حيث أني أجد الكثيرمن الفلسفات قد تتجاوز محبة الحكمة إلى تحكيم العقل بشكل مبالغ فيه قد يقود صاحبه إلى إنكار الذات الإلهية والتي تؤدي بدورها إلى الإلحاد والعياذ بالله ، إلا أني لا أقول هنا بتغييب العقل الذي خصنا الله به عن سائر مخلوقاته ولا أن العقل قد يتنافى مع الوجود الإلهي ، حاشا وكلا . ولكن ينبغي ألا نشطح به بعيدا لأن ذلك كفيل بإدخالنا في مزالق الكفر والزندقة والحيرة والشك والريبة .
العقل لا يمكن أن يكون حكما في صفات الله ، فلا يمكن أن نعتمد عليه في الإثبات ولا في النفي ، فما أثبته الله لنفسه فهو ثابت له ، وما نفاه عن نفسه فهو منفي عنه ، فا لعقل لايستطيع التحكم في ذلك لان العقل جارحة من جوارحنا وجوارحنا محصورة يسيرة ، فكل جارحة لها حدود إلى أعلى و حدود إلى أسفل ، فجارحة البصر هي العين ، وأقرب شيئ إلى عينك جَفنك فهذا الجفن في ألوان وعروق بيضاء وحمراء ، وأنت لاتراها ولا تبصر شيئا منها لأنها أقرب من مدى البصر ، ولها حدود كذلك إلى أقصى ، فإذا وقفت في مكان مستو ورميت ببصرك فإن له حدودا لايتعداها ،فدل ذلك على أن جوارحك لها حدود إلى أعلى وحدود إلى أدنى ، ومثل ذلك السمع فسمعك له حدود إلى أدنى فإنك لاتسمع ضخ الدم في عروقك وله صوت كبير ، ودقات القلب لاتسمعها ولها صوت كبير ، إنما يسمعها الانسان بالمكثِف إذا وضع السماعة في أذنيه وجعلها مقابل القلب من الأمام أو الخلف فإنه يسمع دقات القلب ، ولكن لا يستشعر ذلك ، ومثل هذا نبض الدم في العروق ،إذا أمسك الدم من مكان في مجتمع للأوردة والشرايين ، فإنه سيحس بالنبض والحركة ، وكل حركة يلازمها صوت ، فما من حركة في العالم إلا لها صوت ، لكن ذلك الصوت قد يكون خفيا ، وقد يكون واضحا ، فالأذن لاتسمع هذه الأصوات لقربها منها ، وكذلك فإن لها مدى في البعد ، فمن الأصوت ما هو أكبرمن طاقة الأذن فلاتتحمله ، كالموجات المضمنة المحيطة بنا ، فهي كبيرة ونحن لانسمع أ صوتها وكذلك قوة الصاعقة تبلغ بحيث لاتسمعها الأذن ، فمن وقعتْ الصاعقة على بيت هو فيه لايسمع لها صوتا ، وهذا مجرب معروف ، فكذلك العقل جارحة من جوارحنا له حدود إلى ادنى ، وهي مبادئ العقول ، وله حدود إلى أعلى وهي مواقف العقول ، فمبادئ العقول ذكر المناطقة منها خمسا وهي المشاهدات و الأوليات والحدسيات والمشهورات والمجربات ، فهذه خمسة أمور هي مبادئ العقل منها ينطلق ، فالعقل الآن لايسأل ما الفرق بين الفوق والتحت ، ولا يسأل لماذا كانت السماء فوقا والأرض تحت ولايسأل عن المكاييل والمعايير ، لماذ ا كانت الساعة ستين دقيقة وكانت الدقيقة ستين ثانية ولم تكن مائة دقيقة ، والدقيقة مائة ثانية . العقل لايسأل عن هذا لانه بدايته فمنه انطلق ، فوجدها مسلمات بين الناس، وجدهم يقيسون الوزن بالكيلو ويقيسون السائلات باللتر ، فاستسلم العقل لذلك ومنه بدأ ، فإذا هذه مبادئ العقول ، أما نهايتها فهي التي يذكرها المناطقة والمتكلمون ويجمعونها في قولهم :" عجل وقِتْب" فالعين : للعرُو من النقيضين ، أي الخلو منهما . و الجم : لجمع النقيضين. واللام : للزوم الدور أو التسلسل . والواو : لوقوع عدد لانهاية له . والقاف : لقلب الحقيقة . والتاء : لتعدد الفاعل وتحصيل الحاصل ، وترجيح بلا مرجح . والباء : لبطلان الحصر . فهذه السبعة هي موافق العقول إليها ينتهي كل عقل كل مفكر ، وبهذا يعلم أن العقل لايمكن أن يكون حكما في ذات الله ولافي صفاته ، لان له حدودا وذات الله وصفاته ليس لها حدود ، فالمحدود لايمكنه أن يحيط بما ليس بمحدود ، فلذلك يبقى العقل معقورا مقصورا دون الوصول إلى حقائق الأمور الأخروية وأهوا ل الحشرمثلا .
وإذا رجع إلى الخلاف بين العقل والحس سيجد أن الحس مشكك وأن العقل متواطئ ، فالطائرة عندما تراها في الهواء تراها جسما صغيرا جدا لايمكن أن يكون على قدر إنسان واحد ، وقد تكون إير باص فيها خمسمائة وأربعون راكبا مثلا ، لاكنك ترها لبعدها صغيرة ، فهذا دليل على أن العين لاتأتي بالحقيقة ، فما هو الحجم الطبيعي ليدك إذا نظرت إليها بعيدا صغرت ، وإذا قربت ازداد كبرها حتى تحتجب عن عينك فهذا دليل على أن الحس مشكك ، وأن الإدراك به ليس مجزوما به ، فمن عرف هذا هانت عليه الأمور ، واستسلم لأمر الله ، واستسلم لصفات الله وآياته ، ولم يتعب نفسه في التفكير في أمور لايبلغها عقله ، لأنه لايمكن الآن أن يفكر في حمل داره لأنه عاجز عن حملها وهو مستسلم لذلك ، لكن يستطيع أن يحمل جهاز الكمبيوتر ، لأنه قادر عليه ، فكذلك العقل يستطيع معالجة الأمور التي هي في طوقه ، وهي بمثابة حمل الجهاز الذي هو في قوة اليد ، ولا يستطيع التفكير في ما هو عاجز عنه كحمل السماوات والأرض ، فهو عاجز عن ذلك مستسلم تمام الأستسلام للعجز عنه فينقاد عند الإستسلام ، وهذا المطلوبُ في الإيمان ، فالمطلوب من كل إنسان منا أن تكون قناعته به كقناعته بعجزه عن حمل السموات والأرض .
قال الله سبحانه وتعالى :{ ولا يحيطون بشيئ من علمه إلا بما شاء . وسع كرسيه السماوات والأرض . ولايؤوده حفظهما . وهو العلي العظيم }
Bookmarks