النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: قوله "إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال"

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    May 2009
    المشاركات
    1,574
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي قوله "إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال"

    يقول الله " إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا " الاحزاب(72)

    قال القاسمي " في ختم السورة بهذه الآية من البدائع ما يسميه علماء البديع " رد العجز على الصدر " ذلك أن طليعة هذه السورة كانت في ذم المنافقين وقص مخازيهم ونواياهم السيئة ضد الرسول وأصحابه في غزوة الأحزاب ، وهي غزوة الخندق ، أَبَان الحق تعالى أثر ما ذكر من الأمر بالتقوى وعدم إطاعة المنافقين ، وما كانوا يخوضون فيه من قصة التبني ونحوها ، أنهم كانوا أعطوا العهود والمواثيق أنهم إن قاتلوا لا يفروا ، وذلك في قوله تعالى : { وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً } [ الأحزاب : 16 ] فلما خانوا أماناتهم بالفرار والتعويق لإخوانهم ، والتثبيط لهم وما كان من شنائعهم في تلك الغزوة

    بين الله تعالى في خاتمة السورة ، شأن الأمانة ، وعظم خطرها ، وأنها عند الله بمكان عظيم ؛ وذلك لأن من أعطى من نفسه موثقاً ، عاهد الله عليه فاطمأنت به النفوس ووثقت به ، وركنت إليه وأدرجته في عداد من يشد أزرها ، فإذا هو غادر خائن كاذب متلاعب ، يتخذ عهود الله هزؤاً ولعباً ، فيخذل من وثق به ، ويمالئ العدو عليه ويثبط من يرجى منه نوع معونة ، ويوقع الأراجيف ليوهي العزائم ويضعف الهمم ، فتكثر القالة وترتبك العامة فما أسوأ ما يأتي به ، وما أفظع ما أرتكب وما أعظم جريمته ! .


    وجلي أن عظم الجريمة بقدر عظم آثارها ، وما ذكر بعض من آثارها ، ففي أي : مرتبة تكون الخيانة ؟ لا جرم أنها في أحط المهاوي الدنيئة . كما أن مرتكبها في الدرك الأسفل من النار ، فالأمانة المذكورة في الآية باعتبار سياقها وسباقها ، وهي الأمانة التي خان في تحملها المنافقون ، ونقضوا بها عهدهم في هذه الواقعة ، وكان من آثارها السيء في المدينة وأهلها ما كان - وإن كان لفظها يعم ما ذكر وغيره ، والْإِنْسَاْن هنا ، المعني به جنس المنافق الذي قص من نبئه ما قص ، والقصد لومه على كونه تحمل ما تحمل ، ثم نقض ذلك عن عمد وقصد ، ظلماً لنفسه وجهلاً بالعاقبة وباللوم الذي يتبعه ، وبالعذاب الذي سيلقاه ، وبكون هذا الأمر أمراً ربانياً وعزيمة إلهية ما هي بالهزل .


    والمراد بعرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال ، هو ظهور خطرها بهذه المكونات ، وفظاعة الخيانة فيها ، وإشفاق كل من خطر تحملها ، وإبائهن ذلك لو كن مما يعقلن ، مع أنهن أقوى أجساماً ، وأعظم ثباتاً ، وأصبر على طوارئ الحدثان ، تخوفاً من أن يطغين في أمرها أو يعصين في شأنها ، وإن الْإِنْسَاْن ، مع ضعفه بالنسبة لهن ، حملها وما حفظها ولا رعاها ، واجترأ مع ضعفه على ما أشفق منه ما هو أقوى منه . فما أظلمه وما أجهله ! والقصد رميه بالظلم والجهل ، وجراءته على الخيانة وعدم مبالاته بما ترهب منه السماوات والأرض والجبال ، فيا لله ما أطغاه ! فذكر هذه الأجرام الكبيرة تهويل لخطر الأمانة ، وأنهن لو عقلن لكان منهن ما كان . ونظير هذه الآية في ذكر هؤلاء الثلاثة قوله تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً } [ مريم : 88 - 91 ] .."



    الجن والانس مكلفون

    اما تكليف الجن " يقول الله "وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي وَلَّوْا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجزٍ في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين"الأحقاف 29، 32


    اما الانسان فقول تعالى " إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا"

    وجميعهم مطالبون بالعبادة " وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون "



    سبب اختيار الانسان لها دون غيرها

    قال الغزالي في معارج القدس
    " فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إشارة إلى أن له خاصية تميز بها عن السماوات والأرضين والجبال بها صار مطيقا لحمل أمانة الله تعالى وتلك الأمانة هي المعرفة والتوحيد وقلب كل آدمي مستعد للأمانة ومطيق لها في الأصل ولكن يثبطها عن النهوض بأعبائها والوصول إلى تحقيقها الأسباب التي ذكرنا ولذلك قال عليه الصلاة و السلام كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه..."


    قال ابو محمد ابن حزم في الفصل في الملل" فحمد الله تعالى أباءة الجماعات من قبول التمييز الذي به وقع التكليف وتحمل أمانة الشرائع وذم عز و جل اختيار الانسان لتحملها وسمى ذلك منه ظلما وجهلا وجورا وهذا معروف في بنية العقل والتميز أن السلامة المضمونة لا يعدل بها التغرير المؤدي إلى الهلاك إو إلى النعيم.."

    وكذلك في ارادة الله حمل الانسان لها دون غيره " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون"

    قال الرازي في مفاتيح الغيب "كيف حملها الإنسان ولم تحملها هذه الأشياء فيه جوابان أحدهما بسبب جهله بما فيها وعلمهن ولهذا قال تعالى "إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً "

    والثاني أن الأشياء نظرت إلى أنفسهن فرأين ضعفهن فامتنعن والإنسان نظر إلى جانب المكلف وقال المودع عالم قادر لا يعرض الأمانة إلا على أهلها وإذا أودع لا يتركها بل يحفظها بعينه وعونه فقبلها وقال "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ "


    اقوال المفسرين في الاية

    نقل النووي في المنهاج
    " وأما الأمانة فالظاهر أن المراد بها التكليف الذى كلف الله تعالى به عباده والعهد الذى أخذه عليهم قال الامام أبو الحسن الواحدى رحمه الله فى قول الله تعالى إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال قال بن عباس رضى الله عنهما هي الفرائض التى افترضها الله تعالى على العباد وقال الحسن هو الدين والدين كله أمانة وقال أبو العالية الامانة ما أمروا به وما نهوا عنه وقال مقاتل الأمانة الطاعة قال الواحدى وهذا قول أكثر المفسرين قال فالأمانة فى قول جميعهم الطاعة والفرائض التى يتعلق بأدائها الثواب وبتضييعها العقاب والله اعلم وقال صاحب التحرير الأمانة فى الحديث هي الأمانة المذكورة فى قوله تعالى إنا عرضنا الأمانة وهي عين الايمان فاذا استمكنت الامانة من قلب العبد قام حينئذ بأداء التكاليف واغتنم ما يرد عليه منها وجد في اقامتها والله أعلم"



    قال ابن كثير
    " قال العوفي عن ابن عباس: يعني بالأمانة الطاعة وعرضها عليهم قبل أن يعرضها على آدم فلم يطقنها فقال لآدم: إني قد عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال فلم يطقنها فهل أنت آخذ بما فيها ؟ قال: يا رب وما فيها ؟ قال: إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت فأخذها آدم فتحملها فذلك قوله تعالى, {وحملها الأنسان إنه كان ظلوما جهولا}( الحديث ضعيف -العوفي -)


    قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: الأمانة الفرائض, عرضها الله على السموات والأرض والجبال إن أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم فكرهوا ذلك, وأشفقوا عليه من غير معصية, ولكن تعظيما لدين الله أن لا يقوموا بها ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها وهو قوله تعالى: {وحملها الأنسان إنه كان ظلوما جهولا} يعني غرا بأمر الله.( الحديث ضعيف علي لم يسمع من ابن عباس)


    وقال ابن جرير:
    حدثنا ابن بشار, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها} قال: عرضت على آدم, فقال: خذها بما فيها, فإن أطعت غفرت لك, وإن عصيت عذبتك, قال: قبلت فما كان إلا مقدار ما بين العصر إلى الليل من ذلك اليوم حتى أصاب الخطيئة


    وقد روى الضحاك عن ابن عباس قريبا من هذا, وفيه نظر وانقطاع بين الضحاك وبينه, والله أعلم. وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك والحسن البصري وغير واحد: إن الأمانة هي الفرائض, وقال آخرون: هي الطاعة, وقال الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: قال أبي بن كعب: من الأمانة أن المرأة اؤتمنت على فرجها. وقال قتادة: الأمانة الدين والفرائض والحدود, وقال بعضهم الغسل من الجنابة, وقال مالك عن زيد بن أسلم قال: الأمانة ثلاثة: الصلاة والصوم والاغتسال من الجنابة وكل هذه الأقوال لا تنافي بينها بل متفقة وراجعة إلى أنها التكليف وقبول الأوامر والنواهي بشرطها وهو أنه إن قام بذلك أثيب وإن تركها عوقب فقبلها الإنسان على ضعفه وجهله وظلمه إلا من وفق الله وبالله المستعان."

    قال القرطبي " والامانة تعم جميع وظائف الدين على الصحيح من الاقوال، وهو قول الجمهور"


    قال القاسمي في محاسن التأويل
    " قال القاسمي في محاسن التأويل " وقوله تعالى : { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَاْن } أي : عند عرضها عليه ، إما باعتبارها بالإضافة إلى استعداده ، أو بتكليفه إياها يوم الميثاق - أي : تكلفها والتزامها مع ما فيه من ضعف البنية ورخاوة القوة - وهو إما عبارة عن قبوله لها بموجب استعداده الفطري ، أو عن اعترافه بقوله : بلى . وقوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } اعتراض وسط بين الحمل وغايته ، للإيذان من أول الأمر بعدم وفائه بما عهده وتحمله - أي : أنه كان مفرطاً في الظلم ، مبالغاً في الجهل ؛ أي : بحسب غالب أفراده الذين لم يعملوا بموجب فطرتهم السليمة ، أو اعترافهم السابق دون من عداهم من الذين لم يبدلوا فطرة الله تبديلاً

    وإلى الفريق الأول أشير بقوله عز وجل :

    { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ } أي : حملها الْإِنْسَاْن ليعذب الله بعض أفراده الذين لم يراعوها ولم يقابلوها بالطاعة ، على أن اللام للعاقبة ؛ فإن التعذيب - وإن لم يكن غرضاً له من الحمل - لكن لما ترتب عليه بالنسبة إلى بعض أفراده ، ترتب الأغراض على الأفعال المعللة بها ، أبرز في معرض الغرض - أي : كان عاقبة حمل الْإِنْسَاْن لها أن يعذب الله تعالى هؤلاء من أفراده لخيانتهم الأمانة ، وخروجهم عن الطاعة بالكلية ، وإلى الفريق الثاني أشير بقوله تعالى : { وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ }

    أي : كان عاقبة حمله لها أن يتوب الله تعالى على هؤلاء من أفراده ؛ أي : يقبل توبتهم لعدم خلعهم ربقة الطاعة عن رقابهم بالمرة ، وتلافيهم لما فرط منهم من فرطات ، قلما يخلو عنها الْإِنْسَاْن بحكم جبلّته وتداركهم لها بالتوبة والإنابة ، والالتفات إلى الاسم الجليل ، أولاً ؛ لتهويل الخطب وتربية المهابة ، والإظهار في موضع الإضمار ، ثانياً ؛ لإبراز مزيد الاعتناء بأمر المؤمنين توفية لكل من مقامي الوعيد والوعد حقه : { وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } أي : مبالغاً في المغفرة والرحمة ، حيث تاب عليهم ، وغفر لهم فرطاتهم ، وأثاب بالفوز على طاعاتهم . انتهى ملخصاً ، مما حرره أبو السعود . وقد آثرت نقله بحروفه ؛ لتجويده الكلام ، وإجادته في المقام ، وهكذا عادتنا في كل مجوّد ، أن ننقله ولا نتصرف فيه .


    وقال أيضاً
    " ورد في تعظيم الأمانة عدة أحاديث :
    منها عن أبي هريرة مرفوعاً " أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك " رواه أبو داود والترمذي ، وعن عبد الله بن عَمْرو بن العاص مرفوعاً "أربع ، إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا : حفظ أمانة ، وصدق حديث ، وحسن خليقة ، وعفة في طعمة "

    رواه الإمام أحمد والطبراني ، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، لمن سأل عن الساعة " إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة " قال : كيف إضاعتها ؟ يا رسول الله ! قال " إذا وسد الأمر إلى غير أهله ، فانتظر الساعة "

    الخامسة - قال ابن كثير : روى عبد الله بن المبارك في كتاب " الزهد " أن عُمَر بن الخطاب كان ينهى عن الحلف بالأمانة أشد النهي . وقد ورد في ذلك حديث مرفوع عن بريدة " من حلف بالأمانة فليس منا " تفرد به أبو داود . أي : لأن الحلف لا يكون إلا باسم من أسمائه أو بصفة من صفاته ، وأما بغير ذلك فمكروه أو حرام ، كما تقرر في موضعه . والله أعلم"


    تفسير إيباء السماوات والأرض لحمل الأمانة من غير معصية

    قال الرازي في مفاتيح الغيب
    " قوله : {فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا} لم يكن إباؤهن كإباء إبليس في قوله تعالى : {أَبَى ا أَن يَكُونَ مَعَ السَّـاجِدِينَ} (الحجر : 31) من وجهين أحدهما : أن هناك السجود كان فرضاً ، وههنا الأمانة كانت عرضاً

    وثانيهما : أن الإباء كان هناك استكباراً وههنا استصغاراً استصغرن أنفسهن ، بدليل قوله : {وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} ."


    قال القرطبي " فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية، ولكن تعظيما لدين الله عزوجل ألا يقوموا به."



    للسماوات والأرض ارادة وادراك

    قال الشنقيطي في أضواء البيان لما تكلم عن " قوله تعالى: {فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه}... قال " وقد دلت آيات من كتاب الله على أنه لا مانع من كون إرادة الجدار حقيقة، لأن الله تعالى يعلم للجمادات إرادات وأفعالا وأقوالا لا يدركها الخلق كما صرح تعالى بأنه يعلم من ذلك ما لا يعلمه خلقه في قوله جل وعلا: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} ، فصرح بأننا لا نفقه تسبيحهم وتسبيحهم واقع عن إرادة لهم يعلمها هو جل وعلا ونحن لا نعلمها. وأمثال ذلك كثيرة في القرآن والسنة.

    فمن الآيات الدالة على ذلك: قوله تعالى: {وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله...} الآية، فتصريحه تعالى بأن بعض الحجارة يهبط من خشية الله دليل واضح في ذلك. لأن تلك الخشية بإدراك يعلمه الله ونحن لا نعلمه.

    قوله تعالى: { إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الأنسان...} الآية؛ فتصريحه جل وعلا بأن السماء والأرض والجبال أبت وأشفقت أي خافت، دليل على أن ذلك واقع بإرادة وإدراك يعلمه هو جل وعلا ونحن لا نعلمه.

    ومن الأحاديث الدالة على ذلك ما ثبت في صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إني لأعرف حجرا كان يسلم علي بمكة" وما ثبت في صحيح البخاري من حنين الجذع الذي كان يخطب عليه صلى الله عليه وسلم جزعا لفراقه ـ فتسليم ذلك الحجر، وحنين ذلك الجذع كلاهما بإرادة وإدراك يعلمه الله ونحن لا نعلمه، كما صرح بمثله في قوله: {ولكن لا تفقهون تسبيحهم} وزعم من لا علم عنده أن هذه الأمور لا حقيقة لها، وإنما هي ضرب أمثال، زعم باطل؛ لأن نصوص الكتاب والسنة لا يجوز صرفها عن معناها الواضح المتبادر إلا بدليل يجب الرجوع إليه. وأمثال هذا كثيرة جدا. وبذلك تعلم أنه لا مانع من إبقاء إرادة الجدار على حقيقتها لإمكان أن يكون الله علم منه إرادة الانقضاض، وإن لم يعلم خلقه تلك الإرادة، وهذا واضح جدا كما ترى"


    ونقل ايضا في موضع " وقال القرطبي في تفسير هذه الآية {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ} أي جعلناها بحيث تطيعه إذا أمرها بالتسبيح والظاهر أن قوله {وَكُنَّا فَاعِلِينَ} مؤكد لقوله: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} والموجب لهذا التأكيد: أن تسخير الجبال وتسبيحها أمر عجب خارق العادة، مظنة لأن يكذب به الكفرة الجهلة."

    وكذا قوله "لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله"

    وقوله تعالى " ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين"

    وكذا قوله " تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن"


    وقال الرازي في مفاتيح الغيب " قوله تعالى : {إنه كان ظلوما جهولا} فيه وجوه أحدها : أن المراد منه آدم ظلم نفسه بالمخالفة ولم يعلم ما يعاقب عليه من الإخراج من الجنة

    ثانيها : المراد الإنسان يظلم بالعصيان ويجهل ما عليه من العقاب

    ثالثها : إنه كان ظلوما جهولا ، أي كان من شأنه الظلم والجهل يقال فرس شموس ودابة جموح وماء طهور أي من شأنه ذلك ، فكذلك الإنسان من شأنه الظلم والجهل فلما أودع الأمانة بقي بعضهم على ما كان عليه وبعضهم ترك الظلم كما قال تعالى : {الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمـانهم بظلم} (الأنعام : 82) وترك الجهل كما قال تعالى في حق آدم عليه السلام : {وعلم ادم الاسمآء كلها} (البقرة : 31) وقال في حق المؤمنين عامة : { والراسخون في العلم يقولون ءامنا به } (آل عمران : 7) وقال تعالى : {ومن الناس والدوآب والانعـام مختلف ألوانه } (فاطر : 28)

    رابعها : {إنه كان ظلوما جهولا} في ظن الملائكة حيث قالوا : {أتجعل فيها من يفسد فيها} (البقرة : 30) وبين علمه عندهم حيث قال تعالى : {أنبئوني بأسمآء هؤلاء} (البقرة : 31)"

    "حملها الإنسان مع ضعفه الذي قال الله تعالى فيه وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً ( النساء 28 ) ولكن وعده بالإعانة على حفظ الأمانة بقوله وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ( الطلاق 3 ) فإن قيل فالذي يعينه الله تعالى كيف يعذب فلم يعذب الكافر نقول قال الله تعالى ( أنا أعين من يستعين بي ويتوكل علي ) والكافر لم يرجع إلى الله تعالى فتركه مع نفسه فيبقى في عهدة الأمانة"


    قال القرطبي
    " " وحملها الانسان " أي التزم القيام بحقها، وهو في ذلك ظلوم لنفسه وقال قتادة: للامانة، جهول بقدر ما دخل فيه وهذا تأويل ابن عباس وابن جبير.
    وقال الحسن: جهول بربه.

    قال: ومعنى " حملها " خان فيها.
    وقال الزجاج والآية في الكافر والمنافق والعصاة على قدرهم على هذا التأويل.
    وقال ابن عباس وأصحابه والضحاك وغيره: " الانسان " آدم، تحمل الامانة فما تم له يوم حتى عصى المعصية التي أخرجته من الجنة.
    ... وقال قوم: " الانسان " النوع كله.
    وهذا حسن مع عموم الامانة كما ذكرناه أولا..."

    " (ليعذب الله المنافقين والمنافقات) اللام في " ليعذب " متعلقة ب " - حمل " أي حملها ليعذب العاصي ويثيب المطيع، فهي لام التعليل، لان العذاب نتيجة حمل الامانة.
    وقيل ب " - عرضنا "، أي عرضنا الامانة على الجميع ثم قلدناها الانسان ليظهر شرك المشرك ونفاق المنافق ليعذبهم: الله، وإيمان المؤمن ليثيبه الله.

    (ويتوب الله) قراءة الحسن بالرفع، يقطعه من الاول، أي يتوب الله عليهم بكل حال.
    (وكان الله غفورا رحيما) خبر بعد خبر ل " - كان ".
    ويجوز أن يكون نعتا لغفور، ويجوز أن يكون حالا من المضمر.
    والله أعلم بالصواب."


    وفي دراسة ترجيحات الشنقيطي ل عبد الماجد ابراهيم
    " اختلف في المراد بالإنسان في قوله تعالى: ((وحملها الإنسان)) على أقوال:
    1- أن المراد بالإنسان آدم عليه السلام.
    2- أن المراد الجنس: أي عموم الناس.
    3- أن الإنسان يراد به الكافر والمنافق.
    4- أو يراد به قابيل الذي قتل أخاه.
    ... وتبعاً لذلك اختلف في مرجع الضمير المتصل في قوله تعالى ((إنه كان ظلوماً جهولاً)):
    1- أن الضمير يرجع إلى جنس الإنسان سواءً أريد بالإنسان في الآية آدم - عليه السلام - أو عموم الناس.
    2- أن يرجع على الكافر والمنافق إن حمل لفظ الإنسان عليهما.
    3-أو يرجع على قابيل


    ترجيح الشنقيطي:



    قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-
    :
    " وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة (وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً) الظاهر أن المراد بالإنسان آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. وأن الضمير في قوله ((إنه كان ظلوماً جهولاً)) راجع للفظ الإنسان مجرداً عن إرادة المذكور منه الذي هو آدم - عليه السلام - ، والمعنى: أنه أي الإنسان الذي لا يحفظ الأمانة كان ظلوماً جهولاً، أي كثير الظلم والجهل. والدليل على هذا أمران:

    أحدهما: قرينة قرآنية دالة على انقسام الإنسان في حمل الأمانة المذكورة إلى معذب ومرحوم في قوله تعالى بعده متصلاً به { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } [سورة الأحزاب: 73]، فدل هذا على أن الظلوم الجهول من الإنسان هو المعذب والعياذ بالله، وهم المنافقون والمنافقات والمشركون والمشركات، دون المؤمنين والمؤمنات. واللام في قوله (ليعذب) لام التعليل وهي متعلقة بقوله (وحملها الإنسان)

    الأمر الثاني: أن الأسلوب المذكور الذي هو رجوع الضمير إلى مجرد اللفظ دون اعتبار المعنى التفصيلي؛ أسلوب معروف في اللغة التي نزل بها القرآن. وقد جاء فعلاً في آية من كتاب الله وهي قوله تعالى: { وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ } [سورة فاطر: 11]؛ لأن الضمير في قوله (ولا ينقص من عمره) راجع إلى لفظ المعمر دون معناه التفصيلي، كما هو ظاهر. وهذه المسألة هي المعروفة عند علماء العربية بمسألة عندي درهم ونصفه: أي نصف درهم آخر.

    ... وبعض من قال من أهل العلم إن الضمير في قوله (إن كان ظلوماً جهولاً) عائد إلى آدم، قال المعنى: إنه كان ظلوماً لنفسه؛ جهولاً: أي غراً بعواقب الأمور وما يتبع الأمانة من الصعوبات. والأظهر هو ما ذكرنا والعلم عند الله تعالى "

    قلت ولعل الراجح الاخير وجنس الانسان بالتبع لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم " فجحد آدم فجحدت ذريته ونسي آدم فنسيت ذريته وخطئ آدم فخطئت ذريته" الترمذي
    والله أعلم



    وأيُّما جِهَةٍ أعرَضَ اللهُ عَنها ؛ أظلمت أرجاؤها , ودارت بها النُحوس !

    -ابن القيم-

  2. #2

    افتراضي

    جزاكم الله خير

  3. افتراضي

    وفي دراسة ترجيحات الشنقيطي ل عبد الماجد ابراهيم " اختلف في المراد بالإنسان في قوله تعالى: ((وحملها الإنسان)) على أقوال:
    1- أن المراد بالإنسان آدم عليه السلام.
    2- أن المراد الجنس: أي عموم الناس.
    3- أن الإنسان يراد به الكافر والمنافق.
    4- أو يراد به قابيل الذي قتل أخاه.
    ... وتبعاً لذلك اختلف في مرجع الضمير المتصل في قوله تعالى ((إنه كان ظلوماً جهولاً)):
    1- أن الضمير يرجع إلى جنس الإنسان سواءً أريد بالإنسان في الآية آدم - عليه السلام - أو عموم الناس.
    2- أن يرجع على الكافر والمنافق إن حمل لفظ الإنسان عليهما.
    3-أو يرجع على قابيل


    ترجيح الشنقيطي:


    قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-: " وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة (وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً) الظاهر أن المراد بالإنسان آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. وأن الضمير في قوله ((إنه كان ظلوماً جهولاً)) راجع للفظ الإنسان مجرداً عن إرادة المذكور منه الذي هو آدم - عليه السلام - ، والمعنى: أنه أي الإنسان الذي لا يحفظ الأمانة كان ظلوماً جهولاً، أي كثير الظلم والجهل. والدليل على هذا أمران:

    أحدهما: قرينة قرآنية دالة على انقسام الإنسان في حمل الأمانة المذكورة إلى معذب ومرحوم في قوله تعالى بعده متصلاً به { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } [سورة الأحزاب: 73]، فدل هذا على أن الظلوم الجهول من الإنسان هو المعذب والعياذ بالله، وهم المنافقون والمنافقات والمشركون والمشركات، دون المؤمنين والمؤمنات. واللام في قوله (ليعذب) لام التعليل وهي متعلقة بقوله (وحملها الإنسان)

    الأمر الثاني: أن الأسلوب المذكور الذي هو رجوع الضمير إلى مجرد اللفظ دون اعتبار المعنى التفصيلي؛ أسلوب معروف في اللغة التي نزل بها القرآن. وقد جاء فعلاً في آية من كتاب الله وهي قوله تعالى: { وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ } [سورة فاطر: 11]؛ لأن الضمير في قوله (ولا ينقص من عمره) راجع إلى لفظ المعمر دون معناه التفصيلي، كما هو ظاهر. وهذه المسألة هي المعروفة عند علماء العربية بمسألة عندي درهم ونصفه: أي نصف درهم آخر.

    ... وبعض من قال من أهل العلم إن الضمير في قوله (إن كان ظلوماً جهولاً) عائد إلى آدم، قال المعنى: إنه كان ظلوماً لنفسه؛ جهولاً: أي غراً بعواقب الأمور وما يتبع الأمانة من الصعوبات. والأظهر هو ما ذكرنا والعلم عند الله تعالى "

    قلت ولعل الراجح الاخير وجنس الانسان بالتبع لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم " فجحد آدم فجحدت ذريته ونسي آدم فنسيت ذريته وخطئ آدم فخطئت ذريته" الترمذي
    والله أعلم
    بارك الله فيك.

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Apr 2012
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    55
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    جزاكم الله خيرا

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. (وجنة عرضها السماوات و"الأرض" ) !؟
    بواسطة تابع للأنبياء فقط في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 12
    آخر مشاركة: 05-02-2014, 09:46 PM
  2. قوله تعالى "خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك "
    بواسطة ماكـولا في المنتدى قسم العقيدة والتوحيد
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 04-20-2010, 03:47 PM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء