إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا


لقد خلق الله عز وجل بني آدم و اصطفاهم و ميزهم عن سائر المخلوقات، وحباهم بالنعم الظاهرة والباطنة، قال تعالى :« وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا

ومن بين هذه النعم التي حبانا الله بها نعمة العقل، التي لم نكتسبها بالتطور و الارتقاء و إنما هي هبة و منة من الله عز وجل

ولا يخفى على مبتدئ في علوم الشريعة مدى العناية التي حضي بها العقل في ديننا الحنيف فقد جُعل مناط التكليف ومدح الله العاقلين أولي الألباب والنهى في أيما موضع من كتابه العزيز، بل ولا يوجد دين اشترط العقل في التكليف إلا الإسلام


وهذا العقل الذي كُرمنا به عن سائر الكائنات جعل الله له مصادر تمده و تغذيه بالمعرفة ويقرر القرآن ذلك في قول الله عز وجل :« لا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا»[1] يقول الرازي في تفسيره لهذه الآية :« العلوم إما مستفادة من الحواس ، أو من العقول . أما القسم الأول : فإليه الإشارة بذكر السمع والبصر ، فإن الإنسان إذا سمع شيئاً ورآه فإنه يرويه ويخبر عنه، وأما القسم الثاني : فهو العلوم المستفادة من العقل وهي قسمان : البديهية والكسبية ، وإلى العلوم العقلية الإشارة بذكر الفؤاد»[2].

فنصت الآية الكريمة أن عملية البحث عن المعرفة تتم بالطرق التالية :

أ ـ الإدراك الحسي : ويدخل فيه البصر و السمع كأداتين للتعرف على العالم الخارجي و الإدراك الحسي يكون إما بواسطة الحواس الظاهرة أو الباطنة [3].

ب ـ إدراك عن طريق السماع : ما تتضمنه شهادات الآخرين و أخبارهم من معارف [4]، وهذا أحد أبرز مصادر المعرفة البشرية وبه استطاع العلم أن يتقدم و يتطور فتجد الإنسان المعاصر يقر بما وصل إليه الأخصائيون قبله فلو أراد أن يسلك مسلكهم ويُبرهن عل صدق ما وصلوا إليه من نقطة البداية لضاع العلم ولما تقدم قيد أنملة ، ويُصبح هذا المصدر أكثر شرفا و مصداقية إذا كان ناقل الخبر صادقا في نقله و إذا كان مصدر الخبر يستحيل عليه الكذب فيطمئن الإنسان حينئذ لما يسمعه، فما بالنا إذا كان مصدر الخبر هو كلام الله عز وجل و ناقله إلينا هو رسول الله صلى الله عليه و سلم فيكون بذلك هذا المنقول إلينا هو أشرف العلوم وهو النور الذي به نهتدي للصلاح في الحال و المآل.

ج ـ الإدراك العقلي للبديهيات ، وإدراك ما يستنبطه العقل من معارف مما ورد إليه عن الطريقين السابقين[5].





ويُلخص الدكتور حبنكة الميداني هذه الطرق في قوله :« عملية البحث عن المعرفة عملية تتعاون فيها وسائل الحس الظاهرة و الباطنة و الآلات و الأدوات التي تستخدمها الحواس، وموازين العقل الفطرية و المكتسبة، ومعارفه السابقة التي اكتسبها بنفسه، و التي تلقاها عن غيره، مما اكتسبه الآخرون من معارف، يضاف إلى ذلك ما يوحي به الله لأنبيائه من معارف تكون لديهم علوما يقينية شبيهة بالعلوم اليقينية التي يكتسبها الناس العاديون بحواسهم »[6].

يتضح من هذا أن اختلافنا مع الملاحدة ليس في اثبات وجود الله وإنما في مصادر المعرفة وفي طريقة التفكير وطريقة ترتيب المعلومات، وأي عضو في هذا المنتدى المبارك ممن طال مكثه سيلاحظ أن حوارات الدكاترة وطلاب العلم مع الملاحدة ليس اثبات وجود الله وإنما تصحيح النسق الفكري الذي يستخدمه الملحد في محاولة منا لإرجاعه إلى زمرة العقلاء
ولن أكون مخطئا إذا قلت وأكدت أن أخطاء الملاحدة تتجلى في الأمور الثلاثة التالية
1 - اعتماده على الحس كمصدر وحيد للمعرفة وبالتالي تكون نتجيته إنكار وجود الله -الإنسان الدارويني-
2 - تشكيكهم في البديهيات العقلية كبديهية مبدأ السببية -وهذا يعفيهم من الترقي لمرتبة إنسان عاقل-
3 - خلطهم بين الخبر الصادق والكاذب وبين الخبر المتواتر وخبر الآحاد وجهلهم بحقيقة أن الخبر المتواتر يفيد اليقين


يتبع إن شاء الله ....

-----------

[1] سورة الإسراء 36 .

[2] مفاتيح الغيب ـ فخر الدين الرازي ـ ج 20 ص 168

[3] ضوابط المعرفة ـ عبد الرحمـن حسن حبنكة الميداني ـ ص 134

[4] المرجع السابق نفس الصفحة

[5] المرجع السابق نفس الصفحة

[6] المرجع السابق ص 126ـ127