حقوق الإنسان في الإسلام

والإعلان العالمي(1)

الأستاذ الدكتور عبد العزيز الخياط



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

فمن المعلوم أن الدول بدأت بإعلان ما للإنسان من حق في القرن الثالث عشر الميلادي (أي الموافق للقرن السابع الهجري أي بعد نزول الإسلام بسبعة قرون)، ففي إنجلترا صدرت الوثيقة الكبرى سنة 1215 م على اثر ثورة الشعب والاكليروس على طغيان الملك، وسميت (Magna Carta) وفي سنة 1628م تمت

هذه الوثيقة بوثيقة لاحقة هي (عريضة الحق) (Petition of Rights) وأتبعت في 1689 م بوثيقة (إعلان الحقوق) وقانون التسوية أو التولية (Act of Settlement) سنة 1701م.

وتبع ذلك إعلان حقوق الإنسان من خلال إعلان الاستقلال الأميركي الصادر سنة 1787م الذي تضمن مبدأ المساواة بين الناس وتمتعهم بحث الحياة والحرية وطلب السعادة، ويتضمن اعتبار صلاحية الدولة لا قرار هذه الحقوق مستمدة من الشعب كما يعلن حق الشعب في التمرد على انحراف الدولة عن هذا الهدف.

وقد صدر بعد ذلك الإعلان الدستور الأميركي في عام 1787م وعدل مراراً بما يتعلق بالحقوق الإنسانية مثل حرية العقيدة وحرمة النفس والمال والمنزل، وضمانات حرية التقاضي وعدم التجريم بدون محكمة عادلة، وتحريم الرق وإيجاب المساواة، وذلك ما بين سنة 1789 ـ 1791 م، وسمي يوم الخميس الأخير من شهر تشرين الثاني سنة 1789 م (يوم الشكر) واعتبره الأميركيون عيدا وطنيا.

وفي نفس العام 1789م في 4 آب (اغسطس) أعلن الفرنسيون حقوق الإنسان والمواطن، وألحق بدستور سنة 1791 م وصدر بالعبارة التالية: "يولد الناس أحراراً ومتساوين في الحقوق"، ونص فيه على أن الناس خلقوا أحراراً و سيظلون، وأن الملكية محترمة ولا يجوز الاستملاك إلاّ للضرورة العامة، ولقاء تعويض عادل، وأن الأصل براءة الذمة، ولا يجوز التجريم والملك إلاّ بقانون، وضرورة المحافظة على حقوق الإنسان الطبيعية وهي الحرية والملك والأمن ومقاومة الاضطهاد.

ولم تعلن الحقوق الإنسانية في الاتحاد السوفيتي إلاّ في اليوم الخامس من كانون الأول سنة 1936 م حين أعلن الدستور وذكرت فيه الحقوق الإنسانية الأساسية، ثم تكرر ذلك في دستور سنة 1977م ونص فيه على إقرار المساواة بين المواطنين وحق التعليم المجاني وحرية الفكر والتعبير والاجتماع الشخصي والتظاهر و تأسيس الجماعات والنقابات وحرمة المنازل وحق المواطن في العمل

والإجازات والضمانات الاجتماعية ضد الشيخوخة والبطالة والمرض والعجز.

ثم جاءت بعد ذلك المؤسسات الدولية فأعلنت حقوق الإنسان في مواثيقها سنة 1919 م في عصبة الأمم، ثم سنة 1941م، في ميثاق الأطلسي، ثم في اقتراحات دمبارتون أوكس الموقعة سنة 1944 م ثم في ميثاق منظمة الأمم المتحدة سنة 1946 م الذي أسس لجنة حقوق الإنسان والتي اصدرت (الاعلان العالمي لحقوق الإنسان) في 18 حزيران سنة 1948 م وصدقته الجمعية العمومية لمنظمة الأمم المتحدة في 10 كانون الأول سنة 1948 م، وتتألف بنوده من ثلاثين مادة. ثم صدر سنة 1966 م في 16 كانون الثاني (ديسمبر) اتفاقات دوليان يتعلق الأول بالحقوق المدنية والسياسية وسمي بالعهد الدولي الخاص

(lnternational Covenant on Civil and Political Rights) والثاني سمي بالعهد الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية

(lnternational Covenant on Economic Social and cultural Rights 1966)

وقد وقع المجلس الأوروبي (European council) سنة 1950 م الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية ثم صدرت اتفاقية أمريكية لحقوق الإنسان سنة 1969 م.

وقد اشتمل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على ثلاثين مادة أكدت على المعاني التالية:



1 ـ في الحريات الأساسية:

ذكر القانون مايلي:

ـ الحرية الشخصية.

ـ تحريم الرق والعبودية.

ـ حرمة الشخصية القانونية.

ـ منع التعذيب والعقوبات الفظة والمذلة.

ـ حرية الفكر والرأي والاشتراك في الاجتماعات والجمعيات المسالمة.

ـ حرمة الملكية الخاصة.

ـ حرمة المنزل والحياة الخاصة والشرف والسمعة.



2 ـ في الحياة الاجتماعية:

نوه القانون بما يلي: مساواة المواطنين إزاء القانون وعدم التمييز بينهم بسبب العنصر أو اللون أو الدين أو المذهب السياسي.

ـ حق الشعب في الاشتراك في الحياة العامة وفي تولي المناصب.

ـ حق الأمن الاجتماعي.

ـ حق التمتع بالجنسية.

ـ حرية التنقل واختيار المنزل.

ـ حق اللجوء فراراً من الاضطهاد.



3 ـ وفي مبدأ الشرعية وضع القانون مايلي:

ـ الأساس براءة الذمة لمنع إلقاء القبض أو الحبس أو النفي استبداداً.

ـ حق التقاضي العلني النزيه.

ـ والتزام الشرعية في المعاقبة والتجريم.



4 ـ في نطاق الأسرة:

أقر الإعلان حق الزواج، وحرمة العائلة وحق المرأة في الحياة والأمن والحرية الشخصية وحقوق الأمومة والطفولة وحق اختيار تربية الأولاد.



5 ـ وفي العدالة الاجتماعية أكد على القواعد التالية:

حق العمل، وحق الراحة، والحق في مستوى العيش الكافي ومجانية التعليم والمساهمة في حياة المجتمع الثقافية والفنية والأدبية وتوجيه التربية نحو إنماء الشخصية.



6 ـ وفي الواجبات الاجتماعية:

صرح القانون بالتزام الفرد بأن يؤدي هذه الواجبات بهدف تطوير شخصيته، مع منع تقييد الحرية إلاّ بما يفرضه القانون لتأمين حقوق الآخرين وحرياتهم واحترامها، وتحقيق ما تقتضيه الديموقراطية والأخلاق والنظام العام والخير العام والامتناع عن كلّ ما ينافي أغراض الأمم المتحدة ومبادئها.

وهذه المبادئ كما يبدو من استعراضها عامة جداً تحتاج إلى شروح و تفصيلات عدة، ومن الصعوبة بمكان أن تستوفي وجهة النظر الإسلاميّة فيها في هذا البحث، لا سيما إذا أردنا أن نعرج على الاتفاقات الدولية التي أقرتها الجمعية العمومية للأمم المتحدة، واللجنة الخاصة التي ألفتها باسم "لجنة حقوق الإنسان".

غير أني سأحاول جهدي في بيان نظرة الإسلام لكل منها في إيجاز يعطي صورة واضحة عن موقف الإسلام منها، وربما تعرضت لبعض نقاط يحدد الإسلام فيها وجهة النظر المقيدة أو المخالفة لفهم بعض نصوص هذا القانون.



الإسلام وحقوق الإنسان بالنسبة للإعلان العالمي

إنّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومبادئ القانون الإنساني وما سبق ذلك من مواثيق دولية، كانت كلها بعد حروب دامية مدمرة خاضها العالم، وممارسات خاطئة قام بها الكثيرون من أصحاب القرارات والسلطة، مما دعا المصلحين الخائفين على انهيار المجتمعات الإنسانية إلى إعلان تلك المبادئ وتبنيها في الهيئات الدولية، مع أن بعض هذه الهيئات الدولية تنتهك حرمات هذه الحقوق ولا تتبناها إلاّ لتحقيق مصالحها، اما إذا تعارضت مع مصالحها فأنها تقف ضدها.

والأمثلة التي وقعت كثيرة في هيئة الأمم ومجلس الأمن وما تزال تقع في العالم كما في جنوب إفريقيا وإسرائيل ويوغسلافيا، وكما يمارس الظلم ضد عدد

كبير من الشعوب لاسيما الإسلاميّة منها كالعراق ومسلمي البوسنة والهرسك.

وإذا تتبعنا أوامر الدين الإسلام ونواهيه نجد أن تعاليمه المتعلقة بحقوق الإنسان ومنع التمييز العنصري وجدت على الأرض في نبوة راشدة راحمة مكتملة تامة قبل أربعة عشر قرناً من الميثاق العالمي والقانون الإنساني، مؤكدة لما جاء في الديانات السابقة والمواثيق القديمة قبل الإسلام، غير أنها في التمام والكمال لم تكن إلاّ في الإسلام وفي السابق الزمني لحضارة القرن العشرين.

واسمحوا لي أن ألم إلماما موجزاً بهذه التعاليم ثم انتقل بعد ذلك إلى بيان موقف الإسلام في التمييز العنصري.

فتعاليم الإسلام تناولت حقوق الإنسان، وما عليه من التزامات، وما له أو عليه من واجبات تدخل ضمن تلك الحقوق في بيان مقاصده الشرعية الخمسة التي تحقق مصلحة الإنسان وهي: حفظ النفس وحفظ العقل وحفظ الدين وحفظ النسل وهي ضرورة لبقاء البشرية، وقد توسع العلماء المسلمون فجعلوا حقوق الإنسان تشمل التوسعة في الحياة، ورفع الضيق عن الناس، والتزام مكارم الآداب، وفضائل الأخلاق مما سموه بالحاجيات أي الأمور التي يحتاجها الإنسان لسلامة حياته لا لبقائها كالتمتع بالطيبات، كما توسعوا فيما يضمن لحياته أن تكون آمنة مطمئنة سعيدة غير شقية، نظيفة راقية مهذبة، كحق التعليم، وحرية المأوى وحق التصرف وحق الغدو والرواح (التنقل) وحق الأمن وحق التملك، وحق الاستئجار، وحق العدل، وحق الشورى، وحق المساواة.

فهذه الحقوق في الفقه الإسلامي تشمل كلّ ما للإنسان من مصالح وواجبات لنفسه أو للآخرين، ولكننا سنقتصر في هذا البحث على ما له من علاقة بالحقوق الإنسانية التي دعت إليها المواثيق الدولية مع الأخذ بعين الاعتبار شمولية الحقوق الإنسانية في الإسلام وسعتها ومحاربته للتمييز العنصري في دعوته للمساواة وكفالتها بتفصيل تلك الحقوق.

وهذه الحقوق أصيلة في الإسلام وليست مكتسبة، قررها القرآن الكريم

بقوله لآدم: (إنّ لك ألا تجوع فيها ولا تعرى* وأنك لاتظمؤ فيها ولاتضحى((2).

وقوله سبحانه (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم((3)، وقول النبي محمّد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: (الناس سواء كأسنان المشط((4).

واسمحوا لي أن ابدأ بتقرير نظر الإسلام في هذه الحقوق على النحو التالي:



في الحريات الأساسية:

1 ـ كرامة الإنسان:

الإنسان في نظر الإسلام مخلوق كرمه الله واستخلفه في الأرض لعمارتها، جاء في القرآن الكريم (وصوركم فأحسن صوركم((5)،(لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم((6)، وقد سخر له ما في الكون كرامة له (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة((7)، ولدق كرم الإسلام الإنسان فلم يفرق بين لون ولون، ولا بين جنس وجنس، وإنّما جعل التفاضل في العمل الصالح والأخلاق الفاضلة، قال سبحانه (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم((8). ونطاق التكريم يتجلى في جميع الأحكام الشرعية التي تعطي الإنسان اعتباره واستعمال عقله وإبعاده عن مواطن الذلة والهوان.



2 ـ حرية الإنسان الشخصية:

الإسلام قرر للإنسان حريته الشخصية لكنها حرية مقيدة بأوامر الدين من جهة، وأوامر الدين تفرض أن لا يسيء إلى الآخرين من جهة أخرى، فالحرية الشخصية ليست مطلقة فوضوية بل هي مقيدة بالأمرين معا، فلا يجوز للإنسان في نظر الإسلام أن يتصرف كما يهوى بل لابد أن يتقيد في لباسه ومأكله وشربه بما أحله الله له، فله أن يلبس ما يشاء ما دام لا يكشف عورته أو يمشي عارياً ن وله أن يأكل ويشرب ما أحب إلاّ ما حرمه الله كلحم الميتة والقاذورات والخمرة والمخدرات، وله أن يتزوج بمن يشاء وتشاء، لكن ليس له أن يزني أو أن يقترف الشذوذ الجنسي ولو برضا الطرفين لأنه مقيد في حريته الشخصية بأوامر الدين وذلك من أجل الحفاظ على سلامة الصحة والمجتمع والأخلاق.

والإسلام ترك الناس أحراراً في عباداتهم وأحوالهم الشخصية (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي((9).وصان الإنسان في دمه وعرضه وماله، ومنع الاعتداء عليه، قال محمّد (كلّ المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه((10).

وحقيقة الحرية الشخصية أنها تشمل حرية الذات وحرية الملك وحرية الرأي وحرية التعليم وحرية الاعتقاد، وسأذكرها مفصلة فيما بعد، غير أنّه ينظمها جميعا باعتبارها حرية شخصية عامة ثلاثة أمور:



أوّلاً: حق الحياة:

وهذا ما قرره الإسلام للإنسان في خلقه، وتسخير جميع ما في الكون له، وجعلها ميسرة له لينتفع بها (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه((11)، كما يقول تعالى، وهي للناس جميعاً من غير تفريق.



ثانياً: حق الأمن:

فحياة الإنسان مصونة لا يجوز التعرض لها بالترويع أو الإخافة أو الشتم أو الاحتقار كما لا يجوز التعرض لها بالجرح أو القتل أو الضرب أو السجن أو الجلد إلاّ بحق، (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلاّ بالحق ((12).

(ولا تقتلوا أنفسكم إنّ الله كان بكم رحيماً((13).

وقال محمّد عليه أفضل الصلاة والسلام (من جلد ظهر مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان((14)، وقال (إنّ الله يعذب الّذين يعذبون الناس في الدنيا((15)، وقال (لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً((16).



ثالثاً: حق التنقل:

أي حق الذهاب والمجيء والسفر، سواء أكان داخل بلاده أو خارجها، لأن الحركة شأن الأحياء، وهي حق طبيعي للإنسان لأنه وسيلة الكسب والعمل والزيارة، ولا يمنع الإنسان منها إلاّ إذا كان تنقله لمفسدة تضر بنفسه أو بالجماعة فيما يحدده الإسلام بالاعتداء على أمن الناس وأنفسهم وأموالهم، أو القيام بالأعمال غير المباحة كالزنا، وقطع الطريق فيحرم. جاء في القرآن الكريم (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم( (17)، وقال (وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله ( (18)، وقال (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه((19)، وقال عمر بن عبد العزيز (دعوا الناس تتجر بأموالها في البر والبحر ولا تحولوا بين عباد الله ومعايشهم(.

وقد فرض الإسلام على الدولة أن تؤمن وسائل التنقل، وأن تمنع أذى الناس فيها وذلك في تعبيد الطرق وتوسعتها وإزالة الأذى عنها وتنظيفها ومنع حواجز السير ومنع الناس أو الدواب أو السيارات من تعطيل المرور فيها، وغير ذلك ما نص عليه الفقهاء المسلمون في باب ما يسمى (بالحسبة) وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإزالة المفاسد بواسطة موظفي الدولة لا عن طريق عامة الناس.



3 ـ تحريم الرق والعبودية:

إنّ معنى الحرية انعتاق الإنسان من عبودية أخيه الإنسان وانعتاق الشعب من عبودية شعب آخر، وهذه الحرية التي أقرها الإسلام جعلته يحرم الاسترقاق، قال محمّد ـ عليه السلام ـ : "ثلاثة انا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته"، وذكر منها: "رجل باع حراً فاسترق الحر فأكل ثمنه"(20)، وقال سبحانه في القرآن الكريم (فإما منا بعد وإما فداء حتّى تضع الحرب أوزارها((21).

ولكن الإسلام لما وجد الرق منتشرا والناس يسترقون في الحروب، نظم الرق الذي كان موجوداً حتّى ينتهي وجوده، وسد الأبواب الكثيرة التي يتم منها الاسترقاق إلاّ باب المعاملة بالمثل في الحروب، وحث على عتق الرقيق وتحريره في أحكام كثيرة، فحنث اليمين أو قتل الخطأ، أو الإفطار في رمضان أو أمثالها جعل التكفير عنها عتق العبد الرقيق.

ولم يمنع الإسلام المسترقين سواء كانوا عتقوا أو لم يعتقوا من ممارسة الحقوق والتعلم وتولي المناصب والأعمال المهمة وأن يتصدروا للتدريس والحكم والقيادة. وهذا يتفق مع تحريم الاسترقاق في العصر الحديث، وقد حرم

العبودية على الشعوب كما حرمها على الأفراد، وأعطاها حق تقرير مصيرها، ومنع استعمارها واستعبادها بأي نوع من أنواع الاستعباد سواء أكان عسكرياً أو اقتصادياً أو ثقافياً أو دينياً قال عمر بن الخطاب "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً".

وعلى الرغم من هذه المواثيق الدولية فما زالت الدول الكبرى تمارس هذه العبودية بأشكالها المختلفة وبأساليب شتى من القهر والابتزاز والسيطرة والتحكم في اللعبة المهينة التي تقوم بها ضد الشعوب.



4 ـ حرمة الشخصية القانونية:

والإسلام حين كرم الإنسان جعل له الشخصية الطبيعية التي لها حق الحياة والتملك والتصرف والتقاضي والمطالبة بالحقوق كما يطالب بالواجبات ونص على احترام هذه الشخصية مهما كانت الظروف، قال سبحانه (يا أيها الّذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن (أي بغض) قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى((22).

ولا يجوز أن يتميز فرد عن فرد أو طبقة عن طبقة فالكل أمام القانون سواء، ولكل إنسان حرمته المصانة وحقه المحفوظ.



5 ـ منع التعذيب والعقوبات الفظة أو المذلة:

الأصل في الإسلام أن لا يعذب الإنسان قال سبحانه (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا((23)، والأصل براءة الذمة، وقد صح في الحديث الشريف "لان يخطئ الأمام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة (24).

ولا يجوز تجاوز الحدّ في العقوبة فقد نهى الإسلام عن التمثيل بالقتيل أو إيذاء المعاقب بغير العقوبة المقررة، والقاعدة الشرعية والقانونية معاً (انه لا عقوبة بغير جريمة، ولا عقوبة بغير نص). ولذلك نجد الإسلام ينهى عن تجاوز المعصم في قطع يد السارق، والجلد على مواطن الخطر كوجه الإنسان أو موضع عفته أو رأسه، ويعاقب من يفعل ذلك. وقد لعن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ من يضرب في وجه الإنسان والحيوان، ونهى عن سباب الناس قال (سباب المسلم فسوق) (25).، أي معصية يعاقبه الله عليها. وقال "لا ينبغي لصديق أن يكون لعاناً"، أي لا يجوز للإنسان الصالح أن يلعن الناس لأن اللعن إذلال لا يجوز أن يصدر عن الإنسان الصالح.

وليس تطبيق العقوبات إذلالاً، وإنّما هي تأديب مهما كان عظمها، فالعقوبة بقدر الجريمة والإسلام حدّد العقوبات بأنواع ثلاثة:

1 ـ الحدود وهي ما نص عليه في القرآن الكريم كحد السرقة والزنا والقذف.

2 ـ القصاص وهي معاقبة القاتل والمعتدي على الإنسان نفسه.

3 ـ والتعزير وهي العقوبات المقدرة للقاضي بحسب الجرائم، والمنهي عنه هو الغلظة والإذلال في تطبيق العقوبة.

وقد جاء قول الله تعالى في القرآن الكريم، "وإنّ عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به"(26).، وقال محمّد ـ صلى الله عليه وآله ـ "إنّ الله كتب الإحسان على كلّ شيء"(27).

6 ـ حرية الفكر والرأي والاشتراك في الاجتماعات والجمعيات المسالمة:

موقف الإسلام واضح في هذا: للإنسان أن يفكر كما يشاء، وان يعتنق الرأي الذي يريد بحسب عقيدته شريطة أن يتقيد بعدم الخروج على ما صرح في عقيدته في الأمور المسلمات، فالمسلم لا يجوز له أن يخالف ما كان واضح الدلالة في

القرآن الكريم، أو ما عرف من الدين الإسلامي بالضرورة فليس من حرية الفكر أن ينكر وجوب الصلاة أو الصوم مثلاً، وكذلك بالنسبة لغير المسلم له حرية الرأي دون أن يتخذ ذلك مجالا للطعن في دينه أو أديان الآخرين، وليس من حرية الرأي أن يعلن الإلحاد وأن يسفه آراء الآخرين وعقائدهم وأن يحمل الناس على الرأي بالقوة ولكن له أن يجادل بالحق وأن يحاور في الرأي، ويناقش بالدليل والبرهان من غير تجريح أو سباب.

أما ما يتعلق بالاجتهاد ضمن الأصول المقررة فللمسلم أن يجتهد في استنباط الأحكام الشرعية بما يكفل للمجتمع استقراره وأمنه."وللإنسان حق الاشتراك في الاجتماعات العامة والجمعيات المسالمة وإبداء الرأي والمشورة فيها، وهذا من باب التعاون الذي دعا إليه الإسلام، جاء في القرآن الكريم (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان((28).

والنهي عن التعاون على الآثم والعدوان معناه النهي عن الاشتراك في الاجتماعات والجمعيات التي تنتقض على الإسلام، أو تدبر المؤامرات أو يكون فيها الإفساد، فهذه ليست مسالمة ولا يجوز في شريعة الإسلام الاشتراك فيها، والنصح والتشاور وإبداء الرأي فيما ينفع الناس مطلوب في الإسلام "وشاورهم في الأمر"(29).



7 ـ حق الملكية الخاصة وحرمتها:

من أهداف الإسلام حفظ المال لأنه وسيلة الإنتاج والاستهلاك والتعامل والتعاقد، ومن حفظ المال احترام التملك الخاص الذي أباحه الإسلام للناس من الطريق المشروع الحلال، وحين أباح الإسلام للإنسان أن يتصرف بماله الخاص بالحلال، حث على احترام الملكية الخاصة وعدم الاعتداء عليها، فحرم السرقة ومنع السلب والنهب والاختلاس وأكل أموال الناس بالباطل، وحرم الغش والتدليس وإتلاف الأموال، ورد في القرآن الكريم( لا تأكلوا أموالكم بنيكم بالباطل((30)،

(ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون((31)، وجاء في الحديث الشريف (إنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم( (32)، وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ نصاً في احترام الملكية الخاصة "كلّ أحد أحق بماله من والده وولده والناس أجمعين" (33). ومن القواعد المقررة في الشريعة الإسلاميّة أنّه لا يجوز لأحد أن يأخذ مال أحد بغير سبب شرعي، وانه لا يجوز لأحد أن يتصرف في ملك الغير بلا إذنه، وأن الأمر بالتصرف في ملك الغير باطل"(34).



8 ـ حرمة المنزل والحياة الخاصة والشرف والسمعة:

قرر الإسلام احترام المنزل، فلا يجوز اقتحام البيت ولا دخوله إلاّ بإذن صاحبه، ولا يجوز التجسس عليه في عقر داره، ولا النظر إلى ما يفعله في خاصة نفسه وهو داخل بيته، قال رسول الله "من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقأوا عينه فقد هدرت عينه" (35) أي لا تعويض فيها، وورد عنه أيضاً "لا تتبعوا عورات المسلمين فإن من تتبع عورات المسلمين فضحه الله في عقر داره"(36)، وقد نظم الإسلام الدخول والخروج إلى البيوت، قال سبحانه (يا أيها الّذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتّى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون. فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتّى يؤذن لكم وإن قيل لكم راجعوا فارجعوا هو أزكى لكم( (37). كما منع الساكنين في بيت واحد أن

يدخل بعضهم على بعض في أوقات الراحة، عند النوم وعند الظهيرة، وقبل صلاة الفجر (يا أيها الّذين آمنو ليسئذنكم الّذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم((38).

كما حرص الإسلام على المحافظة على سمعة الإنسان وشرفه وهو المعروف بالعرض، فمنع الشتم والاتهام بالباطل وأوقع عقوبة الجلد على من يتهم إنساناً في شرفه من غير إثبات، وحرم الغيبة والكلمة الجارحة واللمز والتحقير، قال الله سبحانه وتعالى (ويل لكل همزة لمزة( (39).، وقال محمّد ـ صلى الله عليه وآله ـ "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش البذيء"(40).



9 ـ حرية الاعتقاد:

حرص الإسلام على أن يترك الناس أحراراً في عقائدهم قال تعالى ?لا إكراه في الدين? (41)، وقال محمّد "أمرنا بتركهم وما يدينون" أي ترك الناس وما يعتقدون، إلاّ انه منع استحداث أديان جديدة تتناقض مع الأديان السماوية، كما منع التلاعب بالمعتقدات والتذبذب من عقيدة إلى أخر حسب الأهواء والمنافع، ولذلك وضع عقوبة المرتد الذي يترك دين الإسلام إلى غيره.

هذا ما يتعلق بالإسلام والقانون الدولي الإنساني في الحريات الأساسية للإنسان.

أما ما نص عليه القانون الدولي الإنساني فيما يتعلق بالحياة الاجتماعية

وموقف الإسلام من نصوصه فإني أو جز هذا الموقف كما يلي:



أولاً: مساواة المواطنين أمام القانون وعدم التمييز بينهم:

الإسلام جعل الناس جميعاً ـ وليس المواطنين وحدهم ـ سواء أمام القانون فلا يميز الحاكم عن المحكوم، ولا الغني عن الفقير، ولا الشريف عن الوضيع، كما لا يميز جنساً على جنس، ولا طبقة عن طبقة، إلاّ بمقدار ما يقدمون من عمل نافع لأمتهم، قال الله تعالى "هل يستوي الذي يعلمون والذين لا يعلمون"(42)، وقال "لا يستوي الخبيث والطيب"(43).

والمساواة أمام القانون معناها تنفيذ حكم القانون دون تمييز بين عناصر الناس والوانهم وأديانهم وأجناسهم، سواء أكان في الحقوق أو الواجبات.

ومعروف أن الإسلام هو أول دين قرر المساواة نظرياً وعملياً في العبادات والمعاملات، وميز الأسود على الأبيض بالعمل الصالح، وجعل المملوك العبد صاحب سلطان يحكم بشريعة الله. قال محمّد ـ عليه السلام ـ (أنا شهيد أن العباد كلهم أخوة((44)، وقال "الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إلى الله انفعهم لعياله"(45).



ثانيا: حق الشعب في الاشتراك في الحياة العامة وتولي المناصب:

من الأمور البديهية في الإسلام وهو المعبر عنه فقهاً: "ما هو معلوم من الدين بالضرورة"، أن لأي فرد في الأمة أن يشترك في جميع شئون الحياة العامة فليس في الإسلام ثيوقراطية ولا أرستقراطية أي لا كهانة ولا طبقية، ولكل إنسان أن يبدي رأيه في شئون السياسة وأن يشترك في اختيار الحاكم، بل إنّ الإسلام يفرض على كلّ فرد في الأمة أن يبايع الرئيس المنتخب ولا تثبت رئاسته إلاّ بالبيعة، ففي

الحديث "لا يحل لمسلم أن يبيت ليلتين من غير بيعة لإمام"(46)، ونصوص القرآن الكريم واضحة في ذلك حتّى بيعة النساء، ونصوص الحديث وسيرة النبي دالة على ذلك، فبيعة العقبة الكبرى واختيار النقباء واختيار الخليفة أبي بكر، والشورى في اختيار الستة الّذين عينهم عمر، والشورى التي قررها الإسلام "وأمرهم شورى بينهم"(47)، وكذلك تعيين الأمراء والولاة والحكام من جميع طبقات الشعب بحسب أهليتهم، بغض النظر عن أجناسهم، كلّ ذلك دليل على نظرة الإسلام المثلى في هذا الشأن.



ثالثا: حق الأمن الاجتماعي:

يقول الله عز وجل (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف((48)، وهذه الآية في القرآن الكريم حددت أموراً مهمة فرضها الإسلام، فقد فرضت الأمن الغذائي وضرورة توفيره للمواطنين كما فرضت توفير الأمن الاجتماعي للأمة أفراداً وجماعات، ليضمن كلّ منهم توفير الخدمات اللازمة له، وتأمين تعليمه ومرضه وشيخوخته وعجزه، وتوفير أسباب الاتصال بالناس وعدم الانقطاع عنهم، كما دلت على ضرورة توفير الأمن من الخوف على المستقبل أو على النفس أو على الذات بمنع الجريمة ومعاقبة المجرمين وإيجاد الطمأنينة في نفوس الناس.

يضاف إلى ذلك ضرورة توفير الأمن الدولي ومبادئ العدالة للدول كما توفر للأفراد، قال تعالى (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها((49).



رابعاً: حق التمتع بالجنسية:

عبر الإسلام عن الجنسية (بالرعوية)، وسمى المواطنين رعية، وذلك في الحديث الشريف "كلكم راع و كلكم مسئول عن رعيته"(50)،والحديث الآخر "اتقوا الله في الرعية"، وهي حق لكل إنسان ولد في بلاده وعاش في ظل دولته، والتزم بنظامها، لان الإسلام يقيم الانتماء على أساس العقيدة، فأي مسلم في أي أرض فهو أخ للمسلم، وأي أرض تحكم بالإسلام والمسلمين أو هي للمسلمين ولو حكمت ظلماً بغير المسلمين فهي للمسلمين، والمسلمون فيها إخوة للمسلمين في أي أرض أخرى، ولهم جميعاً في نظر الإسلام حق التمتع بجنسية تلك الأرض لقوله تعالى (إنما المؤمنون إخوة((51)، وقوله (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض( (52)، ولقوله ـ صلى الله عليه وآله ـ "المسلم أخو المسلم"(53)، فالأخوة تمنح الإنسان المسلم جنسية لا تتعلق بالعرق ولا باللون ولا بالجنس ولا بالبلد ولكن بالعقيدة، وغير المسلم يستحقق هذه الجنسية أو الرعوية بالذمة والعهد لقوله ـ صلى الله عليه وآله ـ: "لهم مالنا وعليهم ما علينا"(54).

والتعبير بالجنسية تعبير حديث لأن أساس الرابطة في الإسلام رابطة العقيدة والفكر والذمة، ولا يمنع الإسلام من الانتساب للبلد، فقد كان المسلمون يقولون "جند الشام، وجند العراق وجند خراسان وجند مصر، وكانوا يقولون: هذا شامي، وهذا أندلسي، وهذا مصري، وهذا مغربي، وهذا مر وزي وهذا هندي وهكذا، لا على أساس الجنسية بل على أساس سكنى البلد، ويجمعهم جميعاً عقيدة واحدة، أما الجنسية القائمة اليوم في البلاد الإسلاميّة فلا مانع من إعطائها على أن تكون بالمعنى الإسلامي، فلا تمنع من حرية تنقل المسلم من بلد إلى آخر

والإقامة والعمل فيه، فقد تعدد الحكم في البلاد الإسلاميّة وقامت خلافات ثلاث في العراق ومصر والأندلس، فكان هذا اختلافاً سياسياً وبقيت بلاد المسلمين لجميع المسلمين. تنقلاً وعملاً وإقامة وتجارة وتمتعاً بموارد البلاد جميعها.

والجنسية بالمعنى القائم والعمل القائم توكيد للتمزق الذي تشهده بلاد المسلمين ومنها البلاد العربية.



خامساً: حرية التنقل واختيار المنزل:

ويعتبر التنقل في داخل الدولة الواحدة أمراً لا يقره الإسلام إلاّ لمصلحة تراها الدولة من غير ضرر ولا أضرار وتقييد اختيار المنزل كذلك، فلم يعرف في أحكام الإسلام حظر التنقل أو منع اختيار أي منزل يشاؤه المواطن، فقد كان الإنسان في ظل الدولة الإسلاميّة يتنقل من أقصى حدود الدولة إلى أقصاها دون قيد أو شرط، وكان له أن يسكن في أيام الدول الإسلاميّة المتعاقبة في أي بلد شاء، وإنّما أجاز الإسلام النفي من مكان إلى مكان عقوبة تعزيرية مؤقتة لمنع فساد المفسدين، كما حدد الإقامة ومنع التنقل منعا للفساد، أو لمصلحة الدولة وفي حدود ضيقة، ولم يعرف أن الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ حدد الإقامة على أحد، إلاّ أن عمر بن الخطاب حدد إقامة كبار رجال الدولة في المدينة ومنعهم من اختيار الإقامة في غير العاصمة حرصا منه على الاستفادة منهم في شئون الحكم ومنعا لافتنان الناس بهم فيؤدي إلى إيجاد فتن تؤثر على الدولة وأما الأبعاد إلى خارج الدولة الإسلاميّة فلا يجوز بحال من الأحوال، لأنه يؤدي بالمبعد إلى أن يتعاون مع العدو ضد بلاده وأمته، كما لا يجوز النفي والأبعاد في داخل الدولة دون أن يؤمن للمبعد أو المنفي العيش الكريم.

وحرية التنقل كما سبق وقلنا ضرورة لاستمرار الحياة والعمل والبحث عن الرزق.

سادساً: حق اللجوء فراراً من الاضطهاد:

الإسلام قرر هذا الحق بوضوح في آية من آيات القرآن الكريم ينعي فيها

على أولئك الّذين يمكثون في مكان الاضطهاد والأذى والتعذيب ولا يهاجرون إلى مكان أكثر أمنا لهم، جاء في القرآن الكريم "إنّ الّذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها"(55). فقد نعى عليهم عدم اللجوء إلى البلد الآمن، وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم لا صحابه بالهجرة إلى الحبشة فرارا بدينهم وابتعاداً عن الاضطهاد، كما هاجر هو وأصحابه إلى المدينة وأسس دولة فيها. ولم يكتف ـ الإسلام بتقرير حق اللجوء، بل طلب إلى الناس أن يقبلوا من يلجأ إليهم وجعل الثواب للاثنين، لمن هاجر فراراً بدينه وعقيدته هرباً من الاضطهاد، ولمن آوى هذا اللاجئ واحسن إليه: جاء في القرآن الكريم قول الله عز وجل "ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله"(56)، وقوله سبحانه"للفقراء المهاجرين الذي أخرجوا من ديارهم وأموالهم، يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون"(57)، ثم يمدح الّذين آووهم بقوله "والذين تبوأوا الدار والأيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة"(58).



حقوق الأسرة:

نص الإعلان العالمي على حق الإنسان في الزواج وتكوين أسرة، ابتداء من سن البلوغ، ودون أي قيود وبغض النظر عن الجنس والدين، وتمتع الزوجين بحقوق متساوية فيما يتعلق بالرابطة الزوجية وتمتع الأسرة بحماية الدولة والمجتمع.

والإسلام جعل الزواج سنة، وقدر الرابطة الزوجية ونظم الحياة العائلية تنظيماً بديعاً، ابتداء من الخطبة التي وضح شروطها، وجعل الزواج لا يتم إلاّ برضا الفتى والفتاة، وإشراف الولي (أبيها أو أخيها أو عمها) وشهود رجلين أو رجل وامرأتين، وجعل لها حق المهر والنفقة والكسوة والبيت والخادم، قال تعالى "خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة"(59)، وقال "وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم"(60). وقال "وآتوا النساء صدقاتهن نحلة"(61)، أي آتوهن مهورهن، وقال "وعاشروهن بالمعروف" (62)، وقال "أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم" (63)، وقال "لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله"(64)، وأكد على المساواة بين الزوجين في الواجبات والحقوق قال تعالى "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف" (65)، غير انه جعل القوامة للرجل في الأنفاق والأشراف العام، وجعل رعاية البيت والأشراف عليه من واجبات المرأة قال عليه الصلاة والسلام: "والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها"(66)، وقال ـ صلى الله عليه وآله ـ "لا تنكح البكر حتّى تستأذن ولا الثيب حتّى تستأمر"(67)، فالزواج في نظر الإسلام عقد رضائي بين الزوجين إذا بلغا سن البلوغ، أما إذا كانا صغيرين فقد أباح الإسلام زواجهما بوكالة الولي.

وقد انفرد الإسلام بأن جعل الزواج فرضاً في بعض الحالات، وجعله

واجباً اجتماعياً تنهض به الدولة إذا لم يستطيع الأفراد أن يقوموا به، قال تعالى (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إنّ يكونوا فقرآء يغنهم الله من فضله((68).

غير أن المساواة التي طلبها الإعلان العالمي ليست مطلقة لأن في إطلاقها ضرر للمجتمع وللزوجين اجتماعياً وجسدياً ومعنوياً، ولذلك حرم زواج المحرمات وهن: أم الرجل وجدته وبنته وبنات ولده وأخته وبنتها وبنت أخيه وعمته وخالته، وأم امرأته وبنتها إنّ دخل بأمها، وامرأة أبيه وأجداده وبني أولاده والجمع بين الأختين نكاحاً، والجمع بين المرأة وعمتها أو بين المرأة وخالتها (عند أهل السنة ولاسيما الأحناف)، وحرم من الرضاع ما يحرم من النسب وحرم أن تتزوج المرأة غير المسلم لعدم إمكانية المساواة في المشاركة بالزوجة بالعقيدة والاحترام، كما منع المسلم أن يتزوج الوثنية وأباح له أن يتزوج الكتابيات لأنهن مؤمنات بالله، والمسلم يؤمن بالله وبأديانهن ورسلهن بخلاف الوثنيات.

فالمحرمات عند الأحناف تسعة أقسام، بالقرابة والمصاهرة والرضاع والجمع والتقديم وتعلق حق الغير به، والملك: أي وطء الإماء) والكفر، وبالطلقات الثلاث لأن الزوجة تصبح بائنة بينونة كبرى فلا يحل للزوج أن يتزوج هذه المرأة إلاّ إذا تزوجت رجلاً آخر، وفارقته بسبب شرعي كالطلاق أو الوفاة (69).

ثم أن الإسلام أباح التعدد في الزوجات لا في الأزواج.

كما أن الإسلام أباح الطلاق وجعله حق الرجل، إلاّ إذا تنازل عنه لامرأته فجعل عصمتها بيدها(70). كما أن الإسلام فاوت في الميراث بين المرأة والرجل، فمرة يأخذ نصف ما يأخذه إذا كان الورثة أولاداً ذكوراً وإناثاً، أو اخوة ذكوراً وإناثاً، ومرة يتساويان كما في الأب والأم والجد والجدة، ومرة تزيد حصة النساء في التركة على الرجال، كما في وراثة البنت أو الأخت باعتبار كلّ منهما الوارثة

الوحيدة للمتوفى، فتأخذ كلّ منهما النصف إذا انفردت، والباقي للعصبات (الأقارب الذكور) وإن كانتا اثنتين فتأخذ البنتان أو الأختان الثلثين والثلث الباقي للأقارب. وقد تأخذ الزوجة غير المسلمة بالوصية أكثر من نصيبها في الميراث لو كانت مسلمة، فيوصى لها بثلث التركة إذا شاء المتوفى في حال حياته، سواء أكان الموصي ذكراً أو أنثى.

كما أن الإسلام قرر اختلاف العقوبات للمرأة ونقصانها عن الرجل في المقدار أو أسلوب التنفيذ في حالات السرقة أو الزنا، ولا يعني هذا عدم المساواة، وإنّما يعني مراعاة المرأة الفسيولوجي وطبيعتها الجنسية(71).

وجعل الإسلام شهادة امرأتين تعززان شهادة الرجل الواحد إذا لم يكن رجل آخر يثني شهادته، وذلك في بعض الحالات كما قال الله عز وجل (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء((72).

وجعل شهادة المرأة الواحدة في الحالات التي لا يشهدها سواها عادة مثل شهادة الولادة والرضاع(73).

والمساواة لا تأتي بين المرأة والرجل في حق الطلاق (خلافاً لما يقرره الإعلان العالمي)، فالإسلام نظم موضوع الطلاق في أحكام واضحة، وقرر حق المرأة في العيش الكريم ومنع الظلم عنها وأعطاها الحرية في الزواج بمن تحب مرة أخرى، قال تعالى (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا

ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزواً* واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به * واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم.وإذ طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف، ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلك أزكى وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون((74).

كما بين أن الطلاق ثلاث مرات، وأن الطلاق الحق إنّما يكون في استعماله مرة بعد مرة لا دفعة واحدة حتّى يجعل الفرصة للزوجين لكي يتراجعا أو للرجل أن يرجع عن خطئه إنّ كان هو المخطئ المتسرع في الطلاق، وجعل الإسلام الأصل في الطلاق الحظر والمنع، فيحرم أن يستعمله إذا كان بغير حاجة، وإن كان لحاجة كتباين الأخلاق وحصول البغضاء والشقاق والنزاع فيجوز، وهذا رأي بعض الحنفية وأن كان رأيهم جميعاً أن الأصل فيه الحظر لكن أباحه الشرع للضرورة ورأي الجمهور الإباحة المطلقة، ورأي التحريم إلاّ لحاجة هو الأوجه، فإن الطلاق بغير حاجة سفه وحمق، وكفران بالنعمة وإيذاء للزوجة وأهلها وأولادها(75)،لكن الإسلام لم يجعلها أسيرة الرجل بالزواج في العشرة السيئة بل أباح لها أن تطلب الطلاق في حالة النزاع والشقاق أو سوء خلق الرجل في معاملتها أو ارتكابه المحرمات أو إثبات إيذائها لها إلى غير ذلك من الحالات التي يقرها القاضي، وذلك بعد أن يستعصي علاج الزوج وإصلاحه، أو الإصلاح بينهما من الأهل أو المحكمين، قال سبحانه (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إنّ يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما((76).



حق الأمومة والطفولة:

نص الإعلان العالمي على حق الأمومة الطفولة في الحصول على معونة ورعاية خاصتين ـ ثم نص على العناية بحقوق الأطفال غير الشرعيين وغيرهم (77)، وهذا ما أكده إعلان حقوق الطفل عن هيئة الأمم المتحدة سنة 1959 م ونصوص

العهد الدولي بشأن الحقوق المدنية والسياسية الصادر عن هيئة الأمم المتحدة سنة 1966 م وغيرها من المواثيق والاتفاقات الدولية.

وقد يكون من فضول القول وتكراره، أن نؤكد على أن حق الأمومة والطفولة ورعاية الأم والطفل، وأحكام الجنين والرضاعة والحضانة واللقطاء والتبني قد قررها الإسلام منذ نزوله، ومارس العناية بها الخلفاء والأمراء، وفصل الفقهاء ذلك تفصيلاً وافياً في كتبهم في جميع المذاهب، وفي أبواب خاصة واضحة يرجع إليها من يشاء، فليس بجديد ولا ابتداع، أن يقرر الإعلان العالمي ذلك، قال سبحانه "وبالوالدين إحسانا"(78)، وروى الشيخان: "أن رجلا جاء إلى النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال: أمك. قال ثم من ؟ قال: أمك. قال: ثم من ؟ قال أمك. قال: ثم من قال: أبوك ثم أدناك فأدناك". فطاعة الأم والعناية بها وبرها من أوجب الواجبات، وعقوقها من أكبر الذنوب، لاسيما إذا بلغت سن الشيخوخة فلا يجوز أن يؤذيها أو يؤذي والده ولو بكلمة التضجر قال سبحانه ?إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً?(79) ومن حقها على أولادها الأنفاق عليها و تكريمها. ومن حقها على المجتمع أن يرعاها حال الحمل وحال الولادة وحال النفاس من حيث العناية الصحية وتوفير الجو الملائم لها نفسياً واجتماعياً. قال سبحانه "وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتّى يضعن حملهن"(80).

والعناية بالطفل من الأنفاق عليه وتوفير الغذاء والكساء له، وتربيته التربية الصالحة، ورعايته منذ ولادته حتّى يكبر، من الواجبات التي حرص الإسلام ورعاة الإسلام على القيام بها، قال تعالى "قوا أنفسكم وأهليكم ناراً"(81). وقال ـ صلى الله عليه وآله ـ "ومن ترك ديناً أو ضياعا (أي ذرية ضعيفة) فليأتني فأنا مولاه، اقرأوا إنّ شئتم قول الله

(النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم((82)، وقال سبحانه (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف((83)، وحليب الأم كما هو معروف أحسن غذاء، وكان عمر بن الخطاب يفرض لكل مولود في الإسلام عطاء من الدولة، حرصاً منه على رعاية الأطفال وتغذيتهم، وفرض تعليمهم الآداب العامة والعلوم والمعارف والقراءة والكتابة، والنظر في شئون الحياة وفي شئون الكون وفي شئون أنفسهم، قال النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ "طلب العلم فريضة على كلّ مسلم " (84).

وفرض الإسلام الحضانة للطفل على الأبوين، فإذا توفي الأب أو طلق امرأته كانت الحضانة لها لتربية الطفل والقيام بأمره، وجعل الحضانة بعد الأم درجات كالجدة لأم والجدة لأب والخالات وغيرهن في ترتيب حسب القدرة على العناية والقرابة من الطفل. قال ـ صلى الله عليه وآله ـ للمرأة التي اختصمت مع زوجها في حضانة الطفل "أنت أحق به مالم تتزوجي"(85)، وحدد مدة الحضانة للذكر بأن يشب ويستغني بنفسه، وقد قدره الأحناف بتسع سنين، وقدره قانون الأحوال الشخصية في الأردن بخمسة عشر عاما، ومدة الحضانة للفتاة حتّى تبلغ بالحيض وإذا لم يكن للصغير امرأة تحضنه أخذه أقرب الرجال قرابة له، وحمى الصبية فبين أن لا تدفع إلى غير محرم لها كابن العم، وذكر الأحناف انه يجوز للقاضي أن يضعها عند امرأة أمينة تحضنها(86). وقد توضع في دار رعاية للأطفال.

وطلب الإسلام رعاية اللقطاء، قال صاحب الاختيار "والتقاط صغار بني آدم مفروض إنّ علم انه يهلك إنّ لم يأخذه بأن كان في مفازة أو بئر أو مسبعة دفعا للهلاك عنه فإن غلب على ظنه عدم الهلاك بأن كان في مصر أو قرية فأخذه

مندوب، لما فيه من السعي في إحياء نفس محترمة. قال الله تبارك وتعالى، "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا"(87) وعن علي رضي الله عنه أنّه قال للملتقط لأن أكون وليت منه مثل ما وليت أنت كان أحب الي من كذا وكذا (88) قال السرخسي:

"فقد استحب رضي الله عنه مع جلالة قدره أن يكون الملتقط له"(89) فان لم يوجد من يربيه دفعه الإمام أو الحاكم إلى من يربيه ونفقته على الدولة، والسلطان ولي من لا ولي له. ويعتبر مسلماً، إلاّ ذا التقط في بيعة أو كنيسة أو بلدة أهلها غير مسلمين فيعتبر دينه بحسب البلدة.



براءة الذمة:

نص الإعلان العالمي على أن من الضروري أن تكون حقوق الإنسان متمتعة بنظام قانوني لا يتعرض الإنسان فيه للقهر، ونظام قضائي أعلى، يقف ضد الطغيان وضد الظلم، فاعتبر براءة الذمة هي الأساس، ومنع إلقاء القبض أو الحبس أو النفي استبداداً، وأعطى الإنسان حق التقاضي العلني النزيه و أوجب التزام الشرعية في المعاقبة والتجريم.

وبالرجوع إلى الإسلام نجد أنّه حمى الإنسان بأحكام الشريعة وتعاليمها وأوجب نظام القضاء، وحرم الظلم وتوعد الظالمين، ودعا القضاة إلى النزاهة في الحكم والتبصر في الأحكام، واعتمد الأصل القائل ببراءة الذمة، وأن المتهم بريء حتّى تثبت إدانته، ولكن الإسلام لا يمنع من تخويف المتهم للإقرار، جاء في الدر المختار "عن عصام (بن يوسف من أصحاب أبي يوسف قاضي القضاة) انه سئل عن سارق ينكر فقال: "عليه اليمين"، فقال الأمير: (90) سارق ويمين، هاتوا بالسوط، فما

ضربوه عشرا حتّى أقر فأتى بالسرقة، فقال "سبحان الله ما رأيت جوراً أشبه بالعدل من هذا"(91) ولهذا اصل، فإن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ طلب من الزبير بن العوام أن يعذب كنانة بن أبي الحقيق حين أنكر وجود الأموال لديه في غزوة خيبر، فعذبه الزبير حتّى جاء بالمال(92) ولا يكون ذلك إلاّ إذا كان هناك شعور بكذب المتهم أو قرائن تدل على أنّه هو صاحب الجريمة. وقد أفتى بصحة الأقرار في هذه الحالة عدد من علماء الحنفية، وعن الحسن بن زياد (صاحب أبي حنيفة): "يحل ضرب المتهم حتّى يقر"(93) وذكر ابن عابدين نقلاً عن ابن العز الحنفي في كتابه (التنبيه على مشكلات الهداية) انه قال: "الذي عليه جمهور الفقهاء في المتهم بسرقة ونحوها أن ينظر، فأما أن يكون معروفاً بالبر لم تجز مطالبته ولا عقوبته، وهل يحلف ؟ قولان، ومنهم من قال: يعزر متهمه، وأما أن يكون مجهول الحال فيحبس حتّى يكشف أمره، قيل شهراً وقيل باجتهاد ولي الأمر، وإنّ كان معروفاً بالفجور، فقالت طائفة يضربه الوالي أو القاضي، وقيل: يضربه الوالي دون القاضي"(94).

والإسلام حرم الظلم قال سبحانه "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل"(95)، وقال "قل أمر ربي بالقسط" (96)، وقال "إنه لا يحب الظالمين"(97)، وقال "إنّما السبيل على الّذين يظلمون الناس، ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم"(98).

وقال صلى الله عليه وسلم "اتقوا الظلم فان الظلم ظلمات يوم القيامة"(99)، وجاء في الحديث القدسي "يا عبادي أني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته

محرماً بينكم فلا تظالموا" (100)، وقال تحذيراً من الظلم "أن الله يملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته، ثم قرا "وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إنّ أخذه اليم شديد"(101).

ونصوص الإعلان العالمي متفقة مع نصوص الشريعة الغراء واتجاهها، لان الإسلام منع النفي والحبس والقاء القبض استبداداً، اما بحق فهو واجب حماية للمجتمع من المجرمين ومنعاً لانتشار الجريمة، واثباتا لحرمة الدماء والأعراض والأموال والعقول والدين، وزجراً للمجرم أن يعاود جريمته تأديباً له وللآخرين، قال سبحانه "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب " (102)، وتزيد الشريعة الإسلاميّة بأن العقوبة جابره للذنب عند الله، مطهرة لنفس المجرم لقوله تعالى "فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إنّ الله غفور رحيم"(103)،



حق التقاضي:

وحق التقاضي أمر قرره الإسلام، وجعل القضاء بين الخصوم، فريضة محكمة من أركان الدين، قال القاضي الحموي المعروف بابن أبي الدم: "إنّ القيام بالقضاء بين المسلمين والانتصار للمظلومين وقطع الخصومة الناشئة بين المتخاصمين من أركان الدين، وهو أهم الفروض المنعوتة بالكفاية"(104).

وطالب القاضي بالنزاهة والعدالة والمساواة بين الخصوم "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى"(105)، وكتاب القضاء المشهور

لعمر بن الخطاب وضح فيه أمور القضاء وآداب القاضي. وقد تقررت علنية الجلسات في مجلس القضاء، إلاّ إذا مست تلك المرافعات أو تناولت الدعوى أموراً سرية تتصل بأمن الدولة أو بالصالح العام، أو بالآداب العامة أو خشية إعلان الفضائح فتكون سرية، ويكون ذلك بقرار من القاضي أو بطلب أحد الخصوم قال الإمام الشافعي: "وأحب أن يقضي في موضع بارز للناس"(106) وقد كره جمهور الفقهاء أن يكون القضاء في المسجد، لكن في مذهب الحنفية القضاء في المسجد جائز، وجعلوا الجلوس في الجامع أولى من المسجد لأنه غير خفي على الغرباء وغيرهم لاسيما إذا كان في وسط البلد، لما صح عندهم من قول النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ "إنّما بنيت المساجد لذكر الله تعالى والحكم"، والقضاء عبادة، وأولى مكان بالعبادة المسجد وأكد العلماء على علنية الجلسات، حتّى لو عقد القاضي مجلس القضاء في داره فلابد من الأذن في الدخول لعامة الناس إذنا عاماً ولا يمنع أحداً، لأن لكل أحد حقاً في مجلس القضاء(107).

وهذه أهم البنود التي تناولها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وقد بينت موقف الشريعة الإسلاميّة منها وسبقها في تقريرها.

غير أني أحب في نهاية هذا البحث أن انبه إلى مسألة هامة ذكرها فريق من كبار علماء المسلمين في المملكة العربية السعودية في حوارهم مع فريق من كبار رجال الفكر والقانون في أوروبا، وهي أن خصائص حقوق الإنسان في الإسلام أوامر تشريعية جعل لها ضماناً لتنفيدها في تقوى المسلم وتنفيذ الحكومة، ومعاقبة المخالف، وليست مواعظ أو وصايا أخلاقية لا ضامن لها من الضمانات التشريعية، تدعي الدول إلى الاعتراف بها واحترامها فقط(108).



كلمة أخيرة:

نوّه كورت فالدهايم السكرتير العام للام المتحدة سنة 1978م بأهمية الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عند التصديق على الاتفاقين المكملين للإعلان، وعدد ما اشتمل عليه الإعلان من حقوق وقال "لا يزال الشيء الكثير ينتظر الإنجاز، فلا سبيل لتحقيق الغايات السامية الواردة في الوثيقة العالمية لحقوق الإنسان إلاّ إذا تمّ الاعتراف الشامل بمبادئها وأسسها قانوناً، وروعيت عند الممارسة العملية، ومن حسن الطالع أن نؤكد تجربتنا خلال الثلاثين سنة الماضية جدارة المثل العليا الواردة في الوثيقة العالمية لحقوق الإنسان وقابليتها الكاملة للتحقيق"(109).

ونقول: مع أهمية ما ورد في الإعلان من مبادئ إلاّ أن الأمم المتحدة هي أول من عمل على مخالفة هذا الميثاق مع المسلمين والدول الإسلاميّة كما في حرب إيران والعراق، وكما في أزمة الخليج، وفي الهجمة الوحشية التي قام بها الصربيون ضد المسلمين في البوسنة والهرسك، وكالت بأكثر من مكيال مخالف لحقوق الإنسان في كلّ أزمة أو اعتداء كان على المسلمين، وأصمت أمريكا أذنيها وأجبرت هيئة الأمم المتحدة على اتخاذ القرارات الحازمة ضد العرب والمسلمين ونفذتها ولم تنفذ أي قرار اتخذته ضد إسرائيل: هذا إذا اتخذته منذ أن قامت إسرائيل والى يومنا هذا لم تتخذ أي قرار ذي شأن ضد الصرب إلاّ بعد أن كاد الصربيون أن يقضوا على المسلمين في البوسنة والهرسك، وبعد أن قتلوا عشرات الآلاف من الأطفال والنساء والرجال واعتقلوا عشرات الآلاف وشردوا أكثر من مليون وهدموا عشرات المدن والقرى وخربوا العاصمة سراييفو واعتدوا على الأعراض والأموال بوحشية وهمجية لم يقم بمثلها جنكيز خان. ومازالت هيئة الأمم تخرقه وتخالفه في كلّ أمر يتعلق بالعرب والمسلمين، منعاً لقوة المسلمين واستعادتهم مكانتهم بين الأمم.

هذا وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدينا جميعاً إلى سواء السبيل، ويرشدنا للحق وبالحق، وأن يوفقنا وامتنا الإسلاميّة إلى العمل بشريعة الله، ونشر الإشراق الإلهي على ربوع العالمين آمين.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.





المراجع

ـ هداية المرشدين للشيخ علي محفوظ، الطبعة الثالثة، مطبعة السعادة بالقاهرة سنة 1345 هـ سنة 1936م.

ـ حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلاميّة والفكر القانوني العربي للدكتور محمّد فتحي عثمان، طبع دار الشروق ببيروت سنة 1402 هـ ـ 1982م.

ـ قبس من نور محمّد للدكتور محمّد فائز المط، دار الكتب العربية، الطبعة الثانية سنة 1394 هـ ـ 1974م.

ـ المجلة، مطبعة الجوائب باسطنبول سنة 1297 هـ، الطبعة الأولى.

ـ المؤيدات التشريعية، للدكتور عبد العزيز الخياط، الطبعة الثانية سنة 1406هـ ـ 1986، طبع دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع القاهرة.

ـ رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار للشيخ محمّد أمين المعروف بابن عابدين، المطبعة اليمنية للبابي الحلبي سنة 1307هـ.

ـ المبسوط لشمس الدين السرخسي، مطبعة السعادة بمصر سنة 1324هـ.

ـ شرح فتح القدير للكمال بن الهمام على الهداية، تصوير دار أحياء التراث العربي.

ـ التشريع الجنائي الإسلامي لعبد القادر عودة، طبع دار الكتاب العربي بيروت.

ـ حقوق الإنسان بين القرآن والإعلان للدكتور أحمد حافظ نجم، طبع دار الفكر العربي.

ـ مبادئ القانون الدستوري والاتحادي للدكتور سليمان الطماوي، طبع القاهرة سنة 1958م.

ـ ندوات علمية في الرياض وباريس والفاتيكان ومجلس الكنائس العالمي في جنيف والمجلس الأوروبي في ستراسبورغ، حول الشريعة الإسلاميّة وحقوق الإنسان في الإسلام: لعلماء من المملكة العربية السعودية، طبع دار الكتاب اللبناني ببيروت، 1973م.

ـ المدخل إلى الفقه الإسلاميّ للدكتور عبد العزيز الخياط الطبعة الأولى دار الفكر للنشر والتوزيع، 1991 م ـ 1411هـ.

ـ حقوق الإنسان والتمييز العنصري في الإسلام للدكتور عبد العزيز الخياط، طبع دار السلام بمصر، 1409 هـ ـ 1989 م.

ـ الاختيار لتعليل المختار لعبد الله بن محمود بن مودود الموصلي الحنفي، طبع دار المعرفة، بيروت.

ـ كتاب الخراج لأبي يوسف، طبعة بولاق سنة 1302هـ.

ـ مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر لشيخ زاده.

ـ بدائع الصنائع للكاشاني.



___________________

1 ـ هذا البحث قدم إلى الندوة الثانية عن "الحقوق في الإسلام" المنعقدة في عمان خلال الفترة من 12 ـ 13 ذي القعدة 1413 هـ ق وعلق عليها السيد الأمين العالم للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلاميّة الذي حضر تلك الندوة وننشر هنا البحث والتعليق معا.

2 ـ طه: 118 ـ 119.

3 ـ الحجرات: 13.

4 ـ رواه الخطيب البغدادي 7 /57 وذكره ابن الجوزي في الموضوعات، ومعناه صحيح.

5 ـ سورة غافر /64.

6 ـ سورة التين /4.

7 ـ سورة لقمان /20.

8 ـ سورة الحجرات /13.

9 ـ سورة البقرة: 256.

10 ـ رواه مسلم.

11 ـ سورة الملك: 15.

12 ـ سورة الإسراء 33.

13 ـ سورة النساء: 29.

14 ـ رواه الطبراني في المعجم الكبير 8: 136.

15 ـ رواه أحمد بن حنبل وأبو داود ومسلم.

16 ـ رواه أحمد بن حنبل وأبو داود والبيهقي.

17 ـ سورة البقرة: 198.

18 ـ سورة المزمل: 20.

19 ـ سورة الملك: 15.

20 ـ رواه الترمذي.

21 ـ سورة محمّد: 4.

22 ـ سورة المائدة: 8.

23 ـ سورة الاحزاب: 58.

24 ـ رواه الترمذي والحاكم والبيهقي.

25 ـ رواه الطبراني.

26 ـ النحل: 126.

27 ـ رواه مسلم.

28 ـ سورة المائدة: 2.

29 ـ سورة آل عمران: 159.

30 ـ سورة النساء 29.

31 ـ سورة البقرة: 188.

32 ـ رواه البخاري.

33 ـ رواه البيهقي.

34 ـ مجلة الأحكام.

35 ـ رواه مسلم وأحمد بن حنبل.

36 ـ الدر المنثور للسيوطي.

37 ـ سورة النور: 27 ـ 28.

38 ـ سورة النور: 58.

39 ـ سورة الهمزة: 1.

40 ـ رواه البخاري في الأدب المفرد، و ابن حبان والحاكم.

41 ـ سورة البقرة: 256.

42 ـ سورة الزمر: 9.

43 ـ سورة المائدة: 100.

44 ـ إتحاف السادة المتقين للزبيدي 2: 94.

45 ـ رواه أبو علي في مسنده.

46 ـ رواه العسقلاني في كتابه "تعليق التعليق".

47 ـ سورة الشورى: 38.

48 ـ سورة قريش 3 ـ 4.

49 ـ سورة النحل: 91.

50 ـ رواه البخاري ومسلم.

51 ـ سورة الحجرات: 9.

52 ـ سورة التوبة: 71.

53 ـ رواه البخاري.

54 ـ من كتاب النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ إلى فروج ابن شخسان أخي سليمان الفارسي السيرة المحمدية لزيني دحلان.

55 ـ سورة النساء: 97.

56 ـ سورة النساء: 100.

57 ـ سورة الحشر: 8.

58 ـ سورة الحشر: 9.

59 ـ سورة الروم: 21.

60 ـ سورة النور: 32.

61 ـ سورة النساء: 4.

62 ـ سورة النساء: 19.

63 ـ سورة الطلاق: 6.

64 ـ سورة الطلاق: 7.

65 ـ سورة البقرة: 228.

66 ـ رواه البخاري ومسلم.

67 ـ رواه البخاري ومسلم والبيهقي.

68 ـ سورة النور: 32.

69 ـ الاختيار شرح المختار 3: 84 و 85 الهداية، الموطأ.

70 ـ حاشية رد المختار على الدر المختار لابن عابدين 2: 514 ـ 521.

71 ـ الاختيار شرح المختار 4: 80 وما بعدها.

72 ـ سورة البقرة 282.

73 ـ المبسوط للسرخسي 16: 142.

74 ـ سورة البقرة: 231 ـ 232.

75 ـ رد المحتار على الدر المختار 2: 450 وفتح القدير.

76 ـ سورة النساء: 35.

77 ـ المادة 25 ـ 2 من الإعلان.

78 ـ سورة البقرة: 83.

79 ـ سورة الإسراء: 23.

80 ـ سورة الطلاق: 6.

81 ـ سورة التحريم: 6.

82 ـ رواه البخاري.

83 ـ سورة البقرة: 233.

84 ـ رواه البيهقي.

85 ـ رواه الدارقطني والبيهقي.

86 ـ بدائع الصنائع 5: 2260.

87 ـ سورة المائدة: 32.

88 ـ الاختيار شرح المختار 3 / 29.

89 ـ المبسوط 10 ـ 209 وفي حديث عنه كرم الله وجهه انه فرض له من بيت المال.

90 ـ هو حباب بن جبلة أمير بلخ.

91 ـ الدر المختار 3: 213.

92 ـ إمتاع الأسماع: 320.

93 ـ الدر المختار 3: 212.

94 ـ رد المختار لابن عابدين 3: 212.

95 ـ سورة النساء: 58.

96 ـ سورة الأعراف: 29.

97 ـ سورة الشورى: 40.

98 ـ سورة الشورى: 42.

99 ـ رواه مسلم.

100 ـ رواه مسلم والترمذي.

101 ـ رواه البخاري.

102 ـ سورة البقرة: 179.

103 ـسورة المائدة: 39.

104 ـ كتاب أدب القضاء للقاضي شهاب الدين أبي إسحاق إبراهيم بن عبدالله الهمواني الحموي المعروف بابن أبي الدم 1 ـ 290 طبع بغداد.

105 ـ سورة المائدة: 8.

106 ـ المختصر للشافعي 5: 241، الأم 6 ـ 301.

107 ـ مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر 2 ـ 157 لقاضي القضاة بالعساكر الرومية عبد الرحمن بن محمّد بن سليمان المعروف بشيخي زاده. طبع بالمطبعة العثمانية باسطنيول سنة 1328 هـ.

108 ـ ندوات علمية في الرياض وباريس والفاتيكان ومجلس الكنائس العالمي في جنيف والمجلس الأوروبي في ستراسبورغ ـ 164.

109 ـ كتاب الأمم المتحدة عن حقوق الإنسان صدر سنة 1978م بمناسبة الذكرى الثلاثين لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.