قوله " إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ " الطور 28

قال الشنقيطي " وهنا يقال: إن الله سبحانه لم يجمع على عبده خوفان ولم يعطه الأمنان معا، فمن خافه في الدنيا أمنه في الآخرة "ولمن خاف مقام ربه جنتان" .
"وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى".

ومن أمن مكر الله وقضى كل شهواته وكان لا يبالي فيؤتى كتابه بشماله ويصلى سعيرا كما في قوله تعالى"وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم إنهم كانوا قبل ذلك مترفين وكانوا يصرون على الحنث العظيم وكانوا يقولون أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون" تكذيبا للبعث."




"إِنَّا كُنَّــا مِنْ قَبْــلُ نَدْعُــوهُ "


قال السعدي " " أن يقينا عذاب السموم، ويوصلنا إلى النعيم، وهذا شامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة أي: لم نزل نتقرب إليه بأنواع القربات وندعوه في سائر الأوقات، " إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ " فمن بره بنا ورحمته إيانا، أنالنا رضاه والجنة، ووقانا سخطه والنار"


قال ايضا " "وجملة إنا كنا من قبل ندعوه " تعليل لمنة الله عليهم وثناء على الله بأنه استجاب لهم ، أي كنا من قبل اليوم ندعوه ، أي في الدنيا .
وحذف متعلق " ندعوه " للتعميم ، أي كنا نبتهل إليه في أمورنا ، وسبب العموم داخل ابتداء ، وهو الدعاء لأنفسهم ولذرياتهم بالنجاة من النار وبنوال نعيم الجنة .

ولما كان هذا الكلام في دار الحقيقة لا يصدر إلا عن إلهام ومعرفة كان دليلاً على أن دعاء الصالحين لأبنائهم وذرياتهم مرجو الإِجابة ، كما دل على إجابة دعاء الصالحين من الأبناء لآبائهم على ذلك ، قال النبي صلى الله عليه وسلم " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث " فذكر " وولد صالح يدعو له " . وقوله " إنه هو البر الرحيم " قرأه نافع والكسائي وأبو جعفر بفتح همزة ( أنه ) على تقدير حرف الجر محذوفاً حذفاً مطّرداً مع ( أَنَّ ) وهو هنا اللام تعليلاً ل " ندعوه " ، وقرأه الجمهور بكسر همزة ( إن ) وموقع جملتها التعليل .
والبَر : المُحسن في رفق , والرحيم : الشديد الرحمة وتقدم في تفسير سورة الفاتحة .

وضمير الفصل لإِفادة الحصر وهو لقصر صفتي " البر " و " الرحيم " على الله تعالى وهو قصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد ببرور غيره ورحمة غيره بالنسبة إلى برور الله ورحمته باعتبار القوة فإن غير الله لا يبلغ بالمبرة والرحمة مبلغ ما لله وباعتبار عموم المتعلق ، وباعتبار الدوام لأن الله بر في الدنيا والآخرة ، وغير الله برّ في بعض أوقات الدنيا ولا يملك في الآخرة شيئاً ."



"البّـــر"


قال ابن عاشور " " الأبرار" هم الشاكرون ، عُبر عنهم بالأبرار زيادة في الثناء عليهم .

و " الأَبرار " جمع بَر بفتح الباء ، وجمعُ بَار أيضاً مثل شاهد وأشهاد ، والبار أو البَرّ المكثر من البِرّ بكسر الباء وهو فعل الخير ، ولذلك كان البَرّ من أوصاف الله تعالى قال تعالى " إنا كنا من قبل ندعوه أنه هو البَر الرحيم " الطور 28

ووصف بَرَ أقوى من بارّ في الاتصاف بالبرِ ، ولذلك يقال : الله بَر ، ولم يُقل : الله بَار .
ويجمع برّ على بَرَرة . ووقع في «مفردات الراغب» : أن بررة أبلغ من أبرار


قال الحليمي : ومعناه الرفيق بعباده يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر ، ويعفو عن كثير من سيئاتهم ، ولا يؤاخذهم بجميع جناياتهم ، ويجزيهم بالحسنة عشر أمثالها ، ولا يجزيهم بالسيئة إلا مثلها ، ويكتب لهم الهم بالحسنة ، ولا يكتب عليهم الهم بالسيئة ، والولد البر بأبيه هو الرفيق به المتحري لمحابه المتوقي لمكارهه.

قال أبو سليمان : البر هو العطوف على عباده المحسن إليهم ، عم بره جميع خلقه ، فلم يبخل عليهم برزقه ، وهو البر بأوليائه إذ خصهم بولايته واصطفاهم لعبادته ، وهو البر بالمحسن في مضاعفة الثواب له ، والبر بالمسيء في الصفح والتجاوز عنه

وقال الحليمي" وقد قيل : إن البر في صفات الله تعالى هو الصادق من بر في يمينه وأبرها إذا صدق فيها ، أو صدقها.




"الرحيـــم"

قال ابن الفيم " الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم فكان الأول للوصف والثاني للفعل فالأول دال أن الرحمة صفته والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته"

" وكرر إيذاناً بثبوت الوصف ، وحصول أثره ، وتعلقه بمتعلقاته فالرحمن الذي الرحمة وصفه ، والرحيم : الراحم لعباده ولهذا يقول تعالى " وكان بالمؤمنين رحيماً " ولم يجئ رحمان بعباده ولا رحمان بالمؤمنين مع ما في اسم " الرحمن " الذي هو على وزن فعلان من سعة هذا الوصف وثبوت جميع معناه الموصوف به ... فبناء فعلان للسعة والشمول .

ولهذا يقرن استواءه على العرش بهذا الاسم كثيراً كقوله تعالى " الرحمن على العرش على استوى " لأن العرش محيط بالمخلوقات قد وسعها والرحمة محيطة بالخلق واسعة لهم قال تعالى " ورحمتي وسعت كل شيء "وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده موضوع على العرش "إن رحمتي تغلب غضبي " وفي لفظ " فهو عنده على العرش "

فتأمل اختصاص هذا الكتاب بذكر الرحمة ، ووضعه عنده على العرش وطابق بين ذلك وبين قوله تعالى " الرحمن على العرش استوى " وقوله " ثم استوى على العرش الرحمن فسئل به خبيراً " ينفتح لك باب عظيم من معرفة الرب تبارك وتعالى إن لم يغلقه عنك التعطيل والتجهيم "


الدعاء آداب وفوائد

قال شيخ الاسلام " فهذا دعاء العبادة المتضمن للسلوك رغبة ورهبة، والمعنى : إنا كنا نخلص له العبادة؛ وبهذا استحقوا أن وقاهم الله عذاب السموم، لا بمجرد السؤال المشترك بين الناجى وغيره؛ فإنه ـ سبحانه ـ يسأله من في السموات والأرض " لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا " الكهف 14 أي : لن نعبد غيره . وكذا قوله "أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ " الصافات 125

وأما قوله : " وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ " القصص 64 ، فهذا دعاء المسألة، يكبتهم الله ويخزيهم يوم القيامة بآرائهم، إن شركاءهم لا يستجيبون لهم دعوتهم، وليس المراد اعبدوهم . وهو نظير قوله تعالى " وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ " الكهف 52 .

إذا عرف هذا، فقوله تعالى : " ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً " الأعراف : 55 "، يتناول نوعي الدعاء؛ لكنه ظاهر في دعاء المسألة، متضمن دعاء العبادة؛ ولهذا أمر بإخفائه وإسراره . قال الحسن : بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضِعفًا، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت، أي : ما كانت إلا همسًا بينهم وبين ربهم ـ عز وجل ـ وذلك أن الله عز وجل يقول " ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً " ، وأنه ذكر عبدًا صالحًا ورضى بفعله، فقال : " إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا " مريم 3 . وفي إخفاء الدعاء فوائد عديدة :

أحدها : أنه أعظم إيمانًا؛ لأن صاحبه يعلم أن الله يسمع الدعاء الخفي .

وثانيها : أنه أعظم في الأدب والتعظيم؛ لأن الملوك لا ترفع الأصوات عندهم، ومن رفع صوته لديهم مَقَتُوه، ولله المثل الأعلى، فإذا كان يسمع الدعاء الخفي؛ فلا يليق بالأدب بين يديه إلا خفض الصوت به .

وثالثها : أنه أبلغ في التضرع والخشوع، الذى هو روح الدعاء ولبه ومقصوده، فإن الخاشع الذليل إنما يسأل مسألة مسكين ذليل، قد انكسر قلبه، وذلت جوارحه، وخشع صوته، حتى إنه ليكاد تبلغ ذلته وسكينته وضراعته إلى أن ينكسر لسانه، فلا يطاوعه بالنطق . وقلبه يسأل طالبًا مبتهلاً، ولسانه لشدة ذلته ساكتًا، وهذه الحال لا تأتى مع رفع الصوت بالدعاء أصلا .

ورابعها : أنه أبلغ في الإخلاص .

وخامسها : أنه أبلغ في جمعية القلب على الذلة في الدعاء، فإن رفع الصوت يفرقه، فكلما خفض صوته، كان أبلغ في تجريد همته وقصده للمدعو ـ سبحانه .

وسادسها : وهو من النكت البديعة جدًا : أنه دال على قرب صاحبه للقريب، لا مسألة نداء البعيد للبعيد؛ ولهذا أثنى الله على عبده زكريا بقوله عز وجل " إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا " . فلما استحضر القلب قرب الله ـ عز وجل . وأنه أقرب إليه من كل قريب أخفى دعاءه ما أمكنه .

وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى المعنى بعينه بقوله في الحديث الصحيح ـ لما رفع الصحابة أصواتهم بالتكبير وهم معه في السفر فقال : ( ارْبَعُوا على أنفسكم، فإنكم لا تَدْعُون أصمَّ ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا قريبًا، [ إن الذى تدعونه ] أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ) . وقد قال تعالى " وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ " البقرة 186 ، وهذا القرب من الداعى هو قرب خاص، ليس قربًا عامًا من كل أحد، فهو قريب من داعيه وقريب من عابديه، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد .

وقوله تعالى " ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً " فيه الإرشاد والإعلام بهذا القرب .

وسابعها : أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال، فإن اللسان لا يمل، والجوارح لا تتعب، بخلاف ما إذا رفع صوته، فإنه قد يمل اللسان وتضعف قواه . وهذا نظير من يقرأ ويكرر، فإذا رفع صوته فإنه لا يطول له، بخلاف من خفض صوته .

وثامنها : أن إخفاء الدعاء أبعد له من القواطع والمشوشات، فإن الداعي إذا أخفى دعاءه لم يدر به أحد، فلا يحصل على هذا تشويش ولا غيره، وإذا جهر به فرطت له الأرواح البشرية ولابد، ومانعته وعارضته، ولو لم يكن إلا أن تعلقها به يفزع عليه همته، فيضعف أثر الدعاء، ومن له تجربة يعرف هذا، فإذا أسر الدعاء أمن هذه المفسدة .


وتاسعها : أن أعظم النعمة الإقبال والتعبد، ولكل نعمة حاسد على قدرها ـ دَقَّت أو جَلَّت ـ ولا نعمة أعظم من هذه النعمة، فإن أنفس الحاسدين متعلقة بها، وليس للمحسود أسلم من إخفاء نعمته عن الحاسد . وقد قال يعقوب ليوسف ـ عليهما السلام " لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا " الآية يوسف 5 .

وكم من صاحب قلب وجمعية وحال مع الله تعالى قد تَحَدَّث بها،وأخبر بها فسلبه إياها الأغيار ولهذا يوصي العارفون والشيوخ بحفظ السر مع الله تعالى ولا يطلع عليه أحد،والقوم أعظم شيئًا كتمانًا لأحوالهم مع الله عز وجل وما وهب الله من محبته والأُنْس به وجمعية القلب، ولاسيما فعله للمهتدي السالك فإذا تمكن أحدهم وقوي، وثَبَّتَ أصول تلك الشجرة الطيبة التى أصلها ثابت وفرعها في السماء في قلبه بحيث لا يُخْشَى عليه من العواصف، فإنه إذا أبدى حاله مع الله تعالى ليقتدى به ويؤتم به لم يبال وهذا باب عظيم النفع إنما يعرفه أهله .

وإذا كان الدعاء المأمور بإخفائه يتضمن دعاء الطلب والثناء،والمحبة والإقبال على الله تعالى فهو من عظيم الكنوز التى هى أحق بالإخفاء عن أعين الحاسدين، وهذه فائدة شريفة نافعة .

وعاشرها : أن الدعاء هو ذِكْرٌ للمدعو سبحانه وتعالى متضمن للطلب والثناء عليه بأوصافه وأسمائه فهو ذكر وزيادة، كما أن الذكر سمى دعاء لتضمنه للطلب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أَفْضَلُ الدُّعاء الحمدُ لله ) فسمى الحمد لله دعاء، وهو ثناء محض؛ لأن الحمد متضمن الحب والثناء، والحب أعلى أنواع الطلب، فالحامد طالب للمحبوب، فهو أحق أن يسمى داعيًا من السائل الطالب، فنفس الحمد والثناء متضمن لأعظم الطلب، فهو دعاء حقيقة، بل أحق أن يسمى دعاء من غيره من أنواع الطلب الذى هو دونه ...."