاَّ يصعد له عمل إلى السماء حتى يحبهم جميعًا، و يكون قلبه سليمًا". ثم نقل عن سهل بن عبد الله التستري أنه قال: "لم يومن بالرسول  من لم يوقر أصحابه و لم يعز أوامره"( ).

    ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "قد علم بالكتاب والسنة والنقل المتواتر محاسن الصحابة وفضائلهم، وما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف من المنقولات المتواترة عن أدلة العقل من أن الصحابة – رضي الله عنهم – أفضل الخلق بعد الأنبياء".

    وقد جمع العلماء في فضائلهم كتبا كثيرة، من أوعبها: "فضائل الصحابة" للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في مجلدين.

    حرص الصحابة الكرام على المحافظة على السنة:
    وقد عرف عن الصحابة – رضي الله عن جميعهم – شدة حرصهم على حديث رسول الله ، بجمعه، وروايته، والتثبت فيه، حتى كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يقبل رواية الحديث إلا بشاهد:

    ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أبا موسى الأشعري سلم على عمر من وراء الباب ثلاثا، فلم يؤذن له، فرجع. فأرسل عمر في أثره، فقال: "لم رجعت؟". قال: "سمعت رسول الله  يقول: "إذا سلم أحدكم ثلاثا فلم يجَب؛ فليرجع". قال: "لتاتينّي على ذلك ببينة أو لأفعلن بك!". فجاءنا أبو موسى ممتقعا لونه ونحن جلوس، فقلنا: "ما شأنك؟". فأخبرنا وقال: "فهل سمع أحد منكم؟". فقلنا: "نعم؛ كلنا سمعه". فأرسلوا معه رجلا منهم فأخبره.

    وتضافرت الآثار أن بعض الصحابة كان يسافر الشهر وربما أكثر لمعرفة حديث من أحاديث النبي ؛ أخرج الحافظان أحمد في "المسند" والطبراني عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "بلغني حديث عن رجل من أصحاب النبي  عن رسول الله  لم أسمعه منه، فابتعت بعيرا، فشددت عليه رحلي، ثم سرنا إليه شهرا حتى قدمت الشام، فإذا هو عبد الله بن أنيس الأنصاري. فأتيته، فقلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله  في المظالم، لم أسمعه، فخشيت أن أموت أو تموت قبل أن أسمعه. فقال: سمعت رسول الله  يقول: يحشر الناس عراة غُرْلا بُهْما، قلنا: وما لهم؟، قال: ليس معهم شيء، فيناديهم نداء يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار، ولا أحدٌ من أهل الجنة عنده مظلمة حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولا أحدٌ من أهل النار يطلبه بمظلمة حتى أقصه منه، حتى اللطمة. قلنا: كيف وإنما نأتي الله عراة غرلا بهما؟. قال: الحسنات بالحسنات والسيئات".

    وأخرج البيهقي عن عطاء بن أبي رباح قال: "خرج أبو أيوب إلى عقبة بن علي رضي الله عنهما فسأله عن حديث سمعه منه غيره، فلما قدم أتى منزل مسلمة بن مخلد الأنصاري رضي الله عنه، وهو أمير مصر، فخرج إليه، فعانقه، ثم قال له: ما جاء بك يا أبا أيوب؟. قال: حديث سمعته من رسول الله  في ستر المؤمن. فقال: نعم؛ سمعت رسول الله  يقول: من ستر مؤمنا في الدنيا على كربته، ستره الله يوم القيامة. ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته، فركبها راجعا إلى المدينة، فما أدركته جائزة مسلمة إلا بعريش مصر".

    وسبق الحديث أن جمعا من الصحابة كانوا يدونون الأحاديث التي سمعوها، ويحفظونها في صندوق أو تابوت يرجعون إليها عند الحاجة، ومن هنا يُحل الإشكال الذي يضعه الكثير من المرجفين حول سعة حفظ الصحابة رضوان الله عليهم وكثرة حفظهم.

    وقد بلغ من حرص الصحابة وتثبتهم في الرواية ما تواترت به الأخبار وتضافرت، من محاسبة بعضهم بعضا، وواعتضاد بعضهم ببعض، وخوفهم من أن تزيد الرواية كلمة أو معنى لم يفه به النبي ، ولا أوضح من حديث: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار". الذي رواه من الصحابة أزيد من مائة حسبما في مقدمة "نظم المتناثر من الحديث المتواتر" لجد جدنا شيخ الإسلام محمد بن جعفر الكتاني رحمه الله تعالى.

    لا يكاد ينفرد صحابي ممن نوزعوا بحديث:
    بل لا يكاد واحد من الصحابة يروي حديثا إلا وقد شورك في لفظه أو معناه، ومن هنا يُرد على الطاعنين في مرويات حافظ الصحابة أبي هريرة، ومعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص رضي الله عنهم، وغيرهم ممن ثبتت له الصحبة، فلم يكادوا يروون حديثا إلا وقد شاركهم فيه غيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم.

    قال شقيقنا وشيخنا العلامة الحسن بن علي الكتاني - فك الله أسره - في ديباجة كتابه "الرد على الطاعن في أبي هريرة": "و ليعلم القراء الكرام أن الكلام عن أبي هريرة رضي الله عنه إنما هو خداع السـذَّج من النَّـاس، إذ إنه ما من حديث رواه رضي الله عنه إلاَّ و قد شاركه فيه جماعة آخرون من الصحابة، و لا يكاد ينفرد إلاَّ بأشياء معدودة هي نقطة في بحر ما روي، و قد بين ذلك العلامة الشيخ عبد المنعم صالح العزى في كتابه الفريد: "أقباس من مناقب أبي هريرة" بما لا مزيد عليه".

    قلت: وقد حصر بعضهم تلك الروايات في الكتب التسعة إلى ثمانية أحاديث فقط، وهي:

    1- "بينما رجل راكب بقرة"...إلى آخر الحديث، سنن الترمذي، المناقب حديث رقم 3610.
    2- قرأ رسول الله : "يومئذ تحّدث أخبارها"، سنن الترمذي صفة القيامة حديث رقم 2353.
    3- "أتدرون من المفلس". صحيح مسلم، البر والصلة، حديث رقم 4678.
    4- "أول من يُدعى يوم القيامة..". مسند أحمد، باقي مسند المكثرين حديث رقم 8558.
    5- "أظلكم شهركم...". مسند أحمد، باقي مسند المكثرين حديث رقم 10365.
    6- "أعذر الله إلى امرئ..". صحيح البخاري، الرقاق، حديث رقم 5940.
    7- " أقرب ما يكون العبد..". صحيح مسلم، الصلاة، حديث رقم 744.
    8- " بينا أيوب يغتسل..". صحيح البخاري، الغسل، حديث رقم 270.

    قلت: ولا شك أن المتتبع لو بحث عن تلك الروايات، فسيجد لها متابعا أو أكثر من الصحابة رضوان الله عليهم.

    أما مروان بن الحكم؛ فقد قال عم والدنا الإمام محمد الناصر الكتاني: "لا تبلغ الأحاديث المروية عنه عشرة أحاديث، رواها غيره من الثقات"( ).
    أما مرويات معاوية بن أبي سفيان؛ فهي في الكتب الستة بضع وثلاثون حديثا في الأحكام، جميعها مما لا شذوذ فيه، وجلها شاركه فيها غيره من الصحابة. ولم يورد معاوية شيئا قط في ذم علي – رضي الله عنه – ولا في استحلال حربه، ولا في فضائل عثمان، ولا في ذم القائمين عليه، ولم ينفرد برواية ما يخالف الإسلام أو يهدم القواعد، بل هي موافقة لمذهب الشيعة والفقهاء، وليس فيها ما لم يذهب إليه جماهير العلماء، إلا قتل شارب الخمر في المرة الرابعة( ). حسبما للإمامين ابن الوزير اليماني، ومحمد الناصر الكتاني.

    وأما حديث المغيرة بن شعبة؛ فله مما يتعلق بالحرام والحلال أربعة وعشرون حديثا أو أقل، اتفق البخاري ومسلم على تسعة منها، وانفرد البخاري بتسعة، ومسلم بحديثين، والثلاثة البواقي لم تصح، وما صح عنه شاركه غيره من الصحابة في جميعه( ).

    أما عمرو بن العاص؛ فله في الأحكام عشرة أحاديث، كلها متابع عليها من غيره من الصحابة ولها شواهد( ).

    وقد استعرض تلك الروايات وناقشها: الإمام الشريف ابن الوزير اليماني في موسوعته: "العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم" (2/ 113-129)، والإمام الشريف محمد الناصر لدين الله الكتاني في كتابه: "قيد الأوابد في مختلف العلوم والفوائد" (ص275- 289)، بما يرجع إليهما.
    فتبين مما سطرناه أعلاه بطلان الطاعن في السنة بطعنه في الصحابة رضوان الله عليهم، وادعائه أن ما قدره الله من الفتن في زمنهم كان سببا لدخول الوضع في الحديث، وذلك بأمور:

    - تزكية الله تعالى لجميعهم في القرآن الكريم.

    - تزكية السنة النبوية لهم.

    - تزكية سلف الأمة من عدولها الذين بني عليهم الإسلام.

    - ما تواتر من شدة تثبتهم في الحديث وابتغائهم فيه العدالة والضبط والصحة.

    - ضبطهم وتدوينهم السنة في حياتهم.

    - ندرة انفراد أحدهم برواية الحديث، وأن من استلذ المخالفون الطعن فيهم لدخولهم في السياسة، أو لإكثارهم، إنما شوركوا فيما رووه من غيرهم، فحيث بطل التفرد بطلت الدعوى...والله الموفق.

    الهوامش:
    ( ) "الصواعق المحرقة" ص 316.
    ( ) "الاستيعاب" لابن عبد البر 1/6 ط. دار الكتاب العربي بحاشية الإصابة، عن ابن القاسم. وتفسير ابن كثير: 4/204 ط. دار المعرفة - بيروت.
    ( ) "زاد المسير" 4/204.
    ( ) "الصارم المسلول" 572.
    ( ) "الفصل" 4/148، 149.
    ( ) رواه البخاري (رقم 3673)، ومسلم (2541).
    ( ) "الصارم المسلول" ص576.
    ( ) "صحيح البخاري - فتح الباري" حديث 3983. و"صحيح مسلم" حديث 2494 - عبد الباقي.
    ( ) "صحيح البخاري" حديث 3650. وصحيح مسلم حديث 2535. وهذا سياق البخاري مختصرا.
    ( ) "صحيح مسلم" حديث 2531. والأمنة هي: الأمان.
    ( ) رواه الإمام أحمد، والنسائي، والحاكم بسند صحيح. انظر "مشكاة المصابيح" 3/1695. ومسند الإمام أحمد بتحقيق أحمد شاكر1/112.
    ( ) رواه ابن ماجه 2/64. وأحمد 1/81. والحاكم 1/114. وقال: "صحيح" ووافقه الذهبي، وقال البوصيري: "إسناد رجاله ثقات" - زوائد ابن ماجه 3/53 وانظر بقية كلامه.
    ( )رواه ابن أبي شيبة 12/178، وابن أبي عاصم 2/630. في "السنة"، ورواه الطبراني في "الكبير" 22/85. وعنه أبو النعيم في "معرفة الصحابة" 1/133، وقد حسنه الحافظ في "الفتح" 7/5، وقال الهيثمي في "الجمع" 10/20: "رواه الطبراني من طرق رجال أحدها رجال الصحيح".
    ( ) رواه الإمام أحمد في "المسند (4/ 87)، والترمذي في سننه (رقم 3862)، وعبد الله بن أحمد في "زوائد فضائل الصحابة" (رقم4)، وابن حبان في صحيحه (رقم 7256).
    ( ) "مروج الذهب ومعادن الجوهر" (3/75) للمسعودي.
    ( ) "حلية الأولياء" (1/305-306).
    ( ) "حلية الأولياء" (1/305-306).
    ( ) "إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي". ( ص.51).
    ( ) "الشفا في حقوق المصطفى". (2/ 39)، وكلام أيوب رواه ابن أبي زمنين في "أصول السنة" ( 189) واللآلكائي (2333) بأتم من هذا.
    ( ) "قيد الأوابد في مختلف العلوم والفوائد" تأليف محمد الناصر الكتاني، تصحيح: الدكتور أسامة محمد الناصر الكتاني. طبعة دار الكتب العلمية.
    ( ) "قيد الأوابد" ص277.
    ( ) "قيد الأوابد" ص281.
    ( ) "قيد الأوابد" ص283.


    -يتبع-

  7. #7

    افتراضي


    الفصل السادس
    علوم الحديث وتميزها

    اعتنى المسلمون، وخصوصا منهم علماء الحديث، بضبط الحديث الشريف، فقسموه إلى علم رواية وعلم دراية.

    وبحثوا فيمن أوصله إلينا، بدءا من الصحابة الكرام، إلى الكتب المتداولة المشهورة، فنظروا في حال كل راو راو من حيث ولادته، ووفاته، وطلبه العلم، ورحلته، وضبطه، وعدالته، وإتقانه، وشيوخه، والآخذون عنه، ثم عمدوا إلى رواياته ودرسوها فقها، وموافقة لغيرهم من الرواة.
    ودرسوا علاقة كل راو بمن بعده ومن قبله، من حيث إثبات اللقيا أو عدمها، وكيفية اللقيا، ونوع الرواية هل بقول: حدثنا، وأخبرنا، وقرأت، وقريء بمحضره وأنا أسمع...أو بالعنعنة: عن فلان عن فلان، أو بالأنأنة: أن فلانا قال: إن فلانا قال...إلخ، وبمن شاركه في تلك الرواية، وبمن خالفه فيها لفظا أو معنى.

    فمن جُهل حاله أو عينه؛ رُد حديثه، ومن خالف الثقات والجمهور اعتبر حديثه شاذا، ومن كثر شذوذه رُد حديثه، ومن أغرب في رواياته اتهم بها، واختل ضبطه أو علمه أو عدالته؛ رد حديثه أيضا.

    وقسموا ذلك إلى علوم وأبواب؛ كعلم الرجال والطبقات، والوضاعين، والثقات، وعلم العلل، والجرح والتعديل، والمنفردات والوحدان، والتدليس والمدلسين...إلخ، وأفردوا في ذلك مصنفات كثيرة.

    وقسموا الأحاديث بناء على تلك الدراسة إلى: صحيح وضعيف، والصحيح: ما اتصل إسناده إلى النبي ، وسلم من الشذوذ والعلة. شذوذ رواية وشذوذ لفظ، وعلة رواية وعلة متن. وأعلاه المتواتر: وهو ما روته الطائفة التي يستحيل اتفاقها على الخطأ عن مثلها إلى النبي ، وأدناه: الحسن، الذي هو أدون من الصحيح.

    والضعيف: أقل منه الواه، ثم الموضوع، الثابت كذبه عن النبي  وعلى آله.

    ثم ذهبوا إلى متون الأحاديث، فتتبعوا ألفاظها، وميزوا بين كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإدراج الراوي، أو خطئه، أو خلطه، حتى روي عن بعض الأئمة أنه قال: "لا نعرف فقه الحديث حتى نراه من عشرين وجها". فقد يصححون الحديث ويردون بعض ألفاظه، وقد يضعفون سند حديث ويصححون معناه لموافقته للصحيح، أو لغيره من القرائن.

    فلا يسلم من الطعن، ويوضع في خانة الصحة إلا الحديث السالم سنده من العيوب، ومتنه من الخطأ، بل قد يردون الحديث ولا شائبة في إسناده، إذا خالف ما فيه القرآن الكريم، أو الثابت من السنة والسيرة؛ كفعلهم مع حديث البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه في الإسراء، وفيه شق صدره ، وأعلوه بأن شق الصدر إنما كان وهو رضيع..رده الحافظ ابن حزم وفيه مراجعات.

    ومنه: حديث مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: "كان الناس لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه، فقال للنبي : ثلاث أعطنيهن. قال: نعم. قال: عندي أحسن العرب وأجمله: أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها. وسأله أن يستكتب ابنه معاوية وأن يستعمله". يعني: نفسه، ويوليه. رُد بأن النبي  إنما تزوج أم حبيبة رضي الله عنها وهي بأرض الحبشة مهاجرة، وأبو سفيان حينها بمكة لما يُسلم.

    والضعيف ليس بالضرورة هو مكذوب على النبي ، بل له حظ من الصحة، إلا أنه لا يُحتج به إلا بشروط، اتقاء ورود الدخيل على حديث النبي .
    وصنفوا في تراجم الرجال وأحوالهم موسوعات ضخمة حوت مئات الآلاف من التراجم، حفظوا فيها شهادات العلماء حول الرواة، واعتمدوا الطعن المبرر، مع النظر إلى مبرره، ورفضوا الطعن غير المبرر، وغير المستند إلى حجة علمية.

    ومن تتبع تاريخ جمع الحديث الكريم وتدوينه، واعتناء الرعيل الأول من أهل الإسلام بذلك، وحفظه وتصنيفه، والجهود الضخمة التي بذلت من أجل معرفة نقلة الآثار ورواتها وأحوالهم وطريقة تحملهم، والجمع بين الروايات ومقارنتها؛ علم حق اليقين صدقية السنة النبوية ووثوقها.

    انفراد أمة الإسلام بالإسناد:
    ونظرا لانفراد أمتنا بين الأمم بالإسناد؛ وقيل في قوله تعالى: {أو أثارة من علم}. [الأحقاف/ 4]: "إنه إسناد علم الحديث"، وقال عبد الله بن المبارك: "مثل الذي يطلب أمر دينه بلا إسناد؛ كمن يرتقي إلى السطح بلا سلم!"، وقال أيضا: "طلب الإسناد من الدين"، وقال: "لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء". وقال الثوري: "الإسناد سلاح المؤمن، فإذا لم يكن معه سلاح؛ فبأي شيء يقاتل؟!".

    وكان عبد الله بن طاهر يقول: "رواية الحديث بلا إسناد من عمل الزمْنى"، وعن بقية قال: "ذاكرت حمّاد بن زيد بأحاديث فقال: ما أجودها لو كان لها أجنحة!. يعني: إسنادا". وقال الشافعي: "مثل الذي يطلب الحديث بلا إسناد؛ كمثل حاطب ليل: يحمل الحطب وفيه أفعى وهو لا يدري!".
    ومن كلامهم: "من لم يكن له أستاذ يصله بسلسلة الأتباع، ويكشف عن قلبه القناع؛ فهو في هذا الشان لقيط لا أب له، دعي لا نسب له". وقيل: "الأسانيد أنساب الكتب"، ونقْلُ الإنسان ما ليس له فيه سند ولا رواية؛ ممنوع بإجماع أهل الدراية، واتفق العلماء على أنه: لا يجوز لمسلم أن يقول: قال رسول الله . حتى يثبت عنده أن ذلك القول مروي عنه عليه السلام، ولو على أقل وجوه الروايات العظام. ونصوا على أن: معرفة السند من فروض الكفاية؛ إذ لا يُعرف الموضوع من غيره إلا به عند أرباب العناية( ).

    فقد تكفل الله تعالى بحفظ سنة نبيه كما تكفل بحفظ القرآن الكريم، فسخر من علماء الإسلام من خدموا علم الحديث خدمة لم يعرفها توثيق في التاريخ، فضبطوا الآثار، وقيدوا الأسانيد، وعرفوا الرجال طبقة بعد طبقة، وكيفية أخذ بعضهم من بعض، ودرسوا روايات كل شخص من الرواة، حتى تكونت منظومة عظيمة تمثلت في علم الحديث والمصطلح وفروعهما، وهو الأمر الذي تعجب له المستشرقون قبل المسلمين، حتى قال العالم الألماني أشبره نكر: "إن الدنيا لم تر ولن ترى أمة مثل المسلمين فقد درس بفضل علم الرجال الذى أوجدوه حياة نصف مليون رجل"( ). وقال المستشرق المحقق مرجليوث: "ليفتخر المسلمون ما شاؤوا بعلم حديثهم"( ).

    علوم الحديث تعد أهم مرجع للتوثيق الحديث:
    وقال الأستاذ محمد بهاء الدين في رسالته العلمية "المستشرقون والحديث النبوي"( ): "فالطريقة التي سلكها العلماء في التثبت من صحة الحديث سندا ومتنا، وما ابتدعوا لأجل ذلك من علوم كعلم أصول الحديث وعلم الجرح والتعديل، وغيرهما من العلوم؛ طريقة أشاد بها كثير من الغربيين في تحقيق الراوية أمثال: باسورث سميث عضو كلية التثليث في أكسفورد، وكارليل، وبرنارد شو، والدكتور: سبرنكر كان. فقد أعلن هؤلاء إعجابهم بالطريقة التي تم بها جمع الأحاديث النبوية، وبالعلم الخاص بذلك عند علماء المسلمين، وهو الجرح والتعديل".

    بل استفاد المستشرقون وتلامذتهم من علم مصطلح الحديث في استحداث علم جديد هو: "علم مصطلح التاريخ". وأول من كتب في هذا الفن هو: البحاثة النصراني أسد رستم أستاذ التاريخ في الجامعة الأمريكية في بيروت، والذي كان يحضر دروس الشيخ طاهر الجزائري في فن مصطلح الحديث، ثم خرج بذلك الفن الذي هو مستفاد ومشتق من علم مصطلح الحديث، واعترف في كتابه "أصول الرواية التاريخية" بأن قواعد مصطلح الحديث هي أصح طريقة علمية حديثة لتصحيح الأخبار والروايات( ).

    وبذلك صنع علماء الحديث والجرح والتعديل شبكة في منتهى المناعة تحمي الحديث النبوي من الدخيل، ومن التلاعب، ومن الخطأ، وهو الأمر الذي يرد جميع الشبهات الطاعنة في الحديث النبوي من حيث نقله ووصوله إلينا، ومن حيث دخول الشوائب والمدرجات على متنه ومعانيه.


    الفصل السابع
    السنة أحد طرفي الوحي

    وحيث قد قرر القرآن – كلام الله تعالى – بأن النبي صلى الله عليه وآله إنما هو وحي يوحى، فقال تعالى: {والنجم إذا هوى. ما ضل صاحبكم وما غوى. وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى}. [النجم/ 1-4]، ووعد الله تعالى بحفظ وحيه، فقال جل شأنه: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}. [الحجر/ 9]، وقال سبحانه: {بل هو قرآن مجيد. في لوح محفوظ}. [البروج/ 22].

    وقد روى الدارمي في سننه، والمروزي في "السنة"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" بإسناد صحيح عن حسان بن عطية قال: "كان جبريل ينزل على النبي  بالسنة كما ينزل القرآن عليه، يعلمه إياها كما يعلمه القرآن"( ). قلت: ومثل هذا لا يقال رأيًا، فله حكم المرفوع.
    وقد مرت فيما سبق آيات عدة، ونقول عن الأعلام لا تدع مجالا للشك في أن السنة طرف من الوحي، وفي الحديث الشريف: ما رواه أبو داود في سننه عن المقداد بن معديكرب رضي الله عنه أن رسول الله e وعلى آله قال: "ألا إنني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان متكيء على أريكته يقول: عليكم بالقرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه". فهو تصريح بذلك أيضا.

    لذلك فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم - ممثلا في كلامه وصفته وهديه - محفوظ، تكفل الله تعالى بإيصاله إلينا استمرارا لدينه وشريعته التي هي خاتمة الأديان وناسخة الشرائع، وإنكار السنة إنكار للنبوة، وإنكار للوحي، وبذلك كفر بالنبي وبرسالته صلى الله عليه وآله وسلم، وكفر بلا إله إلا الله محمد رسول الله.

    ولذلك قال النبي  فيما رواه عنه أبو هريرة وغيره: "إني قد خلفت فيكم ما لن تضلوا بعدهما أبدا ما أخذتم بهما: كتاب الله وسنتي، فلن يتفرقا حتى يردا علي الحوض"( ).

    فأثبت ارتباطهما، وأنهما لن يتفرقا، والقرآن محفوظ، فثبت بهذا أن السنة – أيضا – محفوظة. ثم إن الاتفاق على أن القرآن والسنة مخاطب بهما سائر الأمة من زمن النبي  وبعده، ولولا استمرار السنة وحفظها إلى آخر الدهر لما أوصانا النبي  بها.

    بل ورد في المتواتر: "إني تارك فيكم ما إن تمسكنم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما"( ).

    قال العلماء رضي الله عنهم: ذكر كتاب الله تعالى ولم يذكر السنة؛ لأن سنته  من كتاب الله تعالى، فالمقصود: الوحي، وهي منه.
    والحاصل؛ إن السنة وحيٌ كما أن القرآن وحي، وحيث تكفل الله تعالى بحفظ وحيه؛ فقد تكفل بحفظ سنة نبيه ، وهو الضامن الأكبر لوصولها واستمرارها إلينا، ومن أعظم الأدلة على ثبوتها وصيانتها.



    الفصل الثامن
    لا إسلام من غير السنة النبوية

    حيث تقرر ثبوت السنة النبوية، عقلا، وشرعا، وواقعًا، وأنها جزء من الوحي، فليُعلم أن موضوع السنة النبوية هو:

    - تأييد حكم قرآني.
    - أو تبيين مجمل في القرآن.
    - أو توضيح مشكل.
    - أو تقييد مطلق.
    - أو تخصيص عام.
    - أو نسخ حكم.
    - أو إضافة حكم لم يكن واردا.

    فهو  مبين عن الله تعالى، ومشرع بإذن الله تعالى، وقد قال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة}. [النور/ 63]. والفتنة: الشرك، كما فسرها به ابن عباس رضي الله عنهما، وتقتضي جميع ما يشتق عن معنى الفتنة.

    فالكتاب مجمَل، والسنة مفصلة له، وهي واردة في بيان ما أجمل ذكره من الأحكام، إما بحسب كيفيات العمل أو أسبابه أو شروطه، أو موانعه أو لواحقه، أو ما أشبه ذلك، فبيانها للصلوات على اختلاف مواقيتها، وركوعها وسجودها، وسائر أحكامها، وبيانها للزكاة في مقاديرها وأوقاتها، ونصب الأموال المزكاة، وبيان أحكام الصوم مما لا نص عليه في القرآن، وكذلك أحكام الحج والذبائح، والأنكحة وما يتعلق بها، والبيوع وأحكامها، والجنايات من القصاص وغيره، والأحكام السلطانية، والعلاقات الخارجية والداخلية للدولة الإسلامية، وغير ذلك مما وقع مجملا في القرآن الكريم، وهو الذي يظهر دخوله تحت قوله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما أنزل إليهم}. [النحل/ 44]( ).

    ولذلك روي عن عمران بن حصين أنه قال لرجل منكر للسنة: "إنك امرؤ أحمق، أتجد في كتاب الله الظهر أربعا، لا يجهر فيها بالقراءة؟..ثم عدد عليه الصلاة والزكاة ونحو هذا، ثم قال: أتجد هذا في كتاب الله مفسَّرا؟، إن كتاب الله أبهم هذا وإن السنة تفسر ذلك"( ).

    وقيل لمطرف بن عبد الله الشخير: "لا تحدثونا إلا بالقرآن". فقال له مطرف: "والله ما نريد بالقرآن بدلا، ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا"( ).
    ومن هنا قال الإمام الأوزاعي: "الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب". قال الحافظ ابن عبد البر: "يريد أنها تقضي عليه وتبين المراد منه"( ).
    فتبين أن إقصاء السنة إقصاء للقرآن في معناه أولا، وإقصاء لجل الشريعة التي أنيط بالحديث تبيينها وتوضيحها وتشريعها، فلا إسلام بلا سنة، وشريعة بلا نعهج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما أنه لا توحيد بغير: محمد رسول الله.

    وعن سعيد بن جبير رحمه الله أنه: حدث يوما بحديث عن النبي ، فقال رجل: "في كتاب الله ما يخالف هذا". قال: "ألا أراني أحدثك عن رسول الله  وتعرض فيه بكتاب الله؟. كان رسول الله  أعلم بكتاب الله منك!" ( ).

    ولذلك قال سيدنا عمر الفاروق رضي الله عنه: "إنه سيأتي ناس يجادلونكم بشُبه القرآن، فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله"( ).



    الخاتمة


    في أهمية السنة النبوية في التشريع الإسلامي

    مما مضى؛ تبرز أهمية السنة في التشريع الإسلامي، فأهميتها من أهمية صاحبها صلى الله عليه وآله وسلم، وحيث الإيمان به ملازم للإيمان بالله تعالى، فهي من حيث كونها هي لا تقل قيمة عن كتاب الله تعالى، والإيمان بها من جنس الإيمان بالله تعالى.

    ومن حيث مرتبتها من الصحة، ونسبتها لمن صدرت عن شفتيه الشريفتين؛ فهي في المرتبة الثانية بعد كتاب الله تعالى، إذ القرآن الكريم إنما يشترط في جميع ألفاظه التواتر، بخلاف السنة النبوية المطهرة.

    ومع ذلك فالجمهور على أن القرآن ينسخ بالسنة، بمعنى تخصص أحكامه أو ترفع، كما أن الإجماع على أن أمر السنة إلزامي واجب الاتباع، والعقائد المضمنة إياها ملزمة، وإن تواترت كفر من لم يعتقدها.

    كما أن السنة النبوية المطهرة، خصصت بعض أحكام القرآن، وفصلت في البعض الآخر، وقيدت المطلق، وذكرت أحكاما استقلالا عن الكتاب الكريم لم تذكر صراحة فيه، بل جل الشريعة الإسلامية وما يتفرع عنها من أحكام وأخلاق وتوجيهات، وتشريعات وتقنينات إنما مأخوذة من السنة النبوية المطهرة.

    قال الدكتور عجاج الخطيب: "قد جاءت السنة في الجملة موافقة للقرآن الكريم، تفسر مبهمه، وتفصل مجمله، وتقيد مطلقه، وتخصص عامه، وتشرح أحكامه وأهدافه، كما جاءت بأحكام لم ينص عليها القرآن الكريم، فكانت في الواقع تطبيقا عمليا لما جاء به القرآن العظيم، تطبيقا يتخذ مظاهر مختلفة؛ فحينا يكون عملا صادرا عن الرسول e، وحينا يكون قولا يقوله في مناسبة، وحينا ثالثا يكون تصرفا أو قولا من أصحابه e، فيرى العمل أو يسمع القول ثم يقر هذا وذاك، فلا يعترض عليه ولا ينكره، بل يسكت عنه أو يستحسنه فيكون هذا منه تقريرا"( ).

    ولذلك قال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون}. [النحل/ 44]، وقال جل أمره: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم. صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور}. [الشورى/ 52، 53]. وقال سبحانه: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}. [آل عمران/ 31]، وقال تقدست أسماؤه: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر}. [النساء/ 59]. وقال عز مجده: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}. [النساء/ 65]. وقال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}. [الحشر/ 7]...إلى آخر الآيات الكثيرة في هذا المعنى.

    وفي الحديث الشريف: ما رواه أبو داود في سننه عن المقداد بن معديكرب رضي الله عنه أن رسول الله e وعلى آله قال: "ألا إنني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان متكيء على أريكته يقول: عليكم بالقرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه".

    وفي الحديث الصحيح عن العرباض بن سارية رضي الله عنه مرفوعا: "قد تركتكم على البيضاء ليلها ونهارها، لا يرجع بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ...". الحديث.

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "إني قد خلفت فيكم ما لن تضلوا بعدهما أبدا ما أخذتم بهما: كتاب الله وسنتي، فلن يتفرقا حتى يردا علي الحوض".
    ولذلك فإن إنكار السنة إنما هو إنكار لجل الدين الإسلامي، فعلاوة على أنه إنكار غير مبني على أسس علمية، ولا قواعد يقينية، بل جله توهم ورمي بالظن، علاوة على ذلك هو تبرؤ من الدين، وكفر بقواعده اليقينية وأسسه ومبانيه.

    فالسنة النبوية واجبة عقلا بثبوت الرسالة النبوية، وواجبة شرعا بنص القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وثابتة نقلا عن النبي  بتدوينها منذ حياته عليه السلام، وتتابع تمحيصها جيلا وراء جيل إلى أن وصلتنا غضة طرية، لا تشوبها شائبة، ولا يعتورها إغفال.
    وشبهة عدم تدوين السنة في الصدر الأول؛ مردودة بإثبات ذلك، وتواتر الأخبار وتعاضدها على تدوين النبي  في عصره، وتدوين الصحابة بعده، وتدوين التابعين وتابع التابعين. فكل ما يبنى على ذلك من دخول الإسرائيليات وغيرها في السنة مردود.

    وشبهة الطعن في الصحابة الكرام، إما بحجة إكثار بعضهم للرواية، أو تداخل بعضهم الآخر في السياسة وصراعاتها، وما يتفرع عن ذلك، مردودة بعدم انفرادهم فيما رووه، فلم يغربوا أولا، ولم يتفردوا ثانيا، ولم يحدثوا بما فيه نصرة لمذاهبهم وإن كان لا شيء في ذلك إن ثبتت روايته عن غيرهم.
    وشبهة تأثر الرواية بالدخلاء في الدين، والجهلاء، والعجم، وتراكم ذلك جيلا وراء جيل، مردودة بذكر تلك المنظومة الكبرى من العلوم العظيمة التي سنتها الأمة حماية للحديث متنا وسندا، منبعا ووضعا، بحيث بقيت مثالا لأرقى وسائل التوثيق العلمي في العصر الحديث.

    فلم يبق أمام العالم المنصف إلا التسليم بصحة السنة النبوية، وحتمية ثبوتها، وضمان استمرارها إذ هي وحي يوحى، رزقنا الله تعالى التسليم لنبيه، وحسن الاتباع ودوامه، وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد النبي الأمي العربي الهادي المهدي وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.


    وكتبه الفقير إلى الله الغني
    محمد حمزة بن محمد علي
    ابن محمد المنتصر بالله الكتاني الحسني
    الرباط: 13 رمضان الأبرك 1429
    الموافق: 13 سبتمبر عام 2008

    الهوامش:
    ( ) "الإجازة الشنقيطية في الكتب الستة وغيرها" تأليف: الإمام محمد بن جعفر الكتاني.
    ( ) "موقف العقل والعلم والعالم ج4ص59 لشيخ الإسلام مصطفى صبري رحمه الله.
    ( ) "المقالات العلمية" ص234، 253. بإحالة العلامة عبد الرحمن المعلمي رحمه الله في مقدمة تقدمة كتاب "الجرح والتعديل".
    ( ) "المستشرقون والحديث النبوي" ص30.
    ( ) "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" ص107.
    ( ) رواه الدارمي برقم (588)، والمروزي في "السنة" رقم (28، 116)، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" رقم (99)، وصححه الحافظ ابن حجر كما في "فتح الباري" (13/ 291).
    ( ) رواه الحاكم في: "المستدرك على الصحيحين" (1/ 93)، والبيهقي في "الشعب" (10/ 114)، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (رقم 90) واللفظ له.
    ( ) رواه بهذا اللفظ الإمام أحمد في مسنده (10720) عن أبي سعيد الخدري، والترمذي في سننه (3788)، عن أبي سعيد الخدري وزيد بن أرقم رضي الله عنهما، وقال عقبه: "هذا حديث حسن غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه". والطبراني في "الصغير" (1/ 135) عن أبي سعيد أيضا، وهو متواتر ينظر تخريجه في تخريجنا لأحاديث "الأربعين الكتانية في فضائل آل بيت خير البرية". المطبوع بدار الكتب العلمية.
    ( ) "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" ص352.
    ( ) "جامع بيان العلم وفضله" لابن عبد البر (2/ 191).
    ( ) "جامع بيان العلم وفضله" (2/ 191).
    ( ) "جامع بيان العلم وفضله" (2/ 191).
    ( ) "سنن الدارمي" رقم 594.
    ( ) "سنن الدارمي" رقم 121.
    ( ) "السنة قبل التدوين" ص23.


    -انتهى-

  8. #8

    افتراضي

    منقول من مجلة التوحيد

    http://www.altawhed.com/detail.asp?I...ge&Inmagflag=1


    ===========

    مسائل في السنة
    إعداد : متولي البراجيلي
    الحلقة الأولى



    الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
    هذه بعض مسائل في السنة تكثر الحاجة إلى معرفتها والوقوف عليها الفينة بعد الأخرى، وذلك لأهميتها التي تستمدها من تعلقها بالسنة- المصدر الثاني للشتريع.

    أولاً: تعدد تعريفات السنة:
    تتعدد تعريفات السنة- اصطلاحًا- بين الأصوليين والفقهاء والمحدثين، وهذا التعدد قد يؤدي إلى بعض الأخطاء، وذلك عندما نستخدم معنى اصطلاحيّا للسنة خاصًا بطائفة من أهل العلم كالفقهاء مثلاً، ثم نعممه على كافة معاني السنة الواردة في النصوص المختلفة من غير تفريق بين استخدام وآخر أو بين معنى وآخر. (وسنرجع لبيان ذلك بعد ذكر تعريفات السنة).


    1- تعريف السنة عند الأصوليين:


    هي كل ما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال وتقريرات.
    أو بتعريف آخر: تشمل قوله صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره وكتابته وإشارته وهمَّه وتركه.
    وبعد ذلك تحمل السنة على رتبتها من وجوب أو ندب أو إباحة أو تحريم أو كراهة حسب ما يقتضيه القول أو الفعل أو التقرير.
    فائدة: الحكم التكليفي وأقسامه: الحكم التكليفي هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير. فالخطاب الشرعي إما أن يكون طلبًا أو تخييرًا، فإن كان طلبًا فهذا يشمل طلب الفعل وطلب الترك، والطلب قد يكون جازمًا وغير جازم. فإن كان الطلب جازمًا فهو الواجب، وإن كان غير جازم فهو المندوب. وإن كان النهي جازمًا فهو المحرم، وإن كان غير جازم فهو المكروه، ويبقى ما لا يتعلق به أمر أو نهي وهو المباح، فحاصل هذه الأقسام خمسة، وبيانها كالتالي:
    1- الواجب: هو الخطاب الدال على طلب الفعل طلبًا جازمًا بحيث يتعلق الذم بتاركه، مثل قوله تعالى: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة {البقرة: 43}. وذلك بأن يقترن الطلب بما يدل على تحتيم فعله، إما بصيغة الطلب نفسها، أو بترتيب العقوبة على تركه أو بأية قرينة شرعية أخرى.
    2- المندوب: هو ما طلب الشارع فعله من المكلف طلبًا غير جازم ولا يتعلق الذم بتاركه، وذلك بأن تكون صيغة طلبه نفسها لا تدل على تحتيمه، أو اقترنت بطلبه قرائن تدل على عدم التحتيم، مثل قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه {البقرة: 282}. فالأمر هنا للندب لا للوجوب، لأنه توجد قرينة في الآية التالية لهذه الآية، وهو قوله تعالى: فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته {البقرة: 283}. فإنها تشير إلى أن الدائن له أن يثق بمدينه ويأتمنه من غير كتابة الدين عليه، وإن كانت الآية وردت في سياق السفر تغليبًا لا حصرًا فيه.
    ومثل قوله تعالى: فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا {النور: 33}. فمكاتبة(1) المالك مندوبة، والقرينة أن المالك حر التصرف في ملكه، فهذه قرينة شرعية، ومثل حديث النبي صلى الله عليه وسلم : "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل". فترك للمكلف الاختيار، مما يدل على الندب؛ لأن الواجب لا تخيير فيه. كما يعرف المندوب أيضًا بالقرينة الصارفة عن الإلزام، مثل ترك الرسول صلى الله عليه وسلم لأمر من الأمور في بعض الأوقات فأنه يدل على أنه مندوب.
    3- المحرَّم: هو ما طلب الشارع الكف عن فعله طلبًا جازمًا بحيث يتعلق بفاعله ذم، مثل قوله تعالى: ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة {الإسراء: 32}، فالنهي هنا يدل على أنه حتمي. أو يترتب على الفعل عقوبة، مثل قوله تعالى: والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة {النور: 4}. ومثل حديث النبي صلى الله عليه وسلم : "لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة...".
    4- المكروه: هو ما طلب الشارع من المكلف الكف عن فعله لا على وجه الحتم والإلزام وبحيث لا يتعلق الذم بفاعله، وذلك بأن تكون الصيغة نفسها دالة على ذلك، كأن يقال إن الله تعالى كره لكم كذا، أو اقترن النهي بما يدل على الكراهة لا التحريم، مثل قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم {المائدة:101}، ومن القرائن على التفرقة بين الحرام والمكروه ترتيب العقوبة على الفعل وعدم ترتيبها. مثل حديث أم عطية رضي الله عنها: نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا. فقولها: ولم يعزم علينا أفادت الكراهة لا التحريم.
    5- المباح: وهو ما خيَّر الشارعُ المكلف بين فعله وتركه، فلا يتعلق بفعله أو تركه مدح ولا ذم، أو رفع الإثم عن الفعل، مثل قوله تعالى: ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء، وقوله تعالى: وكلوا واشربوا ولا تسرفوا.
    ثانيًا: تعريف السنة عند الفقهاء: تكون بمعنى الندب أو استحباب فعل الشيء، وقد تطلق عندهم في مقابل البدعة، فيقولون: فلان على سنة، فلان على بدعة.


    ثالثًا: تعريف السنة عند أهل الحديث:


    إذا وردت كلمة سنة في حديث النبي صلى الله عليه وسلم فلا تدل على المعنى الاصطلاحي أو المعنى الفقهي، إنما تكون بمعنى الطريقة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم : "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي...".
    {أبو داود والترمذي}
    فمن أين يأتي الخطأ بعد أن بيَّنا معاني السنة المتعددة؟يأتي من التعميم، فيعمد أحدنا- مثلاً- لمعنى السنة عند الفقهاء، وهي مرادف للمستحب والمندوب، الذي هو قسم من أقسام الحكم التكليفي الخمسة كما بينا، فيجعل كل ما ورد من سنة النبي صلى الله عليه وسلم من باب المستحب والمندوب، وبالتالي فلا شيء عليه إن لم يفعل السنة لأنها كلها من باب المستحبات، وهذا خطأ بيّن كما سنرى إن شاء الله.
    ثانيًا: مكانة السنة في الشرع:
    الشرع قائم على أصلين هما القرآن والسنة، فمن أنكر السنة هدم الدين، فالسنة إما أن تستقل بالتشريع وإمَّا أن تفسِّر القرآن وتبينه، وتقيد مطلقه، وتخصص عامَّه.
    1- استقلال السنة بالتشريع:
    قد تُثبت السنة حكمًا سكت عنه القرآن، فيكون هذا الحكم ثابتًا بالسنة، ولا يدل عليه نص في القرآن، فيحرم النبي صلى الله عليه وسلم كما حرم الله تعالى، ومن أمثلة ذلك:
    أ- تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها.
    ب- تحريم أكل كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطيور.
    ج- تحريم لبس الحرير والتختم بالذهب على الرجال.
    د- التحريم بالرضاعة مثل ما يحرم من النسب.
    ه- تحريم الحمر الأهلية وتحريم زواج المتعة.
    كما أن السنة توجب ما ليس في القرآن بنصه، ومن أمثلة ذلك:
    أ- وجوب خطبة الجمعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعلها ويداوم عليها، ولم يثبت أنه تركها إلى أن لقي الله عز وجل، وقد قال صلى الله عليه وسلم : "صلوا كما رأيتموني أصلي".
    ب- وجوب النية في الصلاة؛ لحديث: "إنما الأعمال بالنيات...".
    ج- وجوب تكبيرة الإحرام؛ لحديث: مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم. {صحيح ابن ماجه وغيره}
    د- وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم : "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". {متفق عليه}
    وباقي أركان الصلاة واجبة استدلالاً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته. {متفق عليه}
    ه- وجوب زكاة الفطر، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم : "فرض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين". {متفق عليه}
    2- بيان السنة للقرآن:
    السنة مبينة لما أُجمل في القرآن، ومخصصة لعمومه، ومقيدة لمطلقه، والبيان والخاص والمقيد مقدم على المجمل والعام والمطلق، إذ العمل بهذه الثلاثة ( المجمل والعام والمطلق) متوقف على تلك (المفصَّل والمخصص والمقيد) ما وُجدت.
    ومن هنا قال بعض السلف: إنما هو الكتاب والسنة، والكتاب أحوج إلى السنة، من السنة إلى الكتاب.
    ومن أمثلة بيان السنة للقرآن:
    ففي تخصيص العام: قال الله تعالى: حرمت عليكم الميتة والدم... {المائدة: 3}. فخصص النبي صلى الله عليه وسلم العموم هنا بحديثه: "أُحلَّ لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان فالحوت (السمك) والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال".
    {السلسلة الصحيحة}
    وكذلك المحرّمات في النكاح، بعد أن ذكر الله تعالى أصنافهن، قال تعالى: وأحل لكم ما وراء ذلكم {النساء: 24}، فخصص النبي صلى الله عليه وسلم العموم هنا بحديثه: "لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها" {متفق عليه}.
    وفي تقييد المطلق: قال الله تعالى: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما {المائدة:38}، فأطلق سبحانه وتعالى (اليد) وقيدها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها الكف إلى الرسغ.
    وكذلك مسح الكفين في التيمم، فقد قال الله تعالى: فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه {المائدة: 6}. وقيد النبي صلى الله عليه وسلم التيمم هنا بالكفين (حديث التيمم إلى المرفقين ليس بصحيح).
    أما في تبيين المجمل وتفصيله وتفسيره:
    فقد أجمل الله تعالى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في قوله: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، ولم يبين سبحانه وتعالى كيفية ذلك في القرآن، وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم عدد الركعات لكل وقت وكيفية الأداء، وصلى على المنبر وهم ينظرون إليه وهو يقول صلى الله عليه وسلم : "صلوا كما رأيتموني أصلي".
    وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم شروط الزكاة ومقدار الأنصبة لكل نوع على حدة، وكذلك الحج أجمله الله تعالى، وفسَّره النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع قائلاً: "خذوا عني مناسككم".


    ثالثًا: وجوب اتباع السنة:


    أمر الله تعالى بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في نحو أربعين موضعًا من كتاب الله، كقوله تعالى: قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين {: 32}. وقوله: وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله {النساء: 64}. وقوله: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما {النساء: 65}.
    وهذه النصوص وغيرها تؤكد وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأن طاعته من طاعة الله، وقد نهى الله تعالى المؤمنين عن التقديم بين يدي الله ورسوله فقال: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم {الحجرات: 1}.
    قال مجاهد : لا تقدموا بين يدي الله ورسوله {الحجرات: 1}، لا تفتاتوا عليه بشيء حتى يقضيه الله على لسان رسوله، قال شيخ الإسلام فعلى كل مؤمن أن لا يتكلم في شيء من الدين إلا تبعًا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يتقدم بين يديه، بل ينظر ما قال فيكون قوله تبعًا لقوله وعمله تبعًا لأمره، فهكذا كان الصحابة ومن سلك سبيلهم من التابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين. {مجموع الفتاوى: ج13}.
    وفي قوله تعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا {الحشر: 7}.
    نجد أن السنة كلها مندرجة تحت هذه الآية الكريمة، أي أنها ملزمة للمسلمين للعمل بالسنة النبوية فيكون الأخذ بالسنة أخذًا بكتاب الله، ومصداق ذلك قوله تعالى: وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى {النجم:3، 4}.
    والواقع أن العمل بهذه الآية الكريمة: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا هو من لوازم نطق المسلم بالشهادتين؛ لأن قوله: أشهد أن لا إله إلا الله، اعتراف لله تعالى بالألوهية وبمستلزماتها، ومنها إرسال الرسل إلى خلقه وإنزال كتبه.
    وقوله: أشهد أن محمدًا رسول الله، إعلام من الله لخلقه برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا يستلزم الأخذ بكل ما جاء به هذا الرسول الكريم عن الله سبحانه وتعالى، ولا يجوز أن يعبد الله إلا بما جاء به رسول الله، ولا يحق له أن يعصي الله بما نهاه عنه رسول الله. {أضواء البيان}.
    وأما الأدلة من السنة على وجوب اتباعها فكثيرة، منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله". {متفق عليه}.
    وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "كل أمتي يدخلون الجنة إلاَّ من يأبى". قيل: يا رسول الله، ومن يأبى؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى". {البخاري}
    وقد اتفق السلف على أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم يجب اتباعها مطلقًا، لا فرق في ذلك بين السنة الموافقة أو المبينة للكتاب وبين السنة الزائدة على ما في الكتاب.
    قال عبد الرحمن بن مهدي: والزنادقة والخوارج وضعوا ذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : "ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله فإن وافق كتاب الله فأنا قلته، وإن خالف كتاب الله فلم أقله، وإنما أنا موافق كتاب الله وبه هداني الله".
    وقد عارض أهل العلم هذا الحديث وقالوا: نحن نعرض هذا الحديث على كتاب الله قبل كل شيء ونعتمد على ذلك، قالوا: فلما عرضناه على كتاب الله وجدناه مخالفًا لكتاب الله لأنا لم نجد في كتاب الله ألاَّ يقبل من حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا ما وافق كتاب الله، بل وجدنا كتاب الله يطلق التأسي، والأمر بطاعته، ويحذر المخالفة عن أمره.
    {جامع بيان العلم وفضله}
    وقال ابن القيم: فما كان من السنة زائدًا على القرآن فهو تشريع مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم تجب طاعته فيه ولا تحل معصيته، أمَّا إذا قيل أنه لا تجب طاعته إلاَّ فيما وافق القرآن لا فيما زاد عليه لم يكن له طاعة خاصة تختص به، وقد قال تعالى: من يطع الرسول فقد أطاع الله {النساء:80} {معالم أصول الفقه للجيزاني، التأسيس: مصطفى سلامة}
    وفي الحديث، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته، يأتيه الأمر مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: بيننا وبينكم هذا القرآن، فما وجدنا فيه من حلال حللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا إني أوتيت القرآن (الكتاب) ومثله معه". {أخرجه الترمذي ح2663}
    فطريقة أهل السنة والجماعة اتباع آثار الرسول صلى الله عليه وسلم باطنًا وظاهرًا واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، واتباع وصية الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة". ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، ويؤثرون كلام الله على كلام غيره من كلام أصناف الناس، ويقدمون هدي محمد صلى الله عليه وسلم على هدي كل أحد، وبهذا سموا أهل الكتاب والسنة. {فتاوى ابن تيمية: ج3}
    وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: "من يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيما".
    {خطبة الحاجة للألباني}
    وقال صلى الله عليه وسلم : "لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان".
    {صحيح الجامع 7406}
    ففي الطاعة قرن اسم الرسول باسمه بحرف الواو، وفي المشيئة: أمر أن يجعل ذلك بحرف ثم، وذلك لأن طاعة الرسول طاعة لله، بخلاف المشيئة، فليست مشيئة أحد من العباد مشيئة لله، ولا مشيئة الله مستلزمة لمشيئة العباد، بل ما شاء الله كان وإن لم يشأ الناس، وما شاء الناس لم يكن إن لم يشأ الله.
    أمثلة من اتباع السلف الصالح لسنة النبي صلى الله عليه وسلم :
    - لما خلع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نعليه في الصلاة (وذلك عندما أخبره جبريل عليه السلام أن فيهما أذى) خلع الصحابة كلهم نعالهم، فلما انتهى صلى الله عليه وسلم سألهم عن خلعهم نعالهم؟ قالوا: رأيناك فعلت ففعلنا!
    فبمجرد رؤيتهم النبي صلى الله عليه وسلم يفعل فعلوا بدون تفكير مع أنهم لم يعلموا الحكم قبل إخباره إياهم.
    وعن عابس بن ربيعة قال: رأيت عمر بن الخطاب يقبل الحجر الأسود ويقول: إني أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك. {متفق عليه}
    وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لست تاركًا شيئًا كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، إني أخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ.
    {الإبداع في مضار الابتداع: علي محفوظ}
    وكان السلف يشددون النكير على كل من يشعرون أنه خالف السنة أو آثر رأيه عليها حتى كانوا يهجرون لذلك:
    فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا أستاذنّكم إليها".
    فقال بلال بن عبد الله: والله لنمنعهن. فأقبل عليه عبد الله فسبَّه سبًا سيئًا، وقال: أُخبرك عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وتقول: والله لنمنعهن؟ {مسلم}
    - وعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه أنه رأى قريبًا له يخذف- أي يرمي حصاة بالسبابة والإبهام- فنهاه، وقال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف، وقال: إنها لا يصادُ به صيدًا ولا ينكأ به عدوًا ولكنها قد تكسر السن وتفقأ العين، ثم عاد (إلى الخذف مرة ثانية)، فقال: أحدثك أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف)، ثم عدت تخذف، لا أكلمك أبدًا. {متفق عليه}
    - وقيل لأبي حنيفة: إذا قلت قولاً وكتاب الله يخالفه، قال: اتركوا قولي بكتاب الله، فقيل: إذا كان خبر رسول اللَّه يخالفه! قال: اتركوا قولي بخبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقيل: إذا كان قول الصحابة يخالفه، قال: اتركوا قولي بقولهم.
    وقال مالك: كل أحدٍ يؤخذ من قوله ويرد إلاَّ صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم . يعني: رسول الله.
    وقال الشافعي: إذا صحَّ الحديث، فاضربوا بقولي عرض الحائط.
    وقال أحمد: لا تقلدوني، ولا تقلدوا مالكًا، ولا الشافعي، ولا الأوزاعي، ولا الثوري، وخذوا من حيث أخذوا. {صقل الأفهام الجلية: مصطفى سلامة}
    وقد اشتد الشافعي على رجل أعرض عن السنة وأراد رأي الشافعي، فعن البخاري قال: سمعت الحميدي يقول: كنا عند الشافعي رحمه الله فأتاه رجل فسأله عن مسألة، فقال: قضى فيها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بكذا، فقال رجل للشافعي: ما تقول أنت؟ فقال: سبحان الله! تراني في كنيسة! تراني في بيعة! تراني على وسطي زنار! أقول لك: قضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وأنت تقول: ما تقول أنت؟
    {شرح الطحاوية}
    وللحديث بقية بإذن الله تعالى.

    =====================
    مسائل في السنة
    الحلقة الثالثة

    الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
    وقف فريق من المستشرقين ومنكري السنة موقفًا مغرَّضًا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، محاولين الطعن في حجيتها، مستندين في ذلك إلى الأحاديث التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن كتابة السنة، على العكس من القرآن الذي كان يأمر بكتابته ويشرف على ذلك بنفسه صلى الله عليه وسلم ، قالوا: ولم تجمع السنة إلا على رأس المائة الثانية من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم مما عرَّضها للتغيير والتبديل والنسيان، فضلاً عن الدخيل عليها من الكتابيين والشعوبيين، ويتخذون ذلك متكأَ للقول بعدم حجيتها وأن الحجة للقرآن فقط الذي كتب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم .
    وإذا تأملنا في موقف هؤلاء من أحاديث الكتابة والنهي عنها، نجدهم فريقين، فريق منهم يذكر أحاديث النهي وحدها ولا يشير من قريب أو بعيد إلى أحاديث الإذن بالكتابة، وكأنها عندهم لم تكن، وهم بهذا يبرهنون على أنهم طلاب باطل لا طلاب حق وأنهم أبعد ما يكونون عن المنهج العلمي النزيه.
    أما الفريق الثاني فيعترفون بأحاديث الإذن وهم كارهون، ثم يقفون منها موقفين: الأول: هو الطعن فيها بعدم الصحة.
    الثاني: القول بأن أحاديث الإذن كانت أولاً ثم جاء حديث النهي ثانيًا فنسخ الإذن في كتابة الحديث، وصار النهي هو الموقف النهائي لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
    وسنرى- إن شاء الله- الموقف الصحيح في هذه القضية وما يتعلق بها بشيء من التفصيل.
    أولاً: الأحاديث الواردة في كتابة السنة والنهي عنها:

    القسم الأول: أحاديث الإذن بالكتابة:
    ما رواه الإمام أحمد بسنده عن عبد الله بن عمرو أنه قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ورسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكتُ عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقال: "اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق".
    حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو في البخاري وغيره-: لم يكن أحد من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أكثر حديثًا مني إلاَّ ما كان من عبد الله بن عمرو بن العاص فإنه يكتب وأنا لا أكتب.
    - حديث أبي هريرة: كان رجل من الأنصار يجلس إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيسمع منه الحديث فيعجبه ولا يحفظه، فشكا ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال: استعن بيمينك وأومأ بيده إلى الخط. {الترمذي}.
    وفي خطبة الوداع فإن أبا شاة اليمني قال: اكتبوا لي يا رسول الله، فقال: اكتبوا لأبي شاة. {متفق عليه}.
    إن عليًا رضي الله عنه سُئل: هل عندكم من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شيء سوى القرآن؟
    فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا أن يعطي الله عبدًا فهمًا في كتابه، وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل (الدية) وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر.
    {صحيح البخاري}
    وروى البخاري بسنده أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما اشتد وجعه قال: ائتوني بكتاب، أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده.
    يقول ابن حجر في الفتح: وفي هذا الحديث دليل على جواز كتابة العلم، لأنه همَّ أن يكتب لأمته كتابًا يحصل معه الأمن من الاختلاف، وهو لا يهم إلا بحق.
    - وثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم كتب كتاب الصدقات والديات والفرائض والسنن لعمرو بن حزم وغيره.
    وقد فهم الصحابة- رضي الله عنهم- أنه لا مانع من كتابة الأحاديث، وتوثيقها بها، وقاموا بتنفيذ ذلك، ومما روي لنا في هذا الصدد:
    1- أن عبد الله بن عمرو بن العاص كتب صحيفة سماها الصادقة.
    2- وكتب أبو بكر لأنس بن مالك فرائض الصدقة التي سنها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقد توارث هذا الكتاب ثمامة بن عبد الله بن أنس بعد أن حدثه به جده.
    3- وروى الرامهرمزي والخطيب البغدادي وابن عبد البر كل بإسناده أن عمر بن الخطاب قال: "قيدوا العلم بالكتاب". وصحَّ مثله عن أنس رضي الله عنه.
    4- وروى أبو خيثمة بسنده عن علي رضي الله عنه أنه قال: من يشتري مني علمًا بدرهم.
    قال أبو خيثمة: يقول: يشتري صحيفة بدرهم يكتب فيها العلم. وزاد ابن سعد في روايته: فاشترى الحارث الأعور صحفًا بدرهم، ثم جاء بها عليًا، فكتب له علمًا كثيرًا.
    5- وجمع الحسن بن علي رضي الله عنهما بنيه وبني أخيه، فقال: يا بني إنكم اليوم صغار قوم، أوشك أن تكونوا كبار قوم، فعليكم بالعلم، فمن لم يحفظ منكم فليكتبه.
    6- وكتب ابن عباس رضي الله عنهما حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وكان يأتي أبا رافع الصحابي، ويقول: ما صنع النبي صلى الله عليه وسلم يوم كذا، ومع ابن عباس ألواح يكتب فيها، وقد شهدت بهذا الصحابية الجليلة سلمى مولاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقالت: رأيت عبد الله بن عباس يكتب عليها عن أبي رافع شيئًا من فعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . وحدَّث أبو خيثمة أن ابن عباس كان يحض على قيد العلم، ويروي ابن سعد أنه كانت له كتب حمل بعير.
    7- وكتب أنس بن مالك من حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وقد مرَّ أنه نقل كتاب ابي بكر في الصدقة، وقد روى مسلم بسنده أنه كتب حديثًا عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم غير كتاب، أبي بكر.
    ويروي الخطيب بسنده عن عبد الله بن المثنى قال: حدثني عماي: النضر وموسى ابنا أنس عن أبيهما أنس بن مالك أنه أمرهما بكتابة الحديث والآثار عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم .
    8- وإذا كان أبو هريرة لا يكتب، ويحفظ الحديث حفظًا جيدًا ببركة دعاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم له بالحفظ، فإن تلاميذه قد كتبوا له حديثه، وأخذ هذه الكتب، فحفظها عنده، حتى لا يغير في حديثه أو يبدل فيه، وحتى تكون مقياسًا عنده لما ينسب إليه من الأحاديث الكثيرة التي بثها في التابعين- كما روى البخاري- ثمانمائة نفس.
    9- وكتب سمرة بن جندب رضي الله عنه ما رواه من الأحاديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وصحيفته مشهورة عند المحدثين.
    10- وكتب جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- صحيفة اشتهرت فيما بعد بصحيفة جابر بن عبد الله، وقيل: إن مجاهد بن جبر كان يحدث منها، وإذا علمنا أن هذا الصحابي الجليل قد حمل عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم علمًا كثيرًا نافعًا- كما يقول الذهبي- أدركنا أنه قد دوَّن الكثير من هذا العلم في هذه الصحيفة، وقد أخرج الإمام مسلم في جامعه الصحيح من هذه الصحيفة في مناسك الحج ما يقرب من الثلاثين حديثًا، أطولها الحديث الذي رواه جابر في حجة الوداع.
    {وقد أخرجه الشيخ الألباني في كتاب مفيد بجميع زياداته ومروياته}
    11- وروى الدارمي بسندٍ حسن أن أبا أمامة الباهلي أجاز كتابة العلم، فقد سأله أحد تلاميذه، وهو الحسن بن جابر عن كتابته، فقال: لا بأس بذلك.
    12- وكتب عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وأرسله إلى بعض أصحابه.
    13- وجمعت أسماء بنت عميس رضي الله عنها بعض أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم .
    14- وكتب المغيرة بن شعبة إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم بعض الحديث.
    - فكما نرى أن هذا كان اتجاهًا عامًا، فقد أحصى الدكتور مصطفى الأعظمى في كتابه "دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه" أكثر من خمسين صحابيًا كتبوا الحديث الشريف أو كُتب لهم.
    وقد أخذ التابعون الحديث عن الصحابة وكثر تدوين السنة في عصرهم مثل صحيفة همام بن منبه عن أبي هريرة، وكذا نسخة الأعرج عن أبي هريرة، وصحيفة أبي الزبير عن جابر بن عبد الله. {دفاع عن السنة د. أبو شهبة، توثيق السنة د. رفعت فوزي، صحيفة همام بن منبه د. رفعت فوزي}
    القسم الثاني: أحاديث النهي عن الكتابة:
    1- حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم : لا تكتبوا شيئًا عنِّي إلا القرآن، ومن كتب عني شيئًا فليمحه. {صحيح مسلم}
    أما باقي ما ورد من أحاديث في النهي عن الكتابة- على قلتها- لا تسلم من الطعن، مثل حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن أكتب الحديث، فأبى أن يأذن لي.
    وفي رواية: استأذنا النبي صلى الله عليه وسلم في في الكتاب فأبى أن يأذن لنا- وفي سند هذا الحديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف.
    - وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ونحن نكتب الأحاديث فقال: ما هذا الذي تكتبونه؟ قلنا: أحاديث سمعناها منك، قال: أكتابًا غير كتاب الله تريدون؟ ما أضل الأمم من قبلكم إلا ما اكتتبوا من الكتب مع كتاب الله... وفي رواية فجمعناها في صعيد واحد فألقيناها في النار.
    وراوي هذا الحديث أيضًا هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وسبقت الإشارة إلى ضعفه- وحديث زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، أمرنا ألا نكتب شيئًا من حديثه.
    وفي رواية: إن النبي صلى الله عليه وسلم : نهى أن يُكتب حديثه.
    وفي سند هذا الحديث كثير بن زيد وهو ضعيف، بالإضافة إلى علة أخرى في الحديث وهي الانقطاع.
    فلم يبق من أحاديث النهي إلاَّ حديث أبي سعيد الذي رواه الإمام مسلم، مع ملاحظة أن رواته تفردوا به، قال الخطيب البغدادي: تفرد همام بروايته هذا الحديث عن زيد بن أسلم هكذا مرفوعًا.
    ثانيًا: مسالك العلماء في الجمع بين أحاديث الإذن بالكتابة والنهي عنها:
    1- أن النهي خاص بوقت نزول القرآن خشية التباسه بغيره، والإذن في غير ذلك الوقت.
    2- أن النهي خاص بكتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة، لأنهم كانوا يسمعون تأويل الآية فربما كتبوه معها، فنهوا عن ذلك خوف الاشتباه.
    والإذن إنما كان بكتابة الحديث في صحف مستقلة ليس فيها شيء من القرآن، ولهذا الاشتباه الذي يحصل من كتابة تأويل الآية معها، ذهب بعض العلماء إلى أنه يحتمل أن تكون القراءة الشاذة نشأت من أن الصحابي كتب تفسير كلمة من القرآن معها، فظن التابعي أن ذلك التفسير قرآن، أو من أن الصحابي ذكر التفسير للتابعين فكتبه هذا مع القرآن، فظن من بعده أنه منه.
    3- أن النهي خاص بكتّاب الوحي المتلو (القرآن) الذين كانوا يكتبونه في صحف لتحفظ في بيت النبوة، فلو أنه أجاز لهم كتابة الحديث لم يؤمن أن يختلط القرآن بغيره، والإذن لغيرهم.
    4- أن النهي ممن أمن عليه النسيان ووثق بحفظه، وخيف اتكاله على الخط إذا كتب، والإذن لمن خيف نسيانه ولم يحفظه أو لم يخف اتكاله على الخط إذا كتب.
    5- أن النبي صلى الله عليه وسلم خصَّ بالإذن عبد الله بن عمرو لأنه كان قارئًا للكتب المتقدمة ويكتب بالسريانية والعبرية، وكان غيره من الصحابة أميين لا يكتب منهم إلا الواحد والاثنان، وإذا كتب لم يتقن ولم يصب التهجي، فلما خشي عليهم الغلط فيما يكتبون نهاهم، ولمَّا أمن على عبد الله بن عمرو ذلك أذن له.
    وهذه الأقوال المتقدمة أصحابها لا يقولون بالنسخ، أما القول السادس:
    6- أن يكون النهي من منسوخ السنة بالسنة، أي أن أول الأمرين النهي وآخر الأمرين الإباحة.
    وقد قال بالنسخ جمهور العلماء على ما حكاه ابن تيمية.
    ولعل مما يؤيد القول بالنسخ أن بعض أحاديث الإذن متأخرة التاريخ، فأبو هريرة راوي حديث الكتابة أسلم عام سبع، وقصة أبي شاة كانت في السنة الثامنة، عام الفتح. {الرد على من ينكر حجية السنة، بتصرف، د- عبد الغني عبد الخالق، دفاع عن السنة د. أبو شهبة}
    ومما يؤيد القول بالنسخ وأن الإذن بالكتابة كان هو آخر الأمرين، كتابة الصحابة للحديث- كما رأينا- وكثرة ذلك عنهم، وهم أقرب الناس لعصر التشريع زمنًا وفقهًا. وأبو سعيد الخدري رضي الله عنه راوي حديث النهي الذي في صحيح مسلم، وقد أوقفه بعض العلماء عليه، يلح دائمًا عليه تلاميذه أنهم يريدون الكتابة، بل إن ابنه يكتب حديث أبيه، ومع هذا الإلحاح فإن أبا سعيد لا يرى علة لهذا المنع إلا أنه لا يريد أن يجعل الحديث كالقرآن في مصاحف، ويريد لهم أن يحفظوا، كما حفظ هو وغيره من الصحابة، ولا يذكر أن العلة هي أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهي عن ذلك. {توثيق السنة د. رفعت فوزي}
    ثالثًا: هل الكتابة من لوازم الحجية؟:
    الحجة إنما تحصل بعدالة حاملها، وهو أن يحمل الثقة العدل عن الثقة العدل حتى يوصله لمن مثله في هذه الصفة، فالكتابة ليست من لوازم الحجية وأن صيانة الحجة غير متوقفة عليها وأنها ليست السبيل الوحيد لذلك.
    فكان النبي صلى الله عليه وسلم يرسل السفراء من الصحابة، إلى القبائل المختلفة فيدعون الناس إلى الإسلام ويعلمونهم أحكامه ويقيمون بينهم شعائره، ولم يرسل مع كل سفير مكتوبًا من القرآن لإقامة الحجة على الأحكام التي يبلغها السفير للرسل إليهم ويلزمهم بها.
    مثلاً الصلاة وهي القاعدة الثانية من قواعد الإسلام، لا يمكن للمجتهد أن يهتدي إلى كيفيتها من القرآن وحده، بل لا بد من بيان الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولم يثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بكتابة كيفيتها التي بينها صلى الله عليه وسلم بفعله وقوله، ولو كانت الكتابة من لوازم الحجية لما جاز أن يترك النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر الخطير بدون أن يأمر بكتابته التي تقنعهم بالحجية كما هو الفرض.
    رابعًا: الكتابة دون الحفظ قوة:
    فعلماء الأصول إذا تعارض عندهم حديث مسموع وحديث مكتوب يرجحون المسموع، فعلماء الحديث اتفقوا على صحة رواية الحديث بالسماع، واختلفوا في صحة روايته بطريق المناولة أو المكاتبة، فمنهم من أجازها ومنهم من لم يجوزها، قال ابن حجر: وأقول: شرط قيام الحجة بالمكاتبة أن يكون الكتاب مختومًا وحامله مؤتمنًا، والمكتوب إليه يعرف خط الشيخ، إلى غير ذلك من الشروط الدافعة لتوهم التغيير، والله أعلم.
    والعرب كانوا أمة أمية يندر فيهم من يعرف الكتابة، ومن يعرفها منهم قد لا يتقنها فيتطرق إلى مكتوبه احتمال الخطأ احتمالاً قويًا، وإذا اتقن الكاتب فقد لا يتقن قراءتها القارئ منهم فيقع اللبس والخلط خصوصًا قبل وضع قواعد النقط والشكل والتمييز بين الحروف، لذلك كان جل اعتمادهم في سائر أحوالهم على الحفظ حتى قويت هذه الملكة عندهم، وندر أن يقع منهم خطأ أو نسيان لما حفظوه، وهذا مشاهد فيما بيننا، فإننا نجد الأعمى أقوى حفظًا لما يسمعه من البصير لأنه جعل كل اعتماده على ملكة الحفظ.
    والأخبار التي تدل على قوة الحفظ عند العرب كثيرة يعلمها الخاصة والعامة، ولقد كان كثير من الصحابة والتابعين مطبوعين على الحفظ مخصوصين بذلك كابن عباس والشَّعبي والزهري والنخعي وقتادة... إلى غير ذلك.
    ولقد حفظ ابن عباس قصيدة عمر بن أبي ربيعة، التي مطلعها:
    آمن آل نعمٍ أنت غادٍ فمبكرُ
    غداةَ غدٍ أم رائحٌ فمهجر
    في سمعة واحدة، وهي خمسة وستون بيتًا، وتعجب رضي الله عنه لمن لم يحفظها من أول مرة.
    - وما جاء عن الزهري أنه كان يقول: إني لأمر بالبقيع فأسد أذاني مخافة أن يدخلها شيء من الخنا، فوالله ما دخل أذني شيء قط فنسيته، وقد جاء نحوه عن الشعبي، والشافعي وغيرهم.
    وقد جاء عن بعض الأعراب: حرف في تامورك (قلبك) خير من عشرة في كتبك.
    خامسًا: القطع بالقرآن إنما حصل بالتواتر اللفظي:
    العمدة في قطعنا بالقرآن وبجمع ألفاظه إنما هو التواتر اللفظي، وهو وحده كاف في ذلك والكتابة لا دخل لها في هذا القطع ولم يتوقف عليها ولم ينشأ منها.
    قال ابن الجزري: إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور، لا على حفظ المصاحف والكتب، وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة.
    وهذا يستدعي سؤالا هامًا هو: ما الحكمة إذن في أمره صلى الله عليه وسلم بكتابة القرآن؟ طالما أن الكتابة ليست مفيدة للقطع، وأن حجية القرآن ليست منشؤها الكتابة، فما الحكمة إذن في هذا الأمر؟ وما الحكمة في أنه لم يأمر بكتابة السنة؟
    الحكمة في كتابة القرآن:
    1- بيان ترتيب الآيات ووضعها بجانب بعضها البعض بعض، فإنه بالاتفاق بين العلماء فإن ترتيب الآيات توقيفي نزل به جبريل عليه السلام، وكذلك ترتيب السور فإنه أيضًا توقيفي على الراجح.
    2- زيادة التأكيد، فإن الكتابة طريق من طرق الإثبات، وهي وإن كانت أضعف من السماع، فضلاً عن التواتر اللفظي، إذا انضمت إلى ما هو أقوى منها في الإثبات زادت قوة على قوة، فاحتيج إلى زيادة التأكيد في القرآن لكونه كتاب الله تعالى، وأعظم معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولكونه أساس الشريعة الإسلامية وإليه ترجع سائر الأدلة الشرعية في ثبوت اعتبارها في نظر الشارع، وثبتت به جميع العقائد الدينية، التي لابد منها وأمهات الأحكام الفرعية.
    ولكونه قد تعبدنا الله- تعالى- بتلاوة لفظه في الصلاة وغيرها، لم يجز لنا أن نبدل حرفًا منه بحرف آخر.
    ولهذه الأمور وغيرها اهتم الشارع بإثباته للناس إلى يوم الدين بجميع الطرق الممكنة التي يتأتى بها الإثبات، قويها وضعيفها للمحافظة على لفظه ونظمه.
    كما أنه قد حافظ على معناه بالسنة المبينة له الدافعة لعبث العابثين به.
    ولما لم تكن السنة بهذه المثابة فلا ترتيب بين الأحاديث بعضها البعض، وليست بمعجزة، ولم يتعبدنا الله- تعالى- بتلاوة لفظها.
    وأجاز لنا أن روايته بالمعنى ما دامت المحافظة على المعنى متحققة (على الراجح بضوابطه)، حيث إن المقصود بالسنة بيان الكتاب وشرح الأحكام.
    وهذا المقصود يكفي فيه فهم المعنى والتأكد منه، سواء كان بنفس اللفظ الصادر عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أم بغيره.
    هذا مع ملاحظة الفرق الشاسع بين حجية القرآن وحجية السنة التي من وظيفتها الشرح والبيان له، والشرح عادة أكبر حجمًا من المشروح.
    وما كان صغير الحجم أمكن في العادة نقله بجميع الطرق بخلاف كبيره فإنه من المتعذر تحصيل جميع الطرق فيه خصوصًا من أمة أمية كالعرب، وخصوصًا إذا لاحظنا أن السنة ليست هي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم فقط بل هي أقواله وأفعاله وتقريراته وإشاراته وهمه وتركه (كما سبق بيان ذلك في مقالة سابقة) {الرد على من ينكر حجية السنة بتصرف، د. عبد الغني عبد الخالق}
    وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.


    ==========

    مسائل في السنة
    إعداد / متولي البراجيلي
    الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
    استعرضنا في المقال السابق مسألة تدوين السنة، تلك المسألة التي ما فتأ المغرِّضون يدندنون حولها، فأوردنا أحاديث الإذن بكتابة السنة وأنها ناسخة لأحاديث النهي (مع قلتها وضعف غالبها) حسبما رأى الجمهور وحكاه عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، ورأينا أن الكتابة ليست من لوازم الحجية، وأن صيانة الحجة غير متوقفة عليها، وأن الكتابة دون الحفظ قوة، وأن العرب كانت عندهم ملكة الحفظ القوي بحيث كانوا يحفظون القصائد الطوال التي تقال في أسواقهم ومناسباتهم المختلفة.
    ونستكمل- إن شاء الله- موضوع تدوين السنة وما يتعلق به من بعض المسائل:

    حِرْص الصحابة وتنافسهم على حفظ حديث النبي #
    يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: كنا نكون عند النبي صلى الله عليه وسلم وربما نكون نحوًا من ستين إنسانًا فيحدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يقوم فنراجعه بيننا، هذا، وهذا، وهذا، فنقوم وكأنما زرع في قلوبنا. {الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي}.
    وكان أبو هريرة رضي الله عنه يجزِّؤ الليل ثلاثًا، ويجعل فيه جزءًا لتذكر أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم . "سنن الدارمي".
    وكان ابن عباس، وزيد بن أرقم رضي الله عنهما يتذاكران السنة. "مسند المسند".
    وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: "إنكم إن لم تذاكروا الحديث يفلت منكم". {سنن الدارمي}.
    ويقول أيضًا: إذا سمعتم منا حديثًا فتذاكروه.
    ويقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: تحدثوا فإن الحديث يذكِّر بعضه بعضًا. {شرف أصحاب الحديث}.
    ويقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "تذاكروا الحديث، فإنكم إلا تفعلوا يندرس". {سنن الدارمي}.
    ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "تذكروا الحديث، فإن ذكر الحديث حياته". {سنن الدارمي}.
    وكذلك كان عمر بن الخطاب، وأبو موسى رضي الله عنهما يتذاكران حتى الصبح. "الفقيه والمتفقه".
    وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتابع مذاكرة أصحابه الحديث، ويصحح لهم، ففي حديث البراء بن عازب رضي الله عنه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، قال: إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجات ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإن متَّ من ليلتك فأنت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تتكلم به".
    قال- أي البراء-: فردّدتها على النبي صلى الله عليه وسلم فلما بلغت: اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، قلت: وبرسولك الذي أرسلت. قال: لا، وبنبيك الذي أرسلت. "متفق عليه".
    وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على ضبط حديثه معهم بما يناسب عظمة هذا الحديث وقدسيته التشريعية، من هنا كان قول عائشة رضي الله عنها: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يسرد الكلام كسردكم، ولكن إذا تكلم تكلم بكلام فصل يحفظه من سمعه. "متفق عليه".
    فحفظ الحديث الشريف ومذاكرته في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة قد لقي عناية خاصة نابعة من إيمان راسخ، فضلاً عما وهب الله- سبحانه- العرب من مقدرة عالية على الحفظ، فهم أمة حفظ وذاكرة، فكيف إذا أضيف لها صلاح العقيدة والدين وخشية رب العالمين وطلب رضاه، والحرص على دقة الحفظ لغاية الضبط، لقوله عليه الصلاة والسلام: من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار. "البخاري ومسلم في مقدمة الصحيح".
    ولهذا قال أبو العالية: كنا نسمع الرواية من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في البصرة، فلم نرض حتى ركبنا إلى المدينة فسمعناها من أفواههم. "الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي".
    لقد كان هذا حرص التابعين، وهو متصل ونابع من حرص الصحابة رضي الله عنهم جميعًا. "مقدمة موسوعة الأحاديث الضعيفة- بتصرف".
    النبي صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بالبلاغ، وضبط هذا البلاغ:
    كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بالتحديث عنه، فيقول: "ليبلغ الشاهد الغائب، فإن الشاهد عسى أن يبلِّغ من هو أوعى له منه". "مسلم".
    ويقول صلى الله عليه وسلم : "نضَّر الله امرأً سمع منا حديثًا فحفظه حتى يُبلِّغهُ، فرُبَّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقهٍ ليس بفقيه". "مسند أحمد".
    وقوله لوفد عبد القيس: احفظوه وأخبروا من وراءكم. "البخاري".
    ومع أمره صلى الله عليه وسلم بالنقل عنه إلا أنه حذَّر تحذيرًا شديدًا من الكذب عليه، فقال صلى الله عليه وسلم : "إن كذبًا عليَّ ليس ككذب على أحد، من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار". "متفق عليه".
    فالنبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالتحديث عنه، وضبط هذا التحديث، ويتوعد من يكذب عليه بالوعيد الشديد، مما يؤدي ذلك إلى ضبط الصحابة لما يسمعونه من النبي صلى الله عليه وسلم ضبطًا تامًا، وسبق أن بينا أن ضبط الصدور (الحفظ) هو الأساس الذي اعتُمد عليه في نقل القرآن والسنة، والكتابة كانت عاملاً مساعدًا، مع عدم التقليل من أهميتها.
    عصور تدوين السنة
    من المسائل المهمة في هذا المقام، مسألة التفرقة بين عصر الكتابة وعصر التدوين، لأن البعض قد خلط فيها وهم يعرضونها، حيث لم يميزوا بين عصر الكتابة وعصر التدوين ثم عصر التأليف.
    أولاً: عصر الكتابة:
    بدأت كتابة الحديث الشريف منذ عهد رسول اللَّه #- كما رأينا وكانت الكتابة فردية يقوم بها بعض الصحابة في صحفهم الخاصة بعد أن عرفوا أهمية الكتابة للسنة المطهرة.
    واستمر عصر كتابة الحديث منذ عهده صلى الله عليه وسلم وحتى نهاية الخلافة الراشدة، والصحابة يكتبون، ويكتب بعضهم عن صحف البعض الآخر قلة أو كثرة حسب الحاجة، واستمر الصحابة والتابعون من بعدهم على كتابة الحديث الشريف.
    ثانيًا: مرحلة التدوين:
    يقدر بدؤها في الثلث الأخير من القرن الهجري الأول، حيث كان لا يزال فيه عدد غير قليل من الصحابة رضي الله عنهم، ولقد استمرت هذه المرحلة حتى أواخر العصر الأموي، وهنا بدأت مرحلة تصنيف الحديث، وهي المرحلة التي تقوم على التبويب وترتيب الموضوعات للحديث الشريف على وجوه متعددة.
    ثالثًا: مرحلة التصنيف:
    وربما كان أولها- والله أعلم- هو "الجامع" لمعمر بن راشد المتوفى 153ه، وهو مطبوع في المجلد الأخير من مصنف عبد الرزاق الصنعاني، ثم كان الموطأ للإمام مالك وغيره، وتوالى بعد ذلك تأليف المسانيد المفردة: كمسند أبي داود الطيالسي، ومسند عبد الله بن موسى العبسي، وغيرهما.
    واستمر هذا التصنيف في حلقات مستمرة وصولاً إلى الذروة من مرحلة التصنيف هذه، والتي تجلت ذروتها في ظهور الصحيحين، وكتب السنن، والمسند، وغيرهم. "الموسوعة بتصرف".
    وعلى ضوء هذا التقسيم لعصور تدوين السنة، نستطيع فهم ما قاله الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح، وحمله البعض على غير وجهه أن السنة لم تكتب إلا في عهد عمر بن عبد العزيز.
    يقول الحافظ ابن حجر: اعلم علمني الله وإياك أن آثار النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن من عصر أصحابه وكبار من تبعهم مدونة في الجوامع ولا مرتبة لأمرين:
    أحدهما: أنهم كانوا في ابتداء الحال قد نهوا عن ذلك- كما ثبت في صحيح مسلم- خشية أن يختلط بعض ذلك بالقرآن العظيم.
    وثانيهما: لسعة حفظهم وسيلان أذهانهم، ولأن أكثرهم لا يعرفون الكتابة.
    ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار، وتبويب الأخبار لما انتشر العلماء في الأمصار، وكثر الابتداع من الخوارج والروافض ومنكري القدر.
    وأرسل عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم وغيره من العلماء يأمرهم بكتابة أحاديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فوقع ذلك على رأس المائة الأولى لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال الحافظ ابن حجر: إن أول من دوَّن العلم (الحديث) هو ابن شهاب الزهري.
    قال القاضي عياض: كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كثير في كتابة العلم: فكرهها كثيرون منهم وأجازها أكثرهم ثم أجمع المسلمون على جوازها، وزال ذلك الخلاف.
    وكذلك قال ابن الصلاح، والحافظ ابن حجر. "الرد على من ينكر حجية السنة
    د. عبد الغني عبد الخالق، بتصرف".
    قولهم أن أبا بكر وعمر- رضي الله عنهما- حرقا أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم :
    ذكر الحافظ الذهبي- رحمه الله- في كتابه "تذكرة الحفاظ" قالت عائشة رضي الله عنها: جمع أبي الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وكانت خمسمائة حديث، فبات ليلته يتقلب كثيرًا، فغمَّني، فقلت: أتتقلب لشكوى أو لشيء بلغك؟
    فلما أصبح قال: أي بنية، هلمي الأحاديث التي عندك، فجئته بها، فدعا بنار فأحرقها، فقلت: لِم أحرقتها؟ قال: خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت (فيه) ولم يكن كما حدثني فأكون قد نقلت ذلك.
    علَّق الإمام الذهبي على هذه الرواية بقوله: فهذا لا يصح، والله أعلم.
    والقصة حتى إن صحَّت فلا دليل فيها على أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان لا يأخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم (أو أنه ضد جمعها)، فأبو بكر رضي الله عنه تردد في ضبط الذي أملى عليه مجموعة الأحاديث فسارع احتياطًا إلى إعدامها بالحرق، حتى لا ينشر الناس أحاديث لم يتثبت كل التثبت من ضبط صدورها عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فهو قد حرقها لتردده في ضبط أحد الرواة (مع ملاحظة أن الصحابة كلهم عدول)، وليس ذلك لشكِّه أو لوقوفه ضد جمع سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما تردد واغتم وتحيَّر، عمل بقول النبي صلى الله عليه وسلم : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. "الشبهات الثلاثون: د. المطفي بتصرف".
    ثم إنه من الممكن أن يكون قد خشي بعد وفاته وانتشار هذه الصحف عنه، أن تكون هي المقياس لقبول ورد سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا جاء حديث ليس فيها لم يعمل الناس به، وإذا جاء فيها عمل الناس به.
    ثم لِمَ لا يقال إن أبا بكر رضي الله عنه تخوَّف من كتابة السنة كما تخوَّف من كتابة القرآن، ألم يتوقف في كتابة القرآن وجمعه في كتاب واحد، لعدم فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؟، فقد روى البخاري بسنده عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أرسل إليَّ أبو بكر رضي الله عنه مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده.
    قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال إن القتل استحرَّ يوم اليمامة بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن.
    قلت لعمر: كيف تفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال عمر: هذا والله خير.
    فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر.
    قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتتبع القرآن فاجمعه. فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليَّ مما أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلون شيئًا لم يفعله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ؟ قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فتتبعت القرآن أجمعه من العُسُبِ واللخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحدٍ غيره، لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حتى خاتمة براءة.
    فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر، رضي الله عنهما. "رواه البخاري".
    فهذه الواقعة فضلاً عن أنها تبين تردد أبي بكر رضي الله عنه في كتابة القرآن وجمعه، فإنها توضح أن عدم التدوين ليس دليلاً على عدم الحجية.
    أمَّا ما ورد عن عمر وغيره- إن صحَّ- من أنهم أحرقوا، ما كتبوه، فربما يرجع ذلك إلى أسباب هي ذات الأسباب التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم من أجلها بعدم كتابة السنة- ابتداءً- والتي ذهب العلماء إلى تخصيصها بأنواع التخصيص التي ذكرناها من قبل في مسألة الجمع بين النهي والإذن بالكتابة، كأن يخشى اشتباه القرآن بالسنة إذا كتبت معه في صحيفة واحدة، أو مطلقًا، أو يخشى الاتكال على الكتابة وترك الحفظ الذي يميل إليه بطبعه، ويُرى في ذلك مضيعة للعلم وذهابًا للفقه والفهم.
    ثم إن امتناع بعضهم عن التدوين وإحراقهم لما دونوه، قد يرجع إضافة لما سبق إلى سببين آخرين:
    أولهما: شدة الورع والخوف من الله تعالى خشية أن يتمسك أحد من بعده بحديث دوَّنه يكون قد وقع فيه سهو أو بدل حرفًا مكان حرف، ولهذا أشار أبو بكر في قوله لعائشة مبينًا سبب إحراق ما دوَّنه من الأحاديث، فقال: خشية أن أموت وهي عندك فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به، ولم يكن كما حدثني، فأكون قد تقلدت ذلك.
    ثانيهما: كثرة عدد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أدى إلى صعوبة أن يقف الواحد منهم على كل ما صدر عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فلا يوجد أحد منهم قد لازم الرسول صلى الله عليه وسلم ملازمة تامة في جميع لحظات رسالته، فربما يطلع على ما لم يطّلع عليه غيره، وربما تكلم النبي صلى الله عليه وسلم في حكمٍ ما ثم زاد عليه أو نقص منه أو رفعه (نسخه) وهو لم يعرف ولم يصل إليه نبأ ذلك، فلو اجتهد بعضهم وكتب ما وصل إليه أو ما استطاع أن يصل إليه كما في واقعة أبي بكر فظن من جاء من بعدهم أنهم بذلوا كل الجهد وأمكنهم استيعاب السنة، كما فعلوا في القرآن، وجمعوها في هذا الكتاب المدَّون (أي السنة)، فاعتقد من جاء بعدهم أن ما ليس في هذا الكتاب المدون، مما يتحدث به الرواة ليس من السنة، أو لا يعتقد ذلك لكنه يقدم ما دونوه على ما يروى مشافهة عند التعارض، وقد يكون في الواقع أن المروي مشافهة ناسخ للمدون، وفي ذلك خطر وضياع لجزءٍ كبير من الأحكام الشرعية.
    ولا يخفى أن هذا الاعتقاد محتمل الوقوع من المتأخرين إذا كان المدون للسنة أكابر الصحابة الذين كانوا أكثر ملازمة له صلى الله عليه وسلم من غيرهم ولا سيما أبو بكر وعمر، فيقال: لو قاله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما خفي على أبي بكر وعمر، لكنه إذا قام بالتدوين صحابي لم تعلم عنه الملازمة للرسول صلى الله عليه وسلم ( كعبد الله بن عمرو بن العاص مثلاً ) فيندفع هذا الاحتمال ويصبح بعيدًا جدًا.
    قال أبو زرعة الرازي في جواب من قال له: أليس يقال حديث النبي صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف حديث، قال أبو زرعة: ومن قال هذا (قلقل الله أنيابه) هذا قول الزنادقة، ومن يحصى حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ؟
    قُبض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن مائة ألفٍ وأربعة عشر ألفًا من الصحابة ممن روى عنه وسمع منه. فقيل له: أين كانوا وأين سمعوا، قال: أهل المدينة وأهل مكة ومن بينهما والأعراب ومن شهد معه صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، وكل من رآه وسمع منه بعرفة.
    وقد روى البخاري في صحيحه أن كعب بن مالك قال في قصة تخلفه عن تبوك: وأصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كثير لا يجمعهم كتاب حافظ ( يعني الديوان )...
    فما بالنا إذا جمعت السنة بعد ذلك في عهد عمر بن عبد العزيز، فلن يتوهم متوهم أن ما جمع مِن طريق مَن تولى الجمع وقتها كالزهري استطاع أن يستوعب كل سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فلا بأس بالتدوين وقتها لاندفاع الاحتمال الذي كان قائمًا من قبل إذا دونها كبار الصحابة كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
    فإذا جاءت أحاديث ليست في مدونات هؤلاء التابعين وتابعي التابعين لم يظن ظان أو يحتج محتج أنها ليست من السنة لأنها ليست فيما دوِّن منها.
    أليس ذلك حفظًا من الله سبحانه وتعالى لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
    لكن هل كان عدم كتابة أبي بكر وعمر وغيرهما من الصحابة دليلاً على عدم احتجاجهم وأخذهم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم .
    كلاً والله، بل كان أبو بكر وعمر وكل الصحابة وقافين عند حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يحتجون به ويُحتج به عليهم.
    ألم يحتج أبو بكر في يوم السقيفة على الأنصار بحديث النبي صلى الله عليه وسلم : الأئمة من قريش واقتنعوا بذلك.؟
    ألم يحتج على فاطمة رضي الله عنها بحديث: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة".؟
    ولما جاءت الجدَّة إليه تطلب إرثًا، فقال أبو بكر: ما أجد لك في كتاب الله شيئًا، وما علمت أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذكر لك (أي للجدة) شيئًا، ثم سأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعطيها السدس، قال أبو بكر: هل معك أحد؟
    فشهد محمد بن مسلمة الأنصاري بمثل ما قال المغيرة فأنفذه أبو بكر رضي الله عنه.
    وعمر بن الخطاب الذي كان وقافًا عند حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يحيد عنه، فلما جاءه أبو موسى الأشعري يستأذن عليه ثلاثًا، فلم يأذن له فيرجع، فيستدعيه عمر ويلومه، فيعتذر أبو موسى بأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له فليرجع".
    فقال عمر: لتأتيني على هذا ( الحديث ) ببينة أو لأوجعن ظهرك وأجعلك عظة، فشهد أبي بن كعب أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال ذلك، فعفا عنه عمر، واقتنع بحديث الاستئذان وأخذ به.
    وكان يناشد الناس في مواقف شتى: من عنده علم عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من كذا، وهو الكاتب إلى عماله: تعلموا السنة كما تتعلمون القرآن.
    وهو القائل: إياكم والرأي، فإن أصحاب الرأي أعداء السنة، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها.
    وهو القائل: خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم .
    وهو القائل رضي الله عنه: سيأتي قوم يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنة، فإن أصحاب السنة أعلم بكتاب الله. "الشبهات الثلاثون، د. المصطفى، والرد على من ينكر حجية السنة: د. عبد الغني عبد الخالق- بتصرف".
    وللحديث بقية إن شاء الله.

    ===========================


    مسائل في السنة
    وجوب العمل بحديث الآحاد في العقائد والأحكام
    متولي البراجيلي
    الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
    فقد ظهرت عند بعض علماء الكلام المسلمين منذ قرون طويلة فكرة خاطئة، ورأي خطير ، وهو قولهم : إن حديث الآحاد ليس بحجة في العقائد الإسلامية ، وإن كان حجة في الأحكام الشرعية .
    وقد أخذ بهذا الرأي عدد من علماء الأصول المتأخرين ، وتبنَّاه حديثًا طائفة من الكُتَّاب والدعاة المسلمين ، حتى صار عند بعضهم أمرًا بدهيًا لا يحتمل البحث والنقاش! وغلا بعضهم فقال : إنه لا يجوز أن تُبنى عليه عقيدة أصلاً ، ومن فعل ذلك فهو فاسق وآثم!!

    وقد كتب في الرد على هذا الرأي الشاذ كثير من علماء الإسلام والحديث قديمًا وحديثًا ، ومن أهم الردود ما كتبه العلامة الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في كتاب "الصواعق المرسلة" والإمام الكبير ابن حزم - رحمه الله تعالى - في كتابه القيم "الإحكام في أصول الأحكام".
    {وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة.. الشيخ الألباني}
    - والتفريق بين أحاديث الأحكام والعقائد أمر حادث فهو بدعة في دين الله، لأن هذا الفرق لا يعرف عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ولا عن أحد من التابعين ولا عن تابعيهم ، ولا عن أحد من أئمة الإسلام ، وإنما يعرف عن رؤوس أهل البدع ومن تبعهم . {مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم ، معالم أصول الفقه للجيزاني}
    - وقبل أن نعرِّف حديث الآحاد ، لابد أن نعرف أولاً الحديث المتواتر والفرق بينه وبين حديث الآحاد.


    أولاً : تعريف الحديث المتواتر والآحاد


    ينقسم الحديث من ناحية عدد رواته الذين رووه إلينا إلى قسمين :
    1- ما كان له طرق "أسانيد" بلا حصر عدد معين وهو المتواتر.
    2- ما كان له طرق (أسانيد) محصورة بعدد معين فهو الآحاد .
    وعلى ذلك فالحديث المتواتر هو ما رواه عدد كثير تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، وقد اختلفوا، في هذا العدد على أقوال كثيرة، فمنهم من عينه في الأربعة ، وقيل في الخمسة وقيل في السبعة ورجح بعضهم أن العدد عشرة، وقيل غير ذلك حتى السبعين، بل أوصله بعضهم إلى ثلاثمائة وبضعة عشر. {تدريب الراوي}.
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية : والصحيح الذي عليه الجمهور أن التواتر ليس له عدد محصور.
    {الفتاوى 18-5}
    وكذا قال الحافظ ابن حجر : فلا معنى لتعيين العدد على الصحيح . {نزهة النظر}
    وبهذا قال أيضًا في فتح الباري : ولا يشترط فيه العدد المعين. وقال الألباني في تعليقه على نزهة النظر : وهذا هو المعتمد، ولا دليل على شيء من تلك الأعداد. {النكت على نزهة النظر: علي حسن عبد الحميد الحلبي}
    وكذلك قال ابن عثيمين في شرحه لنزهة النظر: إن المتواتر ليس له عدد معين.
    وللحديث المتواتر شروط أربعة :
    1- عدد كثير أحالت العادة تواطؤهم وتوافقهم على الكذب .
    2- رووا ذلك عن مثلهم من الابتداء إلى الانتهاء.
    3- وكان مستند انتهائهم الحِسَّ.
    4- وانضاف إلى ذلك أن يصحب خبرهم إفادة العلم لسامعه.
    أما بالنسبة للشرط الأول ، فرأينا أن الراجح عدم حصر الرواة في عدد معين.
    والشرط الثاني معناه : أن لا ينقص العدد المطلوب في طبقة من طبقات السند من أول السند إلى آخره ، فلو أن الحديث رواه جمع في كل الطبقات ثم رواه اثنان مثلاً في إحدى الطبقات ما صار بذلك متواترًا ، فالحديث ينسب إلى أقل طبقة من طبقات السند.
    والشرط الثالث أن لا يكون مستندهم فيما رووه مجرد الظن أو الفهم لحادثة وقعت، أو الاستنباط لقرينة وردت ، كما في حادثة إيلاء النبي صلى الله عليه وسلم من أزواجه، فقد توهَّم بعض الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - أن النبي صلى الله عليه وسلم قد طلَّق أزواجه ، ظنًا منه بذلك لاعتزال النبي صلى الله عليه وسلم لهن، ومنهم من أخبر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- بذلك ، وهذا الإخبار لم يكن اعتماده على الحسِّ ، بل كان اعتماده على العقل الصِّرف، ومجرد الظن ، أما إذا كان ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يثبت ذلك، من قول أو فعل أو تقرير ، لكان انتهاؤهم في ذلك الحس . {التعليق على نزهة النظر- عمرو عبد المنعم، شرح نزهة النظر لابن عثيمين ، النكت لعلي حسن}
    والشرط الرابع أن يصحب خبرهم إفادة العلم لسامعه ، وهو العلم الضروري الذي يضطر الإنسان إليه بحيث لا يمكنه دفعه ولا يحتاج إلى استدلال ، والعلم الضروري يحصل لكل سامع يسمعه .
    قسما المتواتر من ناحية المتن :
    ينقسم المتواتر باعتبار متنه إلى قسمين:
    الأول : المتواتر اللفظي : وهو ما اتفق فيه الرواة على اللفظ والمعنى ، كحديث النبي صلى الله عليه وسلم : "من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار".
    {متفق عليه}
    قال ابن الصلاح : رواه اثنان وستون من الصحابة ، وقال غيره : رواه أكثر من مائة نفس، وفي شرح مسلم رواه نحو مائتين. قال العراقي : وليس في هذا المتن بعينه، ولكنه في مطلق الكذب ، والخاص بهذا المتن رواية بضعة وسبعين صحابيًا. {تدريب الراوي}
    الثاني : المتواتر المعنوي : وهو ما اتفق رواته على معناه دون ألفاظه، فيتواترون على قدر مشترك بينهم ، كما إذا نقل رجل عن حاتم مثلاً أنه أعطى جملاً، وآخر أنه أعطى فرسًا ، وآخر أنه أعطى دينارًا، وهلم جرا ، فيتواتر القدر المشترك بين أخبارهم ، وهو الإعطاء ، لأن وجوده مشترك من جميع هذه القضايا ، كحديث رفع اليدين في الدعاء ، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم نحو مائة حديث ، فيه رفع يديه في الدعاء في قضايا مختلفة ، فكل قضية منها لم تتواتر ، والقدر المشترك فيها وهو الرفع عند الدعاء تواتر باعتبار المجموع. {تدريب الراوي بتصرف}
    - وللمتواتر أقسام أخرى فليرجع إليها في مظانِّها .
    والمتواتر من الحديث يفيد العلم ويوجب العمل، والعبرة في التواتر بأهل العلم والحديث والأثر ، كما قرَّر ذلك ابن تيمية وابن القيم (وغيرهما). {معالم أصول الفقه للجيزاني}


    هل المتواتر قليل كما يزعمون ؟:


    يقول الحافظ ابن حجر في نزهة النظر تعقيبًا على قول ابن الصلاح على أن المتواتر يعزُّ وجوده : وما ادَّعاه من العزة ممنوع، وكذا ما ادعاه غيره من العدم ، لأن ذلك نشأ عن قلة الاطِّلاع على كثرة الطرق ، وأحوال الرجال ، وصفاتهم المقتضية لإبعاد العادة أن يتواطؤوا على كذب ، أو يحصل منهم اتفاقًا، ومن أحسن ما يُقَّرر به كون المتواتر موجودًا وجود كثرة في الأحاديث؛ أن الكتب المشهورة المتداولة بأيدي أهل العلم شرقًا وغربًا المقطوع عندهم بصحة نسبتها إلى مصنِّفها إذا اجتمعت على إخراج حديث ، وتعددت طرقه تعددًا تحيل العادة تواطؤهم على الكذب إلى آخر الشروط ، أفاد العلم اليقيني بصحته إلى قائله . ومثل ذلك في الكتب المشهورة كثير.
    {نزهة النظر - فتاوى ابن تيمية 18-36، 37}
    يقول ابن عثيمين في تعليقه على هذا في النزهة بشرحه : ولكن الصحيح أنه موجود (أي المتواتر) وأنه بكثرة في المتواتر المعنوي ، بخلاف المتواتر اللفظي فهو قليل، لكن المتواتر المعنوي كثير .


    حديث الآحاد


    وهو الحديث الذي يقل عدد رواته عن العدد الذي يحقق التواتر ، وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
    القسم الأول : المشهور : وهو ما رواه ثلاثة في أقل طبقة من طبقات السند .
    فائدة : هناك فارق بين المشهور الذي هو أحد أقسام حديث الآحاد ، وبين المشهور غير الاصطلاحي وهو ما اشتهر على ألسنة الناس ، فقد يكون مشهورًا بين الناس وهو ضعيف مثل حديث : من لم تُنهه صلاته عن الفحشاء لم يزدد من الله إلاَّ بعدًا .
    أو موضوع مثل : ائتوا المساجد حسَّرًا ومعصبيِّن ، فإن العمائم تيجان المسلمين.
    أو حديث : حب الوطن من الإيمان. "موضوع" .
    أو حديث : خير الأسماء ما حُمِّد وعبِّد. "لا أصل له". أو حديث : يوم صومكم يوم نحركم. "لا أصل له".
    أو حديث : للسائل حق وإن جاء على فرس. "لا أصل له"، ومعنى لا أصل له: يعني لا إسناد له . "قاله ابن تيمية رحمه الله".
    أو حديث : الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهائم الحشيش. "لا أصل له".
    ومما اشتهر على ألسنة الوعَّاظ والكتاب حديث : الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة. وهو حديث لا يعرف ، كما قال الحافظ ابن حجر فيما نقله تلميذه السخاوي في "المقاصد الحسنة"، وقال الشيخ الألباني في "الضعيفة": لا أصل له . {فتاوى ابن تيمية، شرح البيقونية : مصطفى سلامة، تيسير مصطلح الحديث للطحان ، شرح البيقونية لابن عثيمين، نكت علي حسن الحلبي على نزهة النظر، السلسلة الضعيفة}
    القسم الثاني: العزيز: وهو ما رواه اثنان في أقل طبقة من طبقات السند.
    القسم الثالث: الغريب: وهو ما رواه واحد في أقل طبقة من طبقات السند.


    حكم العمل بحديث الآحاد


    حديث الآحاد إذا تحققت فيه شروط الصحيح وجب العمل به ، لا فرق في ذلك بين العقائد والأحكام ، فهو يوجب العلم والعمل جميعًا .
    يقول الإمام الشافعي في "الرسالة": ولو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة : أجمع المسلمون قديمًا وحديثًا على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه بأنه لم يُعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبتَّه جاز لي.
    وقال الخطيب البغدادي : وعلى العمل بخبر الواحد كان كافة التابعين، ومن بعدهم من الفقهاء الخالفين في سائر أمصار المسلمين إلى وقتنا هذا ، ولم يبلغنا عن أحد منهم إنكارٌ لذلك ولا اعتراض عليه.{معالم أصول الفقه للجيزاني}
    وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي : وخبر الواحد - إذا تلقته الأمة بالقبول - يوجب العلم والعمل ، سواءً عمل به الكل أو البعض .
    {وجوب الأخذ بحديث الآحاد، للألباني}
    وقال ابن عبد البر : ليس في الاعتقاد كله في صفات الله وأسمائه إلا ما جاء منصوصًا في كتاب الله ، أو صحَّ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أو أجمعت عليه الأمة ، وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كله أو نحوه يسلم له ولا يناظر فيه .
    {جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر}
    وقال ابن حزم : والحق أن خبر الواحد العدل عن مثله إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوجب العلم والعمل معًا. {النكت على نزهة النظر لعلي حسن الحلبي}
    يقول الشيخ ابن عثيمين : وهل يحتج بأخبار الآحاد في باب العلميات ؟ لأنكم كما تعرفون الدين علم وعمل ، باب العلميات الذي هو باب الاعتقاد ، هل يحتجُّ بأقوال الآحاد فيها؟
    الصواب - بلا شك - أنه يحتج بها ، وأي احتجاج لا سيما فيما تلقته الأمة بالقبول فإنه يحتج به ، ولو أننا ألغينا الاحتجاج بالآحاد في باب العلميات التي هي "العقائد" لفاتنا شيء كثير من الأمور التي يجب علينا اعتقادها.
    ثم إننا نقول لهؤلاء المفرِّقين بين العلميات والعمليات : إن العمليات لابدَّ أن يسبقها اعتقاد ، ما هو الاعتقاد الذي يسبقها؟ اعتقاد أن الله شرع ، لأنك ما تفعل هذا الأمر إلا بعد أن تعتقد أن الله شرعه ، ثم تعمله، فحتى العمليات لابد فيها من عقيدة ، وعلى هذا فالصواب ما ذكر المؤلف (ابن حجر) عند الجمهور أنه يجب العمل بالمقبول سواء كان ذلك في الأمور العلميات (العقائد) أو في الأمور العمليات (الأحكام).
    {شرح نزهة النظر لابن عثيمين}
    أدلة حجية خبر الآحاد في الأحكام والعقيدة
    أولاً : القرآن : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم {الأحزاب:36}.
    فلفظ "أمرًا" نكرة في سياق الشرط فهي تفيد العموم، أي عموم ما جاء به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سواءً كانت في الأحكام أو العقيدة ، وقصر لفظ "أمرًا" على الأحكام العملية دون العقيدة تخصيص بدون مخصص.
    قال تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه {الحشر: 7} .
    لفظ : "ما" من صيغ العموم فيشمل كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ومن جملته العقيدة .
    - قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا {الحجرات: 6} .
    فمنطوق الآية وجوب التبين من خبر الفاسق قبل قبوله أو رده، ومفهوم المخالفة المسمى بدليل الخطاب وجوب قبول خبر الواحد إذا كان عدلاً.
    - قال تعالى : وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون {التوبة: 122} .
    هذه الطائفة المعنية في الآية المطلوب منها تعلم كل الدين "ليتفقهوا في الدين"، والدين يشمل الأحكام العملية والعقيدة، بل يبدأ بالعقيدة قبل الأحكام العملية والطائفة يُّطلق على الفرد كما يُّطلق على الجماعة، قال ابن الأثير في النهاية : الطائفة الجماعة من الناس وتقع على الواحد .
    وقال ابن حجر في الفتح : إن لفظ طائفة يتناول الواحد فما فوق ، ولا يختص بعدد معين ، وهو منقول عن ابن عباس وغيره كالنخعي ومجاهد .
    وقال البخاري في باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق ... ويسمى الرجل طائفة ، لقوله تعالى : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا {الحجرات: 9} .
    فلو اقتتل رجلان دخلا في معنى الآية.


    ثانيًا : السنة :


    1- حديث أنس رضي الله عنه أن أهل اليمن قدموا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقالوا : ابعث معنا رجلاً يعلمنا السنة والإسلام ، فأخذ بيد أبي عبيدة ، فقال : هذا أمين هذه الأمة . {متفق عليه}
    ووجه الاستدلال في إرسال أبي عبيدة وهو فرد واحد ليعلمهم العقائد والأحكام بالطبع، ولو لم يكن خبره حجة على المرسل إليهم ما أرسله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم .
    2- حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا إلى اليمن ليعلمهم دينهم. {والحديث أصله في البخاري ومسلم}
    3- حديث ابن عمر - رضي الله عنهما ، لما استدار الناس في قباء بعد تحويل القبلة أثناء صلاتهم الصبح أخذًا بقول واحد صلى مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة. {والحديث أصله متفق عليه}


    ثالثًا : فعل الصحابة :


    قبول عمر بن الخطاب رضي الله عنه خبر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في شأن الطاعون عندما كان يريد دخول الشام واختلف الصحابة هل يدخلها أم لا، وقبل عمر خبر عبد الرحمن ولم يدخلها. {والحديث أصله متفق عليه}
    - إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة والوقائع التي كان الصحابة يأخذون فيها بالحديث الذي يرويه الآحاد ، دون تفرقة في القبول بين ما يرويه جمع أو قلة .
    نتيجة رد أحاديث الآحاد وعدم العمل بها في العقيدة
    قال الشيخ الألباني رحمه الله في كتابه "وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة والرد على شبه المخالفين" في الوجه العشرين: فمن شاء من المسلمين أن يعرف ثمرة ذلك القول الباطل؛ أن العقيدة لا تثبت بحديث الآحاد، فليتأمل فيما سنسوقه من العقائد الإسلامية التي تلقاها الخلف عن السلف، وجاءت الأحاديث متضافرة متوافرة شاهدة عليها، وحينئذٍ يتبين له خطورة ذلك القول الذي تبناه المخالفون دون أن يشعروا بما يؤدي إليه من الضلال البعيد من إنكار ما عليه المسلمون من العقائد الصحيحة ، وهاك ما يحضرني منها :
    1- نبوة آدم عليه السلام ، وغيره من الأنبياء الذين لم يذكروا في القرآن 2- أفضلية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء والرسل. 3- شفاعته صلى الله عليه وسلم العظمى في المحشر. 4- شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته .. 5- معجزاته صلى الله عليه وسلم كلها، ما عدا القرآن ، ومنها معجزة انشقاق القمر، فإنها مع ذكرها في القرآن تأولوها بما ينافي الأحاديث الصحيحة .
    6- صفاته صلى الله عليه وسلم البدنية وبعض شمائله الخُلُقية.
    7- الأحاديث التي تتحدث عن بدء الخلق وصفة الملائكة ، والجن ، والجنة، والنار، وأنهما مخلوقتان، وأن الحجر الأسود من الجنة .
    8- خصوصياته التي جمعها السيوطي في كتاب "الخصائص الكبرى". 9- القطع بأن العشرة المبشرين بالجنة من أهل الجنة . 10- الإيمان بسؤال منكر ونكير في القبر. 11- الإيمان بعذاب القبر . 12- الإيمان بضغطة القبر . 13- الإيمان بالميزان ذي الكفتين يوم القيامة . 14- الإيمان بالصراط . 15- الإيمان بحوضه صلى الله عليه وسلم وأن من يشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدًا .
    16- دخول سبعين ألفًا من أمته الجنة بغير حساب . 17- سؤال الأنبياء في المحشر عن التبليغ. 18- الإيمان بكل ما صح في الحديث عن صفة القيامة والحشر والنشر. 19- الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره، وأن الله تعالى كتب على كل إنسان سعادته أو شقاوته ورزقه وعمله.
    20- الإيمان بالقلم الذي كتب كل شيء.
    21- الإيمان بأن القرآن كلام الله حقيقة لا مجازًا. 22- الإيمان بالعرش والكرسي حقيقة لا مجازًا . 23- الإيمان بأن أهل الكبائر لا يخلدون في النار . 24- وأن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر في الجنة . 25- وأن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء . 26- وأن لله ملائكة سياحين يبلغون النبي صلى الله عليه وسلم سلام أمته عليه.
    27- الإيمان بمجموع أشراط الساعة، كخروج المهدي ، ونزول عيسى عليه السلام ، وخروج الدجال . 28- وأن المسلمين يفترقون على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة.
    29- الإيمان بجميع أسماء الله الحسنى، وصفاته العليا ، مما جاء في السنة الصحيحة.
    30- الإيمان بعروجه صلى الله عليه وسلم إلى السماوات العلى.
    وقد أردت أن أبين مغبة بدعية القول برد حديث الآحاد في العقيدة لذا سقت الثلاثين بتمامها ، وهي تبلغ المئات ، وما أظن أحدًا من المسلمين يجرؤ على إنكارها ، أو التشكيك فيها ، وإن كان ذلك يلزم الذين لا يثبتون العقيدة بحديث الآحاد.
    وللحديث بقية إن شاء الله تعالى .
    ========================

    مسائل في السنة
    التعارض الظاهري للنصوص
    الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
    سنتناول في هذا المبحث- إن شاء الله- التعارض والنسخ وما يتعلق بهما، مركِّزين النظرة على السنة ونصوصها، لطبيعة المقالات التي نكتبها: "مسائل في السنة".

    أولاً: التعارض: هو: تقابل الدليلين بحيث يخالف أحدهما الآخر، وتقابل الدليلين سواء أكانا من الكتاب أو من السنة أم من الإجماع أم من القياس، ولكن الغالب أن المراد بهما- أي بالدليلين- ما كان من الكتاب أو من السنة.
    {شرح الأصول من علم الأصول- لابن عثيمين}
    فأحد الدليلين يدل على خلاف ما يدل عليه الآخر، كأن يدل أحد الدليلين على الجواز والآخر على المنع.
    فإن كان التعارض بين الدليلين من كل وجه بحيث لا يمكن الجمع بينهما، فهذا هو التناقض- التعارض الكلي-، أما إذا كان التعارض بين الدليلين من وجه دون وجه بحيث يمكن الجمع بينهما بوجه من الوجوه فهذا هو التعارض الجزئي.
    وهذا التعارض بين النصوص هو في الحقيقة تعارض ظاهري، وإلاَّ فالنصوص مبرأة من التناقض، يقول الله تعالى عن القرآن: أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا {النساء: 82}
    وكذلك أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة مبرأة من التناقض والاختلاف لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من التناقض والاختلاف بإجماع الأمة، لا فرق في ذلك بين المتواتر والآحاد، قال تعالى: وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى {النجم: 3، 4}.
    وكذلك إجماع الأمة لا يمكن أن يتناقض، فلا ينعقد إجماع على خلاف إجماع أبدًا، فإذا علم أن أدلة الشرع لا تتناقض في نفسها، فإنها أيضًا لا تتناقض مع بعضها، بل إنها متفقة لا تختلف، متلازمة لا تفترق.
    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: الكتاب والسنة والإجماع، فمدلول الثلاثة واحد، فإن كل ما في الكتاب فالرسول صلى الله عليه وسلم موافق له، والأمة مجمعة عليه من حيث الجملة، فليس في المؤمنين إلاَّ من يوجب اتباع الكتاب، وكذلك كل ما في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، كالقرآن يأمر باتباعه فيه، والمؤمنون مجمعون على ذلك.
    وكذلك كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه لا يكون إلا حقًا موافقًا لما في الكتاب والسنة، لكن المسلمون يتلقون دينهم كله عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فينزل عليه وحي القرآن ووحي آخر هو الحكمة، كما قال صلى الله عليه وسلم : "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه".
    ولا يوجد مسألة ينعقد الإجماع عليها إلا وفيها نص. "مجموع الفتاوى: 19-195"
    فأدلة الشرع حق والحق لا يتناقض، بل يصدق بعضه بعضًا. "إعلام الموقعين"
    وكذا لا يوجد تعارض بين الأدلة الشرعية والعقل، بل إن العقل الصريح موافق للنقل الصحيح، إذ أن خالق هذا العقل هو الذي أنزل الشرع: ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير "الملك: 14". "مجموع الفتاوى- ابن تيمية".
    فإذا كان الشرع مبرأً من التناقض (التعارض الكلي)، فمن أين إذًا ينشأ التعارض؟
    يقول الشيخ ابن عثيمين: يوجد التعارض لأحد هذه الأمور الثلاثة:
    الأول: القصور في العلم.
    الثاني: القصور في الفهم.
    الثالث: التقصير في التدبر.
    "شرح الأصول: لابن عثيمين".
    فعلى الناظر في الشريعة أمران (كما يقول الإمام الشاطبي في الاعتصام):
    أحدهما: أن ينظر إليها بعين الكمال لا بعين النقصان، ويعتبرها اعتبارًا كليًا في العبادات والعادات.
    والثاني: أن يوقن أنه لا تضاد بين آيات القرآن ولا بين الأخبار النبوية ولا بين أحدهما مع الآخر، بل الجميع جار على مهيعٍ واحد، ومنتظم إلى معنى واحد، فإذا أداه بادي الرأي إلى ظاهر اختلاف فوجب عليه أن يعتقد انتفاء الاختلاف، لأن الله- تعالى- قد شهد أن لا اختلاف فيه، فليقف وقوف المضطر السائل عن وجه الجمع، أو المسلّم من غير اعتراض.
    "الاعتصام (1-250) للشاطبي"


    الطرق المعينة على دفع التعارض


    الواجب درء التعارض بين أدلة الشرع ما أمكن، ومن الطرق المعينة على ذلك:
    1- التثبت من صحة الدليل.
    2- الاطلاع على مصادر الشريعة وتتبع الأدلة واستقراؤها والنظر إليها مجتمعة، فلا بد من جمع العام مع الخاص، والمطلق مع المقيد، والناسخ مع المنسوخ، وهذا لا يتم إلاَّ بتتبع نصوص الكتاب والسنة، ولو اقتصر على بعض ذلك لحصل التعارض، ولابد من معرفة روايات الحديث وألفاظه فإن بعضها يفسر بعضًا، وكذلك القراءات الثابتة.
    3- العلم بلغة العرب وما فيها من دلالات ومعان، فإن فهم النص وسياقه وعمومه وخصوصه، وحقيقته ومجازه، مما يزيل كثيرًا من الإشكالات ويدرأ كثيرًا من التعارضات.
    "معالم أصول الفقه. للجيزاني"


    خطوات دفع التعارض


    إذا ظهر التعارض، فالواجب على الترتيب:
    1- محاولة الجمع بينهما ما أمكن كأن يحمل العام على الخاص، والمطلق على المقيد، والجمع يكون لأدنى مناسبة، لأن العمل بالدليلين خير من إسقاط أحدهما، والسواد الأعظم من إيهام التعارض يدفع بالجمع.
    وكان ابن خزيمة- رحمه الله- يقول: يا أيها الناس فليأتني من أي بقاع الأرض أي رجل يقول إن هناك خبرين يتعارضان وأنا أؤلف له بينهما.
    2- في حال عدم القدرة على الجمع بينهما، ننتقل إلى النسخ، فننظر في المتقدم والمتأخر فيقدم المتأخر زمننًا على المتقدم للعمل به .
    3- في حالة عدم التوصل لمعرفة الناسخ من المنسوخ، وكان هناك منافاة بين النصين، فإذا أعمل أحدهما أهمل الآخر، فحينئذٍ يصار إلى الترجيح، فيتعين ترجيح أحد النصين على الآخر بوجه من وجوه الترجيح.
    4- في حالة عدم التمكن من الترجيح نطلب الدليل في المسألة من غيرها.
    5- إذا لم نتمكن من ذلك فعلينا التوقف، والرجوع إلى من هو أعلم.
    "التأسيس: لمصطفى سلامة، ومعالم أصول الفقه: للجيزاني"
    النسخ
    النسخ في اصطلاح المتقدمين أوسع من اصطلاح المتأخرين، فالمتقدمون يطلقون النسخ على رفع الحكم بجملته وعلى رفع دلالة العام والمطلق والظاهر وغيرها، إما بتخصيص أو تقييد أو حمل مطلق على مقيد.
    أما النسخ في اصطلاح المتأخرين: فهو رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم بخطاب متراخٍ عنه، أي رفع الحكم بجملته، أو هو باختصار رفع حكم متقدم بحكم آخر تالٍ متأخر.


    كيفية معرفة النسخ


    يعرف النسخ بما يلي:
    1- تصريح النبي صلى الله عليه وسلم ، كقوله صلى الله عليه وسلم : "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنها تذكر بالآخرة". "صحيح مسلم".
    وقوله صلى الله عليه وسلم : "كنت نهيتكم عن النبيذ في الأوعية فاشربوا فيما شئتم ولا تشربوا مسكرًا".
    "رواه مسلم 977"(1).
    2- تصريح الصحابي مثل قول عائشة رضي الله عنها: كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات.
    "صحيح مسلم"
    3- بمعرفة التاريخ، أي المتقدم من المتأخر، نحو قوله تعالى: الآن خفف الله عنكم "الأنفال: 66"، فلفظ الآن يدل على تأخر الخطاب الشرعي المقترن بها، وكذلك قوله تعالى: فالآن باشروهن "البقرة: 187".
    4- إجماع الصحابة على أن هذا ناسخ، وهذا منسوخ؛ كنسخ صوم يوم عاشوراء (وجوبه) بصوم شهر رمضان. "إرشاد الفحول: للشوكاني، ومعالم أصول الفقه: للجيزاني، والتأسيس: لمصطفى سلامة، وشرح الأصول: لابن عثيمين"


    الحكمة من النسخ


    الله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء: يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب "الرعد: 39"، وله سبحانه الحكمة البالغة والملك التام: ألا له الخلق والأمر "الأعراف: 54"، ونحن كمكلفين علينا السمع والطاعة، وقفنا على الحكمة أم لا نقف عليها لقصور عقولنا، وقد تكلم العلماء في الحكمة من النسخ، فمما قالوه:
    1- الرحمة لخلقه والتخفيف عنهم والتوسعة عليهم، وهذه الحكمة تتضح في نسخ الأثقل بالأخف، كما قال تعالى: يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا "النساء: 28"، مثل نسخ وجوب مصابرة المسلم عشرة من الكفار في قوله تعالى: إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين "الأنفال: 65".
    بمصابرة المسلم اثنين من الكفار، في قوله تعالى: الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين.
    2- تكثير الأجر للمؤمنين وتعظيمه لهم، وهذه الحكمة تتضح في نسخ الأخف بالأثقل، كنسخ التخيير بين الصوم والإطعام في قوله تعالى: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين "البقرة: 184"، بتعيين إيجاب الصوم في قوله تعالى: فمن شهد منكم الشهر فليصمه "البقرة: 185".
    3- أن يكون النسخ مستلزمًا لحكمة خارجة عن ذاته، وذلك فيما إذا كان الناسخ مماثلاً للمنسوخ، كنسخ استقبال بيت المقدس باستقبال بيت الله الحرام فهذا يستلزم حكمة بالغة وهي احتجاج اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم بقولهم: تعيب ديننا وتصلي لقبلتنا، واحتجاج المشركين بقولهم: تدعي أنك على ملة إبراهيم عليه السلام وتصلي لغير قبلته.
    ومن الحكمة أيضًا: تمييز قوي الإيمان من ضعيفه، كما قال تعالى: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله "البقرة: 143".
    4- الامتحان في نسخ الأمر قبل التمكن من فعله، وذلك مثل أمر الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن يذبح ابنه ثم نسخ هذا الحكم بفدائه بذبح عظيم، والحكمة من ذلك الابتلاء، قال تعالى: إن هذا لهو البلاء المبين "الصافات: 106". "الفقيه والمتفقه: للخطيب البغدادي، ومعالم أصول الفقه: للجيزاني، بتصرف"


    أقسام النسخ


    ينقسم النسخ بالنظر إلى دليله إلى أقسام متعددة، يمكن جمعها في قسمين؛ قسم متفق على جوازه، وقسم وقع فيه الخلاف.
    أما القسم المتفق عليه فهو:
    - نسخ القرآن بالقرآن.
    - نسخ السنة المتواترة والآحادية بمتواتر السنة.
    - نسخ الآحاد من السنة بالآحاد من السنة.
    وأما القسم المختلف فيه فيمكن بيانه في ثلاث مسائل:
    المسألة الأولى: نسخ القرآن بالسنة، وقد ذكر الشيخ الشنقيطي أن جمهور الأصوليين على جوازه واختاره هو، وذهب الإمام الشافعي وأحمد وابن تيمية وابن قدامة إلى أن القرآن لا ينسخ إلا بقرآن مثله.
    وحجة الجمهور: أن الجميع وحي من الله تعالى، فالناسخ والمنسوخ من الله تعالى، وإن أظهره الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم .
    وحجتهم بأن آية التحريم بعشر رضعات نسخت بالسنة.


    المسألة الثانية: نسخ السنة بالقرآن


    ذهب جمهور الأصوليين إلى أنه يجوز نسخ السنة بالقرآن، وذهب الإمام الشافعي إلى أن السنة لا ينسخها إلا سنة مثلها.
    وقد مثل الجمهور للوقوع بأمثلة كثيرة منها:
    - التوجه إلى بيت المقدس وهو ثابت بالسنة ونسخ بالقرآن: فول وجهك شطر المسجد الحرام "البقرة: 144".
    - تحريم مباشرة النساء في رمضان ليلاً ثابت بالسنة، ونسخ بالقرآن: فالآن باشروهن "البقرة: 187".


    المسألة الثالثة: نسخ المتواتر بالآحاد:


    ذهب جمهور الأصوليين إلى أنه لا يجوز نسخ المتواتر- من القرآن والسنة- بالآحاد من السنة.
    وذهب الشنقيطي رحمه الله إلى جواز نسخ القرآن بأخبار الآحاد طالما كان الحديث صحيحًا ثابتًا.
    ومثّل لذلك بنسخ إباحة الحمر الأهلية المنصوص عليها بالحصر في قوله تعالى: قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به "الأنعام: 145". "مذكرة الشنقيطي، ومعالم أصول الفقه"
    ورجح الشيخ العثيمين رحمه الله نسخ المتواتر بالآحاد، فقال: والراجح أن لا يشترط أن يكون الناسخ أقوى، فالمقارنة بين الناسخ والمنسوخ، فإما أن يكونا على حدٍ سواء، وإما أن يكون الناسخ أقوى، وإما أن يكون المنسوخ أقوى، لكن الناسخ ثابت، على القول الراجح.
    "شرح الأصول: لابن عثيمين"
    الترجيح
    هو تقوية أحد الدليلين على الآخر، ولا يصار إليه إلا بعد محاولة الجمع بين الأدلة المتعارضة، فكما علمنا فإن الجمع مقدم على الترجيح، ولا يجوز ترجيح أحد الدليلين المتعارضين على الآخر بدون دليل، إذ أن ترجيح أحد الدليلين بلا دليل تحكم، وهو باطل، ولا يجوز في دين الله التخير بالتشهي والهوى بلا دليل ولا برهان.
    "فتاوى ابن تيمية: 13"
    ومحل الترجيح هو الظنيات، حيث إن التعارض لا يكون إلا بين دليلين ظنيين فقط، فلا يمكن التعارض بين دليلين قطعيين اتفاقًا. هكذا حكى الزركشي في "البحر". "إرشاد الفحول"
    فكذلك الترجيح لا يكون إلا بين دليلين ظنيين، إذ الترجيح فرع التعارض.

    (1) لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد نهى عن الانتباذ في أوعية الدَّبَاء (وعاء من القرع اليابس)، والحنتم (نوع من الجرار الخضر)، والنقير (وعاء من جذع منقور)، والمقير (وعاء مطلي بالزفت)، ثم بعد ذلك رخص لهم. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد خصَّها بالنهي لسرعة إسكار (تخمر) ما يوضع فيها.


    =============
    مسائل في السنة
    متولي البراجيلي
    الحلقة السابعة
    دفع توهم التعارض بين النصوص
    الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
    في العدد السابق تكلمنا عن التعارض الظاهري بين النصوص، ورأينا أن النصوص مبرأة من التعارض والتناقض، فأدلة الشرع حق، والحق لا يتناقض بل يصدِّق بعضه بعضًا، وأن التعارض إنما يكون في ذهن المتلقي، إما لقصور في علمه أو في فهمه أو في تدبره، وذكرنا أنه إذا ظهر التعارض، فالواجب فعله على الترتيب:

    أولاً: الجمع بين المتعارض ما أمكن.
    ثانيًا: النسخ.
    ثالثًا: الترجيح.
    رابعًا: طلب الدليل في المسألة من غيرها.
    خامسًا: التوقف.
    وسنرى- إن شاء الله- في هذا العدد كيفية دفع التعارض بين النصوص بالأمثلة العملية. وكما سبق أن أشرنا في الحلقة السابقة، فإننا سنركز الحديث عن التعارض المتوهم بين نصوص السنة لطبيعة المقالات التي نكتبها تحت عنوان: "مسائل في السنة".
    مثال للتعارض بين آية وحديث:
    عن عائشة رضي الله عنها أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "ليس أحدٌ يحاسب يوم القيامة إلا هلك".
    {صحيح البخاري}
    وفي الآية، قال الله تعالى: فأما من أوتي كتابه بيمينه (7) فسوف يحاسب حسابا يسيرا
    {الانشقاق: 7، 8}.
    وجه التعارض:
    أن لفظ الحديث عام في تعذيب كل من حوسب، ولفظ الآية دال على أن بعضهم لا يعذب.
    كيفية دفع التعارض:
    الواجب أولاً الجمع، إذ الأصل في الدليلين الإعمال لا الإهمال.
    ووجه الجمع بينه لنا المعصوم صلى الله عليه وسلم عندما سألته عائشة رضي الله عنها عن الآية والحديث؛ لأنها تمسكت بظاهر لفظ الحساب لأنه يتناول القليل والكثير- كما في صحيح البخاري- فقال لها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "إنما ذلك العرض( يعني الحساب الذي في الآية) وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عُذِّب".
    قال القرطبي: معنى قوله صلى الله عليه وسلم : "إنما ذلك العرض" أن الحساب المذكور في الآية إنما هو أن تعرض أعمال المؤمن عليه حتى يعرف منة الله عليه في سترها عليه في الدنيا وفي عفوه عنها في الآخرة. {فتح الباري ج11-410}
    وقد وقع ذلك لغير عائشة رضي الله عنها، فوقع لحفصة رضي الله عنها لما سمعت حديث النبي صلى الله عليه وسلم : "لا يدخل النار أحد ممن شهد بدرًا والحديبية".
    قالت: أليس الله يقول: وإن منكم إلا واردها، فأجيبت بقوله: ثم ننجي الذين اتقوا {مريم: 71- 72}. {فتح الباري ج1-238}
    قال الحافظ ابن حجر: ولأحمد وجه آخر عن عائشة: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته: "اللهم حاسبني حسابًا يسيرًا"، فلما انصرف قلت: يا رسول الله، ما الحساب اليسير؟ قال: "أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه، إن من نوقش الحساب يا عائشة يومئذ هلك".
    {فتح الباري ج11-408}
    أمثلة للتعارض بين حديثين والجمع بينهما:
    1- عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليصلي الصبح، فينصرف النساء ملتفِّفات (متلفِّعات) بمروطهن(1)، ما يعرفن من الغلس(2). {صحيح سنن الترمذي 153}
    - عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر". {صحيح سنن الترمذي: 154}
    وجه التعارض:
    في حديث عائشة رضي الله عنها (وهو في الصحيحين أيضًا) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الفجر ويخرج الناس في الظلام، وفي حديث رافع حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على الإسفار بالفجر، والإسفار هو ظهور النور قبل طلوع الشمس مباشرة.
    قال الترمذي: وقد اختار التغليس بصلاة الفجر غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي #- منهم أبو بكر وعمر- ومن بعدهم من التابعين.
    وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق، وهو قول مالك أيضًا.
    وقال أيضًا: وقد رأى غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين الإسفار بصلاة الفجر وبه يقول سفيان الثوري، وهو قول الحنفية.
    كيفية دفع التعارض:
    من العلماء من قال: إن حديث التغليس كان في ابتداء الإسلام ثم نسخ، ومنهم من قال: حديث عائشة رضي الله عنها فعلي، وحديث رافع رضي الله عنه قولي، فيُقدم القول على الفعل عند التعارض، ومنهم من أوَّل الإسفار بأنه أن يَضِحَ (يضيء) الفجر فلا يُشك فيه... إلى غير ذلك.
    وكما قلنا: إنه لو أمكن الجمع وجب لعدم طرح دليل والعمل بآخر، وهذا ما ذهب إليه ابن القيم في إعلام الموقعين، فقال: وهذا بعد ثبوته (يعني حديث الإسفار)، إنما المراد به الإسفار دوامًا لا ابتداءً فيدخل فيها مغلسًا ويخرج منها مسفرًا، كما كان يفعله صلى الله عليه وسلم ، فقوله موافق لفعله لا مناقض له.
    والذي ذهب إليه ابن القيم هو الذي اختاره الطحاوي في شرح الآثار، فقال: فالذي ينبغي، الدخول في الفجر في وقت التغليس والخروج منها في وقت الإسفار على موافقة ما روينا عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن.
    ويؤيد الجمع على ما ذكر الإمامان ابن القيم والطحاوي ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي موسى رضي الله عنه أن صلِّ الصبح بسواد أو قال بغلس وأطل القراءة.
    وكذلك ما ورد عن أبي بكر رضي الله عنه في تغليسه في صلاة الفجر وتطويله القراءة فيها حتى خيف عليه طلوع الشمس، وهذا بحضرة أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه أحد.
    {سنن الترمذي، تحفة الأحوذي بتصرف}
    2- حديث طلق رضي الله عنه: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل يمس ذكره هل عليه الوضوء؟ فقال: لا، إنما هو بضعة منك.
    {أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي}
    - حديث بسرة بنت صفوان رضي الله عنها عن الرسول صلى الله عليه وسلم : "من مسَّ ذكره فليتوضأ".
    {صحيح ابن ماجه والنسائي والترمذي}
    وجه التعارض:
    في حديث طلق قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل هل عليه الوضوء؟ قال: لا، يعني ليس عليه وضوء.
    بينما في حديث بسرة أمر النبي صلى الله عليه وسلم من مسَّ ذكره بالوضوء.
    كيفية دفع التعارض: من العلماء من قال بنسخ حديث بسرة لحديث طلق، ومنهم من قال بترجيح حديث بسرة، كما قال البخاري: أصح حديث في الباب حديث بسرة.
    ومن العلماء من جمع بين الدليلين وهو الأولى- والله أعلم- كشيخ الإسلام ابن تيمية كما ذكر ذلك الألباني في تمام المنة ورجحه.
    ونقل الشيخ ابن عثيمين في شرح الأصول من علم الأصول، قول بعض العلماء بالجمع، وقالوا: إن الترجيح متعذِّر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علَّل في الحديث الثاني بعلة لا يمكن رفعها وهي قوله: إنما هو بضعة منك، فهذه علة لا يمكن أن تزول، فإذا ثبت الحكم لعلة لا تزول لا يمكن رفعه، فهو بضعة منك كما لو لمست أذنك أو فخذك أو قدمك لم ينتقض الوضوء... إلى أن قال: واختلفوا في الجمع على طريقين:
    الطريق الأول: أن يحمل الأمر في قوله: "فليتوضأ" على الاستحباب.
    الطريق الثاني: أن يحمل قوله: "فليتوضأ" على ما إذا مسَّه بشهوة، قالوا: وهذا الحمل يومئ إليه قوله: "إنما هو بضعة منك" لأنك إذا مسست ذكرك على أنه بضعة منك كما تمس سائر الأعضاء لا يحصل بذلك شهوة، وإذا مسسته لشهوة فارق بقية الأعضاء وصار مسُّك إياه لمعنى يختص به، وهو مظنة الحدث مثل النوم، ورجح الشيخ القول بالجمع. {الوجيز: لعبد العظيم بدوي، وتمام المنة للألباني، وشرح الأصول لابن عثيمين}
    3- حديث جابر رضي الله عنه في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم وهو في صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر يوم النحر بمكة.
    - حديث ابن عمر رضي الله عنهما- وهو في البخاري ومسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها (أي الظهر) بمنى.
    وجه التعارض: أن النبي صلى الله عليه وسلم حجَّ مرة واحدة في حياته وهي حجة الوداع فكيف يصلي الظهر في حديث جابر- يوم النحر- بمكة، وكيف يصليها في حديث ابن عمر بمنى.
    دفع التعارض:
    من العلماء من قال بالترجيح فرجَّح حديث جابر لأنه وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم كلها وكان متتبعًا لها ولم يفته عامة أفعاله صلى الله عليه وسلم فيكون أضبط من غيره. ورجَّح البعض الآخر حديث ابن عمر لأنه في الصحيحين، وكما هو معلوم فإن الحديث المتفق عليه بين الشيخين البخاري ومسلم أرجح مما انفرد به أحدهما وحديث جابر لم يروه البخاري.
    لكنه يمكن الجمع بينهما- وهو أَوْلى- بدلاً من توهيم جابر أو ابن عمر رضي الله عنهم، فإن هذا بعيد؛ لأنهما يحكيان فعلاً فعله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأصحابه، فالوهم فيه بعيد.
    فالجمع بينهما يكون بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمكة في أول الوقت بالحرم، ولما خرج إلى منى وجد بعض أصحابه لم يصلِّ، فصلى بهم لأنه الإمام صلى الله عليه وسلم ، فصارت له نافلة ولهم فريضة، ولا غرابة في هذا، فقد فعل هذا معاذ بن جبل رضي الله عنه وهو دون النبي صلى الله عليه وسلم مرتبة، فكان يصلي العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يخرج إلى قومه فيصلي بهم وهي له نافلة ولهم فريضة، وهذا بعلم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وإقراره.
    {شرح الأصول: لابن عثيمين. بتصرف}
    4- حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس". {متفق عليه}
    حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس. {متفق عليه}
    وجه التعارض: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الداخل إلى المسجد في حديث أبي قتادة أن يصلي تحية المسجد، وهذا عام يشمل كل الأوقات، وأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس في حديث أبي هريرة.
    كيفية دفع التعارض: من العلماء من قال: إن النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر نهي عام يشمل جميع الصلوات بما فيها تحية المسجد لذا كره أبو حنيفة والأوزاعي والليث صلاة تحية المسجد في وقت النهي.
    والأولى الجمع بينهما فنخص الحديث العام في النهي عن الصلاة بعد الفجر وبعد العصر بالصلاة ذات السبب كمثل تحية المسجد، فهي تصلى في كل الأوقات، ويؤيد هذا ما ذكره الإمام النووي في شرح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك تحية المسجد في حال من الأحوال، بل أمر الذي دخل المسجد يوم الجمعة وهو يخطب فجلس أن يقوم فيركع ركعتين، مع أن الصلاة في حال الخطبة تُمنع إلا التحية، فلو كانت التحية تترك في حال من الأحوال لتركت وقت الخطبة.
    فوائد:
    1- يكتفي الرواتب القبلية عن تحية المسجد لأن المقصود ألا يجلس في المسجد قبل أن يأتي بصلاة، فإذا أتى بالراتبة كفى ذلك، وهكذا إذا جاء وقد أقيمت الصلاة كفت الفريضة عن تحية المسجد. {فتاوى اللجنة الدائمة (7-270)}
    2- يلحق بتحية المسجد في صلاتها في كل الأوقات الصلوات ذات السبب، من ذلك سنة الوضوء، فتصلى في أي وقت، وكذلك صلاة الاستخارة، لكن صلاة الاستخارة فيها تفصيل، فإن كانت في أمر يفوت قبل زوال النهي فصلِّها، وإن كانت في أمر لا يفوت فلا تُصلّى وتصلى في غير أوقات النهي.
    وكذلك "إعادة الصلاة" لمن صلاها وجاء إلى مسجد فوجد الجماعة فإنه يصلي معهم ولو بعد الصبح والعصر؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم الرجلين اللذين صليا في رحالهما أن يصليا جماعة، فقال صلى الله عليه وسلم : "إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصلِّيا معهم فإنها لكما نافلة"، وهذا كان بعد صلاة الصبح".
    {صحيح سنن الترمذي، شرح صحيح مسلم للنووي}
    5- حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى ولا صفر ولا هامة". فقال أعرابي: يا رسول الله، فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيجيء البعير الأجرب فيدخل فيها فيجربها كلها؟ قال: "فمن أعدى الأول"؟ {متفق عليه}.
    - حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "لا يُوَرَدَنَّ مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ".
    {متفق عليه}
    - حديث أبي هريرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم : "... وفر من المجذوم كما تفرُّ من الأسد". {البخاري}
    وجه التعارض: الحديث الأول ينفي العدوى، بينما الحديثان الثاني والثالث يثبتانها.
    كيفية دفع التعارض: من العلماء من قال إن حديث: "لا يوردن ممرض على مصح" منسوخ بحديث: "لا عدوى".
    قال الإمام النووي في شرح مسلم: "وهذا غلط ( أي النسخ ) لوجهين: أحدهما أن النسخ يكون عند تعذر الجمع بين الحديثين، ولم يتعذر.
    والثاني: أنه يشترط فيه معرفة التاريخ، وتأخر الناسخ وليس ذلك موجودًا هنا.
    وقال آخرون: حديث "لا عدوى" على ظاهره، وأما النهي عن إيراد الممرض على المصح فليس للعدوى، بل للتأذى بالرائحة الكريهة، وقبح صورته، وصورة المجذوم.
    والصحيح أن العدوى منفية وغير ثابتة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : "لا يعدي شيء شيئًا".
    والأمر بعدم الدخول على المريض والفرار من المجذوم فمن باب سد الذرائع، أي لئلا يتفق للشخص الذي يخالط المجذوم، أو المريض حصول شيء له من ذلك المرض، بتقدير الله تعالى ابتداءً لا بالعدوى المنفية، فيظن أن ذلك كان بسبب مخالطته له، فيعتقد صحة العدوى وأنها تعدي بطبعها وينسى أن ذلك كله بقدر الله تعالى فيقع في الإثم".
    {صحيح مسلم بشرح النووي، التأسيس لمصطفى سلامة}
    6- حديث عائشة رضي الله عنها قالت: من حدثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائمًا، فلا تصدِّقوه، ما كان يبول إلا قاعدًا.{صحيح سنن الترمذي}
    - حديث حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سُبَاطة(3) قوم، فبال عليها قائمًا، فأتيته بوَضوء، فذهبت لأتأخر عنه، فدعاني حتى كنت عند عقبيه، فتوضأ، ومسح على خفيه.
    {صحيح سنن الترمذي}
    وجه التعارض: التناقض بين حديثي عائشة وحذيفة رضي الله عنهما، فهذا ينفي وهذا يثبت.
    كيفية دفع التعارض: من العلماء من قال: إن حديث البول قائمًا منسوخ بحديث عائشة رضي الله عنها.
    والصحيح الجمع، فنفي أم المؤمنين عائشة هو نفي لما لا تعلم من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبل قائمًا قط في البيوت.
    وإثبات حذيفة رضي الله عنه لبول النبي صلى الله عليه وسلم قائمًا كان في خارج بيوت النبي صلى الله عليه وسلم ، والمثبت كما هو معلوم معه زيادة علم.
    فالغالب على النبي صلى الله عليه وسلم البول قاعدًا، مع جواز البول قائمًا إذا احتاج إلى ذلك وأمن رشاش البول.
    وقد ثبت عن عمر وعلي0 وزيد بن ثابت وغيرهم أنهم بالوا قيامًا، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عنه شيء.
    {تحفة الأحوذي، تأويل مختلف الحديث، لابن قتيبة}
    هذا والله أعلم، وللحديث بقية.
    (1) المروط: جمع مِرْط، وهو كساء معلم من صوف أو خز.
    (2) الغلس: ظلمة آخر الليل.
    (3) سُباطة: هي المزبلة.

    ===========
    مسائل في السنة
    إعداد : متولي البراجيلي
    الحلقة الثامنة

    النسخ في السنة



    الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
    ذكرنا في الأعداد السابقة خطوات دفع التعارض الظاهري بين النصوص، ورأينا أنه متى أمكننا الجمع بين الدليلين وجَبَ ذلك، وضربنا أمثلة عملية على ذلك، وفي هذا العدد- إن شاء الله- سننتقل إلى الخطوات التالية لدفع التعارض، ألا وهي النسخ، والنسخ لا يصار إليه إلا في حالة عدم القدرة على الجمع.

    والنسخ هو رفع حكم متقدم بحكم تالٍ متأخر، وهو ليس من السهولة بمكان، حتى قال الزهري- رحمه الله- أعيا الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا ناسخ الحديث من منسوخه.


    مثال (1): "إنما الماء من الماء":


    عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما الماء من الماء". {رواه مسلم}.
    - وعن أُبي بن كعب رضي الله عنه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، أنه قال؛ في الرجل يأتي أهله ثمَّ لا ينزل، قال: يغسل ذكره ويتوضأ. {رواه مسلم}
    والماء الأول في الحديث هو الماء المعروف، وأما الماء الثاني فهو المني، وهذا من باب الجناس التام، والمعنى أنه لا غسل إلا بنزول المني.
    الحديث الناسخ: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جهدها، فقد وجب عليه الغسل، وإن لم يُنزل". {متفق عليه، "وإن لم يُنزل" عند مسلم}
    فالحديث الثاني ناسخ للحديثين الأولين وما في معناهما، قال العلماء: العمل على هذا الحديث (الناسخ)، وأما حديث الماء من الماء فالجمهور من الصحابة ومن بعدهم قالوا: إنه منسوخ.
    {شرح النووي على صحيح مسلم}
    تنبيه: في حديث "إنما الماء من الماء" نسخ فيه مفهوم المخالفة لا منطوقه، فالمنطوق وهو إيجاب الغسل بنزول المني، هذا لا خلاف فيه.
    أما مفهوم المخالفة وهو عدم إيجاب الغسل عند عدم نزول المني؛ فهو الذي نُسخ.
    والنسخ هنا وقع بإجماع الأمة، وأن عدم الغسل إلا بالإنزال كان في أول الأمر ثم نُسخ بالحديث الذي ذكرناه وما في معناه من أحاديث أخرى.


    مثال (2): الوضوء مما مست النار:


    عن عائشة رضي الله عنها تقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "توضؤوا مما مست النار". {أخرجه مسلم}
    الحديث الناسخ: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل عرقًا (أو لحمًا) ثم صلى ولم يتوضأ ولم يمس ماءً. {متفق عليه}
    - وعن جابر رضي الله عنه قال: كان آخر الأمرين من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار. {صحيح أبي داود وغيره}
    فالحديث الأول نُسخ بفعل النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وبتصريح جابر رضي الله عنه كما بالحديث الثاني.
    فجماهير العلماء من السلف والخلف على أنه لا ينتقض الوضوء بأكل ما مسته النار.
    {شرح النووي لمسلم}
    وقد حمل بعض أهل العلم الوضوء مما مست النار على الاستحباب، فقالوا بالنسخ لكن من الوجوب إلى الاستحباب.


    مثال (3): الغُسْل من غَسَل الميت:


    حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "من غسّل ميتًا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ". {صحيح أبي داود وغيره}
    وظاهر الأمر في الحديث يدل على الوجوب.
    الحديث الناسخ: حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس عليكم في غُسل ميتكم غسل إذا غسلتموه، فإن ميتكم ليس بنجس فحسبكم أن تغسلوا أيديكم".
    - قول ابن عمر رضي الله عنهما: كنا نغسّل الميت فمنا من يغتسل، ومنا من لا يغتسل.
    قال الألباني رحمه الله: والحديثان موقوفان؛ أولهما حسن، والثاني صحيح ولهما حكم الرفع.
    {أحكام الجنائز}
    والنسخ هنا انتقال الأمر من الوجوب إلى الاستحباب، من شاء فعل ومن شاء ترك ولا حرج.


    مثال (4): القيام للجنازة:


    عن عامر بن ربيعة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : إذا رأيتم الجنازة فقوموا حتى تخلِّفكم أو توضع. {متفق عليه}
    في الحديث الأمر بالقيام للجنازة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم إذا مرت به الجنازة، حتى إنه قام لجنازة يهودي، وقال: "أليست نفسًا".
    الحديث الناسخ: حديث علي رضي الله عنه، وله ألفاظ:
    1- قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم للجنازة فقمنا، ثم جلس فجلسنا. {مسلم وغيره}
    2- كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمرنا بالقيام في الجنازة، ثم جلس بعد ذلك، وأمرنا بالجلوس. {أحمد وغيره، وله ألفاظ أخرى مخرَّجة في أحكام الجنائز للألباني}
    ونسخ القيام للجنازة على نوعين: نسخ قيام الجالس لها إذا مرَّت، وهو منسوخ بالأحاديث المذكورة.
    والنوع الثاني نسخ القيام لها عند تشييعها حتى توضع في قبرها، فعن طريق إسماعيل بن مسعود بن الحكم الزُّرقي عن أبيه قال: شهدت جنازة بالعراق، فرأيت رجالاً قيامًا ينتظرون أن توضع، ورأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يشير إليهم أن اجلسوا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالجلوس بعد القيام. {أحكام الجنائز للألباني، قال: والحديث أخرجه الطحاوي بسند حسن}
    - قال الإمام النووي في "شرح مسلم": اختلف الناس في هذه المسألة (القيام للجنازة إذا مرَّت)، فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي: القيام منسوخ، وقال أحمد وإسحاق بن حبيب وابن الماجشون المالكيان: هو مخيَّر.
    قال: واختلفوا في قيام من يشيعها عند القبر، فقال جماعة من الصحابة والسلف: لا يقعد حتى توضع... وكرهه قوم.. ثم اختار النووي أن يكون الأمر للندب، والقعود بيانًا للجواز.


    مثال (5): صوم يوم عاشوراء:


    عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يوم عاشوراء يومًا تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية، فلما قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة صامه، وأمر بصيامه، حتى إذا فرض رمضان كان هو الفريضة، وترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه.
    {متفق عليه}
    - وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يأمرنا بصيام يوم عاشوراء، ويحثنا عليه، ويتعاهدنا عنده، فلما افترض رمضان لم يأمرنا، ولم ينهنا، ولم يتعاهدنا عنده.
    {أخرجه مسلم وغيره}
    - وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء، وأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صامه والمسلمون قبل أن يفترض رمضان، فلما افترض رمضان قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "إن عاشوراء يوم من أيام الله (عز وجل)، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه".{أخرجه مسلم وغيره}
    - وقد اتفق العلماء جميعًا على أن صوم عاشوراء الآن مستحب، ولكنهم اختلفوا في حكم صومه في أول الإسلام، فقال جماعة: إن صومه كان واجبًا ثم نُسخ بالأحاديث التي ذكرناها، وقال آخرون: إن صومه لم يكن واجبًا وحملوا الأحاديث المذكورة على تأكيد الاستحباب ولهم أحاديث أخرى تؤيد استدلالهم، فلتراجع في مظانها. {الناسخ والمنسوخ في الحديث لابن شاهين وهامشه}


    مثال (6): الحجامة للصائم:


    في الحديث: "أفطر الحاجم والمحجوم".
    {أخرجه البخاري}
    وقد ذهب جمهور العلماء إلى القول بنسخه للأسباب الآتية:
    1- حديث أنس رضي الله عنه قال: أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم، فمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أفطر هذان"، ثم رخَّص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة. {رواه الدارقطني وقال: رجاله كلهم ثقات}
    وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: رخَّص رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في القُبلة للصائم والحجامة. {إرواء الغليل}. والترخيص يكون بعد النهي.
    والنبي صلى الله عليه وسلم - كما بالبخاري- احتجم وهو صائم، واحتجم وهو محرم. {إرواء الغليل}
    قال ابن حزم: صح حديث: "أفطر الحاجم والمحجوم" بلا ريب، لكن وجدنا من حديث أبي سعيد: أرخص النبي صلى الله عليه وسلم في الحجامة للصائم، وإسناده صحيح فوجب الأخذ به، لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة، فدل على نسخ الفطر بالحجامة سواء كان حاجمًا أو محجومًا.
    {تحفة الأحوذي}


    مثال (7): زيارة المقابر:


    - عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، {فإنها تذكركم الآخرة}، {ولتزدكم زيارتها خيرًا}، {فمن أراد أن يزور فليزر، ولا تقولوا هُجرًا}". {أصل الحديث رواه مسلم، والزيادات مخرجَّة في أحكام الجنائز للألباني}
    - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "إني نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإن فيها عبرة، {ولا تقولوا ما يُسخط الرب} ". قال النووي: وكان النهي أولا لقرب عهدهم من الجاهلية، فربما كانوا يتكلمون بكلام الجاهلية الباطل، فلما استقرت قواعد الإسلام، وتمهدت أحكامه، واشتهرت معالمه أبيح لهم الزيارة، واحتاط النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "ولا تقولوا هُجرًا (الكلام الباطل)".
    وقال الصنعاني في سبل السلام: الكل دال على مشروعية زيارة القبور وبيان الحكمة فيها، وأنها للاعتبار، فإذا خلت من هذه لم تكن مرادة شرعًا.
    - والنساء كالرجال في استحباب زيارة القبور لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : "فزوروا القبور".
    ولمشاركتهن الرجال في العلة التي من أجلها شرعت زيارة القبور: "فإنها ترق القلب، وتدمع العين، وتذكر الآخرة".
    وللأحاديث التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم بالترخيص لهن والزيارة، وقد روت أم المؤمنين عائشة هذه الأحاديث، بل وعلَّمها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ماذا تقول إذا زارت المقابر.
    {أحكام الجنائز للألباني بتصرف}


    مثال (8): زواج المتعة:


    - عن جابر بن عبد الله وسلمة بن الأكوع، قالا: خرج علينا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد أذن لكم أن تستمتعوا، يعني متعة النساء. {متفق عليه}
    الحديث الناسخ: عن ابن سبرة الجهني أن أباه حدثه أنه كان مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقال: "يا أيها الناس، إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرَّم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخلِّ سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا". {أخرجه مسلم}
    - وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسية. {متفق عليه}
    وقد كان نكاح المتعة جائزًا في أول الإسلام، ثم ثبت بالأحاديث الصحيحة أنه نسخ، وانعقد الإجماع على تحريمه، فهو حرام إلى يوم القيامة.


    مثال (9): قتل شارب الخمر:


    قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة، فاقتلوه".
    {صحيح الترمذي وغيره}
    قال الترمذي عقب إخراج الحديث: وإنما كان هذا في أول الأمر، ثم نسخ - بعدُ - وروى بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: إن من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة، فاقتلوه، ثم قال: ثم أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك برجل قد شرب الخمر في الرابعة، فضربه، ولم يقتله.
    وكذلك رَوى الزهري عن قبيصة بن ذؤيب عن النبي صلى الله عليه وسلم ... نحو هذا، قال: فرفع القتل وكانت رخصة.
    والعمل على هذا الحديث عند عامة أهل العلم، لا نعلم بينهم اختلافًا في ذلك في القديم والحديث.
    ومما يُقوِّي هذا، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أوجه كثيرة، أنه قال: "لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيِّب الزاني، والتارك لدينه". {سنن الترمذي}
    قال القاري: المراد الضرب الشديد، أو الأمر للوعيد فإنه لم يذهب أحد قديمًا أو حديثًا إلى أن شارب الخمر يقتل، وقيل كان ذلك في ابتداء الإسلام ثم نسخ.
    وقال ابن حبان في صحيحه: إذا استحل (الخمر)، ولم يقبل التحريم (يقتل).
    وقال المنذري: قال الإمام الشافعي رحمه الله: والقتل منسوخ بهذا الحديث. {حديث قبيصة المذكور فيما سبق} وغيره.
    وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يقتل الشارب وأن القتل منسوخ. {تحفة الأحوذي}


    مثال (10): إدخار لحوم الأضاحي:


    - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال وهو يخطب العيد: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهانا أن نأكل من لحوم نسكنا (ذبائحنا) بعد ثلاث.
    {متفق عليه}
    عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يأكل أحدكم من لحم أضحيته فوق ثلاثة أيام. {مسلم}
    - عن عبد الله بن واقد رضي الله عنه قال: نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، قال عبد الله بن أبي بكر: فذكرت ذلك لعَمْرةَ فقالت: صدق، سمعت عائشة تقول: دفَّ أهل أبيات من أهل البادية عند الأضحى زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "أخروا ثلاثًا، ثم تصدقوا بما بقي"، فلما كان بعد ذلك قالوا: يا رسول الله، إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم، ويجملون منها الوَدَك، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "وما ذاك؟"، قالوا: نهيت أن تؤكل الضحايا بعد ثلاث، فقال: "إنما نهيتكم من أجل الدافَّة(1) التي دفَّت، فكلوا وادخروا وتصدقوا". والدافة: القوم يُجدبون في القحط. {رواه مسلم}
    - عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن النبيذ إلاَّ في سقاء فاشربوا في الأسقية كلها، ولا تشربوا مسكرًا". {رواه مسلم}
    قال النووي: واختلف العلماء في الأخذ بهذه الأحاديث، فقال قوم: يحرم إمساك لحوم الأضاحي، والأكل منها بعد ثلاث، وإن حكم التحريم باقٍ كما قال علي وابن عمر.
    وقال جماهير العلماء: يُباح الأكل والإمساك بعد الثلاث، والنهي منسوخ بهذه الأحاديث المصرحة بالنسخ لا سيما حديث بريدة، وهذا من نسخ السنة بالسنة. {شرح النووي لمسلم}
    وللحديث بقية إن شاء الله رب العالمين.

    (1) الدافة: المراد بهم ضعفاء الأعراب.

  9. #9

    افتراضي

    السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ ضَرورَةٌ حَتْمِيَّةٌ (1): الْمُذَكِّرات التَّفْسِيرِيَّة

    http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=4205

    السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ ضَرورَةٌ حَتْمِيَّةٌ (2): اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ

    http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=4207

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. الأدلة القرآنية على حجية السنة النبوية (حوار مع منكر السنة )
    بواسطة فخر الدين المناظر في المنتدى قسم السنة وعلومها
    مشاركات: 136
    آخر مشاركة: 03-06-2018, 10:10 PM
  2. الرد على شبهات المستشرقين حول السنة النبوية.. لأحمد محمد بوقرين
    بواسطة الفرصة الأخيرة في المنتدى قسم السنة وعلومها
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 07-16-2011, 02:48 AM
  3. مشاركات: 58
    آخر مشاركة: 06-20-2011, 01:51 AM
  4. أجوبة د.محمد عجاج الخطيب عن (السنة النبوية والرد على الشبهات المثارة )
    بواسطة د. أحمد إدريس الطعان في المنتدى اللقاءات
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 10-18-2006, 01:11 PM
  5. مشاركات: 31
    آخر مشاركة: 09-23-2006, 03:53 AM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء