النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: ((الإســــــلام بين كينز وماركوس وحقوق الإنسان في الإسلام))

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Mar 2009
    الدولة
    ارض الله
    المشاركات
    532
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي ((الإســــــلام بين كينز وماركس وحقوق الإنسان في الإسلام))

    السلام عليكم ورحمة الله

    هذه دراسة مرجعية أحسبها هامة جدا تم نشرها بالغرب وترجمت للعربية ..والحمد لله
    وهذا ملخص منقول

    ------------------------------------------------------
    الدكتورة: .نعيمة شومان






    الإســــــلام بين كينز وماركس وحقوق الإنسان في الإسلام

    دراســـــة

    ----------------------------



    السيدة العزيزة .
    لقد قرأت ببالغ الأهمية موضوعك حول :" الاسلام بين كينز و ماركس ". و لقد ذهلت لتحليلك العميق للجانب الاقتصادي للإسلام الذي أوحت به الرسالة الإسلامية . فلا أحد تقريباً ،يملك في الوقت الحاضر ما يحيط بالتدابير الاقتصادية العميقة للإسلام سواكِ . و لذا ،فإن إسهامك هذا ، في هذا المجال لا غنى عنه . إنك بذلك تساهمين في تحطيم الأمركة الاقتصادية الحديثة بإقامة الدليل على أن التخلي عن الأخلاقية في الإنسان التي ثبّت دعائمها القانون الإلهي ، أبطلت المفعول المجدي لعلم الاقتصاد الحديث بشكل كامل . إن تأملك العميق حول الإسلام يتماشى مع تأمل الأستاذ :" فرانسوا بيرو " فيما يتعلق بإسهام المسيحية في التحليل الاقتصادي . أنت ، كما هو ، ترفضان هذا التعارض المطلق بين الدين و المجتمع ،بين اليقين و العقل ، هذا التعارض الذي ينبع من الجهل المطبق ، في الوقت نفسه ، لمبادئ الاقتصاد ، و لمضمون النصوص الدينية معاً . و لدى تعمّقي في قراءة نصك ، أعتقد أن الإسلام ذهب أبعد بكثير مما ذهبت إليه المسيحية ،لأنها _ بلا شك_ منذ " سان أوغستان " تحول الاتجاه فيها إلى إبعاد الشعور الروحاني ،بشكل مبالغ فيه، عن المعيار
    الأخلاقي .
    آمل لعملك هذا أن يصل إلى مدارك أكبر عدد ممكن من الشعوب .

    توقيع :
    آلان باركر

    - ×× -



    بسم الله الرحمن الرحيم

    مقدمــة

    إن الهدف من هذا الكتاب ليس الدخول في أحكام النظريتين، الماركسية، والرأسمالية وفلسفاتهما من حيث هي، وإنما من خلال انعكاسهما على المجتمع الإنساني من سعادة ورفاهية وعدالة وأمان، وكيف استطاعت الامبراطورية، الإسلامية على امتداد مساحاتها الشاسعة والواسعة، حتى في فترة انحلالها في عهودها الأخيرة، أن تتلافى طوابير العاطلين عن العمل من الحاملين لأعلى الشهادات، والألوف المؤلفة من الجائعين المنتظرين منذ أيام للحصول على كأس صغير من الحساء، على بعد عشرات الأمتار من البيت الأبيض الأمريكي صبح مساء، وملايين النائمة في العراء، في قيظ الصيف وقر الشتاء... بينما توصلت اليمن في عهودها الإسلامية النيرة -على سبيل المثال- إلى الحصول على لقب "اليمن السعيد" لشمول السعادة والرفاهية والحياة الكريمة لكل فرد من أفرادها، في طول البلاد وعرضها، وكيف توصلت بعض المدن الإسلامية (الكوفة) في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى إعادة الأموال، التي كانت ترسل إليها لتوزيعها على الفقراء والمحتاجين، إلى بيت المال لعدم وجود من يستحق فيها الزكاة (يوجد في الوقت الحاضر مايزيد على أربع أخماس المعمورة يستحق فيها الزكاة)، وكيف كان الخليفة عمر بن الخطاب يعتبر نفسه مسؤولاً حتى عن الشاة الجائعة ولو كانت في أقصى المدينة، بينما لايعتري أحد من الحكام، في الوقت الحاضر، أي هاجس للملايين التي تموت في ظل رعايتهم جوعاً وسقماً وبلاء..؟!
    ولابد لنا إذاً، في هذا الكتاب، للوصول إلى هذا الهدف، بعد أن دُوِّل النظامان وفرضت مشاكلهما وحلولهما على العالم أجمع، من دراسة العناصر التالية:
    1ً-تحليل المشاكل التي طرحها المذهبان لاستشفاف ما إذا كانت هذه المشاكل، هي بالفعل، مشاكلهما الحقيقية بالذات، قبل أن تصبح مشاكل العالم أجمع، ومشاكل الإنسان في كل مكان...؟
    2ً-استعراض الوسائل والحلول المعتمدة لحل هذه المشاكل، وما إذا كانت قد أتت أكلها الطيبة لشعوبها بالذات، قبل أن يعم خيرها على جميع الناس...؟
    3ً-ماهي المشاكل التي طرحها الإسلام، وماهي الحلول التي قدمها للشعوب المستضعفة التي استظلت بمظلته، من كافة الأعراق والألوان، على امتداد مسافات شاسعة، من شمال الكرة الأرضية إلى جنوبها، خلال قرون عديدة من الزمان، وكيف استطاع أن يؤمن لها صنوفاً من السعادة والحياة الكريمة اللائقة بالإنسان؟....
    4ً-وهل مازال المسلمون يملكون ذات الوسائل والمعطيات لتقديم ذات الحلول التي تمكنهم من تطبيق أحكام الإسلام؟...
    أم أن ماجرى على هذا الكون من تحكم النظامين وغطرستهما، وتخريبهما، واستهتارهما بالإنسان، ومحاربتهما له خلال قرنٍ من الزمان، وفي كل مكان، لم يبق من الإسلام للمسلمين سوى:
    -العبادات المجانية.
    -الموت في سبيل الله، الذي هو- في الواقع، في سبيل الأمريكان...!


    ×××




    القسم الأول :
    الاقتصاد كعلم أو مذهب


    ماهو المذهب الاقتصادي؟
    وماهو علم الاقتصاد؟
    لابد من التنويه بأن لعلم الاقتصاد، خلافاً لبقية العلوم الطبيعية، تعريفين أو أكثر، تختلف باختلاف المذهب الاقتصادي الذي يراد تطبيقه. وسنتناول أولاً التعريف بشكل عام.
    فعلم الاقتصاد: هو العلم الذي يتناول تفسير الحياة الاقتصادية وأحداثها وظواهرها، وربط تلك الأحداث والظواهر بالأسباب والعوامل العامة التي تتحكم بها.
    وأما المذهب الاقتصادي: فهو عبارة عن النهج، الذي يفضل القائمون على تفسير الحياة الاقتصادية، بالطريقة التي يتبعونها، تطبيقه في حياة المجتمع، وحل مشاكله العلمية والعملية وبتعبير آخر:
    العلوم الاقتصادية: هي دراسات منظمة للقوانين الموضوعية التي تتحكم في المجتمع في حياته الاقتصادية، والمذهب الاقتصادي هو عبارة عن نهج خاص
    للحياة، يطالب أنصاره بتطبيقه لتنظيم الوجود الاجتماعي على أساسه، بوصفه المخطط الأفضل الذي يحقق للإنسانية ماتصبو إليه من رخاء وسعادة على الصعيد الاقتصادي.
    وعلى هذا، فالمذهب هو دعوة عمل وتصميم، والعلم كشف أو محاولة كشف عن حقيقة وقانون. لهذا السبب كان المذهب عنصراً فعالاً وعاملاً من عوامل الخلق والتجديد، وأما العلم فهو يسجل مايقع في مجرى الحوادث الاقتصادية كما هو دون تصرف أو تلاعب.
    وعلى هذا الأساس، فقوانين المادية التاريخية علم، والنهج الاشتراكي مذهب -حسب ماركس- والقوانين الطبيعية علم، والنهج الرأسمالي مذهب -حسب آدم سميث وريكاردو-.
    إلا أنه إذا تبين لنا -كما تبين لدى قسم كبير من الباحثين العصريين- أن ماركس لم يكن على صواب في تفسير المادية التاريخية والقوانين الطبيعية التاريخية، بل إنه تصرف بها وأخذ منها ما يناسبه، وأن آدم سميث وريكاردو قد حصرا القوانين الطبيعية في ظل النظام الحر المطلق، أي أنها ليست كالقوانين الطبيعية في الفيزياء والكيمياء، تطبق في كل مجتمع، وكل زمان ومكان، وهي بذلك لاتتصف بصفة العلم، أدركنا أن الاقتصاد كعلم ليس له أساس موضوعي، فلم يبق إذاً إلا الاقتصاد كنهج.
    إن ماقصد إليه النهجان -في الواقع- من إصباغ صفة العلم على نهجيهما، هو التدويل لكل نهج من جهته، وجعله صالحاً لتطبيقه لكل شعب على وجه الأرض، ولكل زمان ومكان، بغية مد هيمنته وسيطرته على العالم أجمع* .
    أما وقد أثبت النظام الماركسي فشله على أرضه بالذات في عمر لم يتعد النصف قرن، وتربع الثاني وحده على عرش متداعي الأركان لسوف لايطول به العهد أيضاً لسنوات، فإن ماكان أساسه هشاً لايؤمل له الصمود "وإن للباطل جولة ثم يضمحل....".

    -×××-





    الفصل الأول

    النظرية الماركسية كعلم أو مذهب

    آ-المفهوم العلمي للماركسية:
    1ً-المادية التاريخية: تعتبر المادية التاريخية -في رأي الماركسية- أنها الطريقة الوحيدة التي تفسر التاريخ والحياة الإنسانية بكافة ظواهرها. وبتعبير آخر، إن الوضع الاقتصادي، وعلى وجه التحديد، وضع القوى المنتجة ووسائل الإنتاج، هي التي تصنع تاريخ الناس وتنظمهم وتطورهم، وتحدد أوضاعهم السياسية والدينية والفكرية، وما إليها من ظواهر الوجود الاجتماعي.
    وهنا، لا حاجة لنا في الدخول في الديالكتيك الفلسفية التي اتبعت أساساً لاستنباط تلك القاعدة العلمية، ولا التساؤلات التي انصبت عليها، وكلها تدور في حلقة مفرغة: (هل الدجاجة أصل البيضة، أم البيضة أصل الدجاجة؟!....) فعلى سبيل -المثال: هل المجتمع يغير الأفكار أم الأفكار تغير المجتمع؟
    جواب ماركس: "لا هذا ولا ذاك، إنها وسائل الإنتاج.."
    -وإذا كانت وسائل الإنتاج تصنع التاريخ وتغير البشر، فما هو السبب في تغيير وسائل الإنتاج؟ جواب ماركس: "إنها وسائل الإنتاج ذاتها"
    ولذا، فلسوف نعتمد على التطبيق والمقارنة والواقع لفحص النظرية الماركسية لنرى ما إذا كانت وسائل الإنتاج هي التي كانت المحرك الأول في نشوء الماركسية ذاتها، وفي البلدان الاشتراكية على وجه التحديد لنحكم من خلال التطبيق على صحة النظرية، وبالتالي درجتها من المحتوى العلمي.
    ولابد لنا -في بادئ الأمر- من لفت النظر إلى الفرق الشاسع بين الباحث التاريخي والباحث العلمي في مجال العلوم الطبيعية (كالفيزياء، والكيمياء والرياضيات،... الخ)، فإن الباحث التاريخي الذي يريد أن يفسر المجتمع البشري ونشوءه وتطوره لايستطيع أن يفحص هذه الظواهر بصورة مباشرة، كالعالم الطبيعي (في مخبره الخاص)، وإنما هو مضطر إلى تكوين فكرة عنها بالاعتماد على النقل والرواية وشتى الآثار العمرانية وغيرها. كما أنه لايملك لتحريها مايملكه العالم الطبيعي من إجراء التجارب وتقديم الدليل التجريبي على نظرياته، وعلى هذا، فهو لايملك سوى الملاحظة التي تعتمد -كما ذكرنا- على الرواية.
    فمن ناحية الملاحظة بالذات، فإن الماركسية لم تكن تملك حين وضعت مفهومها الخاص عن التاريخ، سوى الملاحظة المحدودة في نطاق ضيق لاكتشاف قوانين التاريخ كلها واليقين العلمي بها. فقد قال (أنجلز)* :
    "وبما أن البحث عن الأسباب المحركة في التاريخ مستحيلاً تقريباً في سائر المراحل السابقة بسبب تعثر علاقتها واختلاطها مع ردود الفعل التي تؤثر بها، فإن عصرنا قد بسط هذه العلاقات كثيراً بحيث أمكن حل اللغز: فمنذ انتصار الصناعة الكبرى في انكلترا، لم يعد خافياً على أحد بأن النضال السياسي كله يدور فيها حول طموح طبقتين إلى السلطة: الاستقراطية، والبورجوازية".
    ومعنى هذا، إن ملاحظة الوضع الاجتماعي، في فترة معينة من حياة أوروبا، بل وفي انكلترا وحدها بصورة خاصة، كانت كافية في رأي المفكر الماركسي (انجلز) لليقين العلمي بأن العامل الاقتصادي، والتناقض الطبقي، هو العامل الأساسي في التاريخ الإنساني كله، بالرغم من أن فترات التاريخ الأخرى لاتكشف عن ذلك لأنها غائمة معقدة، كما اعترف هو نفسه، مع أن سيطرة عامل معين، على مجتمع معين، في فترة معينة، لايكفي لتعميم سيطرته الرئيسية في كل أدوار التاريخ، وفي كافة المجتمعات* .
    أما الناحية التطبيقية، فهي المقياس الذي سنلجأ إليه لاختيار صحة النظرية الماركسية، على أرضها بالذات، أي في البلدان الاشتراكية وذلك تماشياً مع الأهمية الكبيرة التي يعطيها ماركس نفسه للناحية التطبيقية في كشف مدى صحة المقياس العلمي، وقبل أن يطول العهد ونعتمد على الروايات السليمة منها أو الفاسدة. فالناحية التطبيقية -حسب الماركسية نفسها- هي المقياس الأعلى لاختبار صحة كل نظرية. وكما قال (ماوتسي تونغ):
    "إن نظرية المعرفة في المادية الديكالتيكية تضع التطبيق في المكان الأول. فهي ترى أن اكتساب الناس للمعرفة يجب ألا ينفصل في أية درجة كانت عن التطبيق، إذ أن إهمال التطبيق يوقع في المجرد الذهني.."
    ولنأخذ القسم الخاص من التطبيق للنظرية في المجال الذي يتصل بتطور المجتمع الرأسمالي ونشوء الاشتراكية. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل حصلت الثورة الاشتراكية نتيجة لنمو الرأسمالية الصناعية وبلوغها الذروة؟
    في الواقع، كلنا نعلم أن الثورة الاشتراكية، في البلدان التي طبقت فيها الاشتراكية تطبيقاً جزئياً مثل: بولونيا، وتشيكوسلوفاكيا، والمجر، لم تنبثق عن تناقضات المجتمع الداخلية، وإنما فرضت فرضاً من الخارج بقوة الجيش الأحمر، أي بواسطة الحرب الأجنبية والغزو العسكري المسلح. وإلا فأي قانون من قوانين التاريخ شق ألمانيا نصفين، وأدرج قسمها الشرقي ضمن العالم الاشتراكي، وجزءها الغربي ضمن العالم الرأسمالي؟ أهو قانون القوى المنتجة (التي هي واحدة في الشطرين) أم قوة الجيش الفاتح؟
    وأما في البلدان التي طبقت فيها الاشتراكية بشكل كلي عن طريق الثورات الداخلية، فإن هذه الثورات لم تحصل طبقاً للنظرية التي حل بها الماركسيون كل ألغاز التاريخ وهي: "المادية التاريخية".
    ففي روسيا مثلاً، وهي البلد الأول في العالم الذي سيطر عليه النظام الاشتراكي عن طريق الثورات الداخلية، فإن هذه الثورات لم تحصل نتيجة نمو وسائل الإنتاج والقوى المنتجة. فالقوى المنتجة فيها لم تكن لتبلغ الدرجة التي تحددها النظرية لإمكان التحول واندلاع الثورة الاشتراكية. لقد كانت روسيا -في الواقع- في مؤخرة الدول الأوروبية من الناحية الصناعية لكي يلعب تزايد القوى المنتجة دوره الرئيسي في تقرير شكل النظام، بل -على العكس- نمت تلك القوى في فرنسا وبريطانيا وألمانيا نمواً هائلاً، ودخلت هذه البلاد مرحلة عالية من التصنيع، ومع ذلك، فبمقدار ارتفاعها في هذا المضمار، كان بعدها عن الثورة ونجاتها من الإنفجار الثوري الشيوعي المحتوم في مفاهيم المادية التاريخية. أي أن الاتجاه الثوري في روسيا لم يخلق نتيجة للثورة الصناعية وتطور وسائل الإنتاج، بل العكس هو الصحيح، فقد جاءت الثورة الصناعية كنتيجة للثورة السياسية، فكان الجهاز الانقلابي في الدولة هو الأداة لتصنيع البلاد وتطور قواها المنتجة، وليس التصنيع هو الخالق لهذا الجهاز.
    وإن كان من الضروري أن نربط بين الثورة من ناحية، وحركة التصنيع ووسائل الإنتاج من ناحية أخرى، فالتطبيق أثبت عكس العلاقة التي حددتها الماركسية.
    فروسيا، مثلاً لم يدفعها نمو الإنتاج إلى الثورة بمقدار ما دفعها انخفاض تلك القوى وتخلفها الخطر عن ركب الدول الصناعية التي قفزت بخطوات عالية جداً في مضمار الصناعة والإنتاج.
    فكان لابد لروسيا، لكي تحتفظ بوجودها الحقيقي في الأسرة الدولية وتنجو من الاحتكارات التي أخذت تقيمها الدول السباقة، وتفرض كيانها كدولة حرة على مسرح التاريخ، من إنشاء الجهاز السياسي والاجتماعي الذي يحميها من تلك الاحتكارات، ويحل مشاكلها التصنيعية حلاً سريعاً، ويدفع بها إلى الأمام في حلبات التصنيع، ومجالات السباق الدولي.
    ومن ثم، فإن الثورات الداخلية في روسيا ماكان لها أن تنتصر بفعل التناقضات الطبقية المفروضة -حسب النظرية- بمقدار ما اعتمدت على انهيار الجهاز السياسي الحاكم انهياراً عسكرياً في ظروف حربية قاسية، كانهيار الحكم القيصري عسكرياً في ظروف حربية (الحرب العالمية الأولى)، الأمر الذي مكن قوى المعارضة، وعلى رأسها الحزب الشيوعي، من الانتصار السياسي، وإقامة الحكومة الاشتراكية.
    وشيء آخر جدير بالملاحظة، هو أن الحكومة الاشتراكية نفسها، بحكم السلطة المطلقة التي لاحدود لها، التي مارستها، هي التي ساهمت في خلق أسباب وجودها والمبررات الماركسية لنشوئها؛ فهي التي أنشأت الطبقة التي تزعم أنها تمثلها، كما أنها هي التي نقلت وسائل الإنتاج والقوى المنتجة إلى المرحلة التي أعدها (ماركس) لاشتراكيته العلمية.
    والصين، البلد الآخر الذي ساد فيه النظام الاشتراكي بالثورة، ينطق أيضاً بالتناقض الواضح بين النظرية والتطبيق.
    فلم تكن الثورة الصناعية -التي لم تبدأ بالفعل إلا بعد وفاة (ماو) وانفتاحها على الغرب وتخليها عن مقومات الاشتراكية الأساسية- هي العامل الأساسي في تكوين الصين الجديدة، وقلب نظام الحكم فيها، ولم يكن لوسائل الإنتاج (التي مازالت حتى عهد قريب تقليدية) أي دور في ذلك، ولم يكن لفائض القيمة الصناعي (فالصين بلد زراعي، بل ويحرص على أساليب الزراعة التقليدية)، ولا لتناقضات رأس المال التي تقررها قوانين المادية التاريخية، أي دور في المعترك السياسي. إن الثورة الشيوعية في الصين كانت قد بدأت قبل الغزو الياباني، وظلت لمدة عقد كامل تنتشر وتتوسع، ولم يتحقق لها النصر إلا بعد تحطيم جهاز الدولة نتيجة ظروف حربية خارجية أدت إلى زعزعته.
    وهناك أقطار عديدة عاشت نفس الظروف والعوامل التي أنجحت الثورة الاشتراكية في روسيا، ولكنها لم تأخذ مثلها طابعاً اشتراكياً، رغم التشابه في القوى الإنتاجية، نظراً للظروف الفكرية والتيارات المتناقضة التي كانت تعمل في الحقل السياسي والمجال الثوري هنا وهناك.
    فإذا كان التطبيق يدعم حقاً النظرية، كما يزعم المنطق الديكالكتيكي للماركسية، فإن المادية التاريخية يعوزها حقاً هذا الدليل....!
    المادية التاريخية، والحياة الفكرية
    لعل أخطر وأهم النقاط الجوهرية في المفهوم المادي للتاريخ عند الماركسية يكمن في العلاقة التي تؤكد على وجودها بين الحياة الفكرية للإنسان بشتى ألوانها (من فلسفية وعلمية، ودينية... الخ). وبين الوضع الاقتصادي، وبالتالي وضع القوى المنتجة. لا بل وإنها تتهم كافة المفكرين بجهلهم المطبق للأسباب التي خلقت. لهم أفكارهم، والتي لم يتح اكتشافها إلا للمادية التاريخية.
    وهذا الإطار الاقتصادي الذي تضع الماركسية ضمنه كل أفكار الإنسان في المعمورة منذ الخليقة حتى تاريخها، جدير بالبحث العلمي والفلسفي المستفيض أكثر من بقية الجوانب الأخرى، وقد خصص له المرحوم (محمد باقر الصدر) كتاباً بعنوان "فلسفتنا" يمكن الرجوع إليه. وإن مايهمنا من هذه العلاقة هو استعراض بعض النواحي التطبيقية.
    فالمجتمعات التي سبقت العصر الحديث في الوجود كانت متقاربة -إلى حدٍ كبير- في وسائل الإنتاج وأساليبه، ولم يكن بينها أي فرق جوهري. فالزراعة التقليدية، والصناعة اليدوية هما الشكلان الرئيسيان للإنتاج في مختلف تلك المجتمعات، وبالرغم من ذلك فإنها كانت تختلف اختلافاً كبيراً في مستوياتها العلمية. فلو كانت أشكال الإنتاج وأدواته هي العامل الأساسي الذي يحدد لكل مجتمع محتواه العلمي ويطور الحركة العلمية تبعاً لدرجته التاريخية، لما وجدنا تفسيراً لهذا الاختلاف، ولامبرراً لازدهار العلم في مجتمع دون آخر.
    فلماذا -على سبيل المثال- اختلف المجتمع الأوروبي في القرون الوسطى عن المجتمعات الإسلامية في الأندلس والعراق ومصر، مع اشتراكها في نوعية القاعدة؟ وكيف ازدهرت في المجتمعات الإسلامية الحركة العلمية في مختلف العلوم، وبدرجة عالية جداً، ولم يوجد لها أي تباشير في أوروبا الغربية التي هالها مارأته في حروبها الصليبية من علوم المسلمين ومدنيتهم؟*
    ولماذا استطاعت الصين القديمة وحدها أن تخترع الطباعة، ولم تتوصل إليها سائر المجتمعات إلا عن طريقها (فقد أخذ المسلمون هذه الصناعة عن الصينيين في القرن الثامن الميلادي، ثم أخذتها أوروبا عن المسلمين في القرن الثامن عشر).
    بالإضافة إلى ذلك، فكثير من الحاجات الاقتصادية القديمة العهد بالتاريخ لم يتوصل الفكر إلى تلبيتها إلا بعد مرور قرون عديدة، بينما -على العكس- فقد سبق العلم الحاجات الاقتصادية بعشرات القرون في كثير من الحالات. (فعلى سبيل المثال، فإن اكتشاف المغناطيس في تعيين اتجاه السفن لم يتم إلا في القرن الثالث عشر، مع أن الطريق البحري كان هو الطريق الرئيسي منذ قرون خلت، وعلى العكس، فإن اكتشاف البخار قد تم في القرن الثالث الميلادي، أي قبل المجتمع الرأسمالي الذي دعا إليه بعشرات القرون.
    المادية التاريخية وتكون الطبقات
    ومايقال في تكون الأفكار لدى الماركسية نتيجة للوضع الاقتصادي والقوى المنتجة، يقال أيضاً بالنسبة لتكون الطبقات: (( إن انقسام الناس-حسب الماركسية- إلى فئة تملك كل وسائل الإنتاج، وفئة لاتملك منها شيئاً، هو السبب التاريخي لوجود الطبقات في المجتمع بأشكالها المتنوعة تبعاً لنوعية الاستغلال الذي تفرضه الطبقة الحاكمة على المحكومة من عبودية أو قنانة أو استخدام بالأجرة)).
    ونعود هنا إلى السؤال التقليدي: (الدجاجة سبقت أم البيضه)؟ فالتكوين الطبقي للطبقة الرفيعة الحاكمة في المجتمع، إذا كان نتاجاً للملكية (الوضع الاقتصادي)، فلابد لها من إيجاد هذه الملكية لكي تصبح رفيعة حاكمة، ولاسبيل إلى حصولها على تلك الملكية إلا عن طريق النشاط في ميادين العمل. ولم يسبق أن كان النشاط في ميادين العمل هو الطريق الأساسي لتكون الطبقة الحاكمة في المجتمع، اللهم إلا بالنسبة للمجتمع الرأسمالي في ظروف تكونه وتكامله، وحتى في هذا المجتمع، فكان السلب والنهب والنفوذ الاستعماري وسيلة الوصول إلى الحكم أكثر منه عن طريق النشاط في ميادين العمل. وكلنا يعلم كيف تكونت الطبقة الحاكمة في أمريكا، وأعمال البطش والإبادة الجماعية التي استعملها الغازون الأوروبيون بالهنود الحمر، الشعوب الأصلية، دون أن يكون لهؤلاء الغازين في هذه القارة أي عنصر من عناصر المادية التاريخية.
    وإذا عدنا إلى التاريخ القديم نجد أن طبقة رجال الأعمال في المجتمع الروماني كانت تداني الأشراف في ثرواتها بالرغم من التفاوت الكبير بين مقامهما الاجتماعي. وعلى العكس، فإن طبقة (الساموراي) ذات النفوذ الكبير في اليابان القديمة، والتي كانت تداني الإقطاع في السلم الاجتماعي، لم تكن تعتمد إلا على فروسيتها وخبرتها في حمل السيف وليس على الملكية. وقس على ذلك طبقة (الآريين الفيديين) الذين غزوا الهند قبل التاريخ الحديث بألفي سنة وسيطروا عليها وأقاموا فيها تنظيماً طبقياً لم يكن للملكية أي أثر في تكوينه، بل كان قائماً على أسس عسكرية، ودينية وعنصرية، ولم يشفع للتجار والصناع مكليتهم لوسائل الإنتاج كي يرتقوا إلى مصاف الطبقات الحاكمة، أو ينافسوها في سلطانها السياسي والديني.
    وأخيراً، كيف نفسر قيام الطبقة الإقطاعية في أوروبا الغربية نتيجة للفتح الجرماني، إذا لم نفسره تفسيراً عسكرياً وسياسياً؟ فكلنا يعلم، وحتى انجلز نفسه قد اعترف بأن القواد الفاتحين الذين تكونت منهم تلك الطبقة لم يكن مقامهم الاجتماعي ناتجاً عن الملكية الإقطاعية، وإنما تكونت ملكيتهم الإقطاعية هذه تبعاً لدرجتهم الاجتماعية، وامتيازاتهم العكسرية والسياسية الخاصة، بوصفهم غزاة فاتحين دخلوا أرضاً واسعة، وتقاسموها، فكانت الملكية أثراً، ولم تكن هي العامل المؤثر.
    وهكذا، فإن الواقع التاريخي للإنسانية لايسير في موكب المادية التاريخية، وبذلك تخسر الماركسية برهانها العلمي، وتبقى في مستوى سائر الاقتراحات المذهبية.
    نظرية ماركس بالقيمة الفائضة
    لابد لنا قبل أن نعرج على الماركسية كمذهب من إبداء الملاحظتين التاليتين عن نظرية ماركس "بالقيمة الفائضة" التي تعتبر المصدر العام لأرباح الطبقة الرأسمالية، والسبب في الصراع الطبقي المحتوم بين الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج والطبقة العاملة، والذي سيؤدي بالرأسمالية العالمية -حسب رأيه- إلى مصيرها المحتوم.
    وكلنا يعلم أن نظرية القيمة الفائضة، تعتبر أن المنبع الوحيد لقيمة السلع هو العمل الذي أهرق فيها. وإن الفرق بين مايدفعه الرأسمالي إلى العامل من أجور، وما يتسلمه من إنتاجه من قيمة (إذ أن الرأسمالي يقتطع من العامل جزءاً من القيمة التي يخلقها، كربح له) هو بمثابة السرقة لحقوق العامل. وهذه من شأنها أن تؤدي -بطبيعة الحال- إلى قيام صراع عنيف بين الطبقة المسروقة والطبقة السارقة، حسب رأيه.
    الملاحظة الأولى:
    إن كان العمل يحتل أهمية قصوى في تحديد قيمة السلعة، إلا أن المادة (موضوع العمل) لايمكننا أن ننكر قيمتها. فالعمل المنصب على استخراج معدن كالذهب مثلاً، لاتقارن قيمته بالنسبة للعمل المصروف على استخراج صخور لاتجدي نفعاً. فالعنصران إذاً، (المادة والعمل) متفاعلان ومتضامنان في تكوين القيمة التبادلية للسلع المستخرجة. فليست القيمة كلها -إذاً- نابعة من العمل، وليس صاحب العمل هو المصدر الوحيد لقيمة السلعة، وبالتالي ليس من الواجب أن تكون القيمة الفائضة (الربح) جزءاً من القيمة التي يخلقها العامل دون اعتبار ما لمواد الإنتاج الطبيعية من نصيب في قيمة السلعة المنتجة.
    الملاحظة الثانية:
    وهناك عنصر آخر أقصته الماركسية من حسابها، لدى محاولة اكتشاف سر الربح، وهو القدر الذي يخلقه المالك نفسه من قيمة، بسبب مواهبه التنظيمية والإدارية التي يستعملها في تسيير المشروع الصناعي أو الزراعي. فهناك مشاريع متساوية في رؤوس أموالها والأيدي العاملة التي تعمل فيها، ومع ذلك فقد تختلف اختلافاً هائلاً في الأرباح التي تجنيها طبقاً لكفاءات التنظيم ومقدرة الرؤوس الخالقة للثروة من الإشراف على عملية الإنتاج وعلى تصميمها، وتحديد مايلزم، والبحث عن منافذ لتوزيعها.
    وإذا كان العمل جوهر القيمة -حسب ماركس- فمن باب أولى أن يكون للعمل القيادي والتنظيمي، والفكر الذي خلق الثروة نصيب من القيمة التي يخلقها العمل في السلعة.
    وهكذا، فإن انهيار نظرية القيمة الفائضة يتبعه رفض التناقضات الطبقية التي تستنتجها الماركسية من هذه النظرية، كالتناقض بين العامل والمالك بوصفه سارقاً يقتطع من العامل الجزء الفائض من القيمة التي يخلقها في السلعة موضوع العمل.
    والحقيقة التي يقررها الاقتصاد الإسلامي بهذا الصدد هي أن المالك لا يشتري من العامل عمله، كما يرى الاقتصاد الرأسمالي، ولايشتري أيضاً منه قوة العمل، كما يقرر الاقتصاد الماركسي* وإنما يشتري المالك من العامل منفعة عمله. فمنفعة العمل شيء مغاير للعمل ولطاقة العمل، وهي بضاعة لها قيمة بمقدار مالتلك المنفعة من أهمية، كتحويل قطعة الخشب إلى منضدة، أو تحويل فلزات الذهب إلى مجوهرات. وهذا المبدأ يفسر انخفاض القيمة التبادلية لسلعة من السلع، تبعاً لانخفاض الرغبة الاجتماعية فيها نتيجة عامل سياسي أو ديني أو فكري أو أي عامل آخر، فتتضاءل قيمة السلعة بالرغم من احتفاظها بنفس الكمية من العمل الاجتماعي، وبقاء ظروف إنتاجها كما هي دون تغيير. وهذا يبرهن بوضوح على أن للدرجة التي تتيحها السلعة من الإنتفاع وإشباع الحاجات، أثراً في تكوين القيمة التبادلية.
    ب-الماركسية كمذهب اقتصادي
    ذكرنا في مطلع هذا الفصل أن العلوم الاقتصادية هي دراسات منظمة للقوانين الموضوعية التي تتحكم في المجتمع، كما تجري في حياته الاقتصادية. أما المذهب الاقتصادي فهو المنهج الذي يطالب به أنصار النظرية العلمية لتنظيم الوجود الاجتماعي على أساسه، بوصفه المخطط الأفضل الذي يحقق للإنسانية، ماتصبو إليه من سعادة ورخاء.
    وقد تناولنا العلوم الاقتصادية من وجهة نظر الماركسية بالتحليل والفحص على مجهر الواقع التطبيقي، ورأينا كيف أن المادية التاريخية التي تفسر كافة الفعاليات والنشاطات الإنسانية في التاريخ من خلالها، لاتفتقر فقط إلى الدليل العلمي، وإنما أنها -في أغلب الأحوال- قد قلبت المفاهيم رأساً على عقب. كما أن انهيار نظرية القيمة الفائضة قد اتبع معه كافة التناقضات الطبقية التي استنتجتها الماركسية من هذه النظرية، وتلاشى معها التناقض العلمي المزعوم وبطلت فكرة الصراع الطبقي المستوحاة من ذلك التناقض.
    وبذلك، لم يبق من الماركسية سوى المذهب الذي اتبعه أنصارها لتخليص المجتمع العالمي من تناقضاته -حسب زعمهم- وتحقق للإنسانية كل مايؤمن سعادتها ورخاءها.
    وفي المذهب الماركسي مرحلتان تطالب الماركسية بتطبيقهما تباعاً، وهما: المرحلة الاشتراكية، ثم الشيوعية. فالشيوعية تعتبر -من وجهة نظر المادية التاريخية- أعلى مرحلة من مراحل التطور البشري، لأنها المرحلة التي يحقق فيها التاريخ معجزته الكبرى. وأما الاشتراكية فهي تقوم على أنقاض المجتمع الرأسمالي. وهي من ناحية تعبر عن الثورة التاريخية المحتومة على الرأسمالية حين تأخذ بالاحتضار، ومن ناحية أخرى تعتبر شرطاً ضرورياً لإيجاد المجتمع الشيوعي، وقيادة السفينة إلى شاطئ التاريخ....!
    الاشتراكية، ومعالمها الرئيسية:
    تتلخص معالم الاشتراكية وأركانها الأساسية فيما يلي:
    -محو الطبقية، وخلق المجتمع اللاطبقي.
    -استلام البروليتاريا للأداة السياسية، بإنشاء حكومة دكتاتورية.
    -تأميم مصادر الثروة ووسائل الإنتاج، واعتبارها ملكاً للمجموع.
    -قيام التوزيع على قاعدة: (من كل حسب طاقته، ولكل حسب عمله).
    الشيوعية:
    وهي قمة الهرم التاريخي للبشرية. وفيها يحدث التغيير في أكثر المعالم والأركان السابقة، عدا الطبقية التي تحتفظ بها. فهي تهدف للقضاء على قصة الحكومة والسياسية، وتحرر المجتمع منها. كما أنها لاتكتفي بتأميم وسائل الإنتاج، بل تلغي الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج الفردية (وهي التي يستثمرها المالك بنفسه لاعن طريق الأجراء)، وتحرم الملكية الخاصة لبضائع الاستهلاك وأثمانها. وكذلك فإنها تجعل التوزيع مرتكزاً على قاعدة: (من كل حسب طاقته، ولكل حسب حاجته).
    وبصورة عامة، فإن ماركس لايستند في تبرير الاشتراكية والشيوعية إلى قيم ومفاهيم خلقية معينة في المساواة، كغيره من الاشتراكيين الذين يصفهم ماركس بالخياليين. إن القيم والمفاهيم الخلقية ليست في رأي الماركسية إلا وليدة العامل الاقتصادي، والوضع الاجتماعي للقوى المنتجة. فلا معنى للدعوة إلى وضع اجتماعي على أساس خلقي بحت.
    وسنتناول دراسة الأركان والمعالم الرئيسية للاشتراكية على ضوء التطبيق العملي، ومدى تماشيه مع الأهداف المحددة.
    معالم الاشتراكية بين الأهداف والتطبيق
    1ً-من خلال محو الطبقية:
    إن محو الطبقية -الركن الأول للاشتراكية- من شأنه -حسب المبدأ- أن يضع حداً فاصلاً لما ذخر به تاريخ البشرية -على مر الزمن- من ألوان الصراع، لأن مرد تلك الألوان إلى التناقض الطبقي الذي نتج عن انقسام المجتمع إلى مالكين ومعدمين، فإذا ماقامت الاشتراكية وحولت المجتمع إلى طبقة واحدة، زال التناقض الطبقي، واختفت كل ألوان الصراع، وساد -حسبها- الوئام والسلام إلى الأبد...!
    إلا أن التطبيق قد أثبت في البلدان الاشتراكية نفسها أن إزالة الملكية الخاصة، وتأميم وسائل الإنتاج، لم يقض على التركيب الطبقي، إذ أن تركيباً طبقياً من نوع آخر قد برز إلى الوجود على أساس آخر (الجهاز الحزبي والسياسي). وأن الإمكانيات والصلاحيات التي تمتع بها الجهاز المذكور تفوق سائر الإمكانيات التي حصلت عليها أكثر الطبقات على مر التاريخ. فقد كسب رجال الحزب الشيوعي سلطة مطلقة على جميع الممتلكات ووسائل الإنتاج المؤممة في البلاد، كما كسبوا مركزاً سياسياً يتيح لهم الانتفاع بتلك الممتلكات، والتصرف بها تبعاً لمصالحهم الخاصة. وتمتد امتيازاتهم من إدارة الدولة والمؤسسات الصناعية ووسائل الإنتاج إلى كل نواحي الحياة. كما تنعكس أيضاً في التناقضات الشديدة بين أجور العمال ورواتبهم الضخمة.
    ولذلك، فإن صراعاً من نوع آخر قد برز إلى الوجود بين الطبقات البديلة ذاتها، صراعاً يفوق إلى حدٍ كبير العنف الذي عرفته الماركسية لأشكال التناقض الطبقي في التاريخ.
    وعلى سبيل المثال، فقد شملت عمليات التطهير تسعة وزراء من أعضاء الوزارة الأحد عشر الذين كانوا يديرون دفة الحكم في الاتحاد السوفياتي عام 1936، واكتسحت ثلاثة وأربعين أميناً من أمناء سر منظمة الحزب المركزية الذين كان يبلغ عددهم ثلاثة وخمسين أميناً، وثلاثة من مارشالات الجيش السوفياتي الخمسة، و60% تقريباً من مجموع جنرالات السوفييت، وجميع أعضاء المكتب السياسي الذي أنشأه لينين بعد الثورة، باستثناء ستالين، كما أدت عمليات التطهير إلى طرد مايزيد على مليونين من أعضاء الحزب عام 1939 من أصل مليونين ونصف وكذلك سبعين عضواً من أعضاء مجلس الحزب الثمانين. وبذلك كاد الحزب الشيوعي المطرود يوازي الحزب الشيوعي نفسه*.
    وهكذا، يبدو جلياً كيف تؤدي طبيعة المادية الدكتاتورية في الجهاز الحاكم في المجتمع الاشتراكي الذي يرمي بأهدافه إلى القضاء على الطبقية إلى ظروف طبقية تتمخض عن ألوان رهيبة من الصراع، وأن هذه التجربة التي جاءت لتمحو الطبقية قد أنشأتها من جديد، ولكن على مستوى لايرعى حرمة لوطن ولا لشعب، ولا لمبدأ؛ فهي نفسها التي انقلبت على الحزب، والطبقة، والوطن في أوائل التسعينيات وفتحت الأبواب على مصراعيها لحثالات الشعوب من المتعطشين للدماء والمال، وأعادت إلى التاريخ بذرة لأفظع ماتصف الماركسية من ألوان الطبقية في التاريخ.
    2ً-من خلال سلطة البروليتاريا المطلقة الوهمية
    يشترط الركن الثاني للتجربة الاشتراكية، أن تتحقق على أيدي ثوريين محترفين يتسلمون قيادتها، وهم وحدهم الذين يستطيعون أن يؤلفوا حزباً جديداً، بلشفي الطراز، إذ ليس من المعقول أن تباشر البروليتاريا بجميع عناصرها قيادة الثورة وتوجيه التجربة. أي أن القيادة الثورية للطبقة العاملة كانت محصورة بمن يدعون أنفسهم بالثوريين المحترفين، وإن على هذه القيادة أن تتسلم السلطة بصورة مطلقة لتصفية حسابات الرأسماليين نهائياً. وتعتبر هذه السلطة الدكتاتورية ضرورية، ليس فقط لتصفية الرأسمالية فحسب، كما تزعم الماركسية، بل لابد منها لتنفيذ كل مايتطلبه التخطيط الاقتصادي من سلطة قوية غير خاضعة للمراقبة، ومتمتعة بإمكانيات هائلة، ليتاح لها أن تقبض بيد حديدية على كل مرافق البلاد بحجة أن تنمية الإنتاج تتطلب مثل هذه السلطة الحديدية.
    إلا أن مانتج عن هذه السلطة، هو استفحال قوتها إلى أن استفردت وحدها بالإنتاج، والقيمة، وفرق القيمة... وهذا ما أدى إلى تداعي النظام ذاته، لتضطلع -هي نفسها- بمسؤولية حكم ديمقراطي لايختلف، من قريبٍ أو بعيد، عن شريعة الغاب في الماوماو الأسطورية....!
    3ً-من خلال التأميم لمصادر الثروة
    التعديل الأخير تم 01-30-2010 الساعة 03:36 AM

    (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ). [الطور: 35].
    (أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ). [إبراهيم: 10]
    (قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ). [يونس: 101]


    للسؤال عن الغائبين

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Mar 2009
    الدولة
    ارض الله
    المشاركات
    532
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    لقد هدف التأميم -في الواقع- بالإضافة إلى محو الطبقية، إلى تحقيق الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج. وهنا أيضاً، فقد أثبت التطبيق أنه لا يكفي أن تلغى الملكية الخاصة بقانون، وأن يتم الإعلان عن الملكية الجماعية للثروة بقانون، لكي يتمتع المجموع مثلاً بهذه الملكية...
    في الواقع، لقد سمح التأميم للطبقة الحاكمة بأن تتمتع هي وحدها بالمحتوى الحقيقي للملكية بسيطرتها المطلقة على مقدرات البلاد وثرواتها. وحصلت هذه الطبقة على نفس الفرص التي كان الرأسماليون الاحتكاريون يتمتعون بها في المجتمع الرأسمالي، كل ذلك مع حق تمثيل المجتمع اللاطبقي والتصرف بممتلكاته، كما أصبحت أقدر من أي رأسمالي، على سرقة القيمة الفائضة.
    ولقد اضطر ستالين للاعتراف بأن كبار رجال الدولة والحزب قد استغلوا فرصة انشغال دولتهم في الحرب الأخيرة، فجمعوا الثروات الباهظة... وقد أعلن عن ذلك بمنشور أذاعة وعممه على جميع أبناء الشعب...
    فالتأميم -في الواقع- لم يقم على أساس روحي أو قناعة بقيم خلقية وإنسانية، وإنما قام على أساس مادي بحت لتحقيق أكبر نصيب من الإنتاج.
    إن رجال السلطة أنفسهم الغيورين على الإنتاج لزيادة الإنتاج فقط، هم أنفسهم الذين شلوا كافة الفعاليات الإنتاجية في البلاد تمهيداً للثورة المضادة التي قام بها غورباتشوف فيما بعد، مما أدى إلى وقوعها في أزمة اقتصادية عويصة لاسبيل إلى حلها -حسب زعمهم- إلا عن طريق هدم النظام من أركانه الأساسية. وهذا ماحصل بالفعل في أوائل التسعينيات على يد المنقذ الإصلاحي الكبير غورباتشوف، والذي انتهى دوره عند هذا الحد، ليتربع السادة الحقيقيون من الثوريين المحترفين على نظام يتقاذفه الرعاع من كل قطب من أقطاب العالم، لاتربط بينهم أية رابطة من طبقة أو عنصر أو مبدأ، إلا رابطة الفساد والتخريب وتعطيل الإنتاج، والمضاربات، وتهريب الممتلكات والعملات وامتصاص الدماء. ولم يبق من تنمية الإنتاج في مفاهيم المادية التاريخية، التي هي القوة الدافعة للتاريخ على مر الزمن -حسب رأيهم- إلا أضغاث أحلام....!
    4ً- من خلال التوزيع وعدالته
    إن الركن الأخير من الاشتراكية، وهو التوزيع، فيرتكز على مبدأ: "من كل حسب طاقته، ولكل حسب عمله".
    أي حق كل فرد أن يعمل ليعيش في مجتمع، يتألف من طبقة واحدة، وذلك تماشياً مع قانون ماركس للقيمة "بأن العمل هو أساس القيمة"، وأن للعامل نصيباً من الإنتاج بالقدر الذي يتفق مع كمية عمله.
    وهنا يبدو التناقض الصارخ بين هذا المبدأ واللاطبقية للمرحلة الاشتراكية. مما لاشك فيه، أن الأفراد يختلفون في أعمالهم تبعاً لاختلاف كفاءاتهم، ونوعية العمل تخلقها تلك الأعمال. فالعامل الذي يمارس إنتاج أجهزة دقيقة ومعقدة لاتقاس قيمة عمله بالعامل الذي يستخدم في حمل الأثقال مثلاً.
    فإذا ماجرى التوزيع حسب قاعدة (لكل حسب عمله)، لابد من أن يجري على درجات متفاوتة، وبذلك سوف يخلق الفروقات الطبقية من جديد، أو أن يجري بالتساوي على جميع العاملين، أي للعامل البسيط كما للعامل المركب، وللعامل الموهوب كما للعامل العادي، وبذلك تكون قد اقتطعت من العامل الموهوب القيمة الفائضة التي يتفوق بها على العامل البسيط، كما كان يصنع الرأسمالي تماماً على حساب المادية التاريخية.
    ولهذا اضطرت السلطة من خلال التطبيق إلى الاتجاه إلى دفع المجتمع إلى التناقضات الطبقية من جديد، بأن تركت فروقات في الدخل تتراوح بين
    1.5 و5%.
    إلا أن السلطة قامت فيما بعد بتعميق الفروقات والتناقضات، فأنشأت طبقة البوليس السري، وميزت عملها الجاسوسي بامتيازات ضخمة، وسخرتهم لتدعيم كيانها الدكتاتوري التي أوصلت البلاد إلى أسوأ مما جاءت لإصلاحه، إلى أن أتت على النظام برمته كما ذكرنا.
    الشيوعية
    وهي نهاية المرحلة الاشتراكية، وبداية المجتمع الشيوعي. ولها ركنان:
    الأول: توسيع التأميم ليشمل كل وسائل الإنتاج، وكل البضائع الاستهلاكية .
    والثاني: تحرير المجتمع من الحكومة والسلطة السياسية بصورة نهائية.
    -فمن خلال توسيع التأميم ليشمل البضائع الاستهلاكية وتوزيعها على جميع أفراد الشعب حسب مبدأ "لكل حسب حاجته لا عمله فقط"، فقد بدا فيها المذهب الاشتراكي في قمة إمعانه في الخيال، إذ يتصور أن بالإمكان أن يعطي كل فرد كل مايشبع رغبته ويحقق سائر طلباته، لأن الثروة التي سيملكها الشعب من جراء النظام الاشتراكي، سوف تصبح قادرة على إشباع كافة الرغبات. فلا ندرة من بعض البضائع ولاتزاحم على السلع، ولا حاجة للتنظيم...! أي أن الشيوعية كما جنحت في خيالها في صنع المعجزات في الشخصية الإنسانية فحولت الناس إلى عمالقة في الإنتاج، فهي تصنع المعجزات مع الطبيعة نفسها فتجردها من الشح والتقتير والمحل ونفاذ الموارد الطبيعية، وتمنحها روحاً كريمة سخية تغدق بعطائها على كل مايتطلبه الإنتاج الهائل من موارد ومعادن ومياه*.
    ويبدو أن قادة التجربة الماركسية قد حاولوا خلق الجنة الشيوعية الموعودة على الأرض ففشلوا، وذلك حين جردوا الفلاحين من وسائل إنتاجهم الفردية فترة 1928-1930، التي راح ضحيتها مائة ألف قتيل باعتراف التقارير الشيوعية ذاتها، وأضعاف هذا العدد في تقرير أعدائها، ومن ثم إضراب عام 1932، الذي راح نتيجة المجاعة الناجمة عنه ستة ملايين نسمة باعتراف الحكومة نفسها، مما اضطر السلطة إلى التراجع، ومنح الفلاح شيئاً من الأرض وكوخاً وبعض الحيوانات للاستفادة منها، على أن تبقى الملكية الأساسية للدولة.
    -الشيوعية والحكومة
    وتزداد الشيوعية تجنيحاً بأخيلتها عندما تفترض الانتقال بالشيوعية من مرحلة حكومات دكتاتورية إلى مرحلة "اللاحكومة".
    ولنجنح مع الماركسية في أخيلتها، ولنفرض أن المعجزة قد تحققت، وأن المجتمع الشيوعي قد وجد وأصبح كل شخص يستطيع أن يشبع كافة حاجاته ورغباته؛ أفلا يحتاج المجتمع إلى سلطة تحدد هذه الحاجات، وتوافق بين الحاجات المتناقضة فيما إذا تزاحمت على سلعة واحدة، وتنظم العمل وتوزعه على فروع الإنتاج؟ ولذا، فإن الشيوعية لم تر النور، وأن الاشتراكية قد أخمدت جذوتها الرياح الفاسدة من داخلها خلال مدة لم تتجاوز النصف قرن.
    النتيجة:
    نتيجة لما تقدم يتبين لنا أن إلغاء الملكية الخاصة، وتأميم كافة وسائل الإنتاج، والقضاء المبرم على طبقة، واستبدالها بطبقة أخرى استناداً إلى فلسفات خيالية محضة، وخاصة إذا ماكانت الطبقة الأولى نشيطة ومنتجة ولديها الخبرة والتمرس في إدارة المؤسسات الإنتاجية وإنجاحها، وكانت الطبقة البديلة لاتملك من ذلك شيئاً؛ كانت السبب الرئيسي في فشل الاشتراكية وانحرافها عن أهدافها في إعطاء الطبقة العاملة حقوقها، وبالتالي في تنشيط عجلة الإنتاج وتحسينه في تأمين الحاجات القصوى للشعب من جهة، وتزويد الخزينة بما يسد عجزها ويؤمن متطلباتها من جهة أخرى.
    إن إزالة الملكية الخاصة، وتسليم وسائل الإنتاج لإدارة الطبقة الجديدة المصطنعة، لم تكن -بحد ذاتها- حلاً عادلاً وصائباً، وذلك من النواحي الاقتصادية، والاجتماعية والسياسية.. الخ:
    -فمن الناحية الاقتصادية، لقد فقدت الدولة بهروب هذه الطبقة وبعثرتها، الرؤوس التي تصنع الثروة، والتي هي -بحد ذاتها- أكبر ثروة، إلى جانب ثرواتهم التي هربوها معهم. وهي -من جهتها- لاتعجز عن استثمارها في أي مكان من العالم. وكلنا يعلم أن أموالها التي نقلتها إلى أوروبا الغربية قد ساهمت إلى أقصى حد في إنعاشها، بينما حاقت بأوروبا الشرقية وحدها الخسارة الفادحة.
    إن الملكية الخاصة، في الواقع، لم يحصل عليها المالك إلا لقاء عمل وجهد وفكر وتضحية برأس مال خاص، لم يسرقه أو يستولي عليه من أحد، أو آل إليه من تعب آبائه وأجداده. ولذا، فليس من حق الدولة أن تسلبه إياه، وتسلمه لغيره، ممن لاناقة له فيه ولاجمل.
    لقد كان باستطاعة الدولة، الغيورة على مصالح الطبقة العاملة، أن تدع هذه الطبقة تواصل استثمار ثرواتها في بلادها، وتتمتع بملكها ضمن شروط اقتصادية واجتماعية تخدم أهدافها، وتضيف إلى هذه الطبقة طبقة جديدة من المحرومين تضع تحت تصرفها مايوجد تحت تصرف الدولة من ثروات طبيعية غير مستغلة من القطاع العام، لتقوم بإحيائها واستغلالها. وبذلك، فإنها تضيف إلى الملكيات الخاصة السابقة ووسائل الإنتاج الموجودة، وبالتالي للطبقة الغنية، طبقة أخرى، قد تفوقها فكراً وعطاء وغنى، وبذلك، تستفيد الدولة من فعاليات كافة الطبقات العاملة في المجتمع، والذين أثبتوا فعلاً نجاحهم في فعالياتهم، وتتلافى خلق طبقة مصطنعة لاتملك الإمكانيات الفكرية والعملية المطلوبة لنجاح الفعاليات الإنتاجية التي استلمت مقاليدها. هذا، ناهيك عن إفساد هذه الطبقة من جراء حصولها على حقوق الغير دون أن تبذل أي جهد، اللهم إلا موالاة السلطة، مما يجعلها أيضاً عديمة الاهتمام، غير مكترثة سواءً نجح المشروع الذي استولت عليه أو فشل. كما أن من شأن ذلك، توسيع دائرة النصب والاستيلاء على تعب الغير وحقوقهم إلى درجة تطمس كل حق لغيرهم من أبناء الشعب.
    -ونتيجة لفشل تلك الطبقة في إدارة المؤسسات الإنتاجية التي آلت إليها وعدم أمانتها على مقاليدها، فقد انعكس ذلك بخسارة فادحة على الدولة وكيانها السياسي، وعلى المجتمع برمته، فتهدم النظام برمته. فبالإضافة إلى كون هذه الطبقة لاتملك الفكر المنظم والخالق للثروة، فهي لاترعى حقاً أو واجباً نحو الدولة، والوطن والمجتمع، لأنها الحصينة بانتسابها إلى الحزب الحاكم قد أطلقت لغرائزها العنان بسلب حقوق الوطن والعاملين فيه بحيث أدى ذلك إلى إفلاس البلاد وإفقار الناس وضياع الوطن، بينما اغتنت هي وحدها غناءً فاحشاً أهلها لتتبوأ عرش النظام الرأسمالي الإنقلابي وويلاته الذي تلاه.
    وهذا مايبرر -في الواقع- أن محاولة الانتقال بروسيا من الاشتراكية إلى الرأسمالية، في أوائل التسعينيات، لم تواجه بأية معارضة على الإطلاق، ولم يطوقها الأعداء من الخارج. فقد كانت التحاقية بالكامل، بل وتلقت مكافآت على ذلك، وأخذت الطبقة التي خلقها الحزب الشيوعي نفسه من ثواره الميامين، تسخر نظام الحرية لمصلحتها بشراسة منقطعة النظير، فأحلت لنفسها، باسم الحرية والديموقراطية كل ما يجلب لها الثروة، وبأية طريقة كانت: من تهريب المخدرات والعملات، وبيع ممتلكات الدولة ومؤسساتها وثرواتها واختراعاتها ومخترعيها وأسرارها الحربية، وعلومها الفضائية، وجلود نسائها وأطفالها.. إلى آخر ما هناك من فظائع يندى لها الجبين.. لقد تحولت -في الواقع- إلى أدوات مرتهنة بأيدي المافيا الصهيونية العالمية، تسعى فقط إلى الثروات بنهم وعدم مسؤولية، فتحلم بعمال دون أجور، ومتقاعدين دون رواتب تقاعدية، ومجتمع دون نقابات، وحياة دون ثقافة، واقتصاد دون إنتاج، وأموال دون عمل..! فالأسواق المالية ومضارباتها وبورصاتها غدت المصدر الوحيد للشرعية، وأصبح ارتكاب جرائم القتل والسلب والنهب الخبز اليومي للشعب، وامتلأت الطرقات والأرصفة بالمتسولين والبؤساء والعاطلين عن العمل وفتيات الطريق، وأصبحت تجارة الجنس المورد الرئيسي للبلد لجلب القطع الأجنبي.
    وبعد أن كان الاقتصاد الحر قد وضع جل أمله في روسيا، بعد أن تدخل في حلبته، ممنياً نفسه بالإنفتاح على أسواقها لحل مشاكله وأزماته، أصبحت الأزمة الاقتصادية المستعصية فيها، وانهيار أسواقها المالية، وتدهور عملتها، من أولى المشاكل التي تهدد الاقتصاد الحر.
    فالإسلام -في الواقع، قد تجلت عبقريته الإلهية بأنه لم يقض على طبقة ليستبدلها بطبقة أخرى، وإنما أصلح الطبقة الغنية التي كانت نافذة في السابق، بأن حولها من طبقة مستغله ظالمة وجبارة، إلى معطاءة وخيره وسمحة، تنفذ أوامر الله في عباده في السر والجهر، وتغدق بالأموال على بيت مال المسلمين دون حساب؛ وخلق إلى جانبها، بفضل قيام الدولة بواجباتها تجاه رعاياها، بإسناد ما بحوزتها من الملك العام إلى الطبقة المحرومة، والتكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع الإسلامي، خلق من العبيد أسياداً وعباقرة، ومن المستغلين الباطشين أكرم الناس وأعدلهم، وبذلك تحول المجتمع برمته إلى طبقة واحدة نشيطة ومنتجة وورعة، تعمل لدنياها كأنها تعيش أبداً، وتعمل لآخرتها كأنها تموت غداً...! وبذلك فقد عاش الإسلام في ربوع عديدة من الكرة الأرضية خلال قرون عديدة، ولم يتسن للنظام الاشتراكي أن يبلغ النصف قرن...!



    ×××










    الفصل الثاني

    الاقتصاد الرأسمالي كعلم أو مذهب

    مقدمة:
    كما يقسم الاقتصاد الماركسي إلى علم ومذهب، كذلك، يقسم الاقتصاد الرأسمالي إلى علم ومذهب.
    فمنذ فجر التاريخ العلمي للاقتصاد، حين كان آدم سميث وريكاردو يضعان بذور هذا العلم وبنياته الأولية (الاقتصاد الطبيعي الكلاسيكي) سادت الفكر الاقتصادي آنذاك فكرتان:
    - إحداهما: أن الحياة الاقتصادية تسير وفقاً لقوى طبيعية محدودة تتحكم في كل الكيان الاقتصادي للمجتمع، كما تسير شتى مناحي الكون طبقاً لقوى الطبيعة المتنوعة. والواجب العلمي تجاه تلك القوى التي تسيطر على الحياة الاقتصادية هو اكتشاف قوانينها العامة التي تصلح لتفسير مختلف الظواهر والأحداث الاقتصادية.
    - والأخرى: أن تلك القوانين الطبيعية كفيلة بضمان السعادة البشرية، إذا عملت في جو من الحرية المطلقة، وأتيح لجميع أفراد المجتمع التمتع بتلك الحرية في مجالات: التملك، والاستغلال، والاستهلاك.
    وقد وضعت الفكرة الأولى البذرة العلمية للاقتصاد الرأسمالي، والثانية بذرته المذهبية.
    ولقد ارتبطت الفكرتان حتى خيل للمفكرين الاقتصاديين أن تقيد حرية الأفراد والتدخل في الشؤون الاقتصادية من الدولة، يعني الوقوف في وجه الطبيعة وقوانينها، وبالتالي يعتبر جريمة في حق القوانين الطبيعية العادلة...!
    وهذا اللون من التفكير -في حد ذاته- يخرج علم الاقتصاد من حيِّز العلوم الاقتصادية. فالخروج على قانون طبيعي علمي لا يعني أن هناك جريمة ارتكبت في حق هذا القانون، وإنما يبرهن على خطأ هذا القانون، وينزع عنه صفة العلم الموضوعي. فالقوانين الطبيعية لا تختلف في ظل الشروط والظروف المختلفة، وإنما تختلف باختلافها آثارها ونتائجها.
    وعلى هذا، لا بد من أن تدرس الحريات الرأسمالية، لا بوصفها ضرورات علمية تحتمها القوانين الطبيعية، وإنما تدرس على أساس مدى ما يتيح للإنسان من سعادة وكرامة، وللمجتمع من قيم ومثل...
    وفي الواقع، فإن المذهب الرأسمالي ليس له طابع علمي، ولا يدعي لنفسه هذه الصفة، كما أنه لا يستمد كيانه من القوانين العلمية، كالمذهب الماركسي، وإنما يستمد كيانه من تقديرات مادية بحتة. وتقتصر العلاقة بين الجانب العلمي والجانب المذهبي في تحديد الإطار ومجرى الاتجاه للقوانين العلمية. أي أن القوانين المذكورة لا تعمل إلا في ظل الظروف الاجتماعية التي تسيطر عليها الرأسمالية بجوانبها الاقتصادية وأفكارها ومناهجها، وليست مطلقة كالقوانين الفيزيائية والكيميائية، تنطبق على كل مجتمع وفي كل زمان ومكان.
    ولا بد لإيضاح ذلك من إلقاء بعض الضوء على عدد من القوانين الاقتصادية المذكورة لكي نعلم كيف، وإلى أية درجة يمكن الاعتراف لها بصفة العلم.
    آ- قوانين الاقتصاد الرأسمالي العلمية
    قانون العرض والطلب :
    -هذا القانون القائل: "إن الطلب على سلعة إذا زاد، ولم يكن في المقدور زيادة الكميات المعروضة استجابة للزيادة في الطلب، فإن ثمن السلعة لا بد أن يرتفع".
    هذا -في الواقع- ليس قانوناً موضوعياً كقوانين الفيزياء والفلك. وإنما يمثل ظواهر الحياة الواعية للإنسان. فهو يوضح أن المشتري سيقدم -في مثل الحالة المذكورة- على شراء السلعة بثمن أكبر من ثمنها، وأن البائع سيمتنع عن البيع إلا بذلك الثمن.
    ونظراً لعلاقته بإرادة الإنسان، فهي تتأثر بكل المؤثرات التي تطرأ على الوعي الإنساني. فليس صحيحاً من الناحية الإنسانية أن الإرادة الإنسانية في مجرى الحياة الاقتصادية تسير دائماً، وفي كل مجتمع، كما تسير في المجتمع الرأسمالي، ما دامت المجتمعات تختلف في إطاراتها الفكرية والمذهبية والروحية، وليست بالضرورة غارقة في ضرورات المادة ومفاهيمها إلى قمتها.
    فالرأسمالية، كما رأينا، مثلها مثل الاشتراكية، من أجل تدويل نظامها وفرضه على كافة شعوب العالم، أرغمتهم مسبقاً بأن يتقولبوا بقولبها الفكري والروحي والإحساسي والنفسي، بغسل أدمغتهم -تحت شعار التطور- لكي يتكون لديهم ذات الإحساس بالمشاكل التي ادعتها ومن ثم حتمت عليهم ذات الحلول لكي تفرض -من خلالها- سيطرتها على العالم أجمع..
    فالقاعدة الرئيسية التي وضع في ضوئها كثير من القوانين الاقتصادية الكلاسيكية تجرد الإنسان من كل الروابط الاجتماعية -فيما عدا المادة- وتفترض أن كل إنسان، هو في قرارة نفسه، إنسان اقتصادي يؤمن بالمصلحة المادية الشخصية كهدف أعلى. وهذه القاعدة، لا تنطبق إلا على المجتمع الرأسمالي الأوروبي، وطابعه الفكري والروحي، وأساليبه الخلقية والعملية. إلا أنها -كما رأينا- تسربت، من خلال غسل الأدمغة الدائم، عن طريق الاستعمار الثقافي والعلمي والاقتصادي.. الخ إلى المجتمعات الأخرى في كل ركن من أركان المعمورة.
    فأين ما كان دائراً في المجتمعات الإسلامية في عصورها الزاهرة، مما يدور فيها الآن؟ ويمكننا أن نورد -على سبيل المثال- الفقرة التالية في وصف الإجارات والتجارات للشاطبي:
    (( نجدهم في الإجارات والتجارات، لا يأخذون إلا بأقل ما يكون من الربح أو الإجرة، حتى يكون ما حاول أحدهم من ذلك كسباً لغيره لا له. ولذلك بالغوا بالنصيحة فوق ما يلزمهم. فكأنهم وكلاء للناس لا لأنفسهم، بل كانوا يرون المحاباة لأنفسهم -وإن جازت- هي كالغش لغيرهم ))
    وإلى عهد غير بعيد، وقبل أن يستفحل الغزو الثقافي الغربي في المجتمع الإسلامي، كان سائداً في أسواق الباعة التقليديين في حلب، عندما يطلب شخص من بائع شراء حاجة أن يجيبه: "اذهب إلى جاري- إنني استفتحت (أي بعت شيئاً)، بينما جاري لم يستفتح بعد...!".
    من هنا ندرك مدى الخطأ في إخضاع مجتمع، كان يتمتع بمثل هذه الخصائص والمقومات، لنفس القوانين التي يخضع لها مجتمع رأسمالي زاخر بالأنانية والمفاهيم المادية.
    ولقد شهد الربع الأخير من هذا القرن كيف أن المسيطرين على الفكر الرأسمالي يتلاعبون بالعرض والطلب، ويخلقون القوانين العلمية حسب مصلحتهم.
    وإلا..! ما الذي أدى في أوائل الثمانينات إلى أن تهبط أسعار البترول من 42 دولاراً للبرميل إلى ما دون السبع دولارات؛ وتنهار أسعار المواد الأولية الأخرى إلى أدنى مستوى شهدته في تاريخها، هذا، بينما كان الاقتصاد الغربي يواصل نموه بشكل جيد في النصف الثاني من الثمانينات؟!.. إن الزوبعة الكاذبة والضالة التي خلقوها بإيهام البلدان البترولية بوصولهم إلى خلق مواد بديلة للطاقة. في ذلك الحين، وتحول البترول إلى مادة نتنة سوف تفسد في آبارها، هي التي أدت إلى السرعة المدهشة في زيادة الإنتاج وفيضان السوق الأوروبية والغربية برمتها ومخازنها بالبترول وتخلي الحكام عن سياساتهم التي كانت معتمدة للحد من إهدار الطاقة، هذه المادة النادرة، والقابلة للنفاد عن قريب، والتي هي بمثابة الشريان الرئيسي الذي يمد الحياة إلى كافة المرافق الحيوية، ليس في الغرب وحده، بل في العالم أجمع، بعد أن أصبحت بفعل التدويل، على النمط الغربي في كافة متطلبات الحياة.
    وأين هو القانون الذي كان لا بد أن يعمل في ظل الانتعاش الاقتصادي العالمي لينعكس -كما كان في السابق- بارتفاع أسعار الطاقة والمواد الأولية بدل انخفاضها؟!..
    إن هذا الانخفاض الفاحش لأسعار الطاقة والمواد الأولية الأخرى، كان -في الواقع- هو الذي أدى إلى انخفاض معدلات التضخم في البلدان الغربية إلى مستوى لم تشهده من قبل (من العشرينات إلى الرقم الواحد أو الرقمين)، هذا، بينما تصاعدت في البلدان المسروقة أضعافاً مضاعفة لدرجة أصبحت كلفة الحياة فيها تفوق كلفتها في البلدان الغربية إلى حدٍ كبير، مع الاختلاف الفاحش بمستوى الدخل (من عشرات إلى مئات المرات). وهكذا، فقانونهم في العرض والطلب يسرق المواد الأولية وثروات شعوبهم بأسعار شبه مجانية، ويسرق دخول هذه الشعوب التافهة ببضائعهم الباهظة الثمن.
    فكيف لنا ألا نتصور أن هذا النظام سوف يؤول بالقسم الأكبر من بلدان العالم إلى الدمار الكامل، وإلى شعوبها بالإبادة جوعاً وسقماً وبلاءً...!؟
    - قوانين توزيع الدخل.
    إن هذه القوانين، كما شرحها ريكاردو وغيره من الأقطاب الكلاسيكيين، تقضي بتخصيص جزء من الإنتاج أجراً للعامل يحدد وفقاً لقيمة المواد الغذائية القادرة على إعاشته والاحتفاظ بقواه للعمل، ويقسم الباقي على شكل: ربح، وفائدة، وريع .
    لقد استخلص الاقتصاد الرأسمالي من ذلك أن للأجور قانوناً حديدياً لا يمكن بموجبه أن تزيد الأجور أو تنقص، وإن زادت أو انخفضت كمية النقد التي يتسلم بها العامل أجره تبعاً لارتفاع قيمة المواد الغذائية وهبوطها.
    ويتلخص هذا القانون الحديدي في أن العمال إذا ازدادت أجورهم لسبب ما، فسوف تتحسن حالتهم المعيشية ويقدمون بصورة أكثر على الزواج والتناسل، فتكثر الأيدي العاملة، ويتضاعف العرض، فتنخفض الأجور إلى الحد الطبيعي.
    وإذا حدث العكس أدى ذلك إلى انتشار البؤس والمرض في صفوفهم، فيقل عددهم وتنخفض كمية العرض، فترتفع الأجور.
    وبهذا، فقد بات الإنسان في ظل الحرية الرأسمالية نفسه سلعة خاضعة لقوانين العرض والطلب، وأصبحت الحياة الإنسانية رهناً لهذه القوانين، وبالتالي رهن القانون الحديدي للأجور. فإذا زادت القوى البشرية العاملة، وزاد المعروض منها على مسرح الإنتاج الرأسمالي، انخفض سعرها لأن الرأسمالي سوف يعتبر ذلك فرصة حسنة له على حساب أتعاب الآخرين، فيهبط بأجورهم إلى مستوى لا يحفظ لهم حياتهم، كما قد يقذف بعدد هائل منهم إلى الشارع يقاسون آلام الموت جوعاً، لا لشيء إلا لأنه يتمتع بحرية غير محدودة. والأمل الوحيد الذي تقدمه الرأسمالية للطبقة العمالية المذكورة هو في انخفاض عددهم بسبب تراكم البؤس والشقاء والموت من الجوع، لكي يقل عددهم، ويزيد الطلب عليهم على العرض لترتفع أجورهم وتتحسن أحوالهم.
    هذا القانون الذي يتقدم به إلينا الاقتصاديون الكلاسيكيون بوصفه تفسيراً علمياً، وقانوناً طبيعياً للحياة الاقتصادية، لا ينطبق، في الحقيقة -إلا على المجتمعات الرأسمالية التي لا يوجد فيها ضمان اجتماعي عام، ويعتمد التسعير فيها على جهاز السوق. أما في مجتمع يسود فيه مبدأ الضمان الاجتماعي العام لمستوى حياة كريمة كالمجتمع الإسلامي، أو في مجتمع يلغي فيه جهاز السوق ويجرده من وظيفته في تحديد الأسعار تبعاً لنسبة العرض إلى الطلب، كالمجتمع الاشتراكي، فلا تتحكم فيه تلك القوانين أصلاً.
    والآن، بعد أن فاضت سوق العمل الغربية بالأيدي العاملة -على مختلف المستويات- الوافدة من كل حدبٍ وصوب، بسبب الحروب الدائرة في كل مكان بين الشركات العالمية الأمريكية والأوروبية، بأيدي الشعوب نفسها، وما تمخص عن النظم الاقتصادية المفروضة على العالم من استهتار بالإنسان وتشريده وتجويعه، فإن إجرة العامل هبطت -في كل مكان- إلى دون ما يسمى بعتبة الفقر، خالية من أي ضمان صحي أو اجتماعي، كما أصبح العامل معرضاً للطرد في أية لحظة كانت، وأعتقد أن لذلك أيضاً علاقة بانهيار المعسكر الاشتراكي، فلم يعد هناك من خطر يهدد النظام الرأسمالي من دولة العمال وثورة العمال، بل أصبح العكس هو الصحيح، فالعولمة الأمريكية ومنافستها الأوروبية قد أعلنتا الحرب الطبقية على العمال، وفازت بها...!
    وهكذا، فإن الهيكل العلمي للاقتصاد الرأسمالي ليس له صفة القوانين العلمية الموضوعية، فلم يبق منه إلا الإطار المذهبي.
    ب- الاقتصاد الرأسمالي كمذهب
    يرتكز المذهب الرأسمالي على أركان ثلاثة رئيسية هي:
    حرية التملك، وحرية الاستغلال- وحرية الاستهلاك
    1- الأخذ بمبدأ الملكية الخاصة بشكل غير محدود:
    فالملكية الخاصة، في هذا المبدأ، هي القاعدة العامة التي تمتد إلى كل المجالات، وميادين الثروة المتنوعة، على العكس من المذهب الاشتراكي، ولا يجوز الخروج عنها إلا بحكم ظروف استثنائية، تضطر أحياناً إلى تأميم بعض المشاريع. ويتكفل القانون في المجتمع الرأسمالي بحماية الملكية الخاصة، وتمكين المالك من الاحتفاظ بها.
    2- حق كل فرد باستغلال ملكيته وتمكينه من ذلك، والسماح له بتنمية ثروته بمختلف الوسائل والأساليب التي يتمكن منها.
    وتستهدف هذه الحرية أن تجعل الفرد العامل الوحيد في الحركة الاقتصادية، إذ ما من أحد أقدر منه على معرفة منافعه الحقيقية وطرق اكتسابها.
    3- ضمان حرية الاستهلاك.
    فلكل فرد الحرية في إنفاق ماله كما يشاء واختيار نوع السلع التي يستهلكها، ولا يمنع ذلك لجوء الدولة -في بعض الأحيان- إلى منع بعض السلع، مثل المخدرات.
    والسؤال الذي يقفز إلى مجال البحث هو: ما هو الهدف من الحرية الاقتصادية؟
    والجواب على ذلك -حسب الاقتصاديين الرأسماليين يتلخص فيما يلي:
    1- لأن مصالح الفرد التي يندفع إلى تحقيقها بحرية كاملة ودوافع ذاتية محضة، تتوافق مع مصالح المجتمع، فالحرية -على هذا الأساس- ليست إلا أداة لتوفير تلك المصالح العامة، وضمان ما يتطلبه المجتمع من خير ورفاه.
    2- لأن الحرية الاقتصادية هي أفضل قوة دافعة للقوى المنتجة، وأكفأ طريقة لتفجير الطاقات والإمكانيات وتجنيدها لزيادة الإنتاج ومضاعفة الثروة الاجتماعية.
    3- وهناك فكرة ثالثة ذات طابع خلقي محض وهي: إن الحرية، بوجه عام، هي حق إنساني أصيل، وتعبير عملي عن الكرامة البشرية، وعن شعور الإنسان بها. فليست هي أداة للرفاه الاجتماعي أو لتنمية الإنتاج فحسب، وإنما هي تحقيق لإنسانية الإنسان ووجوده الطبيعي الصحيح. والآن لنستعرض من خلال التطبيق مدى توافق النتائج التي توصلت إليها الحرية الاقتصادية في النظام الرأسمالي مع أهدافها.
    1- مفهوم الحرية كوسيلة لتحقيق المصالح العامة.
    ذكرنا أن هذه الفكرة ترتكز على أساس الإيمان بأن الدوافع الذاتية تلتقي دائماً مع المصالح العامة والرفاه الاجتماعي، شرط أن تعمل في جو من الحرية المطلقة المجردة من كل قيد من القيم الروحية أو الخلقية، لأنها حرية حتى في تقدير هذه القيم. فالأفراد أحرار في التقيد في تلك القيم أو رفضها.
    فعن طريق التنافس الحر بين مختلف المشاريع الإنتاجية، يعمل صاحب المشروع بدافع من مصلحته الخاصة على تحسين مشروعه والاستزادة من كفاءته حتى يحتفظ بأسبقيته على سائر المشاريع. وأن جزاء من يتخلف عن هذا السباق هو إفلاس مشروعه. فالمنافسة الحرة في النظام الرأسمالي سيف مسلط على رقاب المنظمين يطيح بالضعيف والمهمل والمتكاسل، ويضمن البقاء للأصلح.
    لقد أصبح اليوم حديث التوافق بين المصالح العامة والدوافع الذاتية في ظل الرأسمالية والحرية المطلقة أدعى للسخرية منه للقبول. فالمنافسة الحرة من كل قيد، لم تؤد -في الواقع- إلى إشباع الحاجات الإنسانية بأقل نفقة ممكنة، بل إلى تخفيض نفقات الإنتاج بأقل أجر ممكن لليد العاملة ونقل الإنتاج للخارج، وتسريح العمال، وإعادة الهيكلة. فعلى سبيل المثال، إن أكثر بلدان العالم إنتاجية وثراء (أمريكا) أصبحت أكثر اقتصاديات العالم سرقة للأجور. فالمنافسة المتصاعدة تسببت في إصابة ما يزيد على نصف السكان بالفزع. ففي عام 1995 حصل أربعة أخماس مجمل المستخدمين والعمال الذكور في الولايات المتحدة الأمريكية، عن كل ساعة عمل، على مبلغ تقل قيمته الشرائية عما كانوا يحصلون عليه عام 1973 بمقدار 11%، أي أن المستوى المعيشي الفعلي للغالبية العظمى للشعب الأمريكي قد انهار في العقدين الأخيرين مع بلوغ أمريكا مرتبة "أكثر اقتصاديات العالم إنتاجية"، وفرحة كلينتون بالازدهار الذي يعم الاقتصاد الأمريكي "على نحو لا مثيل له منذ ثلاثين عاماً". هذا، علماً بأن الأجر قد انخفض بالنسبة للثلث الأدنى في سلم الدخول على نحو أشد مما سبق: فهذه الملايين من السكان صارت تحصل على أجر يقل بمقدار 25 % عما كان سائداً قبل عشرين عاماً.
    وهذا لا يعني أن المجتمع الأمريكي، إجمالاً، هو الأفقر. إذ لم يسبق أبداً أن حاز الأمريكيون على ما يحوزون عليه اليوم من الثروة والدخول. إلا أن المشكلة تكمن فقط في أن النمو المتحقق هو برمته من حصة الخمس الثري، أي من حصة العشرين مليون عائلة لا غير، حسب الإحصاءات.
    وحتى في إطار هذه الفئة يتوزع الدخل توزيعاً غير عادل على نحو شديد للغاية. فواحد بالمائة من أثرى العائلات تضاعف دخلها مرات عديدة منذ 1980. وهكذا، أضحى أغنى الأغنياء، أي حوالي نصف مليون مواطن يمتلكون اليوم ثلث الثروة التي يمتلكها الأهالي في الولايات المتحدة الأمريكية. وانعكست هذه الثمار على مديري المشروعات الكبيرة. الذين ارتفع دخلهم، العظيم أصلاً، بشكل صاف بمقدار 250% خلال السنوات السبع الأخيرة.
    ويحصل غالبية هؤلاء المديرين الكبار على رواتبهم العالية إكراماً لما يبذلون من جهد يرمي إلى تخفيض تكاليف العمل من ناحية الأجور، بكافة السبل بما فيها الانتقال من الوطن إلى أي بقعة من بقاع العالم.
    فعلى سبيل المثال، تشغل المشروعات الأمريكية في المكسيك ما يقرب من نصف مليون عامل بأجر يقل عن دولار واحد في اليوم. أضف إلى هذا، أن هؤلاء العاملين لا يحصلون على أية مدفوعات اجتماعية كالتأمين الصحي أو الضمان الاجتماعي. وفي كافة القطاعات طور المديرون القياديون استراتيجيات يستطيعون من خلالها تفادي تأسيس أية تنظيمات تدافع عن مصالح العاملين لديهم. وكما قال lester Thurou (لستر ثارو): "إن بوسع المرء أن يدعي أن من في أمريكا من رأسماليين، قد أعلنوا الحرب الطبقية على عمالهم، وأنهم قد فازوا بها".
    والسؤال الذي يفرض نفسه في الوقت الحاضر، إذا كان هذا هو عليه الحال في أمريكا، قلب الحرية النابض؛ فإلى أي مدى يمكن أن تضمن الدوافع الذاتية للرأسماليين فيها تحقيق المصالح العامة في مختلف المجتمعات.
    وبمعنى آخر، هل تتوافق المصالح الخاصة للمجتمع الرأسمالي مع مصالح غيره من المجتمعات البشرية، وخاصة بعد أن مد أجنحته لتطال، عن طريق العولمة، كل بقعة من بقاع العالم، مع ما ذكرنا من تجرده المذهبي من كل الإطارات الروحية والخلقية. ألسنا نعيش في الوقت الحاضر نظام السخرة واستعباد الشعوب في أراضيها لحسابه واستعبادها لقضاء دوافعه الذاتية فقط؟!
    والواقع التاريخي للرأسمالية هو الذي يجيب على هذا السؤال.
    فكلنا يعلم ما قاسته الإنسانية على أيدي المجتمعات الرأسمالية نتيجة لفراغها الروحي، وانهيارها الخلقي. فالحرية الاقتصادية التي لا تحدها حدود معنوية، هي من أفتك أسلحة الإنسان بالإنسان، وأفظعها إمعاناً في التدمير والخراب. لقد كان من نتاج هذه الحرية مثلاً، تسابق الدول الأوروبية بشكل جنوني على استعباد البشر الآمنين وتسخيرهم في خدمة الإنتاج الرأسمالي. وتاريخ أفريقيا وحدها صفحة من صفحات ذلك السباق المحموم، تعرضت فيه القارة الأفريقية لطوفان من الشقاء، إذ قامت دول عديدة كبريطانيا، وفرنسا، وهولندا وغيرها، باستيراد كميات هائلة من سكان أفريقيا الآمنين، وبيعهم في سوق الرقيق، وتقديمهم قرابين للعملاق الرأسمالي. وكان تجار تلك البلاد يحرقون القرى الأفريقية ليضطر سكانها إلى الفرار مذعورين، فيقوم التجار بكسبهم وسوقهم إلى السفن التجارية التي تنقلهم إلى بلاد الأسياد. وما قيام بريطانيا، فيما بعد بحملة واسعة ضدهم وضد القرصنة، إلا تمهيداً لقرصنتها وحدها، حيث أتت بأسطولها الفخم إلى سواحل أفريقيا، واحتلت مساحات كبيرة على الشواطئ الغربية وبدأت بعملية استعباد لا نظير لها في التاريخ.
    ومن العبودية والاستعمار البريطاني، عانت القارة خلال مدة نصف قرن خلت من فظائع الحروب والانقلابات على أيدي النظامين المسيطرين على العالم، الشرقي والغربي على السواء. وبقيت تتأرجح من أيدي الماركسيين إلى أيدي ما يسمى بالديموقراطيين، مع كل ما تبع ذلك من قلب بنياتها رأساً على عقب، وتبديد ثرواتها، ونهك قيمها الروحية والفكرية، وسرقة كل ما هو ضروري لحياة شعوبها. وها هي تحت ظل نظام العولمة الجديد، تحل فيها قرصنة أمريكا بأجلى صورها. فمع اعتذار الرئيس الأمريكي كلينتون لها من التاريخ، تشعل فيها الحروب الطاحنة من كل حدبٍ وصوب بين الشركات الأمريكية، الغازين الجدد، والشركات الأوروبية الغزاة التقليديين، لاغتصاب ثرواتها المعدنية الدفينة، هذه الحروب التي تجري بأيدي شعوبها بالذات وباسم الديموقراطية والحرية..!
    فهل لنا أن نعتقد بأن الحرية الرأسمالية. التي تعمل دون أي اعتبار روحي أو خلقي، بإمكانها أو تستطيع تحويل جهود البشر في سبيل مكاسبهم الخاصة، إلى آلة تضمن المصالح العامة والرفاه للجميع؟!...
    وهذا، في الواقع، لا يقتصر على أفريقيا وحدها، بل يشمل جميع أنحاء العالم التعيس. فحمى التخصيص، في ظل العولمة، وما يرافقها من تسريحات عشوائية للعمال، نتيجة الصهر والإندماج للمؤسسات الإنتاجية والمرافق العامة، والسلب لقواهم الشرائية وحقوقهم الاجتماعية والصحية.. الخ، لم تستثنِ أي بلد على الإطلاق، وهي بصفتها حرب ضارية على الطبقة العاملة، ليست كبقية حروب الطبقات التي شاعت منذ أوائل القرن حتى الآن؛ ذلك أنها تصيب ما يزيد على 95% من الجنس البشري على وجه الكرة الأرضية، بعد أن نسف من الوجود كل منتج خاص أو تقليدي، وتحول القسم الأعظم منها، في كافة فروع الإنتاج إلى عمال، واقتصرت الفعاليات الاقتصادية على الشركات العالمية في كل مكان. وهكذا، تحولت الرأسمالية إلى سلاح جاهز بيد الأقوياء يشق لهم الطريق، ويعبد أمامهم سبل المجد والثروة على جماجم الآخرين...!
    2- الحرية سبب لتنمية الإنتاج
    لا بد لإيضاح هذا الخطأ الجسيم من عرض بعض نتائج تنمية الإنتاج في ظل الحرية الرأسمالية:
    لنتساءل أولاً: ما هي المشاريع التي نما إنتاجها في ظل الحرية المطلقة المقرونة بألوان لا حصر لها من الظلم والاستهتار والجشع والطمع؟!
    إنها -بدون شك- المشاريع القوية التي حطمت غيرها من المشاريع (دون حاجة إلى تأميم)، وبدأت بالاحتكار تدريجياً إلى أن قضت على كل لون من ألوان التنافس وثمراته في مضمار الإنتاج. وتحولت بذلك المنافسة إلى صفر.
    فالتنافس الحر الذي يواكب الحرية بالمعنى الذي يسمح بزيادة الإنتاج، لا يواكب الحرية والرأسمالية إلا شوطاً محدوداً، ثم يخلي الميدان بعد ذلك للاحتكار، الذي ينجم عنه تراجع النمو الاقتصادي نتيجة الجشع والطمع من جهة المنتجين، وتضاؤل القوة الشرائية لدى المستهلكين، وهكذا فإن النظام الاستهلاكي يقضي على المستهلكين...!
    إن الزيادة في الإنتاج -في الواقع- لم تقترن بانخفاض الأسعار، لفقدان المزاحمة رغم انخفاض كلفة الإنتاج بسبب انهيار أسعار المواد الأولية، وسرقة حقوق العمال، ولم تترافق بتوفير قدر أكبر من السعادة للمجتمع الرأسمالي نفسه، نظراً لسوء التوزيع الذي رافق الوفرة في الإنتاج.
    والمذهب الرأسمالي أعجز ما يكون عن امتلاك الكفاءة التوزيعية التي تضمن رفاه المجتمع وسعادة الجميع. فالرأسمالية -في الواقع- تعتمد في التوزيع على أساس جهاز الثمن. وهذا يعني أن من لا يملك ثمن السلعة ليس له الحق في الحياة. وبذلك يحكم بالموت جوعاً على من كان عاجزاً عن اكتساب هذا الثمن لعدم قدرته على المساهمة في الإنتاج، أو لعدم تهيئة فرصة له للمساهمة، أو لوقوعه فريسة في يد المساهمين الأقوياء الذين سدوا في وجهه كل الفرص. ولهذا كانت بطالة الأيدي العاملة في المجتمعات الرأسمالية من أفجع الكوارث الإنسانية في المجتمعات الأخرى.
    فليست المبالغة في كفاءة المذهب الرأسمالي وقدرته على تنمية الإنتاج إلا تضليلاً وستراً للجانب المظلم منه، والذي يحكم بالحرمان من التوزيع على من لا يحصل على القطع السحرية من النقود.
    فما الفائدة إذاً من زيادة الإنتاج إذا لم يقترن بالرفاه الاجتماعي العام؟ إن الرفاه العام لا يتعلق بكمية الناتج العام، بمقدار ما يتعلق بكيفية تقسيم هذا الناتج على الأفراد. ولذا فقد قرن الإسلام وشريعته الإلهية التنمية بالتوزيع كما سنرى فيما بعد.
    3- الحرية تعبير عن الكرامة الإنسانية
    أي بوصفها المظهر الجوهري للكرامة وتحقيق للذات اللذين ليس للحياة بدونهما أي معنى. والمراد بالحرية الجوهرية توفير القدرة والوسائل والشروط التي تعين الفرد على النجاح في عمله كإنسان في ظل الحرية.
    والرأسمالية، في الواقع، بعيدة كل البعد عن هذه الحرية بالمعنى الجوهري، وتقتصر على الحرية الشكلية، أي حرية أصحاب الثروات الضخمة في الاستزادة من ثرواتهم بالطرق التي تتفق مع مصالحهم الشخصية، وحريتهم في استخدام العامل أو رفضه، وحرية رجال السلطة في استخدام أتباعهم في أعلى المراكز، ولو لم يملكوا من المؤهلات ما يسمح لهم بذلك وحريتهم في تحويل الخطأ إلى صواب والصواب إلى خطأ، وحريتهم في كم الأفواه التي لا توافقهم، وشطب العلوم التي ليست من مصلحتهم.. الخ.
    وهكذا، فإن هذه الحرية الشكلية لا تتأتى إلا لعدد ضئيل جداً من الشعب، بحيث تحولهم -لشدة المبالغة في الحرية- إلى صفة الهمجية، في الوقت الذي يراد منها أن تمثل الصفة الأولى للإنسانية.
    فتحت اسم نظام السوق الغوغائي تتحكم في العالم أجمع، في الوقت الحاضر طبقة ضئيلة جداً من الشبان المراهقين، دون علم ولا خبرة ولا إحساس بالمسؤولية، مدعومة بأجهزة تكنولوجية على درجة كبيرة من السرعة والفعالية، ولا تخضع لسيطرة أية حكومة، حتى في أمريكا نفسها، حامية هذا النظام. ويكفي أن يعلن أي مسؤول عن حصول تباطؤ في أي رقم من الفعاليات الاقتصادية في بلاده، حتى تقوم بنزح كل ما لديها من أموال، غدت خفيفة الحركة لاعتمادها على الأسهم والسندات والمضاربات بها وبالعملات، وتؤدي بالبلد، في لمح البصر إلى الإفلاس*.
    أما بقية أفراد الشعب، فالحرية الشكلية التي تؤمنها لهم لا تعدو السماح لهم بممارسة مختلف ألوان النشاط الاقتصادي في سبيل الغايات التي يسعون إلى تحقيقها دون أن تعينهم على ذلك.
    إن إقرار هذا النوع من الحرية الشكلية، يعني عدم إمكان وضع مبدأ لضمان العمل للعامل، أو ضمان المعيشة لغير العامل من العاجزين، لأن وضع مثل هذه الضمانات لا يمكن أن يتم بدون تحديد تلك الحريات التي يتمتع بها أصحاب العمل وأرباب الثروة.
    وهو ما يتنافى مع مبدأ الحرية الشكلية التي تسمح لكل شخص بالتصرف في المجال الاقتصادي كما يريد. ولما كانت الرأسمالية تؤمن بهذا المبدأ، فقد وجدت نفسها مضطرة إلى رفض فكرة الضمان أي فكرة الحرية الجوهرية. ولكن!... لقد تبين -بما لا يدع أي مجالٍ للشك: "أن من يعمل ليعيش وحده، لا بد من أن يزول هو أيضاً، إن آجلاً أو عاجلاً، مع المجموع...
    فالحرية -في الواقع- إن كانت نزعة أصيلة في الإنسان لأنه يرفض بطبعه القسر والضغط والإكراه، ولكن لا بد للإنسان من حاجات جوهرية لا معنى للحرية بدونها. فهو بحاجة -مثلاً- إلى شيء من السكينة والاطمئنان في حياته، لأن القلق يرعبه، كما ينغص حياته الضغط والإكراه. فإذا فقد كل الضمانات التي يمكن للمجتمع أن يؤديها له في حياته ومعيشته، خسر بذلك حاجة من حاجاته الجوهرية، وحرم من إشباع ميله الأصيل إلى الاستقرار والثقة، كما خسر حريته كاملة. فالتوفيق الدقيق والحكيم بين حاجة الإنسان الأصيلة إلى الحرية، وحاجته إلى الاستقرار مثلاً في العمل، والثقة في المستقبل، وسائر حاجاته الأصلية الأخرى في الحياة، هو العملية التي يجب أن يؤديها أي مذهب كان للإنسانية، إذا أراد أن يكون عالمياً قائماً على أسس راسخة من الواقع الإنساني.
    وأخيراً، فإن موقف الرأسمالية من الحرية والضمان ينسجم كل الانسجام مع الإطار العام للتفكير الرأسمالي، لأن الضمان ينطوي على فكرة تحديد حريات الأفراد والضغط عليها، ولا تستطيع الرأسمالية أن تجد لهذا الضغط والتحديد مسوغاً على أساس مفاهيمها العامة عن الكون والإنسان.
    إن الضغط والتحديد في الإسلام، يستمد -في الواقع- مبرره من الإيمان بسلطة عليا تمتلك حق تنظيم الإنسانية وتوجيهها في حياتها، ووضع الضمانات المحددة لحريات الأفراد، على ضوء الدين الحنيف، إذ يرى أن للإنسان خالقاً حكيماً من حقه أن يصنع له وجوده الاجتماعي، ويحد طريقته في الحياة لصالحه وصالح الإنسانية جمعاء.
    أوجه الالتقاء بين الماركسية والرأسمالية
    بعد كل ما تقدم، لسنا بحاجة إلى كثير من الجهد لنبين أن الرأسمالية مقرونة بالحرية المطلقة، تلتقي مع المذهب الماركسي في عدة نقاط جوهرية:
    - إن كلا النظامين أعطى القيمة الرئيسية في المجتمع لمالكي وسائل الإنتاج والمسيطرين عليها، وإن مصالح الإنتاج هي التي تحدد القيم التي تحكم المجتمع لا مصالح الإنسان.
    - إن وسائل الإنتاج انحصرت في يد الأقوياء في النظامين، في يد رجال الحزب السياسي الذين يملكون السلطة السياسية في النظام الاشتراكي، وفي يد المحتكرين للإنتاج والذين يفرضون رجال السلطة السياسية في النظام الرأسمالي.
    وبهذا، فإنهم يجمعون بين السلطة والمال بآن واحد في كلا النظامين*.
    ويتساوى النظامان بتدويل نظاميهما وفرضهما على جميع بلدان العالم وشعوبها، وكأن العالم في كل مكان، ورغم بعد المسافات واختلاف العقول والثقافات والمعطيات، يعاني من ذات المشاكل وذات الهموم، ويتقبل ذات الحلول، حتى وإن ثبت أن هذه الحلول غير ناجعة في موطنهم بالذات. هذا، مع كل مازامن هذا التدويل من نبش وقلب للبنيات الأساسية من هذا النظام أو ذاك...
    - أليست التحولات التي حصلت لصالح الاشتراكية في بلدان العالم الثالث عن طريق تجريد الزراع والصناع المحليين من وسائل رزقهم وإنتاجهم بغية خلق الطبقة الرأسمالية التي تستطيع أن تشيد المصانع والمزارع الكبيرة التي هي الطريق إلى الاشتراكية، حسب زعمها، أليست هذه التحولات هي نفسها التي فرضها أيضاً النظام الرأسمالي على هذه البلدان باسم التخلص من التخلف، لإحلال الإنتاج المؤسساتي -في الواقع- محلها لصالح الشركات العالمية، وباسم التطور والتقدم؟!...
    - أليس في تجريد شعوب بلدان العالم الثالث من ثرواتها الطبيعية، ووسائل إنتاجها، ومهنها، وجعلها تابعة للخارج -في الشرق أو الغرب- ذات المفهوم من العبودية الذي تفسر به الماركسية تحول طبقة أسرى الحرب إلى عبيد للقبائل التي أثرت نتيجة استعبادهم؟
    - ألم تعاني شعوب هذه البلدان من سيئات النظامين معاً: جهاز الحكم الدكتاتوري العسكري سياسياً، هبة الماركسية، الذي يبيح لنفسه القتل والسجن والطرد والتعذيب دون حكم أو محاكمة، ويستولي على الممتلكات ويغتصب الحقوق ويتوزعها بين أفراده، والجهاز الاقتصادي الذي لا يرى حرجاً باقتباس النهج الرأسمالي باشنع صوره، والذي يتيح للشركات العالمية الغربية الحرية المطلقة في قلب البلدان أعاليها أسافلها لإبادة كل أثر للإنتاج المحلي بكافة أنواعه، وإعداد البنيات التحتية التي تسهل لها إقامة مؤسساتها الإنتاجية البديلة، على حساب الكروم والبساتين والحقول، التي كانت تغذي الشعوب بأفضل أنواع المنتجات الزراعية وأرخصها*، لإيصال منتجاتها البديلة إلى كل بقعة من بقاع هذه البلدان، وتجعلها تابعة إليها في الغذاء والكساء وكافة الاحتياجات.
    - أليس النظامان هما المسؤولان عن إلحاق عملية التفريغ المادي لشعوب بلدان العالم الثالث بالتفريغ الذاتي من الأسس التربوية والأخلاقية والثقافية والعلمية.. الخ وفرض الأسس الغريبة عنهم محلها، من الشرق أو الغرب -حسب الحال- مما جعل السكان الأصليين غرباء في أوطانهم، وعبيداً للأجانب في عقر دارهم؟
    هذا، وإذا ما أفاد المذهب الماركسي في شيء، فإنه –مما لا شك فيه- قد أفاد المذهب الرأسمالي، وجعل المنتجين يغدقون بعطاءاتهم للعمال ليسدوا بذلك الطريق الذي يمكن أن تنفذ منه الشيوعية. وما أن زال خطر ثورة العمال المرتقبة، بزوال الاشتراكية نفسها في موطنها بالذات، حتى كشرت السلطات الرأسمالية عن أنيابها، وأخذت بتشليح العمال الضمانات الاجتماعية التي كانت قد منحتهم إياها، وتفننت بألوان التسريح التعسفي، واستغنت أكثر فأكثر عن العمال، وقلصت أجورهم إلى أدنى المستويات، وتحول ثلاثة أرباع المعمورة إلى فقراء..
    وها هو ميخائيل كورباتشوف، أخذ يصحو -بعد فوات الأوان- من ثمالة أقداح انتصاره في حركته التصحيحية الميمونة، بعد أن نحي جانباً عشية تأديته واجبه كاملاً نحو أسياده ومخدريه، وأخذ يسير في جنازة شعبه نائحاً، بعد أن سدد له الطعنة المميتة، ليعلق في فندق "الفيرمونت" في سان فرنسيسكو عام 1995، رداً على سؤال أحد الصحفيين التالي:
    "إن كنتم تعتقدون أن العالم برمته سيتحول إلى برازيل كبيرة، أعني إلى دول تسودها اللامساواة، مع وجود أحياء مقفلة تسكنها النخب الثرية؟"
    فأجاب:
    "إنكم بهذا السؤال تطرحون لب المشكلة على بساط البحث.. إنها لحقيقة أن روسيا نفسها أصبحت على شاكله البرازيل".
    في الواقع، لقد تحول العالم أجمع إلى برازيل كبيرة... إلا أن هذا لا يعني أن الأسلاك الشائكة، والأجهزة الألكترونية، وكاميرات الليل والنهار، سوف تحمي إلى ما لا نهاية هذه القلة الضئيلة من الأثرياء المتخمين من الطوفان السكاني المتصاعد من الجائعين والمغتصبة حقوقهم والمحرومين، فثورة الجائعين لا ترحم...!
    النتيجة.
    وهكذا، يتبين لنا مما تقدم أن الاقتصاد كعلم قد خسر برهانه العلمي في النظرية الماركسية والرأسمالية على السواء، وأن الاقتصاد كمذهب، على العكس من الأهداف المرسومة له في كلا المذهبين الدوليين قد أثبت فشله في اكتشاف المشاكل الحقيقية التي تعاني منها الشعوب، لأنه بالأصل لا يهدف فعلاً إلى اكتشافها.
    وبالتالي، فإن الحلول التي طرحت لمعالجة المشاكل الوهمية قد أتت على النظام الاشتراكي من أساسه، وأنها، مما لا شك فيه، سوف تأتي -إن آجلاً أو عاجلاً- على النظام الرأسمالي، فبذور انحلاله أخذت تترعرع فيه، وما الانفجارات المالية التي اندلعت في كل مكان من آسيا إلى أوروبا الشرقية، إلى أمريكا اللاتينية، وفي القريب العاجل إلى أوروبا الغربية، ومنها إلى كل مكان من المعمورة، سوف لا تستثني أمريكا، القلب النابض في هذا النظام، من الوقوف عن الخفقان...!

    (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ). [الطور: 35].
    (أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ). [إبراهيم: 10]
    (قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ). [يونس: 101]


    للسؤال عن الغائبين

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Mar 2009
    الدولة
    ارض الله
    المشاركات
    532
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    وهكذا، يتبين لنا مما تقدم أن الاقتصاد كعلم قد خسر برهانه العلمي في النظرية الماركسية والرأسمالية على السواء، وأن الاقتصاد كمذهب، على العكس من الأهداف المرسومة له في كلا المذهبين الدوليين قد أثبت فشله في اكتشاف المشاكل الحقيقية التي تعاني منها الشعوب، لأنه بالأصل لا يهدف فعلاً إلى اكتشافها

    وأنتظر رأى الأخوة فى وضع الكتاب كاملا فى قسم المكتبة ...حيث ان صاحبته لا اعلم يقينا أهى على المذهب الشيعى ام لا

    (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ). [الطور: 35].
    (أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ). [إبراهيم: 10]
    (قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ). [يونس: 101]


    للسؤال عن الغائبين

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Mar 2009
    الدولة
    ارض الله
    المشاركات
    532
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    تصحيح عنوان الموضوع الى :

    الإســــــلام بين كينز وماركس وحقوق الإنسان في الإسلام

    (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ). [الطور: 35].
    (أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ). [إبراهيم: 10]
    (قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ). [يونس: 101]


    للسؤال عن الغائبين

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Mar 2009
    الدولة
    ارض الله
    المشاركات
    532
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي


    (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ). [الطور: 35].
    (أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ). [إبراهيم: 10]
    (قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ). [يونس: 101]


    للسؤال عن الغائبين

  6. #6

    افتراضي

    الكتاب رائع. قامت فيه الدكتورة نعيمة شومان بنقد أسس الماركسية نقدا منطقيا علميا رصينا.

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. أمريكا بلد الرقي والرحمة وحقوق الإنسان يا متشددون
    بواسطة الموحد 33 في المنتدى قسم الحوار العام
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 04-26-2013, 09:01 AM
  2. موقف الإسلام من الديمقراطية وحقوق الإنسان
    بواسطة الأندلسى في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 16
    آخر مشاركة: 09-23-2010, 07:59 AM
  3. الزفاف وحقوق الزوجين
    بواسطة شذى الكتب في المنتدى المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 01-04-2010, 06:04 PM
  4. حقوق الإنسان في الإسلام
    بواسطة memainzin في المنتدى قسم الحوار العام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 07-21-2009, 10:59 AM
  5. النظـــــام الاقــــتــــصادي في الإســــــلام
    بواسطة muslimah في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 05-23-2005, 11:00 AM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء