مصحفٌ واحدٌ
وترتيبٌ واحدٌ
لا غير
نعم؛ لا يوجد لدى المسلمين أكثر من مصحفٍ، بل هو مصحفٌ واحدٌ له ملايين النُّسَخ والصور المأخوذة عن النسخة الأصلية..
وجميع الصور هي هي بعينها النسخة الأصل، فهي صور طبق الأصل لنسخةٍ واحدةٍ ومصحفٍ واحدٍ فقط لا أكثر..
دعنا نعود للوراء حيث موراني وأسلافه المستشرقين لنرسم صورتهم التي يريدونها:
يرى موراني تبعًا لنولدكه أنَّ النسخة المنشورة من المصحف بأيدي المسلمين الآن ليست نسخةً محققةً، وأنها بحاجةٍ إلى تحقيقٍ!!
كيف؟
عن طريق الدراسة المقارنة لنسخ المصحف الخطية المتداولة في العالم الإسلامي، ومنها هذه المجموعة النادرة التي عُثِر عليها في صنعاء مثلاً، أو تلك التي عُثِر عليها في الأزهرية أو في دار الكتب أو غير ذلك من نسخ المصحف الخطية حول العالم..
لكن انتبهوا يا قراء فالأمر لم ينته بعدُ!!
فالقصة القصيرة عند موراني ونظرائه تقول: لابد من الدراسة المقارنة للنسخ الخطية للمصحف..
هكذا تبدو قصتهم القصيرة بريئة وعفيفة المظهر!!
لكن ثمة عبارات تُظْهِر ما في البطون..
حينما نسمع بالدراسة المقارنة يقفز إلى أذهاننا احتمالية وجود خلاف، فيؤكد موراني هذا فيحتمل أنه ربما وجدنا كلمة نقصٍ هنا أو كلمة زيادة هناك أو اختلاف في الآيات على حدِّ زعمه السابق في عبارته المذكورة في صدْر موضوعنا.
في النُّسَخ الخطية للمصحف ما عُزِيَ إلى عثمان، وبعضه قيل: إنه بخطِّ عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه نفسه..
انظروا يا قراء: نُسَخ بخط عليٍّ أو غيره؟
إذن سنجد في أثناء الدراسة المقارنة خلافًا بين نسخة عليٍّ رضي الله عنه من حيثُ الترتيب وبين الترتيب المشهور المتداول للمصحف..
انتظروا..
هذا ليس كل شيءٍ..
فحتَّى إن لم نجد نسخةَ عليٍّ أو ابن مسعود مثلاً، بما تحمله هذه النُّسخ من خلافٍ في الترتيب عن الترتيب المتداول المشهور الذي صار معروفًا بالمصحف العثماني..
فحتى إن لم نجد هذه النسخ؛ فسنجد ما يقوم مقامها في كتب العلماء وكلامهم؛ أمثال حكاية ابن الأنباري رحمة الله عليه لخلاف مصحف عليٍّ وابن مسعود مثلاً مع المصحف العثماني!!
وهنا تنتهي القصة القصيرة يا قراء..
أراد مؤلفها أن يقول لكم: إنه مهما حاولتُم فسنجد نسخًا واختلافاتٍ وزيادة ونقص في نسخ المصحف عن الترتيب المعهود المتداول المشهور، وهنا عليكم الاختيار أيها الناس، ويلزمكم البحث والترجيح..
وهكذا سيخرج بنا موراني من دائرة الثابت المستقر إلى دائرة الشك والتجريب..
هكذا خططوا وأرادوا..
لكن هل يتم لهم هذا؟
هل صحَّ ما ذكروه؟
لم يعد القراء الكرام بحاجة إلى جوابٍ عن هذا السؤال بعد كل ما سبق؛ لكن لا علينا أن نعيد التذكرة ببعض الأمور باختصارٍ وتركيزٍ:
الأول: أن الأصل في نقل القرآن على السماع والحفظ لا على الكتابة والمصاحف، فالأصل السماع، وما خالف السماع الوارد الآن فلا عبرة به مهما كان..
وقد سبق بيان هذا الأصل بحمد الله تعالى..
الثاني: أنَّ عثمان رضي الله عنه قد أراحنا من هذا كله، فأحرقَ تلك النُّسخ التي كتبها ابن مسعود وغيره من الصحابة لأنفسهم رضي الله عنهم، حتى لا يختلف الناس في القرآن..
فمَنْ زعم الآن أن بإمكانه العثور على نسخة ابن مسعودٍ أو عليٍّ أو أُبَيٍّ نفسها فقد خالف التاريخ المتواتر المقطوع به..
نعم؛ لا نُنْكر أن نجد بعض نسخ مكتوبة أو منسوخةً من هذه النُّسخ السابقة قبل حرقها، لكن يبقى هذا الاحتمال مجرد احتمال ذهني ممكن الوقوع من حيثُ الذهن فقط، وليس ممكنًا من حيثُ الشَّرْع أبدًا؛ بل مستحيلٌ في نظري..
ومع هذا فلو حصل ـ وهذا بعيدٌ كما سبق ـ ووُجِدَتْ بعض نسخةٍ مكتوبةٍ ومنسوخةٍ من هذه النُّسَخ قبل حرقها، فكأنَّ شيئًا لم يكن!!
نعم؛ لأنها لا عبرة بها لا في الترتيب ولا في غيره من المباحث الخاصة بالقرآن؛ لخلوِّها من شروط نقل القرآن الكريم، المتمثلة في السماع والتواتُّر؛ إلخ..
فشمِّر عن ساعديك يا موراني للبحث عن مثل هذه القطع، واستعن بأهل الأرض جميعًا ممن يوافقك المذهب، لنقول لك في نهاية مطافك وتعبك: ما جئتُم به لا يوافق شروطنا الصارمة لنقل قرآننا الكريم فأعيدوا الكَرَّة في اتجاهٍ آخر.. ولا يلزمنا ما ليس بحجةٍ عندنا، كما وأنه مِن العبثِ والجهل أن يُحْتَجَّ علينا بما ننكره!!
وهنا نقرأ قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ .. فَسَيُنفِقُونَهَا .. ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً .. ثُمَّ يُغْلَبُونَ .. وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [36] لِيَمِيزَ اللَّهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ [37] قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:36 - 38].
أما أنتم يا قراء فقد صار مِن حقِّكم علينا أن نكشف لكم عن سِرِّ اختلاف نسخة عليٍّ أو ابن مسعود أو غيرهما ممن كتبَ نسخةً لنفسه، تخالف المشهور المتداول المتواتر بأيدي المسلمين الآن..
دعنا نُذَكِّر القراء الكرام بما سبقت الإشارة إليه من كون الترتيب القرآني لا مجال فيه لاجتهادِ بشرٍ، وإنما هو توقيفيٌّ بحت، يعني أنه تم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، تبعًا للوحي..
وهذا سرٌّ آخر من أسرار المعجزة القرآنية ستأتي الإشارة إليه إن شاء الله تعالى..
لكن تتعيَّن الإشارة هنا إلى تلقِّي الصحابة الكرام رضي الله عنهم لهذا الترتيب التوقيفي، ثم رضاهم وعملهم به..
وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه قد نسخ المصاحف ووزعها في المسلمين، بمشورةٍ منهم، فكان ذلك إجماعًا منهم وممن بعدهم من المسلمين على الترتيب المتداول المتواتر بأيدي المسلمين الآن..
وقد رفض عثمان رضي الله عنه كما سبق النَّقْل عنه أن يتصرَّف في شيءٍ، وعلى حدِّ قوله: ((لا أُغَيِّر شيئًا من مكانه)) كما سبق قريبًا.
وقد دلَّ إقرار الصحابة رضي الله عنهم جميعًا بهذا الترتيب النبوي للقرآن الكريم على أن اختلاف النُّسَخِ التي كتبها بعضُ الصحابة لأنفسهم والتي عُرِفَتْ باسم المصاحف لم يكن مقصودًا، سواءٌ لأُبَيٍّ أو ابنِ مسعود، أو غيرهما.
نعم؛ لم يكن خلافهم مع ما عُرِفَ بعدُ باسمِ مصحفِ عثمان مقصودًا، وإنما جاء اختلاف نُسَخِهِم تبعًا لطبيعة الوحي في نزول القرآن مُفَرَّقًا، فكانت الآية تنزل حسب الواقعة أو الحادثة فيكتبها ابن مسعود أو أُبيٌّ وغيرهما في صحُفٍ خاصةٍ بهم، فإذا نزلتْ أخرى ألحقوها بما قبلها، وهكذا..
ولم تكن أدوات الكتابة في حالةٍ تسمح آنذاك بتغيير الترتيب مِنْ آنٍ لآخر، ولا هي بمثل ما هي عليه الآن من يُسْرٍ وسهولةٍ، ولذا اكتفى أمثال ابن مسعود وأُبي مثلاً بحفظ الترتيب الذي يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم تبعًا للوحي، وتركوا ما كتبوه في ألواحهم الخاصة بهم كما هو، على ترتيب النزول، فلما رحل هذا الجيل المبارك، وجاءتْ أجيالٌ أخرى، ورأوا هذا الاختلاف ظنُّوه مقصودًا، ولذا تناقلوا عبارة ((مصحف عليٍّ)) أو ((مصحف ابن مسعود)) أو ((مصحف أُبَيٍّ)).
وعليٌّ وابنُ مسعود وأُبَيٌّ رضي الله عنهم من هذا القصد براء..
كيف وقد نُسِخَتِ الصُّحُف أكثر من مرة في حياة هؤلاء بالترتيب المشهور في المصحف المتداول بيد المسلمين، ولم يُنْكر عليٌّ ولا ابن مسعود ولا غيرهما هذا الترتيب، ولا اعترضوا عليه؟!
ولو كان ترتيبهم المخالف لما في أيدي المسلمين الآن مقصودًا لاعترضوا على الترتيب الحالي، ولأظهروا رأيهم المخالف، خاصة وهم مَن هم مِن الأمانة والثقة والشجاعة في قول الحق، ولا يمنعهم من البلاغ آنذاك رهبة حاكم ظالمٍ ولا زيف دنيا هزيلة؛ لأنه لم يكن ثمة ظلم ولا رغبة في دنيا، فما كانوا يعرفون سوى الآخرة، وما عملوا إلا لها، فرضي الله عنهم.
فدلَّ سكوتهم وإقرارهم بالترتيب الذي بأيدي المسلمين على أنه المعتمد لديهم أيضًا، وأنهم لا يخالفونه أبدًا، وإنما اختلفتْ طريقة الكتابة في ألواحهم فقط؛ لأنهم كتبوها بناءً على ترتيب النزول، آيةً وراء آية، واستغنوا بحفظ الترتيب التوقيفي الذي قَرَّرَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم واشتهر بين الناس؛ فاستغنى عليٌّ وابن مسعود وأُبَيٌّ ونحوهم بحفظ هذا الترتيب التوقيفي وشُهْرَتِه عن إعادة نَسْخِ وكتابة ما كتبوه..
فلا ذنب لهم إِنْ جاء بعدهم مَنْ لم يفهم مقصدهم، ولا عُنِيَ بدراسة حالتهم الاجتماعية وعُرْفهم السائد آنذاك ليقف على طبيعة الأمور كما هي في الحقيقة، لا كما يتصوَّرها هو!!
وربما رجع الاختلاف عندهم في أول الأمر إلى حدود عِلْمِهم وما بلغهم، ثم ثابوا بعد ذلك إلى الترتيب التوقيفي الذي اشتهر أمره في الناس، ولم يعترضوا عليه.
وقد بعث عثمان بمصحفه إلى الآفاق، وعَلِمَ به الكافة مِن الناس، ولم يعترض عليه أحدٌ منهم، ولا ممَّن بعدهم، فدلَّ ذلك كله على رضاهم جميعًا بالترتيب المشهور في الناس الآن، وهو الترتيب التوقيفي الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رجع إليه أصحاب نُسَخ المصاحف الأخرى؛ كعليٍّ وغيره.
وقد وردَ عن عليِّ بن أبي طالبٍ وغيره من أصحاب المصاحف المذكورة ما يدل على رضاهم ومباركتهم لمصحف عثمان بترتيبه المشهور، بل وَرَدَ صريحًا أَنَّ عثمان رضي الله عنه لم ينسخ المصحف بترتيبه المتداول بين المسلمين إلا بمشورةٍ مِن عليٍّ وغيره مِن الصحابة الكرام، وأنه فَعَلَ ذلك برأيهم، ولم ينفرد بالرأي دونهم.
وقد ذكر ابن أبي داود في كتابه ((المصاحف))، وغيره مِن العلماء عدة نصوصٍ في هذا الصدد، أقتصر منها فقط على الخبر المشهور عن عليٍّ رضي الله عنه، والذي لا يكاد يتركه أحدٌ مِمَّن تعرَّض لهذه المسألة، ومنهم السيوطي في ((الإتقان)) (772) حيث يقول: ((وأخرجَ ابنُ أبي داود بسندٍ صحيحٍ عن سُوَيْدِ بن غَفَلَة قال: قال عليٌّ: لا تقولوا في عثمان إلا خيرًا فوالله ما فَعَلَ الذي فَعَلَ في المصاحفِ إِلاَّ عن مَلإٍ مِنَّا؛ قال ـ [يعني: عثمان]ـ: ما تقولون في هذه القراءة فقد بلغني أَنَّ بعضَهم يقول: إنَّ قراءتي خيرٌ مِن قراءتك، وهذا يكاد يكون كفرًا؟ قلنا: فما ترى؟ قال: أرى أَنْ يُجْمَعَ الناس على مصحفٍ واحد فلا تكون فرقة ولا اختلاف، قلنا: نِعْمَ ما رأيتَ)).
ووردَ عن عليٍّ أيضًا أنه قال: ((لو وُليت لعملتُ بالمصاحف عمل عثمان بها)) [انظر: الإتقان أيضًا 775].
فهذا ظاهرٌ بلفظه ومعناه على الرضى بعمل عثمان رضي الله عنه، والذي اشتهر بعدُ باسم المصحف العثماني، وهو المتداول بأيدي المسلمين الآن..
ولذا قال الإمام الْمُفَسِّر الآلوسيُّ رحمه الله في ((تفسيره)) أثناء الكلام عن نسخ عثمان رضي الله عنه للمصاحف:
((وقد ارتضى ذلك أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى أن المرتضى كرم الله تعالى وجهه قال على ما أخرج ابن أبي داود بسندٍ صحيح عن سويد بن غفلة عنه: لا تقولوا في عثمان إلا خيرًا فوالله ما فعل في المصاحف إلا عن ملإٍ مِنَّا، وفي روايةٍ: لو وُليت لعملتُ بالمصحف الذي عمله عثمان.
وما نُقِلَ عن ابنِ مسعود أنه قال لما أُحرق مصحفه: لو ملكت كما ملكوا لصنعتُ بمصحفهم كما صنعوا بمصحفي؛ كذبٌ؛ كسوء معاملة عثمان معه التي يزعمها الشيعة حين أخذ المصحف منه.
وهذا الذي ذكرناه مِن فِعْلِ عثمان هو ما ذكرهُ غير واحدٍ مِن المحققين حتى صرحوا بأَنَّ عثمان لم يصنع شيئًا فيما جَمَعَهُ أبو بكرٍ مِنْ زيادةٍ أو نقصٍ أو تغييرِ ترتيبٍ سوى أنه جَمَعَ الناسَ على القراءةِ بلغةِ قريشٍ محتجًّا بأَنَّ القرآنَ نزلَ بلغتِهِم))أهـ
فدلَّ هذا على الرضى بترتيب المصحف المتداول بين المسلمين، على أنَّ اختلاف الترتيب في مصاحفهم أو نُسَخِهم التي نسخوها من المصحف إنما وردَ مِنْ جهة الكتابة عند نزول الوحي مباشرة، وإلحاق ما يُستجد من الوحي بما سبق كتابته، على حسب أزمنة النزول، مع حِفْظ الترتيب الخاص بالقرآن في الصدور..
وإنما مَنَعَهم مِن تغيير نُسَخِهم ونمط ترتيبها تعسُّر هذا الأمر ومشقّته عليهم، خاصةً مع عدم توفُّر مواد الكتابة، وصعوبة القيام بهذا العمل، وقد سبق أنهم كانوا يكتبون في الأكتاف واللخاف وغيرهما من الأدوات، وهي إما أوراق النخيل، أو قطع العظم أو الأحجار الرقيقة، أو غيرها.
ومثل هذه الأدوات المذكورة وغيرها يصعب جدًا تغييرها كل حينٍ بناءً على الترتيب الأخير للمصحف، الذي تلقَّاه النبي صلى الله عليه وسلم عن الوحي، فاستغنى هؤلاء بحفظ هذا الترتيب الأخير، وتركوا ما كتبوه كما هو دون تغيير..
خاصةً وأنَّ الاعتماد في نقل القرآن على السماع والحفظ لا على الكتابة والمصاحف..
نعم؛ لكنهم أعلنوا رضاهم بما صنَعَ عثمان رضي الله عنه، وبمصحفه الذي نُسِبَ إليه، وهو المصحف المتداول بأيدي المسلمين الآن، بترتيبه الحالي..
فكان هذا الإعلان والرضى منهم كافيًا في بيان الحال، وقاطعًا لكل الشُّبَه.
ومع هذا فقد أَبَى قومٌ إلا الأخذ بالشُّبُهات والتعلُّق بها في مقابلة الحق الواضح!!
كما دلَّ رضاهم بهذا الترتيب المتداول المشهور على أنهم علموا أمر النبي صلى الله عليه وسلم وإشارته به، فلم يعارضوه..
ولو كان أمرًا اجتهاديًّا تجوز مخالفته لتمسكوا أو بعضهم بما في نُسَخِهم من ترتيبٍ على أوقات النزول أو غير ذلك، لكن لم يكن شيء من ذلك بحمد الله عز وجل.
فدلَّ هذا كله على ما سبق تقريره أن سبب اختلاف نسخهم المكتوبة يرجع إلى طريقة الكتابة أولاً بأولٍ عند نزول الآيات في الأحداث والوقائع المختلفة، وإلحاق الآية بعد الأخرى حسب العِلْم بما نزل، والاطلاع على آخر ما استجدَّ مِنْ الوحي الإلهي.
هذا في الوقت الذي كانوا يحفظون فيه الترتيب الأخير لآيات القرآن وسوره حسبما رتَّبَه النبي صلى الله عليه وسلم تبعًا لما قرأَهُ على جبريل عليه السلام قبل وفاته صلى الله عليه وسلم.
فلم يَرَ عليٌّ وابن مسعود وأُبَيُّ بن كعبٍ مثلاً إعادة نسخ ما كتبوه ليوافق الترتيب التوقيفي المشهور، لصعوبة ذلك بالنسبة لهم ولحالتهم الاجتماعية وأداوات الكتابة آنذاك، ثم اعتمادًا منهم على حفظِ الترتيب التوقيفي والعِلْم به، وشُهْرته في الناس.
وما وردَ عنهم بخلاف ذلك فلا يصح إسنادًا أو دلالةً، وقد مضى بعض قول عليٍّ الصريح في الرضى بما صنعَ عثمان، وفيه الترتيب المشهور المتداول، والحمد لله ربِّ العالمين.
Bookmarks