هذا الذي يسميه الملحد برهان النظم يعرفه علماء الإسلام باسم دليل النظام أو دليل نظام العالم ..
ويسمه الفلاسفة في الغرب دليل العلة الغائية ..
وتقريره أننا نجد في تركيب أجزاء العالم نظامًا وتناسقًا يدل على حكم وغايات واعية عاقلة ..
ففيه دليل على أن بناء الكون مؤسس على الحكمة والتدبير لا الصدفة والعشوائية ..
تأمل مثلاً تكامل العلاقة بين الذكر والأنثى بداية من الانجذاب الغريزي بينهما مرورًا بتكامل الأعضاء التناسلية إلى رحلة الحيوان المنوي في الرحم وهو يعرف طريقه جيدًا ..
ثم اختراق البويضة القابعة في انتظاره في قناة فالوب ..
ثم انتقال البويضة إلى تجويف الرحم وانغراسها في أفضل مكان لنشوء الجنين ..
وهكذا حتى آلية الولادة من انقباض عضلات الرحم وارتخاء عنق الرحم لمرور الوليد ..
ثم تولد عاطفة الأبوة والأمومة التي غرضها رعاية الوليد وحفظ النسل حتى أن المرء ليفضل هلاكه على هلاك نسله ..
وهذا كله لغاية عليا ألا وهي حفظ النسل وبقاء النوع ..
وقس على هذا نظام كل الكائنات الحية ..
حتى الأجرام الجامدة كالكواكب والنجوم فيها من النظام والإتقان ما يبعث السحر والعجب في النفوس ..
فهذا كله يدل دلالة ناصعة على علم الله وإرادته وقدرته اللامتناهية وبالأولى على وجوده ..
ثم نقول للملحد هيوم إن دليل النظام هو دليلٌ عقليٌّ لا تجريبي ..
وعليه فيصح فيه قياس الشاهد على الغائب ..
لأنه كما أن تروس الساعة مصنوعة بدقة على يد صانع ماهر ليسير كل واحد من عقاربها بحسبة محسوبة ..
فإن أجرام السماء مخلوقة بكمال الإتقان في جميع أجزائها الكبيرة والصغيرة بواسطة خالق عليم قدير لتسير بدقة متناهية ..
لأن محل الدليل هنا هو وجود الانتظام والانسجام والإتقان لغاية وهدف وحكمة ..
وهو متحقق في جميع المخلوقات كما أنه متحقق في المصنوعات البشرية ..
فلا يجوز التفريق بينهما وهما متماثلان في هذه الوجهة ..
وإنما اختلفا في غير محل الدليل ..
فضلاً عن هذا فنحن نعلم أن الساعة صنعها صانع يجمع بين العلم والمهارة ولو لم ندخل مصنعًا للساعات في حياتنا ..
وكذلك نعلم أن السيارة صنعها صانع عالم ماهر ولو لم ندخل مصنعًا للسيارات في حياتنا ..
فلا معنى للاحتجاج بأننا لم نشهد خلق الكون فلا يصح القول بأنها من خلق خالق ..!
ثم نعود ونسأل الملحد كيف ظهر هذا الانتظام والتناسق والتوافق والاتزان والانسجام في الكون ..؟
هل كان بفعل خالق عليم حكيم قادر أم كان وليد الصدفة والعشوائية ..؟
فإن أجاب بأنه وليد الصدفة والعشوائية رددنا عليه أن عدم الانتظام لا يتحول بنفسه إلى انتظام ..
ولو استمر مليون مليون مليون سنة ما تحول بنفسه أبدًا إلى النظام ..
بل يزداد مع الزمن تشوشًا وارتباكًا ..
واعتراض الملحد هيوم يتوجه كذلك على الأدلة الأخرى لوجود الله كدليل الحدوث ودليل الإمكان ..
والرد عليه فيهما كما رددنا عليه في دليل النظام أن الدليل عقلي بالأساس لا تجريبي ..
فإن من يبحث عن الله يبحث عنه بعقله لا بحواسه ..
ودائرة العقل أوسع من دائرة الحس ..
والإنسان يتميز عن البهائم بعقله لا بحواسه بل الحواس في البهائم أقوى وأحد ..
ولله الأمر من قبل ومن بعد .
Bookmarks