صفحة 5 من 6 الأولىالأولى ... 3456 الأخيرةالأخيرة
النتائج 61 إلى 75 من 80

الموضوع: مع المستشرق موراني حول دعوى ((تحقيق القرآن)) واحتمال الزيادة والنقص واختلاف الترتيب

  1. Arrow

    (8)
    معنى الأَحْرُفِ السَّبْعَةِ


    وهذا يجرُّنا للكلام عن مَعْنى الأَحْرُفِ السَّبْعَةِ

    ولنبدأ بنصٍّ واضحٍ في المسألة، ثم نذهب إلى أقوال العلماء لنرى الراجح منها في ذلك.

    رَوَى البخاريُّ (4992)، ومسلمٌ (818) من روايةِ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ (الْفُرْقَانِ) فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلاةِ، فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ، فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ؟ قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: كَذَبْتَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ (الْفُرْقَانِ) عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَرْسِلْهُ، اقْرَأْ يَا هِشَامُ))، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ))، ثُمَّ قَالَ: ((اقْرَأْ يَا عُمَرُ)) فَقَرَأْتُ الْقِرَاءَةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ))أهـ

    ولنُلْقِ نظرةً الآن على اختلاف الناس في ذلك، مع المعنى الراجح بأدلَّتِه إن شاء الله عز وجل..

    وقد اختلف الناسُ في بيان الأحرف السبعة اختلافًا عظيمًا: فأوصلها بعضهم إلى خمسةٍ وثلاثين قولاً، كما نُقِلَ هذا عن ابن حبان، نقله ابن الجوزي في ((فنون الأفنان)) (67)، والقرطبي في ((تفسيره)) (1/42)، والسيوطي في ((الإتقان)) (1/138)، وغيرهم.

    ولَمَّا أشارَ ابنُ حجرٍ في ((فتح الباري)) (4992) إلى كلام ابن حبان؛ قال ابن حجرٍ: ((وقال الْمُنْذِرِيُّ: أكثرُها غيرُ مختارٍ))أهـ

    ونقَّح ابنُ الجوزي الأقوال فاختار منها أربعة عشر قولاً، بينما اختار غيره عشرة أو سبعة أو ستةً..إلخ.

    وأحجمَ بعضهم عن الكلام في المسألة، وزعم أنها من المتشابه أو المشكل.

    وسنقتصر هنا على أشهرِ الأقوال في المسألةِ، وبعد البحث والتمحيص وردِّ النَّظير إلى نظيره: رأيتُ أن أشهر الأقوال في المسألة: قول أبي عبيد ومَنْ معه القائلين بأن المراد بالأحرفِ هنا اللغات، والقول الثاني: قول مَنْ قال: إِنَّ المراد بالأحرفِ السبعة في الحديث تأدية المعنى باللفظِ المرادف ولو كان مِنْ لغةٍ واحدةٍ.

    وهذا المشهور في المسألةِ، عند تحرير الأقوال وتمحيصها، وما سواه فعلى نوعين:

    النوع الأول: فإما لا عبرة به كقولِ مَنْ قال: إن المقصود بها الخلاف في الحلال والحرام؛ وهذا من أبطلِ الباطلِ، وسيأتي تزييف أبي عبيدٍ له، وقد زَيَّفَه أيضًا أحمد بن أبي عمران فيما رواه الطحاوي عنه، وقال: وهو كما قال، نقل ابن عبد البر في ((التمهيد)) (8/276) ذلك عن ابن أبي عمران والطحاوي وأَيَّدَهما.

    والنوع الثاني: يرجع إلى ما سبق عند التمحيص والتحريرِ، كقول مَنْ يقول: المراد بالأحرفِ: التصريف، أو الجمع والتوحيد، أو التذكير والتأنيث، ونحو هذا مما حكاه ابن حبان وابن الجوزي والقرطبي والسيوطي وغيرهم.

    ووقع ذلك أيضًا في كلام ابن قتيبة، الذي لَخَّصَ الرازي معناه، وزاد عليه، ثم انتصر له الزرقاني في آخر أمره في كتاب ((مناهل العرفان)).

    وعبارة الرازي في ((اللوائح)) في الوجه الأول مثلاً: ((اختلاف الأسماء من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث))، وهذا الذي ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ وجهًا واحدًا ذَكَرَهُ ابن الجوزي تبعًا لابن حبان مثلاً وجهين..

    وهكذا أكثر الوجوه التي ذكرها البعض وجهين وثلاثة، جمعها غيرهم في وجهٍ، وهذه إحدى أسباب الاختلاف في وجوه الأحرف السَّبْعَةِ بين ظاهر كلام العلماء، والتي يمكن عند التمحيص والتحرير أن نجمع بين كثيرٍ منها، ونزيل عنها إشكال وجود الخلاف فيما بينها.

    ومِنْ جهةٍ أخرى، فقد ذكر الرازي وغيره أشياءً بألفاظٍ ذكرها غيرهم بألفاظٍ أخرى، وبإمكاننا إرجاع كلامه المذكور، والذي هو تنقيحٌ لكلام ابن قتيبة كما ذكر ابن حجر، (بل وزاد عليه النصّ على اللهجات)، يمكننا إرجاع الكلام المذكور إلى القول الثاني السابق في أَنَّ المراد بالأحرف السبعة تأدية المعنى باللفظ المرادف حتى وإن كان مِن لغةٍ واحدةٍ، (وسيأتي).

    وبهذا يمكن الجمع بين الأقوال التي ظاهرها الاختلاف، وطرح ما يخالف الصواب، لتعود الأقوال بعد ذلك إلى ما قرَّرَهُ أهل اللغة العارفين بها، والتي بها نزل القرآن، وهي التي بها يُفْهَمُ نصوص الإسلام الواردة.

    ولذا سأقتصر على القولين السابقين، وأنظر فيهما لاستخلاص الراجح منهما بأدلَّتِه إن شاء الله تعالى كالتالي:

    القول الأول: قول أبي عبيدة ومَنْ معه في أَنَّ المقصود بالأحرفِ في الحديث: اللغات.

    ولو رجعنا إلى مادة ((حرف)) من كتب اللغة، فسنجد المراد بالأحرف السبعة: سبع لغاتٍ من لغات العرب، وإلى هذا ذهب أبو عبيد في كتاب ((الغريب)) له (2/11، 3/159).

    فقال أبو عبيدٍ بعد أَنْ ذَكَرَ اختلافَ الْقَرَأَة من الصحابة في بعض الحروف، وعرضهم ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نزول القرآن على سبعة أحرُفٍ، (وقد مضى حديث اختلاف عُمَر وهشام في هذا)؛ قال أبو عبيد عقب ذلك: ((فهذا يُبَيِّنُ لك أَنَّ الاختلافَ إِنَّما هو في اللَّفْظِ، والمعنى واحدٌ، ولو كان الاختلاف في الحلالِ والحرام لما جازَ أَنْ يُقال في شيءٍ هو حرامٌ: هكذا نزلَ، ثم يقول آخر في ذلك بعينه: إِنَّه حلالٌ فيقول: هكذا نزلَ، وكذلك الأمر والنهي; وكذلك الأخبار لا يجوز أَنْ يُقال في خَبَرٍ قد مضى: إِنَّه كان كذا وكذا فيقول: هكذا نزل، ثم يقول الآخر بخلاف ذلك الخبر فيقول: هكذا نزل; وكذلك الخبر المستأنف؛ كخبر القيامة والجنة والنار، ومَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ في هذا شيئًا مِن الاختلافِ فَقَدَ زَعَمَ أَنَّ القرآنَ يُكَذِّبُ بعضُه بعضًا ويتناقض، وليس يكون المعنى في السبعة الأحرف إلا على اللغات لا غير، بِمَعْنًى واحدٍ لا يُخْتَلَفُ فيه في حلالٍ ولا حرامٍ ولا خَبَرٍ ولا غير ذلك))أهـ

    وقد ذكر أبو عبيد وعنه ابن الأثير وغيرهما نحو هذا المعنى في مادة ((مرر)) أيضًا، وتُراجع من ((الغريب)) لأبي عبيد، و((النهاية)) لابن الأثير، و((اللسان)) لابن منظور.

    وإلى هذا ذهبَ أبو العباس النحوي، وقال الأزهري: ((فأَبو العباس النحْويّ -وهو واحد عصْره- قد ارتضى ما ذهبَ إليه أَبو عبيد واستصوَبه، قال: وهذه السبعة أَحْرُفٍ -التي معناها اللغات- غير خارجةٍ مِن الذي كُتِبَ في مصاحفِ المسلمين التي اجتمع عليها السلَف المرضيُّون والخَلَف المتبعون، فمن قرأَ بحرف ولا يُخالِفُ المصحف بزيادةٍ أَو نقصان أَو تقديم مؤخّرٍ أَو تأْخير مُقَدَّم وقد قرأَ به إمامٌ من أَئمةِ القُرّاء المشتهرين في الأَمصار فقد قرأَ بحرفٍ مِن الحروف السبعة التي نزل القرآن بها، ومِن قرأَ بحرفٍ شاذٍّ يخالف المصحف وخالف في ذلك جمهور القرّاء المعروفين فهو غير مصيبٍ، وهذا مذهب أَهل العلم الذين هم القُدوة ومذهب الراسخين في علم القرآن قديماً وحديثاً، وإلى هذا أَوْمأَ أَبو العباس النحوي وأَبو بكر بن الأَنباري في كتابٍ له أَلَّفَهُ في اتِّباع ما في المصحف الإمام، ووافقه على ذلك أَبو بكر بن مجاهد مُقْرِئ أَهل العراق وغيره من الأَثبات المتْقِنِين، قال: ولا يجوز عندي غير ما قالوا، واللّه تعالى يوفقنا للاتباع ويجنبنا الابتداع))أهـ

    وإلى هذا ذهبَ ابنُ الأَثير في مادة ((حرفٍ)) أيضًا من كتابه ((النهاية))، وقال: ((وفيه أَقوال غير ذلك هذا أَحسنها)).

    وعبارة ((القاموس المحيط)): ((ونَزَلَ القُرْآنُ على سَبْعَةِ أحْرُفٍ: سَبْعِ لُغاتٍ من لُغَاتِ العَرَبِ، ولَيْسَ مَعْنَاهُ أن يكونَ في الحَرْفِ الواحِدِ سَبْعَةُ أوْجُهٍ وإنْ جاءَ على سَبْعَةٍ أو عَشَرَةٍ أو أكْثَرَ؛ ولكنِ المَعْنَى: هذِهِ اللُّغَاتُ السَّبْعُ مُتَفَرِّقَةٌ في القُرْآنِ))أهـ

    وإلى هذا القولِ ذهب أيضًا: ابن عطِيَّة، والطبري في ((تفسيره)) (1/51)، وابن الجوزي في ((فنون الأفنان)) (85)، وغيرهم.

    فالمراد بالحديث على هذا القول: ((أُنْزِلَ القرآنُ على سبعِ لغاتٍ))، وهو الوجه الرابع عشر والأخير عند ابن الجوزي في ((فنون الأفنان)) ذَكَرَهُ ابن الجوزي ثم قال: ((وهذا هو القول الصحيح، وما قبلهُ لا يثبُت عند السَّبْكِ، وهذا اختيارُ ثَعْلَب وابن جرير))أهـ

    لكن اختلف أصحاب هذا القول في اللغات المقصودة هنا على التعيين، فقيل: لغة لقريشٍ ولغة لليمن ولغة لتميم ولغة لجُرْهُم ولغة لهوازن ولغة لقُضاعة ولغة لطَيٍّ.. وقيل غير ذلك.

    قال ابن الجوزي: ((والذي نراه أَنَّ التعيين من اللغات على شيءٍ بعينه لا يصح لنا سنده، ولا يثبت عند جهابذةِ النَّقْلِ طريقه؛ بل نقولُ: نزلَ القرآن على سبعِ لغاتٍ فصيحةٍ مِنْ لغات العرب، وكان بعض مشايخنا يقول: كله بلغة قريشٍ، وهي تشتمل على أصولٍ من القبائل هم أرباب الفصاحة، وما يخرج عن لغة قريشٍ في الأصل لم يخرج عن لغتِها في الاختيار))أهـ

    وعلى هذا القول عِدَّة إشكالات، منها: أَنَّه لم يحصر لغات العرب التي فوق السبعة؛ لأنَّ لغات العرب أكثر مِن سبعةٍ؛ ولكنهم أجابوا بأَنَّ المراد هنا مِن لغات العرب أفصحها.

    لكنَّ أقوى الإشكالات على هذا القول أَنه مخالفٌ لظاهر الحديث السابق؛ لأن كلا المختلفين هنا (وهما عُمَر وهشام رضي الله عنهما) كان يقْرَأُ بلغةِ قريشٍ، فلا وجه هنا لِمَنْ يقول: إِن المراد بالأحرف السبعة: سبع لغات.

    ومِمَّا يرد هذا القول أيضًا: ما ثبتَ قطعيًّا مِنْ حرْقِ عثمان رضي الله عنه للمصاحف بعد نسخ المصحف الإمام، المعروف والمتداول باسم المصحف العثماني، وقد نَسَخَ منه عثمان رضي الله عنه نسخًا وأرسلها إلى الأقطار الإسلامية، دون خلافٍ بينها، وقد ثبتَ قطعيًّا أَمْر عثمان رضي الله عنه لزيد بن ثابتٍ ومَنْ معه مِنْ كَتَبَةِ المصحف العثماني أن يكتبوه بلغة قريشٍ فإنما نزل بها القرآن، (وقد مضى ذلك في مداخلة سابقة في الموضوع عن عثمان رضي الله عنه، ولعلي أعيده ثانية في مداخلةٍ لاحقةٍ).

    وعُلِمَ قطعيًّا (كما سبق) مِنْ قولِ عثمان رضي الله عنه أَنَّه لم يُغَيِّر شيئًا في القرآن من مكانه؛ إِذْ قدِ التزم الواردَ المسموع مِن لفظِ النبي صلى الله عليه وسلم، ونسخَ منه المصحفَ العثماني المعروف بالمصحف الإمام، فَعُلِمَ مِنْ ذلك أَن الأحرف السَّبَعْةِ المذكورة في الحديث لابد وأَنْ تكون موجودةً في لغة قريشٍ نفسها..

    قال ابن حجرٍ في ((فتح الباري)): ((وقال أبو حاتم السِّجِسْتَانِيُّ: نَزَلَ بلغةِ قُرَيْش وَهُذَيْل وَتَيْم الرَّبَاب وَالأَزْد وَرَبِيعَة وَهَوَازِن وَسَعْد بْن بَكْر وَاسْتَنْكَرَهُ اِبْنُ قُتَيْبَة وَاحْتَجَّ بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} فعلى هذا فتكون اللُّغَات السَّبْع في بُطُون قُرَيْش, وبذلكَ جَزَمَ أبو عليٍّ الأَهْوَازِيّ)).

    وقال ابن حجر: ((ومِنْ ثَمَّ أَنْكَرَ عُمَر على ابن مسعود قراءَته (عَتَّى حِين) أَيْ: (حَتَّى حِين) وكتبَ إليه: إِنَّ القرآن لم ينزل بلغةِ هُذَيْل فَأَقْرِئِ النَّاس بلغةِ قُرَيْش ولا تُقْرِئهُمْ بلغة هُذَيْل))أهـ [وانظر: التمهيد لابن عبد البر 8/278].

    ولكن خالف ابنُ قتيبة –كما نقل ابن حجرٍ عنه- في أول ((تفسير الْمُشْكِل)) له فقال: ((كان مِن تيسير الله أَنْ أمر نَبِيَّه أَنْ يَقْرَأ كُلُّ قَوْمٍ بلغتهم, فَالْهُذَلِيّ يَقْرَأ (عَتَّى حِين) يُرِيد {حَتَّى حِين}، وَالأَسَدِيّ يَقْرَأ (تِعْلِمُونَ) بِكَسْرِ أَوَّله, وَالتَّمِيمِيُّ يَهْمِز، وَالْقُرَشِيّ لا يَهْمِز)). قال ابن قتيبة: ((ولو أراد كلُّ فريقٍ منهم أن يزول عن لُغتِه وما جرى عليه لسانُه طفلاً وناشئًا وكهلاً لَشَقَّ عليه غاية المشقَّةِ، فَيَسَّرَ عليهم ذلك بِمَنِّهِ, ولو كان المراد أَنَّ كلَّ كلمةٍ منه تُقْرَأ على سبعةِ أوجُهٍ لقال مثلاً: (أُنْزِلَ سَبْعَة أَحْرُف), وَإِنَّمَا المراد أَنْ يَأْتِي في الكلمة وجهٌ أو وجهانِ أو ثلاثة أو أكثر إلى سبعةٍ))أهـ

    وقال ابن عبد البر في ((التمهيد)) (8/280): ((قول من قال أن القرآن نزل بلغة قريش معناه عندي: في الأغلب والله أعلم؛ لأن غير لغة قريش موجودة في صحيح القراآت من تحقيق الهمزات ونحوها وقريش لا تهمز)).

    ولكن إذا كان هو الأغلب كما يقرر ابن عبد البر فالحكم للأغلب، والنادر لا حُكم له، فلا إشكال في وجود بعض الكلمات بغير لغة قريشٍ؛ لأنها ليست الأصل فيه، ولا غالبة عليه..

    وما ذهب إليه عُمر بن الخطاب رضي الله عنه، هو الموافق لعمل عثمان رضي الله عنه الذي أجمع عليه الصحابةُ فيما بَعْدُ، بل أجمعتْ عليه الأمة قاطبةً.

    ولذا قال ابن عبد البر في ((التمهيد)) (8/280): ((وأنكر أكثر أهل العلم أن يكون معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أُنْزِلَ القرآن على سبعة أحرفٍ): سبع لغاتٍ، وقالوا: هذا لا معنى له؛ لأنه لو كان ذلك لم يُنْكر القوم في أولِ الأمر بعضهم على بعضٍ؛ لأنه من كانت لغته شيئًا قد جبل وطبع عليه وفطر به لم يُنْكَر عليه، وفي حديث مالكٍ عن ابن شهابٍ المذكور في هذا الباب [وهو الحديث السابق في اختلاف عُمَر وهشام] رَدُّ قولِ مَن قالَ: سبع لغاتٍ؛ لأن عمر بن الخطاب قرشي عدوي وهشام بن حكيم بن حزام قرشي أسدي، ومُحَال أَنْ يُنكر عليه عُمر لغتَه؛ كما محال أن يُقْرِئَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم واحدًا منهما بغيرِ ما يعرفه مِن لُغَتِه، والأحاديث الصحاح المرفوعة كلها تدلّ على نحوِ ما يدل عليه حديثُ عُمَرَ هذا، وقالوا: إنما معنى السبعة الأحرف: سبعة أوجهٍ من المعاني المتفقة المتقاربة بألفاظٍ مختلفةٍ؛ نحو: أَقْبِلْ وتَعَالَ وهَلُمَّ، وعلى هذا الكثير مِنْ أهلِ العلمِ)).

    وذكر ابن عبد البر بعض الروايات ثم قال: ((وهذا كله يعضد قول مَن قال: إِنَّ معنى السبعة الأحرف المذكورة في الحديث: سبعة أوجهٍ من الكلام المتفق معناه، المختلف لفظه؛ نحو: هَلُمَّ وَتَعَالَ وَعَجِّلْ وَأَسْرِعْ وأَنْظِرْ وَأَخِّر، ونحو ذلك، وسنورد من الآثار وأقوال علماء الأمصار في هذا الباب ما يتبين لك به أَنَّ ما اخترناه هو الصواب فيه إن شاء الله، فإنه أصح من قول من قال: سبع لغات مفترقات؛ لما قدمنا ذكره، ولما هو موجود في القرآن بإجماعٍ من كثرةِ اللغات المفترقات فيه، حتى لو تقصيت لَكَثُرَ عددها، وللعلماء في لغات القرآن مؤلفاتٌ تشهد لما قلنا)).

    وأوردَ ابنُ عبد البر الروايات الشاهدة لذلك، ونقل موافقة الطحاوي له فيما ذهب إليه.



    القول الثاني: قولُ مَنْ قال: المراد بالأحرفِ السبعةِ تأدية المعنى باللفظ المرادف ولو كان مِن لغةٍ واحدةٍ:

    فلننظر قول عمر: ((فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ))، فهو قد عَرِف الحروف بمجرد سماعه لها، وعَبَّرَ عنها بالحروفِ، كما عَبَّر الحديث بالأحرف السبعةِ، فلزم علينا أَنْ نفهمَ المراد بالحروف مِن خلال لغة العرب الفصيحة الواضحة الظاهرة التي تكلمت بها نصوص الإسلام، مع الالتزام بظاهر لغة العرب دون تأويلٍ؛ إلا لقرينةٍ تُخْرِجنا من الظاهر الصريح الواضح إلى غيره.. لأَنَّه لابد وأَنْ نرجع إلى اللغة التي نزل بها النص عندما لا نجد تفسيرًا للنصِّ من خلال النصِّ، ففي عدم التفسير إحالةٌ على المعهود المعروف مِن لغةِ العرب، وهي التي فَهِم منها عُمَرُ رضي الله عنه معنى الأحرف السبعة الموجودة في الحديث؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد خاطبَ بها عُمر وغيره، ولم يُفَسِّر المراد من الأحرف السبعة؛ فدلَّ ذلك على أنَها كانت معروفة ومفهومة لديهم من لُغَة العرب الظاهرة الواضحة..

    وهذا يؤكد أنها ليست هي ((سبع لغات)) كما سبق في القول الأول؛ لأن تأويلها بـ (سبع لغات) خروجٌ عن ظاهر اللفظ لغةً إلى معنًى آخر يحتاج في إثباته إلى قرينة، ولا قرينة هنا تؤيِّد الخروج عن الظاهر إلى التأويل، كما ترى؛ لأنَّ كلا الْمُخْتَلِفَيْن هنا (عُمر وهشام) كانا يتبعان لغةً واحدةً، وقد نَبَّه على ذلك ابنُ عبد البر وغيره..

    إِذن ما المراد بالحرف هنا؟
    المراد بالحرفِ هنا: القِراءة التي تُقرأُ على أَوجُه، هذا ما نجده في لغةِ العرب، مختصًّا بموضوعنا، ويُطلق الحرف أيضًا على الجهةِ والطَّرَف، كما يطلق على حَرْفِ الهجاء المعروف، وله إطلاقات أخرى، لكن الذي يهمنا هنا معناه الخاص بموضوعنا في الأحرف السَّبْعة.

    ((قال الخليل بن أحمد: معنى قوله سبعة أحرفٍ: سبع قراءات. والحرف هاهنا القراءة))؛ نقَلَهُ ابنُ عبد البر في ((التمهيد)) (8/274).

    وحكى ابنُ منظور في مادة ((حرف)) هذا المعنى عن ابن سيدة أيضًا.

    وقال الأزهري: ((وكلُّ كلمة تُقْرَأُ على الوجوه مِن القرآن تُسَمَّى حَرْفاً، تقول: هذا في حَرْف ابن مسعود؛ أَي: في قراءةِ ابن مسعود))أهـ

    وفي ((الْمُغْرِب في ترتيب الْمُعْرِب)) للمطرز (1/196): ((وأما قوله: (نزَل القرآن على سبعة أحرفٍ) فأحسنُ الأقوال أنها وجوه القراءة التي اختارها القُراء، ومنه فلان يقرأُ بحرفِ ابنِ مسعود))أهـ

    قال ابن حجر: ((قَوْله : (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ)؛ أَيْ: مِنْ الْمُنْزَل. وَفِيهِ إِشَارَة إِلَى الْحِكْمَة فِي التَّعَدُّد الْمَذْكُور, وَأَنَّهُ لِلتَّيْسِيرِ عَلَى الْقَارِئ, وَهَذَا يُقَوِّي قَوْل مَنْ قَالَ: الْمُرَاد بِالأَحْرُفِ تَأْدِيَة الْمَعْنَى بِاللَّفْظِ الْمُرَادِف وَلَوْ كَانَ مِنْ لُغَة وَاحِدَة؛ لأَنَّ لُغَة هِشَام بِلِسَانِ قُرَيْش وَكَذَلِكَ عُمَر, وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ اِخْتَلَفَتْ قِرَاءَتهمَا. نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ اِبْن عَبْد الْبَرّ, وَنَقَلَ عَنْ أَكْثَر أَهْل الْعِلْم أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَاد بِالْأَحْرُفِ السَّبْعَة)).

    وقد مضى كلام ابن عبد البر بنصِّه قبل قليل في التعقيب على القول السابق، فلا داعي لإعادته هنا.

    وإلى هذا ذهب الطحاوي وغيره أيضًا كما مضى.

    ومما يُبَيِّن ذلك: قول ابن مسعود: ((إِنِّي قد سمعتُ الْقَرَأَةَ فوجدتُهم متقاربين فاقرأُوا كما عُلِّمْتِمْ، إنما هو كقولِ أَحدِكم: هَلُمَّ وتَعَالَ وأَقْبِلْ)).

    وقولُ ابن مسعودٍ هذا ذكره ابن حجر وغيره مُعَلَّقًا بدون إسناد، وقد أسندهُ الطبري في ((التفسير))، وغيره، بإسنادٍ صحيحٍ عنه.

    وهذا القول يوافق ظاهر الحديث السابق في قصة عُمَر مع هشام رضي الله عنهما، واختلافهما في القراءة، رغم أنهما يتبعان لغةً واحدةً، وكذا ينتظم أكثر الأقوال الأخرى، ولا يعارضها.

    لأَنَّ اللفظ المرادف الدالَّ على المعنى مع اختلاف اللفظ: ينتظم الجمع والمفرد والمذكر والمؤنث والتصريف والإعراب وغير ذلك من الوجوه التي ذكرها جماعةٌ من العلماء، فترجع إليه عدة أقوالٍ مِن أقوال العلماء في هذا الباب.

    ومِمَّا يمكن إرجاعه له مثلاً: قول ابن قتيبة، ثم تنقيح الرازي له وزيادته عليه، وهو الرأي الذي انتصر له الزرقاني في ((المناهل))، وقد ذكره ابن حجر بشيءٍ من التعقيب، فأردتُ أن أنقله مِن عنده.

    قال ابن حجر: ((وَقَدْ حَمَلَ اِبْن قُتَيْبَة وَغَيْره الْعَدَد الْمَذْكُور عَلَى الْوُجُوه الَّتِي يَقَع بِهَا التَّغَايُر فِي سَبْعَة أَشْيَاء: الأَوَّل: مَا تَتَغَيَّر حَرَكَته وَلا يَزُول مَعْنَاهُ وَلا صُورَته, مِثْل: {وَلا يُضَارّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيد} بِنَصْبِ الرَّاء وَرَفْعهَا. الثَّانِي: مَا يَتَغَيَّر بِتَغَيُّرِ الْفِعْل مِثْل: (بَعُدَ بَيْن أَسْفَارنَا) وَ {بَاعِدْ بَيْن أَسْفَارنَا} بِصِيغَةِ الطَّلَب وَالْفِعْل الْمَاضِي. الثَّالِث: مَا يَتَغَيَّر بِنَقْطِ بَعْض الْحُرُوف الْمُهْمَلَة مِثْل: (ثُمَّ نُنْشِرُهَا) بِالرَّاءِ وَالزَّاي. الرَّابِع: مَا يَتَغَيَّر بِإِبْدَالِ حَرْف قَرِيب مِنْ مَخْرَج الْآخَر مِثْل: {طَلْح مَنْضُود}، فِي قِرَاءَة عَلِيٍّ: (وَطَلْع مَنْضُود). الْخَامِس: مَا يَتَغَيَّر بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِير مِثْل: {وَجَاءَتْ سَكْرَة الْمَوْت بِالْحَقِّ}، فِي قِرَاءَة أَبِي بَكْر الصَّدِيق وَطَلْحَة بْن مُصَرِّف وَزَيْن الْعَابِدِينَ: (وَجَاءَتْ سَكْرَة الْحَقّ بِالْمَوْتِ). السَّادِس: مَا يَتَغَيَّر بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَان كَمَا تَقَدَّمَ فِي التَّفْسِير عَنْ اِبْنِ مَسْعُود وَأَبِي الدَّرْدَاء: (وَاللَّيْل إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَار إِذَا تَجَلَّى وَالذَّكَر وَالْأُنْثَى)، هَذَا فِي النُّقْصَان, وَأَمَّا فِي الزِّيَادَة: فَكَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِير {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب}، فِي حَدِيث اِبْنِ عَبَّاس: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتك الْأَقْرَبِينَ, وَرَهْطك مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ). السَّابِع: مَا يَتَغَيَّر بِإِبْدَالِ كَلِمَة بِكَلِمَةٍ تُرَادفهَا مِثْل: {الْعِهْن الْمَنْفُوش}، فِي قِرَاءَة اِبْنِ مَسْعُود وَسَعِيد بْن جُبَيْر: (كَالصُّوفِ الْمَنْفُوش).

    وَهَذَا وَجْهٌ حَسَن؛ لَكِنْ اِسْتَبْعَدَهُ قَاسِمِ بْن ثَابِت فِي (الدَّلَائِل)؛ لِكَوْنِ الرُّخْصَة فِي الْقِرَاءَات إِنَّمَا وَقَعَتْ وَأَكْثَرهمْ يَوْمَئِذٍ لا يَكْتُب وَلا يَعْرِف الرَّسْم, وَإِنَّمَا كَانُوا يَعْرِفُونَ الْحُرُوف بِمَخَارِجِهَا. قَالَ: وَأَمَّا مَا وُجِدَ مِنْ الْحُرُوف الْمُتَبَايِنَة الْمَخْرَج الْمُتَّفِقَة الصُّورَة مِثْل: (نُنْشِرُهَا) وَ (نُنْشِرُهَا) فَإِنَّ السَّبَب فِي ذَلِكَ تَقَارُب مَعَانِيهَا, وَاتَّفَقَ تَشَابُه صُورَتهَا فِي الْخَطّ.

    قُلْت [القائل ابن حجر]: وَلا يَلْزَم مِنْ ذَلِكَ تَوْهِين مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ اِبْنُ قُتَيْبَة, لاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الانْحِصَار الْمَذْكُور فِي ذَلِكَ وَقَعَ اِتِّفَاقًا, وَإِنَّمَا اِطَّلَعَ عَلَيْهِ بِالاسْتِقْرَاءِ, وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَة الْبَالِغَة مَا لا يَخْفَى. وَقَالَ أَبُو الْفَضْل الرَّازِيَُّ: الْكَلام لا يَخْرُج عَنْ سَبْعَة أَوْجُهٍ فِي الاخْتِلاف: الأَوَّل: اِخْتِلاف الأَسْمَاء مِنْ إِفْرَاد وَتَثْنِيَة وَجَمْع أَوْ تَذْكِير وَتَأْنِيث. الثَّانِي: اِخْتِلاف تَصْرِيف الأَفْعَال مِنْ مَاضٍ وَمُضَارِع وَأَمْر, الثَّالِث: وُجُوه الإِعْرَاب, الرَّابِع: النَّقْص وَالزِّيَادَة, الْخَامِس: التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير, السَّادِس: الإِبْدَال, السَّابِع: اخْتِلاف اللُّغَات كَالْفَتْحِ وَالإِمَالَة وَالتَّرْقِيق وَالتَّفْخِيم وَالإِدْغَام وَالإِظْهَار وَنَحْوِ ذَلِكَ. قُلْت [القائل ابن حجر]: وَقَدْ أَخَذَ [يعني الرازي] كَلامَ ابْنِ قُتَيْبَة وَنَقَّحَهُ))أهـ

    والرازي لم يُنَقِّح كلام ابن قتيبة فقط، وإنما زاد عليه اختلاف اللهجات أيضًا.

    لكن لا يَغِيِّبَنَّ عن بالك أَنَّ توهين قاسم بن ثابت لكلام ابن قتيبة وجيهٌ جدًَّا من حيثُ حصر الأحرف السَّبْعَة في الوجوه التي ذكرها ابن قتيبة؛ لأنَّه بإمكان غيره أن يزيد عليها أو ينقص منها، كما زاد الرازي عليه مثلاً اختلاف اللهجات في النطق باللفظِ الواحدِ، وقد اعترف ابن قتيبة بهذا الاختلاف وكذا ابن الجزري، لكنهما لم يعتبراه من وجوه الأحرف السَّبْعَةِ، في الوقت الذي اعترفا بتأثيرِه على النطق باللفظ الواحد.

    بل لم يذكر ابن قتيبة غير هذا الفارق في أول ((المشكل)) كما سبق النَّقْل عنه قبل قليل، وحصر غيره الأحرف السَّبْعة في اختلاف اللهجات فقط..

    ولا يَغِيْبَنَّ عنك أنَّ القرآن قد نزل على أُمَّةٍ أُمِّيَّة لا تقرأ ولا تكتب، وإنما كانت تعرف الفصاحة والبلاغة نطقًا وسماعًا، فهي إنما تعرف مخارج الحروف لا رسمها وطريقة كتابتها، هذا هو الأصل في الأمة آنذاك، ولذا فقد طلب النبي صلى الله عليه وسلم التخفيف مرارًا عن هذه الأمة الأُمِّيَّة، حتى أوصلها إلى سبعةِ أحرُفٍ يمكن للقارئ أن يقرأ بها، يعني سبع وجوهٍ يمكن للقارئ أن يَقْرَأَ بها..

    هذا هو المتبادر الظاهر في معنى الأحرُف من لغة العرب، ثم هو الموافق لظاهر الحديث كما سبق، وإليه ذهب الخليل بن أحمد والطحاوي وابن عبد البر وغيرهم كما سبق.

    وهذه الوجوه: يمكن أَنْ تكون اختلافًا في اللهجة، أو في التصريف، أو الإعراب، أو التذكير والتأنيث، وغير ذلك من الوجوه المقبولة مِمَّا ذَكَرَهُ العلماء من حيثُ تحليل اللفظ والنَّظَر إلى كيفية الاختلاف بين اللفظين المقروء بهما..


    ولكن ينبغي التفريق هنا بين أمرين:

    الأول: بين الأحرف السبعة الواردة في الحديث.

    الثاني: وجوه اختلاف الأوجه السبعة، وكيفية الخلاف فيما بينها.

    فالثاني هنا مترتِّبٌ على الأول، وأثرٌ له، وليس سابقًا عليه، ولاشكَّ أنَّ حصر الأحرف السبعة في وجوه اختلافها خطأٌ عظيم؛ لأنَّه يعني الخلط بين الأحرف السبعة نفسها، وبين الأثر المترتِّب عليها، من البحث في وجوه اختلافها وفائدتها وكيفيتها وغير ذلك، فهذه الأبواب كلّها آثارٌ مترتِّبةٌ على وجود الأحرف السبعةِ، وليست فصولاً ولا مُقَدِّماتٍ سابقةٍ على وجودها..

    نعم وليس تفسيرًا للأحرف السبعة؛ لأنَّه لابد في التفاسير والحدود في مثل هذا أن تكون شاملةً لكافة وجوه الْمُفَسَّرِ وبيان جوانبه؛ وهذا ما تفتقده التفسيرات آنفة الذِّكْر وكثير مما يشبهها؛ لخلوِّها عن تعريف الأحرف السبعة على الحقيقةِ..

    ومِن هنا نستطيع أن نقول: إِنَّ تعريف الأحرُف السبعة والمراد منها لم يُخْتَلَف فيه على الحقيقةِ، وإِنَّما وردَ الاختلاف في كيفية التفريق بين الأحرُف السبعة، وما يميِّز كلَّ حرفٍ منها عن مثيلِه في موضعٍ بعينه، فالأول مُذكَّر والثاني مؤَنَّث، أو الأول جمع والثاني مُفْرد، أو الأول مرفوع والثاني منصوب، وهكذا سائر وجوه التفريق والتمايز بين الأحرف السبعة..

    ومِمَّا يُؤْسَفُ له حقيقةً أن تنتقلَ المعركة في التفريق بين الأحرُف أو التمييز بينها في موضعٍ بعينه إلى مجال بيان الأحرف السبعة تعريفًا من حيثُ المراد منها، بحيثُ صار الخلاف محصورًا وعبر سنواتٍ في أثرٍ من آثار الأحرف السبعة، في الوقت الذي اختفى فيه البحث في تعريف الأحرف السبعة إلا نادرًا!!

    وهذا الذي ذكرتُه لك هو خلاصة ما مَنَّ الله عز وجل به على العبد الضعيف كاتب هذه السطور، وآمل أَنْ يفتح الله عز وجل القلوب والأبصار له فتعي ما أردتُه وتنصح فيه..

    ويمكنني أَنْ أُلَخِّصَ لك نتائجُ ما سبق هنا في الآتي:

    أولاً: أن الراجح في تعريف الأحرف السبعة هو: سبعة وجوه أو سبعة قراءات بألفاظٍ مختلفةٍ للمعنى الواحد، أو هو تأدية المعنى الواحد بأكثر من لفظٍ، نحو أَقْبِلْ، هَلُمَّ، تَعَالَ.

    ثانيًا: اختُلِفَ في صورة المخالفة والتمييز بين وجوه الأحرف السَّبْعَةِ على وجوهٍ يمكن الجمع بينها، لكنها جميعًا ليست تعريفاتٍ للأحرفِ السبعة، وإنما هي أثرٌ من آثارِ البحث في الأحرف السبعة، وتمييز بعضها مِن بعضٍ..


    لكن لابد من التنبيه هنا على أمور:

    الأول: أَنَّ هذه الوجوه هي بمثابة المترادفات لمعنًى واحدٍ، وليست اختلافًا حقيقيًّا أو اختلاف تضادّ، وإنما هي اختلاف تنوُّع في اللفظِ للتعبيرِ عن مَعْنًى واحدٍ، زيادةً في البلاغة والفصاحة وتقرير المعجزة القرآنية..

    الثاني: أنها وحي، وليست من اختيار البشر، بل هي جزءٌ مِن الوحي، تلقَّاها النبي صلى الله عليه وسلم وحيًا، وعَلَّمَها أصحابُه صلى الله عليه وسلم، فبلَّغوها مَنْ بعدَهم..

    الثالث: أنها متفرِّقة في القرآن الكريم كله، ولا يعني نزوله على سبعة أحرفٍ أن كل كلمة منه تُقْرأ على سبعةِ أوجهٍ، فهذا مما لم يقل به أحدٌ قط، وقد أنكره العلماء ونبهوا عليه، وقد مضى تنبيه أبي عبيد وابن عبد البر وغيرهما على هذا.

    الرابع: لا يصح اعتقاد الزيادة في القراءة على سبعةِ أوجهٍ؛ لأنَّه لم يزد في الحديث على سبعةٍ، وما ذكروه في نحو {أُفٍّ} زيادةً على ثلاثين وجهًا كما حُكِي عن الرماني فلا يصح، فإما أنْ يعود إلى سبعةِ أوجهٍ، أو يُؤْخَذ منه الأوجه السبعة الموافقة للمصحف، ويُتْرَك ما سواها.

    الخامس: أَنَّ الأحرف السبعة شيءٌ والقراءات السبعة التي صنَّفها بعض القُرَّاء شيءٌ آخر، وليسا واحدًا، وقد نَبَّه على ذلك الجماعات من أهل العلم قديمًا وحديثًا، كابن عبد البر وابن حجر وغيرهما..

    وقد صنَّفَ ابن مجاهد والشاطبي وغيرهما قراءة سبعةً من الأئمة، ففهم بعضهم من ذلك أنها الأحرف السبعة، أو أنه لا يصح غيرها، وليس كذلك، بل ربما كان في القراءات العشر ما هو أكثر شهرةً مما ذكره ابنُ مجاهد وغيره في تصنيفهم قراءات سبعة من الأئمة، ومَرَدّ ذلك كله على الِعلْم والاطلاع وطريقة التصنيف، وليس المراد لابن مجاهد ولا الشاطبي ولا غيرهما من أئمة القراءات توهين قراءة غير هؤلاء الأئمة السبعة الذين صنَّفوهم، وإنما المراد جمع قراءات سبعة أئمة، كما جمع غيرهم قراءات عشرة أئمة، لكنها جميعًا سواءٌ كانت لسبعةٍ أو لسبعين أو لسبعمائة لا تخرج عن الأحرُفِ السَّبْعَة التي نزل بها القرآن الكريم..

    فالحديث يتكلَّم عن وجوهٍ سبعةٍ في القراءة، وأما ابنُ مجاهد ونحوه فمرجع الكلام عندهم عن سبعة أئمة..

    وبعبارةٍ أخرى: الحديث يتكلم عن وجوهٍ قرآنيةٍ، وابن مجاهد وأمثاله اختاروا سبعةَ أئمةٍ مِمَّن نقلوا هذه الوجوه القرآنية، فقيَّدوا ما نقلوه..

    فالأئمة السبعة المذكورون عند ابن مجاهدٍ مثلاً هم من نَقَلَةِ الوجوه القرآن الذي نزل على سبعة أحرُفٍ، كما أن غيرهم من العشرة أو غيرهم قد شاركهم في نقل القرآن الكريم، وإِنَّما عُنِيَ العلماء بهؤلاء الأئمة نظرًا لدقَّتِهم وعنايتهم وتفرُّغهم لإتقان النَّقْل والرواية والسماع للقرآن الكريم.

    فهذا كما ترى ليس اختلافًا ولا ترادفًا، وإنما هو قرآنٌ نزل على سبعةِ أحرُفٍ، ونقلَهُ الكافَّةُ من الناس إلى مَنْ بعدَهم، فبرزَ من بين النَّقَلَةِ أئمة كبار، اختار ابنُ مجاهدٍ مثلاً سبعةً منهم، فصنَّفَ رواياتهم وسماعهم في كتابه، بينما اختار آخرون غير زيادة على ما اختاره ابنُ مجاهدٍ من أئمةٍ، لكنَّهم جميعًا يدورون في فلك نقل القرآن الكريم الذي نزل على سبعةِ أَحْرُفٍ..

  2. Arrow

    (9)

    وبهذا القَدْر نكتفي في الكلام عن الأحرف السَّبعةِ، والقراءات القرآنية.. إِذْ لم يكن قصدنا الاستفاضة في هذا الموضوع، وإنما أردنا الردَّ على مَنْ لم يفهم أبعاد المعجزة القرآنية، فزعم أن اختلافات القراءات من جِنس التحريف والتَّخْطِئَةِ للقرآن الكريم، (وقد سبق كلامه).. فبان مِمَّا سبق أنه قد تكلَّمَ بغير علمٍ ولا هدًى، وإنما حطبَ بليلٍ..
    كما سبق بحمد الله عز وجل أَنَّ اختلاف القراءات ناتجٌ عن وحي أَنْزَلَهُ الله عز وجل على نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، وَبَلَّغَهُ رسولُه صلى الله عليه وسلم لأصحابهِ، فنقَلُوه إلى مَنْ بعدهم، وهلم جرّا..
    ثم هو جزءٌ من المعجزة القرآنية الخالدة..
    وقد مضى بيان هذا وغيره بحمد الله عز وجل، فلا نُعيده.




    ....... وإلى لقاءٍ جديدٍ قادمٍ في موضوعنا هذا إن شاء الله تعالى....
    التعديل الأخير تم 09-04-2005 الساعة 02:44 AM

  3. Arrow تذكير بالعناوين السابقة في الموضوع

    تذكير بالعناوين السابقة في الموضوع

    ماذا وراء مقارنة د.موراني
    بين القرآن وبين الإنـجـيـل (الحالي)؟



    إهانات د.موراني المتكررة للقرآن، وانطلاقه في كلامه عنه من أسسٍ دينيةٍ

    هل يُعَدّ د.موراني مبشِّرًا نصرانيًّا؟!

    وما هي أوصاف هؤلاء المبشِّرين لدى د.موراني؟ وهل تعرفها وتبينها لنا أيها الكاتب؟

    المستندات

    مقدَّسٌ حتى إشعار آخر!!
    الإنجيل في نظر د.موراني
    وماذا يريد من القرآن؟

    مَنْ يملك حق تحقيق القرآن؟!

    شهادة من ألماني

    إضافة مهمة..

    هكذا يُبْطِلُونَ المعجزةَ القرآنية ويهدمون الإسلام!!
    فهل يقدرون على مثلِه؟!

    فاصلٌ قصير

    سَـمَــاعِــيٌّ
    مِن البدايةِ إلى النهايةِ

    طبقات القراء

    لا تأخذوا القرآنَ مِنْ مُصْحَفِيٍّ

    أقوال مأثورة

    ليست بأول خصالكم ولا آخرها!!


    الانتكاسة المبكرة!!



    التحقيق في قضية التحقيق؟


    قفوا لينصح لكم إبليس!!
    ويُصَفِّق موراني!!



    إلى القرآن من جديد


    التدوين الكتابي للقرآن



    النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بكتابة القرآن فور نزوله



    دروسٌ مستفادة



    الدَّرْسُ الأخير!!


    ما بينَ موراني وجلكرايست!!
    شُبْهَةٌ لا أساس لها!!



    فماذا لديك أيها التاريخ؟

    مصحفٌ واحدٌ
    وترتيبٌ واحدٌ
    لا غير


    كتابٌ إلهيٌّ واحدٌ
    نزل مفرَّقًا
    ثم جَمَعَهُ الله عز وجل
    كما كان مجموعًا مِن قبلُ في اللوحِ المحفوظِ


    القرآن كلام الله عز وجل

    توضيح حول المنهج

    السماع والكتابة حسب الطريقة الأولى

    وبناءً عليه
    ليست للمصحف نُسَخًا جديدة

    مثالٌ تطبيقيٌّ

    قضية القراءات

    أولاً: جوهر المسألة، وفرقٌ مهمٌّ.

    ثانيًا: مُعْجِزَةُ القراءات.

    فأَمَّا التي من جهةِ العقلِ

    وقراءات القرآن جزءٌُ مِن القرآن

    فأما التي من جهةِ الأثر الوارد

    ضرورة اختلاف القراءات في قيام الْمُعْجِزَةِ

    تَرْكُ كفار العرب الاعتراضَ على القرآن
    باختلافِ القراءات
    ودلالة ذلك


    نزول القرآن على سَبْعَةِ أَحْرُفٍ

    معنى الأَحْرُفِ السَّبْعَةِ

  4. Arrow إلى المدينة من جديد

    إلى المدينة من جديد


    وقد كُنَّا في غِنًى عن الرحيل للمدينة مرةً أخرى، واستنطاق التاريخ بمزيدٍ مِمَّا لديه، فقد كفى وشفى، ولم يكن علينا من بأسٍ لو تركناه يستريح ولو لبعض الوقت، لأَنَّا مِن الآن فصاعدًا لن نترك التاريخ، فربما أجهدناه في كثيرٍ من الأمور المتعلِّقَةِ بصدر الإسلام...
    لكن لا مانع من المرور في الختام على أهل المدينة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، لننظر:
    ماذا لديك أبا بكرٍ الصديق
    رضي الله عنك؟
    وماذا لديك عثمان رضي الله عنك؟

    يُحَدِّثُنا التاريخُ عن ذلك فيقول: تُوفِّي النبي صلى الله عليه وسلم، تاركًا القرآن الكريم مكتوبًا في الأدوات المتاحة للكتابة آنذاك؛ كالعظام واللخاف والجلود، ونحوها.. وسرعان ما تولَّى أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، ورفيقه في هجرته المباركة من مكة للمدينة = سرعان ما تولَّى رضي الله عنه خلافة المسلمين، خلفًا للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان عليه أن يقود المسلمين إلى بَرِّ الأمان دائمًا، وأن يحفظهم في كل أمورهم، خاصةً أمر دينهم الذي به حياتهم، وعليه تقوم دنياهم وأخراهم..
    لكن لم يُمْهَل خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إِذْ سرعان ما دخل في حروبٍ مع المرتدين وغيرهم، حصدتْ هذه الحروب جماعةً من حُفَّاظ القرآن الكريم، فهرعَ عُمَر رضي الله عنه إلى أبي بكرٍ يطلب جمع القرآن الكريم المسموع من النبي صلى الله عليه وسلم والمكتوب بحضرتِه وتحت رعايته وسمعه وبصره، فالمادة متوفِّرة، والأمان هنا حاصل بوجود كافة القرآن الكريم، والقَرَأَة متوافرةٌ لم تَمُتْ جميعها بَعْدُ، فالحال يسمح بالجمع الآن، قبل أن يأتي يومٌ يُصْبِح الناسُ فلا يجدون قارئًا حضر وقرأ على النبي صلى الله عليه وسلم، أو كاتبًا كتب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وتحت سمعه وبصره..
    هنا بدأتْ المشاورات لاستجلاء حُكْم المسألة شرعًا وعقلاً، ثم بدا للجميع التوافق بين النقل والعقل، بين الوحي المنزّل وبين العقل، فتوكَّلوا على الله عز وجل وبدأَ العمل الجاد..
    نعم؛ العقل يقول: القرآء يُحْصَدون في المعارك الواحد تلو الآخر؛ لكن البقية الباقية منهم متوافرةٌ بحمد الله عز وجل، والحضور كثرة لا حصر لهم، فالعوامل المساعدة على تنفيذ المهمة متاحةٌ الآن لا غضاضة فيها، والأمان هنا قائمٌ ينادي: أَن اجمعوا القرآن الآن في مصحفٍ واحدٍ، خشية أن يموت الجيل الشاهد لنزوله، ويرحل كُتَّاب الوحي، أو يهلك الحَفَظَة الذين أخذوه غضًّا طريًّا عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، ويخلف بعد ذلك جيل لا علم له بما جرى، لم يحضر شيئًا، ولا شاهد أمرًا ولا نهيًا، فيقول القائل، ويشكِّك المشكك، وربما صَدَّقَهُ بعضُ الضِّعاف، فتنفتح على المسلمين فتنٌ لا حصر لها..

    كلا أيها العقل؛ لن نفعل شيئًا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم..

    تردَّدَ أبو بكرٍ رضي الله عنه في أول الأمر: كيف نفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!!
    ثم بدا لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوافق على جمع القرآن المكتوب بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، والمسموع منه مباشرةً، لما في ذلك من المصلحة العظمى في حِفْظِ وصيانةِ القرآن الكريم..
    فشرح الله عز وجل صَدْرَ أبي بكرٍ لهذا العمل، فبدأهُ..

    لكنَّه لم يبدأ ارتجالاً، ولا صار الموضوع بلا ضابطٍ؛ وإِنِّما اشترطوا أن يقوم بذلك رجلٌ من كُتَّاب الوحي اللذين سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذوا عنه مباشرةً، بلا وسائط، ثم عليه أن ينسخَ ما يكتبه من تلك النُّسَخ التي كُتِبَتْ بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وتحت سمعه وبصره، كما سبق بيان ذلك من قبلُ..
    فتم اختيار زيد بن ثابت الشاب اليقظ الفطن، وهو أَحَد كُتَّاب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم، فأخذَ زيدٌ في عملية النَّسْخ، فنسَخ ما في اللخاف والأكتاف وغيرها من أدوات الكتابةِ في صُحُفٍ، ثم جمع هذه الصُّحُف عند أبي بكرٍ رضي الله عنه، ثم انتقلت بعد وفاته إلى عمر، ثم آلتْ بعد وفاتِه إلى أمِّ المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنهما، حتى بَعَثَ إليها عثمان بن عفان رضي الله عنه، فأخذ هذه النُّسَخ منها، فنسخها في مصاحف، ثم أعادها إليها ثانيةً..

    ويلاحظ القارئ الكريم هنا أن عمل أبي بكرٍ ثم عمل عثمان رضي الله عنهما لم يتجاوز في الحقيقة نسخ ما كان مكتوبًا في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، بأمرِه وتحت سمعه وبصره.

    ولذا رأينا ابن الجوزي رحمة الله عليه يقول في كتابه ((تلبيس إبليس)) (ص: 396): ((إِنَّ أصل العلوم القرآن والسنة، فلما عَلِمَ الشرع أَنَّ حفظهما يصعُب أَمَرَ بكتابةِ المصحفِ وكتابةِ الحديث، فأَمَّا القرآن: فإِنَّ رسولَ الله كان إذا نزلتْ عليه آيةٌ دَعَىَ بالكاتبِ فَأَثْبَتَهَا، وكانوا يكتبونها في العُسُبِ والحجارة وعِظام الكَتف، ثم جَمَعَ القرآنَ بعدَهُ في المصحفِ أبو بكرٍ صونًا عليه، ثم نَسَخَ مِن ذلك عثمانُ بن عفان رضي الله عنه وبقيةُ الصحابة، وكل ذلك لحفظِ القرآن لِئَلاَّ يَشِذّ منه شيءٌ))أهـ

    وإلى نحو هذا أشار جماعةٌ من المصنفين والمفسرين والمقرئين؛ منهم الحاكم والخطابي وأبي شامة والآلوسي وغيرهم.

    ويقول البيهقي في ((شعب الإيمان)) (171): ((وتأليف القرآن على عهدِ النبي صلى الله عليه وسلم. رُوِّينا عن زيد بن ثابتٍ أَنَّهُ قال: (كُنَّا عندَ رسولِ الله صلى الله عليه و سلم نُؤَلِّفُ القرآنَ مِن الرِّقَاعِ).
    وإِنِّما أراد ـ والله تعالى أعلم ـ تأليف ما نَزَلَ مِن الآيات المتفرقة في سورَتِها وجمعها فيها بإشارةِ النبيِّ صلى الله عليه و سلم، ثم كانت مُثْبَتَة في الصدور مكتوبة في الرقاع واللّخُف والعُسُب، فَجُمِعَتْ منها في صُحُفٍ بإشارةِ أبي بكر وعُمر وغيرهما من المهاجرين والأنصار، ثم نُسِخَ ما جُمِعَ في الصُّحُفِ في مصاحف بإشارةِ عثمان بن عفان على ما رسم المصطفى صلى الله عليه وسلم.
    وروينا عن سُوَيْد بن غَفَلَة أَنَّهُ قال: قال علي بن أبي طالب: يرحم الله عثمان! لو كنتُ أَنا لصَنَعْتُ في المصاحف ما صَنَعَ عثمان.
    و قد ذكرنا في كتاب المدخل وفي آخر كتاب دلائل النبوة ما يُقَوِّي هذا الإجماع ويدل على صحته))أهـ

    ويلاحظ في هذه المرحلة أن زيدًا وغيره من الصحابة الكرام الذين قاموا على جمع القرآن الكريم رضي الله عنهم قد اعتمدوا على السماع والكتابة معًا، وجمعوا بينهما، فاشترطوا اقتران السماع والكتابة وتلازمهما في المجموع، وهذا من أعلى درجات التوثيق التي يمكن الوصول إليها، وقد أتاحها الله عز وجل لكتابِه صيانةً له، وحمايةً لجنابه الشَّريف..

    ولذا رأينا زيد بن ثابتٍ رضي الله عنه يفقد آيةً أثناء جمعه للقرآن زمن أبي بكرٍ رضي الله عنه، وأخرى زمن عثمان، لا يجدهما أمامه في المكتوب بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، لكنهما معروفتان عنده، لا شك فيهما؛ لأنه سمعهما هو وغيره من النبي صلى الله عليه وسلم.....
    ومع أنهما سُمِعَا من النبي صلى الله عليه وسلم، وأُخِذا عنه بلا واسطةٍ إلا أَنَّهُ لم يثبتهما حتى بحث عنهما ووجدهما كتابةً أيضًا..
    فلم يعتمد الكتابة وحدها، ولا السماع وحده، وإن كان كل واحدٍ من الكتابة أو السماع يصح الاعتماد عليه بلا غضاضة؛ لكنَّ الصحابة الكرام رضي الله عنهم أرادوا بلوغ النهاية في توثيق القرآن الكريم وصيانته والحفاظ عليه، فالحمد لله تعالى..

    وقد أَشَرْتُ إلى كثيرٍ مِن هذه المباحث فيما سبق من مداخلات هذا الموضوع، وبقي عليَّ الآن أن أذكر بعض الروايات الواردة في موضوع مداخلتنا هذه..
    وهي باختصار كالتالي:


    روى البخاري رحمه الله تعالى (4986) أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ((أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عِنْدَهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ: إِنَّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ، قُلْتُ لِعُمَرَ: كَيْفَ تَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ عُمَرُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِذَلِكَ وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَى عُمَرُ، قَالَ زَيْدٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لا نَتَّهِمُكَ وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ، فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ، قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنْ الْعُسُبِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ، حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ، فَكَانَتْ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ))أهـ

    وروى البخاري أيضًا (4987 - 4988) أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قال: ((إِنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّأْمِ فِي فَتْحِ إِرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلافُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أَدْرِكْ هَذِهِ الأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْكِتَابِ اخْتِلافَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ، فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلاثَةِ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ، فَفَعَلُوا حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنْ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ)).
    قَالَ ابْنُ شِهَابٍ الزهري رحمه الله (أحد أئمة الحديث، وراوي الحديث الذي معنا): وَأَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ: ((فَقَدْتُ آيَةً مِنْ الأَحْزَابِ حِينَ نَسَخْنَا الْمُصْحَفَ قَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا، فَالْتَمَسْنَاهَا فَوَجَدْنَاهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ: {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}، فَأَلْحَقْنَاهَا فِي سُورَتِهَا فِي الْمُصْحَفِ))أهـ


    وعند البخاري أيضًا (4984) عنْ أَنَسِ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: ((فَأَمَرَ عُثْمَانُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنْ يَنْسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ وَقَالَ لَهُمْ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي عَرَبِيَّةٍ مِنْ عَرَبِيَّةِ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهَا بِلِسَانِ قُرَيْشٍ فَإِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا))أهـ

    وعند البخاري أيضًا (3506) عَنْ أَنَسٍ ((أَنَّ عُثْمَانَ دَعَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلاثَةِ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا ذَلِكَ))أهـ

    وعند البخاري أيضًا (4784) أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ: ((لَمَّا نَسَخْنَا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ فَقَدْتُ آيَةً مِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ كُنْتُ كَثِيرًا أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَؤُهَا لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ إِلاَّ مَعَ خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ الَّذِي جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهَادَتَهُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ: {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}))أهـ

    وعند البخاري أيضًا (4049) عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: ((فَقَدْتُ آيَةً مِنْ الأَحْزَابِ حِينَ نَسَخْنَا الْمُصْحَفَ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا فَالْتَمَسْنَاهَا فَوَجَدْنَاهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ: {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} فَأَلْحَقْنَاهَا فِي سُورَتِهَا فِي الْمُصْحَفِ))أهـ

    وعند البخاري أيضًا (2807) أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ((نَسَخْتُ الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ فَفَقَدْتُ آيَةً مِنْ سُورَةِ الأَحْزَابِ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا فَلَمْ أَجِدْهَا إِلاَّ مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيِّ الَّذِي جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهَادَتَهُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}))أهـ

    وقولُ زيدٍ السابق: ((فأَلْحَقْنَاها في سورَتِها من المصحف)) يؤيد ما سبق تقريره من إلهية الترتيب القرآني، سورًا وآياتٍ، لا فرق.

    وتدل السياقات السابقة أَنَّه استقرَّ في المصحف العثماني جميع ما ورد في السماع كما سبق، وقد حَضَرَ ذلك وعَايَنَهُ وسَمِعَ به حُفَّاظ القرآن وكَتَبَةُ الوحي مِمَّن كانوا أحياء حينئذٍ، وطار نبأُ المصحف في الأمصار، ولم يعترض أحدٌ عليه، ولا زاد فيه أحدٌ شيئًا، فدل ذلك كله على إجماع الصحابة الكرام، وغيرهم من المسلمين آنذاك على صحة المصحف العثماني، وشموله لجميع ما أُنْزِل على النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يفت المصحف المكتوب شيءٌ من المسموع أبدًا..
    ثم أجمعت الأجيال المتلاحقة على هذا أيضًا، منذ أربعة عشر قرنًا، وإلى وقتنا هذا..
    فصار المصحف المكتوب بيد المسلمين الآن قرينًا للسماع، يُعَضِّد كلٌّ منهما الآخر، ولا ينافيه أو يعارضه، يتعاونان في حِفْظِ القرآن على مرِّ الأزمان، مع احتفاظ السماع برئاسته وصدارته، واحتفاظ الكتابة بأهميتها ومنزلتها.


    وقد مضت أدلة الاعتماد في نقل القرآن على السماع والحفظ لا الكتابة والمصاحف..

    ويؤكد ذلك رجوع زيد بن ثابت إلى البحث عن الآيتين اللتان لم يجدهما أمامه في المكتوب حتى وجدهما كتابةً، وما دَلَّهُ على عدم وجودهما غير السماع، وقد صَرَّح هو نفسُه بذلك في قوله في كلٍّ منهما: ((كنتُ قد سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها))....
    فهو يجمع وينسخ ما كان مسموعًا لديه سلفًا، فلم يكن يجمع أو ينسخ شيئًا جديدًا عليه يمكن أن يفوته في ذلك فائتٌ أو يشذ عليه شاذٌّ؛ وإنما كان ينسخ مسموعًا محفوظًا مستقرًّا في صدْرِه وصدور غيره من الصحابة الكرام رضي الله عنه..
    فهو نسخٌ لمعلومٍ معروفٍ، وليس نسخًا لمجهولٍ، وشتَّان بين هذا وذاك عند العقلاء من الناس!!

    وهذا كله يقطع بأمورٍ يقينيَّة على رأسها: القطع بأن القرآن قد وصلنا تامًّا غير منقوص بحمد الله تعالى؛ لإجماع المسلمين خلفًا بعد سلفٍ، وعلى توالي أربعة عشر قرنًا، على تمام القرآن الذي بأيدي المسلمين، وأنه نسخة طبق الأصل لما نزل به الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، لم يُحَرَّف، ولم يدخله النقص، أو تُعَكِّره الزيادة.
    وهذا كله مصداق تعَهُّد الله بحفظه، وإخباره بذلك في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].


    وكان بإمكاننا قبل ذلك وبعده أَنْ نُقَرِّرَ هذه الحقيقة اليقينية بناءً على الآية المذكورة، فهي كافية بحمد الله تعالى في تقرير تمام القرآن وكماله، وحفظ الله له من الزيادة والنقصان والتحريف والتغيير.
    ولكنا ذكرنا الأدلة المادية على حفظ القرآن وتمامه وكماله، وحفظ الله له من الزيادة والنقصان والتحريف والتغيير، وذلك من خلال النصوص الثابتة، التي شهد بصدقها التاريخ، وأَكَّدَها واقع النَّقَلَةِ، وتحدَّثَتْ عنها الأسانيد.
    نعم؛ ذكرنا الأدلة المادية على ذلك من خلال الروايات والوقائع؛ لأنَّا نكتب للمؤمنين وغيرهم..
    نعم؛ نكتب للمؤمنين الصادقين الموقنين بإخبار الله عز وجل في كتابه بحفظه..
    كما نكتب في عالمٍ يموج بتيارات الكفر والإلحاد والملل المخالفة والمعادية للإسلام، ليرى هؤلاء وأولئك ما نكتبه، فيكون كالتذكرة للمؤمنين، والحجة على الكافرين..
    نعم؛ نكتب لتقوم الحجة على الكافرين والمستشرقين وغيرهم من الطاعنين في القرآن الكريم بهذه التُّرَّهات التي ردد هذا المستشرق المدعو بـ ((موراني)) بعضًا منها، طعنًا في الدين، وحسدًا من عند أنفسهم، مع تغليفهم ذلك كله بغلاف العلم والبحث، بغرض تمرير ما يكتبونه، وتغريرًا وتدليسًا على القرَّاء!!

    فهذه هي الأدلة المادية لما جرى وكان في واقعة تدوين القرآن الكريم سماعًا وحفظًا، وخطًّا وكتابةً..
    وقد تضافرت جميعها والحمد لله على كمال القرآن ووصوله لنا كاملاً غير منقوص، وعلى أنه محفوظ عن الزيادة والنقصان والتغيير والتحريف..
    وبعبارة أخرى: فقد تضافرتِ الأدلةُ على أن القرآن الذي بأيدي المسلمين الآن هو نسخة طبق الأصل لما نزل به الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم.

    التعديل الأخير تم 09-22-2005 الساعة 11:24 PM

  5. Arrow

    وإلى هنا نضع القلم ((مع المستشرق موراني حول دعوى تحقيق القرآن واحتمال الزيادة والنقصان واختلاف الترتيب )).

    وفي الختام أتقدم بخالص الشكر والعرفان لإدارة ((منتدى التوحيد)) التي أخذت على عاتقها نشر الموضوع وإتمام نشره، في الوقت الذي رفض غيرها مجرَّد الإعلان عنه عندهم!!
    كما أتقدم بالشكر للقرَّاء الكرام الذين لاحقوني بالنصائح والملاحظات من خلال الرابط الآخر الملحق بهذا الموضوع في ((التعقيب على موضوع تحقيق القرآن)).
    كما وننتهز الفرصة لتهنئة كافة المسلمين الكرام باقتراب حلول شهر رمضان المبارك.
    وفقنا الله جميعًا لما يحبه سبحانه ويرضاه..
    والحمد لله ربِّ العالمين.
    التعديل الأخير تم 09-22-2005 الساعة 11:41 PM

  6. #66

    افتراضي

    بارك الله فيك الاخ سالم
    مجهود متميز وعطاء علمي جد مفيد
    اللهم اهدنا واهـد بنا واجعلنا سببا لمن اهتدى
    ـــــــــــــــ

  7. افتراضي

    وبهذا تم الكتاب الفوضوي ولله الحمد ,

    لقد قرأت في آخر احدى النسخ النفيسة للمدونة لسحنون بن سعيد من منتصف القرن الرابع الهجري :
    ( سمعت الكتاب , وكتبته بيدي , وسوف تبلى يدي ويبقى الكتاب . )

    وهكذا الأمر هنا

  8. Arrow

    أستاذنا الفاضل: حاتم.
    الفضل لله أولاً وآخرًا، وأشكركم لتشجيعكم، وأسأل الله عز وجل أن يجعلني عند حُسْنِ ظنكم، وخيرًا مما تظنون، وأن يجعل القرآن العظيم مدافعًا وشفيعًا لنا يوم لقاء الله عز وجل.
    وتقبل خالص شكري وامتناني لشخصكم النبيل.
    التعديل الأخير تم 09-23-2005 الساعة 08:19 PM

  9. Arrow

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة موراني
    وبهذا تم الكتاب الفوضوي ولله الحمد ,

    لقد قرأت في آخر احدى النسخ النفيسة للمدونة لسحنون بن سعيد من منتصف القرن الرابع الهجري :
    ( سمعت الكتاب , وكتبته بيدي , وسوف تبلى يدي ويبقى الكتاب . )

    وهكذا الأمر هنا
    الذي تم هو الكلام عن دعوى المستشرق موراني حول ((تحقيق القرآن...)) إلخ.
    وأما صفحتي مع المستشرق المذكور فلم تتم بعدُ، ففي الصفحة بقيةٌ ستأتي لاحقًا إن شاء الله عز وجل، في روابط أخرى في هذا المنتدى المبارك إن شاء الله عز وجل.

    لكن لابد هنا من التنبيه على أمرين مهمين: الأول: أن المستشرق المذكور قد تابع الموضوع من بدايتِه حتى نهايته كما يرى القراء.
    والثاني: وهو مترتبٌ على الأول؛ أنه يلزمه بعد هذه المتابعة الحثيثة للموضوع أن يرجع إلى الحق ويتنصل من الخطإِ، أو يُفَنِّد ما سبق حرفًا حرفًا، ولا ثالث لهما إلا الهروب كما فعل أول الأمر.
    وهنا ستدرك الدنيا بأسرها مدى شجاعة كُتَّاب الغرب الأدبية في اعترافهم بأخطائهم حين تلوح لهم أنوار الصواب، كما ستعلم الدنيا مدى خسارة العلم والبحث العلمي في الغرب حين يكون لدى من لا يملك الشجاعة للاعتراف بأخطائه، ولا للدفاع عن آرائه.
    وبهذه الخسارة ستعلم الدنيا مدى ما جناه الغرب على العلم والبحث العلمي من جهة، ومدى هشاشة ما يُسَمَّى بالحضارة الغربية من جهةٍ أخرى.
    ولدينا العلاج لو أفاق المريض وأراد العلاج!!

  10. جزاكم الله خيرًا وبارك فيكم فضيلة المستشار على هذا الجهد العظيم والدفاع عن القرآن الكريم.
    وليتكم تتكرمون بنشر الموضوع على هيئة كتاب مطبوع ليعم النفع إن شاء الله عز وجل.

  11. افتراضي

    ما شاء الله تبارك الله.

    جزاكم الله خيرًا كثيرًا وبارك فيكم.
    الفرصة لا تأْتي إلا مرةً واحدة.. فاغْتَنِم فرصتك.. وابحثْ عن الحقيقة!

  12. افتراضي

    للرفع .. رفع الله قدركم
    الفرصة لا تأْتي إلا مرةً واحدة.. فاغْتَنِم فرصتك.. وابحثْ عن الحقيقة!

  13. #73
    تاريخ التسجيل
    Sep 2004
    المشاركات
    2,203
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    للرفــــــــــــــــــــــــــــع
    الدنيا ساعة اختبار *** فإما جنة وإما نار تحقق من حديث
    http://www.dorar.net/hadith.php

  14. #74
    تاريخ التسجيل
    Sep 2004
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    1,886
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

  15. افتراضي

    السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
    الشيخ الفاضل سالم عبد الهادي وفقه الله
    أؤيد الإخوة الأفاضل في طلبهم إخراج هذا الموضوع في صورة كتاب كي يعم النفع به فإنه قد حوى فوائدا و دررا نفيسة لا تجدها في غيره كما أنك قد قررت فيها قواعد و ضوابط تعد أصلا في الدفاع عن القرآن الكريم بمنهج علمي دقيق و سبك محكم لأقسام الموضوع مما يجعل وضوعك هذا أصلا في في الرد على شبهات المستشرقين و أذنابهم كالرافضة و غيرهم !
    و جزاكم الله الفردوس جزاء ذبكم عن كتاب الله العظيم

صفحة 5 من 6 الأولىالأولى ... 3456 الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. القرأن الكريم واحتمال تعدد الأرباب.
    بواسطة عُبَيّدُ الّلهِ في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 01-13-2014, 02:58 PM
  2. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 10-09-2005, 08:04 PM
  3. مع المستشرق موراني حول دعوى ((تحقيق القرآن)) واحتمال الزيادة والنقص واختلاف الترتيب
    بواسطة المستشار سالم عبد الهادي في المنتدى المستشار سالم عبد الهادى
    مشاركات: 55
    آخر مشاركة: 09-22-2005, 11:26 PM
  4. أنت تسأل و د.موراني يجيب (لقاء مع د.موراني)
    بواسطة شاهد عيان في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 70
    آخر مشاركة: 09-12-2005, 05:29 PM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء