حتمية السنة وضمان استمرارها
-------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله وسلم وبارك على نبيه الكريم وآله
حتمية السنة النبوية وضمان استمرارها
بقلم: الدكتور الشريف محمد حمزة بن علي الكتاني:
الحمد لله الذي ضمن لنا الدين وجعله خاتمة الأديان وناسخها، وحجة الرسل إلى يوم القيامة ووسيلتها وشريعتها، وأخذ العهد على سائر الأنبياء والرسل لإن أدركوا النبي ليعزرنّه ولينصرُنه وليتبعنه، فكان عهد المتبوعين عهدا لأتباعهم جاحِدِهم ومن استنّه، وضمن بذلك حفظ الوحي الأغر طول الدهور والأجيال، بطرفيه القرآن والسنة كما صح وتواتر من الأنقال.
وصلى الله وسلم وبارك على يعسوب الكمالات ومَنبعها، وقاموس الرسالات ومُجمَلها، الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى، والمقتدى بقوله وفعله وسكوته ونطقه بالفصيحة الفصحى، فألبس عليه الحق بذلك جلبابا من اللاهوتية، على أتم ما يكون من الناسوتية العبدية. ما تواتر الليل والنهار، والظل والإسفار، وعلى آله السفينة التي من ركبها نجا، والنجوم الذين من اقتدى بهم التجا، وأصحابه المؤتمنين الموثقين المعَدّلين من الله العلي، رسُل الرسالة وأمنتها من الدخيل والغوي، وتابعيهم من رواة الآثار، وحماة السنة الأبرار.
أما بعد؛ فقد روينا بالأسانيد المتصلة إلى النبي ، بسند حسن صحيح عن سيدنا علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه - مرفوعا إلى النبي أنه قال: "يحملُ هذا العلمَ من كل خَلَفٍ عُدُوله، يُنفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين"( ). يعد هذا الحديث الشريف من علامات النبوة، ومن الأحاديث الكريمة التي أثبتت اتصال العلم الشريف وحفظه وبقاءه، علاوة على قول الله تعالى عن الوحي الكريم: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}.[الحجر: 9]. والقرآن – كما لا يخفى – إشارة للدين ككل، وهو من باب إضافة الخاص على العام.
فقد تكفل الله تعالى بحفظ دينه إجمالا، وعصمته من طوارق الحدثان عليه، وشقشقات وهذيان أهل الدسائس والمكر والزيغ، فلا يأتي زمن تبرد فيه جذوة الشريعة الإلهية، وتتفصم فيه عرى الدين المحمدي إلا ويبعث الله تعالى من يجدد أمر الدين، ويحيي دارسه، ويبعث الروح في أطرافه، وهو مصداق قول النبي فيما رواه عنه أبو داود والحاكم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه: "إن الله يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"( ).
جهود مضنية للتشكيك في السنة النبوية:
وقد طعن أهل الأهواء قديما وحديثا على السنة النبوية، متخذينها معولا لهدم الإسلام كله، فقد عمل المعتزلة قديما جهدهم في الطعن فيها، وهم كما قال الأستاذ مصطفى السباعي: بين منكر للسنة كلها، وما بين مشترط في قبولها شروطا لا يمكن أن تقع. مع ما كانوا فيه من رقة في الدين، وشعوبية أوصلت بعضهم للطعن في النبي ( ).
كما عمل المستشرقون – وعلى رأسهم جولد تسيهر – في خطة استعمارية لهدم الإسلام والتشكيك فيه، على نشر مختلف الشبهات والآراء المغرضة حول السنة النبوية وجمعها، وطريقة نقلها إلى أن دونت في المصنفات الشهيرة.
وبين هؤلاء وأولئك، نشطت مجموعة من الشيعة الإمامية، والعلمانيين في تصنيف المصنفات، وكتابة الأبحاث والمقالات التي تطعن في السنة النبوية، وتُعمل المعاول لهدمها وإبطالها، سواء بالطعن في حجيتها أصلا، أو بالطعن في رواتها وعدالتهم، خاصة الصحابة الكرام، أو بالطعن في علوم الجرح والتعديل التي تمالأ الناس عليها منذ عصر النبوة حتى تبلورها في القرن الثالث والرابع إلى الآن.
وقد نبتت نابتة في عصرنا يسمون بالقرآنيين، يقولون: "القرآن قطعي الدلالة، قطعي الثبوت، فنأخذ به، ونُحاج به. أما السنة؛ فقد دخلها ما دخلها من الاعوجاج والدخيل، والأطماع السياسية والأهواء المذهبية، على أنها إنما دونت بعد نحو مائة عام من الهجرة، ولم تُحفظ إلا في أفواه الرجال، الذين كان كثير منهم غير متفقهة ولا يعرفون ما يروون"..إلخ مغالطاتهم.
ردود الأعلام على محاولات التشكيك في السنة:
وقد رد على هؤلاء القوم جمهرة من أعلام الإسلام في السابق واللاحق؛
فمما ألف في السابق:
"السنة". للإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل.
ومنها: "السنة". لأبي بكر أحمد بن محمد الخلال.
ومنها: "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة". للإمام الحافظ أبي القاسم هبة الله اللالكائي.
ومنها: "السنة". للحافظ أحمد بن عمرو ابن أبي عاصم.
ومن أعظم ما كتب في ذلك حديثا: "دفاع عن السنة، ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين، وبيان الشبه الواردة على السنة قديما وحديثا، وردها ردا علميا صحيحا". للعلامة محمد بن محمد أبو شهبة.
ومنها: "ابتداء التدوين في صدر الإسلام". للحافظ الشيخ عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني.
ومنها: "السنة قبل التدوين". للعلامة محمد عجاج الخطيب.
ومنها: "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي". للعلامة الأستاذ مصطفى السباعي.
ولا شك أن هذا من دلائل النبوة، فقد روي في الحديث الصحيح عن أبي رافع مرفوعا: "لا ألفينَّ أحدًا متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه!".
غير أنني ارتأيت في هذا البحث المختصر، أن أدلو بدلوي، حتى تكون لي يد في الدين، ومع رسول الله ، ولله در الإمام البوصيري حيث قال في همزيته:
وإذا سخر الإله أناسًا=== لسعيد فإنهم سعداء
وإذا عظمت سيادة متبو===ع أجَلَّ أتباعه الكبراء
خطة البحث:
ولذلك ارتأيت أن يدور بحثي على المحاور التالية:
مقدمة في تعريف السنة النبوية.
1- تعريف كلمتي الشهادة، وتلازمهما.
2- الإيمان بالنبي يقتضي الإيمان بالسنة.
3- دلائل القرآن الكريم على وجود السنة وحجيتها.
4- تدوين السنة في العصر النبوي والرد على شبهات الطاعنين.
5- عدالة الصحابة الكرام.
6- علوم الحديث وتميُّزها.
7- السنة أحد طرفي الوحي.
8- لا إسلام من غير السنة النبوية.
الخاتمة.
جعل الله تعالى ذلك لوجهه مقتصرا، وعلى الحق والتوفيق قاصرا، ووقاني أمراض القلوب ووساوس الشياطين، بمنه وكرمه...آمين.
المقدمة في تعريف السنة النبوية
السنة لغة: الصورة والوجه، قال ذو الرمة:
تُريك سُنة وجه غيرِ مُفرِقة===ملساء ليس بها خال ولا نَدَب
ُ
والطريقة، محمودة كانت أو مذمومة، ومنه قوله : "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة"( ). ومن حديث: "لتتبعن سَنن من كان قبلكم، شبرا بشبر وذراعًا بذراع"( ). والسنة: السيرة، والسنة: الطبيعة والفطرة. وسنة الله: أحكامه وأمره ونهيه. وتطلق السنة لغة على القرآن والحديث( ).
والسنة في اصطلاح المحدثين: ما أثر عن النبي من قول أو فعل أو تقرير، أو صفة خَلقية أو خُلقية، أو سيرة، سواء كانت قبل البعثة أم بعدها، وهي بهذا ترادف الحديث عند بعضهم( ).
وفي اصطلاح الأصوليين: ما نقل عن النبي من قول أو فعل أو تقرير( ). وقد تطلق "السنة" عندهم على ما دل عليه دليل شرعي، سواء كان ذلك في الكتاب العزيز أو عن النبي ، أو اجتهد فيه الصحابة، كجمع المصحف الكريم، وحمل الناس على القراءة بحرف واحد، وتدوين الدواوين. ويقابل ذلك: البدعة. ومنه: قوله : "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي"( ).
وفي اصطلاح الفقهاء: ما ثبت عن النبي من غير افتراض ولا وجوب، وتقابل الواجب وغيره من الأحكام الخمسة، وقد تطلق عندهم على ما يقابل البدعة، ومنه قولهم: طلاق السنة كذا، وطلاق البدعة كذا( ).
ومرد هذا الاختلاف في الاصطلاح: إلى اختلافهم في الأغراض التي يعنى بها كل فئة من أهل العلم( ).
ونحن هنا نعني بالسنة: ما عناه المحدثون والأصوليون، لأنها بتعريفهم هي التي يبحث عن حجيتها ومكانتها في التشريع.
الحواشي:
( ) صحح هذا المتن الإمام أحمد – رحمه الله – كما نقل ذلك عنه الخطيب البغدادي كما في "الجامع الكبير" للسيوطي (8/ 62 – 63).
( ) رواه أبو داود في "السنن" (4/ 109)، والحاكم في "المستدرك على الصحيحين" (567، 568).
( ) "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" تأليف الدكتور مصطفى السباعي ص21. الطبعة الثانية – دار الوراق، ودار السلام.
( ) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه (==) عن جرير بن عبد الله البجلي.
( ) أخرجه البخاري في صحيحه ()، ومسلم في صحيحه ()، عن أبي سعيد الخدري.
( ) "لسان العرب" (13 /224).
( ) "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" ص57.
( ) "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" ص57.
( )"الموافقات" للشاطبي (4/ 6)، والحديث أخرجه أبو داود في سننه ()، والترمذي في سننه ()، عن العرباض بن سارية، وقال الترمذي: "حسن صحيح".
( ) "إرشاد الفحول" ص31.
( ) "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" ص58.
-يتبع-
Bookmarks