فأما
الحكمة المتعلقة بخلق جنس أهل النار فإن منها ما هو راجع إلى ثلاثة أمور:
الأول: ظهور مقتضيات وآثار كمال الله في أسمائه وصفاته وأفعاله:
فإن
كمال الله عز وجل أزلي لله غير مكتسب من خلقه، ولو قدر عدم جميع المخلوقات لما نقص ذلك من كمال الله الذاتي شيء، ولكن
كمال الله تعالى يترتب عليه ظهور آثاره في غيره،
(ولهذا كان القول بنفي حوادث لا أول لها باطلا، لما يترتب عليه من نفي مقتضيات كمال الله تعالى في أسمائه وصفاته وأفعاله، مع التوكيد على أن كل حادث من هذه الحوادث مسبوق بعدمه، فلا يكون مع الله ما هو قديم أو أزلي الوجود، وإن قدر قدم النوع، فالنوع ليس بشيء في الخارج، وإنما هو كتقدير زمن أزلي، مع أنه لا وجود في الخارج إلا لحركات حادثة شيئا بعد شيء).
فإذا علم هذا، علم أن
من كمال الله تعالى أن يخلق المتضادات في الوجود والخير والشر والجزاء، وأن في وجود كل ذلك أثرا من آثار كمال الله تعالى، فيكون في
خلق أهل النار أثرا مقتضى من كمال الله تعالى في
قهره وعدله، فيجري
حكم قهره على من هو
أهل لوقوع ذلك عليه، كما يجري
حكم عدله في عقوبة من
أساء وظلم من خلقه، ولا يكون
الظهور الكامل لذلك بغير وجود
من يستحق الجزاء بالعقوبة الملائمة لجرمه، فإذا كان
فضل الله على البشر في الآخرة متمحضا
لأهل الجنة، فإن
العدل في عقوبة أهل النار أولى أن تتمحض
لأهل النار بعد أن لم يكونوا أهلا
لفضله.
والكلام على
آثار كمال الله في أسمائه وصفاته وأفعاله ومقتضياتها في خلقه أهل النار كلام طويل جدا يحتاج إلى ذكر
كل اسم وصفة وفعل يظهر أثرها في خلق هذا الجنس، ومن تدبر في
أسماء الله وصفاته وأفعاله تبين له عظيم كمال الله تعالى في
سلطانه وقهره وعدله، وعلم حقيقة قوله تعالى:
{مالك يوم الدين} وما تضمنه من
مقتضيات ولوازم ملك الله عز وجل في خلقه.
الثاني: ما يترتب على خلق أهل النار من الخير والصلاح لأهل الإيمان في عاقبة أمرهم:
فإن في
خلق أهل النار وعداوتهم لأهل الإيمان وما بينهم من مقال وقتال
خير وصلاح لأهل الإيمان بما
يعقبهم إياه صبرُهم وصدق إيمانهم وثباتهم على الحق
رغم فتنة الكافرين، وديمومتهم على طاعة الله تعالى مناكفة
لوسواس الشياطين من الإنس والجن، وفي
خلق أهل النار ابتلاء عظيم للمؤمنين حتى يميز الله الخبيث من الطيب، ويظهر من كان إيمانه عن
تصديق لا عن
تقليد الأسلاف بلا بينة ولا برهان، ولو لم
يخلق الله أهل النار في الدنيا لما كان هناك معنى
للأمانة المحمولة من الإنسان في هذه الدار، إذ لا معنى
للأمانة إلا إذا قام بها صاحبها وهو يملك أن يخون إذا شاء رغم وجود دواعي الخيانة،
أو كان بتلك المثابة عند بعض السامعين، فلا يقال لشخص وضع لديه مال وهو
أشل أعمى أبكم أنه حافظ
للأمانة، وإنما يقال للمرء أنه أمين
إذا لم يخن وهو قادر على الأمرين، ودواعي الأمانة والخيانة قائمة من حوله، أو كان بمثابة ذلك عند السامع، وإذا كان لا يوجد
للخيانة معنى ولا أهل، فكيف يقال أنَّ هناك أمانة وأمناء، وهل ذلك إلا كقول أن
الحجر أمين لأنه
لا يقدر على
الخيانة!
فكان في
خلق أهل النار تحقيقا لمعنى العبودية لله تعالى، وإظهار المؤمنين على الكافرين، ونصر أهل الحق على الباطل، وإعزازهم وإعظام أمرهم ورفع درجاتهم في الدنيا والآخرة، وتعظم هذه الحكمة بربطها بالحكمة السابقة حيث يكون في نصر أهل الحق على الباطل
ظهورا لآثار أسماء الله تعالى وصفاته المقتضية النصر والتمكين للمؤمنين على الكافرين، وظهور رضاه ورحمته بأهل طاعته، وغضبه ونقمته على أهل معصيته.
الثالث: تسخير الله لهم كما سخر ما في الأرض لعمارة هذه الدنيا:
فكما أن الله عز وجل
خلق في الدواب والهوام ما هو نافع وضار، وجعل في ذلك
حياة الكائنات وتوازنها واعتدال أمرها، فكذلك كان في
خلق أهل النار حكمة ظاهرة،
لما يترتب عليه من سعيهم بمقتضى البشرية والطبيعة الجبلية إلى السخرة في هذه الأرض لحفظ حياتهم والتكاثر بأملاكهم وأولادهم، فيعمرون الدنيا بخراب آخرتهم، ويبنونها ليسكنها غيرهم بعد فنائهم، ولما أبوا أن يكونوا
عبادا لخالقهم، جعلهم
عبيدا للأرض ومن عليها، فيكدحون في هذه الدنيا كدحا يضنيهم ويشقيهم من أجل متع فانية، ولذاذات زائلة، وحظوظ ذاهبة.
فكان
خلقهم في الأرض كإيجاد الخادم للدار،
يعمرها بكده ونصبه وهو لا يملكها، وتعرض عليه
قصورٌ خير من تلك
الدار ليسكنها
باسمه فيرفضها ويختار عليها البقاء في
رسم الخدمة لغيره من المخلوقين الفقراء حيث
لا ينتهي كده ولا يرتقي في درجته عن منصب الخادم الأجير للدار الحقيرة! هذا والدار لو قورنت بتلك القصور العظام لصارت أشبه بالخراب بل هي الخراب بعينه!
فما أنفع خلق أهل النار للأرض، مع ما سخره فيها من دواب الأرض وهوامها النافعة بضررها!
فتبين بهذه الأمور الثلاثة بعض حكمة الله تعالى في خلق جنس أهل النار، وحكمة الله أوسع من أن يحيط بها علم أحد من خلقه.
Bookmarks