صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12
النتائج 16 إلى 24 من 24

الموضوع: ملخص كتاب - تعريف عام بدين الإسلام لعلي الطنطاوي

  1. افتراضي

    الإِيمَان بالقَدَرِ
    معنى القدر والقضاء :
    الذي يُفهم من الآيات التي ذكرت القدر كقوله تعالى :
    { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } .
    وقوله عن الأرض :
    { وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا } .
    وقوله عن القمر :
    { وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ } .
    الذي يفهم منها أنّ القدر ، هو السنن التي سنها الله لهذا الكون ، والنظام (1) الذي سلكه به ، والقوانين الطبيعية التي سيّره عليها ، وأنّ كل ما فيه قد خُلق بمقادير معينة ، ونسب محددة ، فما من موجود إلا وقدر قبل إيجاده مقداره وعدد ذراته ، وكمية العناصر التي يتألف منها ونوعها .. إلخ
    وأنا أوضح الفرق بين القدر والقضاء بمثال { وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى } : العمارات التي تقام تعلق عليها لوحة فيها : إن التصميم للمهندس الفلاني ، والتنفيذ للمقاول الفلاني ، فالمهندس يرسم الخريطة ويعين علو البناء وسمك الجدران ، وما يوضع فيها من الحديد و ( الإِسمنت ) والحجر ، ونسبة كل منها ، وما يكون فيها من أبواب ونوافذ ، يقدر ذلك ويحدده ، هذا مثال القدر . والمقاول ينفذ ما قدره المهندس ، وهذا مثال القضاء .
    وكلاهما لله وحده . وكما يمكن للمهندس أن يبدّل ( إذا أراد ) في بعض تفصيلات التصميم ، فالله من رحمته جعل الدعاء والصدقة سبباً في رفع بعض ما كان مقدَّراً ، قدّرها وحده ، ورفعها بالدعاء وحده (2) .
    __________
    (1) النظام هو الخيط الذي تنظم به حبات العقد والسبحة والسلك الذي تسلك به .
    (2) ولو كان كل ما يفعل العبد مجبراً عليه من الأزل ، لا يبدَّل ولا يعدَّل ، وليس له اختيار فيه ، لم يبق من فائدة لبعثة الأنبياء ، وجهاد الكفار ، ولا للدعاء . وقد دعا الأنبياء والخلفاء الراشدون وصلحاء كل أمة ، طالبين دفع البشر ، وجلب الخير .
    ________________

    الثواب والعقاب :
    هذا معنى القدر بوجه عام ، وهو يشمل كل موجود أوجده الله ، قدر الله مقاديره وأحواله ، وعلم ما سيكون له وما يكون منه ، ومن جملة مخلوقات الله الإنسان . وهنا تعترض مشكلة طالما خاض فيها الخائضون ، وطالما كثر فيها الجدال ، هي أمر الثواب والعقاب . إذا كان كل ما يقع في الكون مرسوماً ومعلوماً عند الله من قبل ، وكانت سنن الله لا تبديل لها ولا تغيير ، فكيف يكون الثواب والعقاب ؟ .
    والجواب الإِجمالي : أنه لا بد من التفريق بين وضع الإِنسان المشاهد ( الملموس ) ، وبين صفات الله وأعماله ، وهي مغيَّبة ، لا يستطيع العقل أن يحكم عليها ، ولا يصل إلى إدراكها ، ولا يعرف عنها إلا ما جاء بطريق الوحي .


    الإنسان مخير :
    الإِنسان له حرية ، له ( عقل ) يستطيع أن يحكم به على الأمور المادية ، ويميّز به بين الخير والشر ، وله ( إرادة ) يستطيع أن يعمل بها الخير أو أن يعمل الشر .
    وإذا كانت يدي سليمة ما بها مرض أو شلل ، فأنا أستطيع أن أرفعها ، فهل في الناس من يدَّعي أنني لا أستطيع رفع يدي ؟ وإذا كنت قادراً على رفع يدي رفعتها لأعطي فقيراً ديناراً ، أو رفعتها لأضرب بريئاً بالعصا ، فهل هذا كذلك ؟ أليس إعطاء الفقير حسنة تستحق الثواب ، وضرب البريء سيئة تستوجب العقاب ؟ .

    والإنسان مجبر :
    لقد استطعت أن أحرك يدي بإرادتي ، لأن الله جعل عضلاتها خاضعة لي ، ولكني لا أستطيع التحكم في عضلات قلبي ومعدتي .

    حر مخيَّر في حدود الطاقة البشرية :
    فالإنسان حر مخيَّر في حدود الطاقة البشرية ، وكونه مجبراً - في بعض الحالات - لا ينفي عنه صفة الحرية , فهو ( إنسان حر ) ، يتصرف ضمن الحدود الإِنسانية ، وليس إلهاً ليصنع ما يشاء .

    الثواب والعقاب منوط بالحرية :
    فإن لم تكن حرية فلا عقاب . المكره على فعل الشر لا يعاقب عليه . والله إنما يؤاخذنا على ما نملك الخيار في فعله أو تركه .
    وإذا كانت المحاكم البشرية ، بعدالتها النسبية ، تقدر ظروف المتهم ودوافعه ، وبيئته واستعداده ، وترى تقدير ذلك من العدل ، فهل يُترك ذلك في حكمة رب العالمين ، التي فيها العدالة المطلقة ؟ وهل يعاقب المذنب الناشئ من والِدَيْن فاسِقَيْن ، وبيئة فاسدة ، والذي عاش طفولة مهمَلة مشرّدة ، كمن أذنب الذنب نفسه ، وهو ناشئ في أفضل البيئات ، مولود من خير الآباء .

    مقاييس العدالة :
    على أن أكثر علماء الكلام قد أخطؤوا أكبر الخطأ ، حين طبقوا على الله مقاييس العدالة البشرية .
    تنبّهت إلى هذه الحقيقة بواقعة وقعت لي ، أسردها الآن فيها عبرة ، وإن لم يكن موضع سردها هذا الكتاب
    كنت سنة ( 1931 ) أدرِّس في مدرسة إبتدائية في الشام ، وكنت في فورة الشباب وعنفوانه ، وفي رأسي خواطر ، وفي نفسي غرور ، وعلى لساني بيان واندفاع ، فعرضت لي شكوك في مسألة القدر ، كنت أسأل عنها العلماء ، فلا أجد عندهم الجواب الشافي لها ، فيدفعني الغرور إلى جدالهم وإزعاجهم . حتى جاء يوم كنت فيه في المدرسة ، وكنت أؤدب تلميذاً بالضرب ، ( وكان الضرب من وسائل التأديب في تلك الأيام ) ، ففجر الولد وتوقّح ، وجعل يصرخ ويقول : ( هذا ظلم .. أنت ظالم .. ) !! .
    ثقوا يا أيها القراء ، أني لما سمعت ذلك سقطت العصا من يدي ، ونسيت الولد والمدرسة ، ورأيت كأني كنت في ظُلْمة فأضيء لي مصباح منير ، فقلت لنفسي : إن التلميذ يرى ضربي إياه ظلماً ، وأنا أراه عدلاً . والعمل واحد ، وإذا ذهب يشكو إلى أهله قالوا له : لا ما هذا ظلم ، هذا عدل ، إنه يضربك لمصلحتك . فإذا كان التلميذ لا يحق له أن يطبق مقاييسه الناقصة على عدالة المعلم ، فكيف أطبق أنا مقاييسي البشرية للعدالة على الله ؟ .
    ألا يمكن أن يكون الفعل الذي أراه ظلماً هو عين العدل ؟
    الولد المريض يرى الإِبرة التي يدخلها الطبيب تحت جلده ظلماً ، وهي في رأي أبيه عدل كل العدل ، لأن الولد نظر إلى ألمها ، والأب أبصر أثرها في شفاء الولد .

    مع النصوص :
    لا بد قبل الكلام على النصوص من التذكير بهذه القواعد :
    1- إن عمل العقل منحصر بفهم النصوص ، ولا يستطيع أن يدرك من نفسه حقيقة القدر بالتفصيل ، لأنه - كما قدمنا - عاجز عن الخوض فيما وراء المادة ، لذلك ينبغي اجتناب المابحث التي لم يوضِّحها النص .
    2- أن نعرف أن الاصل هو القرآن ، فإن تعارضت آية منه وحديث من أحاديث الآحاد ، ولم يمكن التوفيق بينهما على شكل مقبول ، أخذنا بالآية (1) .
    _________
    (1) من القواعد المعروفة عند أهل المصطلح : أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول ما يناقض القرآن ، ولا ما يخالف الواقع المشاهَد ، فإن روي حديث مناقض للقرآن ، أو يخالف الواقع المشاهد ، نحكم أن الرسول لم يقله ، ولو روي بسند صحيح .
    _________

    - أنه لا يمكن أن يكون في القرآن أو صحيح الحديث نص صريح ، ينكر وجود أمر واقع مشاهد ملموس ، لأن الذي أنزل القرآن هو الذي أوجد الواقع ، ولا ينفي ربُّنا ما أوجده .
    4- إن كثيراً من النصوص التي يُفهم منها الإِجبار ونفيُ الاختيار عن الإِنسان كقوله تعالى :
    { هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ } .
    فلا يملك الوليد الذي صُوِّر بنتاً أن يجعل نفسه صبياً ، ولا الأسود اللون أن يصيِّر لونه أبيض .
    ومثلها قوله تعالى :
    { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } .
    وما يشير إلى الأحداث الكونية التي هي فوق طاقة الإِنسان كقوله :
    { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ، لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } .
    ومثلها :
    { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ } .
    وما يدل عى الظروف المؤدية إلى الصلاح أو الفساد ، وليست من صنع الإِنسان ، كقوله :
    { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } .
    ومن الآيات التي جاءت فيها كلمة الهداية بمعنى الدلالة والإِرشاد ، كقوله : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } .
    وقوله :
    { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } .
    الذي ظهر لي : أن أكثر هذه النصوص ، تشير إلى الأمور التي تؤثر في صلاح الإِنسان وفساده بعض التأثير ، وليست من صنعه ، وقد قدمت القول بأن الله لا يؤاخذ العبد عليها ، ولا يمكن أن يجبر الله عبده على أمر بحيث لا يستطيع تركه ثم يعاقبه عليه .
    هذه هي النصوص التي وقف عندها أصحاب الفرق المنحرفة ، فأساؤوا فهمها ، وأخطؤوا في تطبيقها . وكان عليهم :
    - التفريق بين آيات الإخبار عن مشيئة الله وقدرته وتصرّفه في ملكه ، والآيات المتعلقة بالثواب والعقاب .
    2- اعتبار مجموع النصوص لا الوقوف عند أفرادها ، ومن تتّبع مجموع النصوص رأى أن القرآن يثبت للإِنسان الحرية والإرادة ، اللتين يترتّب عليهما الثواب والعقاب .
    فمن يقرأ قوله تعالى عن القرآن : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } يفهم منه بادي الرأي (1) أن الهدى والضلال أمر مقرر ، قدّره الله على العباد ، فجعل هؤلاء ضالين ، وهؤلاء مهتدين . ولكن إذا انتبه إلى قوله تعالى : { هُدىً لِلْمُتَّقِينَ } ، وقوله : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ } ، علم أن الهدى والضلال ليس إلزاماً من الله ، ولكنه تبع لحالة المرء ، فإن كان متَّقياً كان القرآن هدى له ، وإن كان فاسقاً كان له ضلالاً .
    وتبقى مع ذلك الشبهة قائمة ، فيقول القائل : وما يدريني إذا كان الله قد جعلني مع المتقين أو جعلني مع الفاسقين ؟
    فإذا انتبه إلى قوله تعالى : { لِلْمُتَّقِينَ ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ... } ، وقوله : { ... إِلَّا الْفَاسِقِينَ ، الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ } ، علم أن المسألة ليس فيها إجبار ، وأن مردها إلى صفات وأعمال داخلة في نطاق حرية الإِنسان وطاقته .
    فإن عملتَ الثلاث الأولى كنت بذلك من المتقين ، فاستحققتَ الهداية ، وإن عملت الثلاث الأخرى كنت بذلك من الفاسقين ، فاستحققت الضلال .

    بحث عقيم :
    وهنا يرد قولهم : هل عملت السوء بمشيئة الله أم لا ؟ هل كنت أستطيع ألا أعمله ؟ وهل خَلَقت أنا عملي ؟ وأمثال هذه الأمور التي ملأ بحثها كتب علم الكلام . وذلك كله بحث عقيم ، لأن الخالق لا يقاس على المخلوقين ، والعقل لا يحكم على الله وصفاته ، والله لا يُسأل عما يفعل ، وإنما يسألنا عن أفعالنا ، والله عادل لا شك في عدله وخير لنا أن ننظر إلى أنفسنا ، وأن نحسن استعمال عقولنا ، ونعمل على توجيه إرادتنا إلى الخير ، وندع المباحث المتعلقة بالله ، التي لم يتكلم فيها السلف ولا شغلوا أنفسهم بها .

    الاحتجاج بالقدر :
    ومن العصاة من يحتج لعصيانه بالقدر ، تقول للزاني : لم زنيتَ ؟ فيقول : لأنه قُدِّر علي ! وهي حجة واهية ، مردودة من وجهين :
    1- لأن الحساب والعقاب يكون على العمل ، وعلى الدوافع إليه والبواعث عليه . وهذا الزاني لم يطّلع على اللوح المحفوظ ويَرَ أن الزنا مكتوب عليه - كما يزعم - ويذهب ليزني تنفيذاً لحكم القدر ، وإنما تبع الشهوة ، وطلب اللذة العاجلة ، واستجاب لنداء الشيطان .
    وقد احتج المشركون بمثل هذه الحجة فقالوا :
    { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا } .
    فرد الله عليهم بقوله :
    { قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ؟ } .
    أي : من أين عرفتم قبل أن تشركوا أن الشرك مقدر عليكم ؟ وهل جربتم الإيمان فوجدتم أنه ممتنع عليكم ؟ .
    2- أن لو كان هذا المحتج بالقدر صادقاً لرضي بكل ما يقدره الله عليه ، من فقر ومرض وجوع ، وفَقْد حبيب ، وذهاب مال ، والمشاهد أنه لا يرضى بذلك ، وهو مقدَّر عليه ، ولا يسكن إليه ، بل هو يعمل لجمع المال ، ودفع المرض ، وإذهاب الجوع ، ويألم لفَقْد الحبيب ، وذهاب المال . فلماذا سخَّر قواه كلّها ، واستعمل عواطفه لجلب لذة الدنيا ، ودرء الألم فيها ، ولم يسخِّر عقله لقمع الشهوة ، ومنع النفس من الحرام الذي ترغب فيه ، وهو يعلم ما في عقبه من العذاب .

    نحن والسلف أمام عقيدة القدر :
    خصوم الإِسلام يتهمون المسلمين اليوم بالتواكل والتكاسل ، لأنهم يؤمنون بالقدر . وإن كان في هذه التهمة بعض الحق ، كان السبب فيها سوء فهم كثير من المتأخرين لعقيدة القدر . لقد اتخذها كثير من المسلمين الجاهلين حجة لارتكاب المعاصي ، وسبباً للكسل والخمول ، مع أن سلفنا قد اتخذوا منها دافعاً إلى العمل والجهاد .

    تقديس الأموات :
    ذلك ( رد فعل ) لسوء حاضرنا ، وجلال ماضينا .
    قال الله سُبحانه وتعالى { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } الأنبياء:18


    تغيُّب

  2. افتراضي

    الإِيمَان بالغَيْبِ
    عالم الغيب :
    قدمنا في ( قواعد العقائد ) أن الحواس لا تصل إلى إدراك كل موجود ، وأن في الوجود عوامل حقيقية ، لا ندركها بحواسنا ، أقربها إلينا الروح التي يحيا بها كل واحد منا .
    من ينكر وجود الروح ؟ لا أحد .
    من أدرك ( ماهية ) الروح ؟ لا أحد .
    فالعالَم المدرَك المشاهد ، هو الذي سماه القرآن : ( عالم الشهادة ) ، والعالم المغيَّب عن حواسنا - عالم ما وراء المادة ####physique - هو : ( عالم الغيب ) .
    أما عالم الشهادة فيستوي في الإِيمان به والتصديق بوجوده الناسُ جميعاً (1) ، حتى الحيوان الأعجم يدرك بحسّه وجودَه . فلا فضل في الإِيمان به لأحد على أحد ، لأن ذلك من ( العلم الضروري ) . ولكنّ الفضل في الإِيمان بالغيب ، فيمن يؤمن بما لا يراه ويصدّق بوجوده ، اعتماداً على صدق الخبر به .
    ____________
    (1) وإن كان منه ما لا يدركه البشر كالأجرام السماوية البعيدة التي تفصلنا عنها ملايين السنين الضوئية ( والضوء يقطع ثلاثمئة كيل في الثانية فقد يوجد جرم ويفنى قبل أن يصل ضوؤه إلينا ) .
    __________________
    وهذا ما يمتاز به المتقون ، ولذلك جعل الله أول صفة وصف بها المتقين ، في أول سورة البقرة ، أنهم : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } .
    كيف نؤمن بالغيب ؟
    نؤمن بالغيب ولم يعطنا الله الحواس التي ندركه بها ؟ إننا لو تُركنا لحواسنا نعتمد عليها وحدها ، ولعقولنا نحكم بها على ما جاء من طريق الحواس فقط ، لبقينا على جهلنا بما وراء المادة ، فكان من حكمة الله ، ومن رحمته بنا ، أنه لم يترك العقل في عجزه عن إدراكها ، بل أخبره بما يحتاج إليه من خبرها .
    وهذا الإِخبار ليس صادراً عن الطاقة الإِنسانية ، ولكنه آتٍ من خارجها بطريق من الطرق الثلاثة :
    الأول - أن يضع الله هذه الأَخبار في الإِنسان ، بإلهام أو بمنام ، أو بنوع من التلقّي الذي لا عمل فيه للإِنسان ، ولا يستطيع الوصول إليه باجتهاد ، فيحس بها ، ويعبر عنها .
    الثاني - بأن يسمعها من غير أن يرى قائلها الحقيقي ، فتصل إلى أذنه ويدركها ويعيها .
    الثالث - ( وهو الأعم الأكثر ) أن يرسل الله واحداً من مخلوقاته الخيِّرة ، المطيعة المغيَّبة عنا ، التي تسمى الملائكة ، إلى واحد من البشر ، يختاره الله ويصطفيه ، فيبلغه رسالة الله ، ويأمره أن يبلغها الناس .
    فهذه ثلاثة طرق ليس لها رابع .
    { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ } .

    الغيب الذي يجب الإِيمان به :
    والغيب الذي هو ركن الإِيمان ، والذي يكفر منكره ويخرج من ملة الإِسلام ، هو ما جاء في القرآن . أما الغيب الذي ورد في السنة الصحيحة ، فلا يكفر منكره ويخرج من الملة ، بل يفسق .
    وهذا الفرق بين الكتاب والسنة يحتاج إلى شيء من البيان . ذلك أن ما أبلغه الرسول صلى الله عليه وسلم من الوحي ، وما نطق به من الحديث ، هما في الأصل في درجة واحدة من الحجية (1) . فالقرآن وحي من الله بلفظه ومعناه ، والحديث وحي من الله بالمعنى ، واللفظ لفظ الرسول ، قال تعالى :
    { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } .
    والصحابة الذين سمعوا من الرسول صلى الله عليه وسلم الآية يبلغها ، والحديث ينطق به ، لم يكونوا يفرِّقون بينهما ، في وجوب العمل ، وفي الحجية .
    ولكن الفرق نشأ من الرواية والنقل ، فالقرآن نُقل نقلاً متواتراً ، بحيث نجزم بأن النص الذي في المصحف ، هو الذي نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي بلغه محمد أصحابه ، ما نقص منه شيء (1) ، ولا زيد فيه شيء ، ولا أبدل منه شيء . أما الحديث فَنَقَل جلّه ( إن لم نقل كله ) آحاد عن آحاد ، ولقد بذلك علماء الحديث في تمحيص روايته ، والفحص عن رجاله ، أقصى ما تصل إليه الطاقة البشرية ، ولكنا لا نقطع مع ذلك بأن الحديث الذي رواه ( البخاري ) و ( مسلم ) وأصحاب السنن ، قد قاله صلى الله عليه وسلم ، وأنه نقل بلفظه ، كما نقطع بأن ما في المصحف هو القرآن المنزل .
    ولما كانت العقيدة أساس الدين ، ويترتب على الإِخلال بها الكفر والردة ، وكان لا يحكم على مسلم بالردة ما دام في الأمر احتمال ألا يكون كفر ، لذلك قلنا : إن من أنكر عقيدة جاءت بصريح القرآن يكفر ، ومن أنكر عقيدة وردت في صحيح السنة يفسق ولا يكفر . هذا إن ردها عناداً وخلافاً ، أما إذا كان من أهل الحديث ، العارفين بعلله ، ورد الحديث لعلة في سنده أو متنه ، فلا شيء عليه .
    ______________
    (1) ومن اعتقد من أتباع الفرق المنسوبة إلى الإسلام ، أن الذي في المصاحف ليس القرآن كله ، وأن من القرآن ما ليس في المصاحف التي يتداولها المسلمون ، كفر وخرج من ملة الإِسلام ، إلا ما كان من الآيات التي قال قوم إنها منسوخة التلاوة ، ولم يثبت ذلك بخبر متواتر .
    ______________


    المغيّبات :
    المغيّبات التي أخبر بها الشرع ، ويجب بها الإيمان ، ويترتب على إنكارها الكفر ، هي الملائكة والجن ، والكتب والرسل ، واليوم الآخر وما فيه من الحساب ، وما بعده من الثواب والعقاب ، والقدر ، وما جاء في القرآن عن خلق السماوات والأرض ، وخلق الإنسان ، وكل ما أخبر به القرآن .


    شبهة وردها :
    الماديون الذين لا يؤمنون إلا بما يحسون به ، نرد عليهم بالقاعدة الثالثة من قواعد العقائد التي تبين أنه لا يشترك من عدم الوجدان عدم الوجود ، وأنه لا يحق لنا أن ننكر أشياء لمجرد أننا لا نحس بوجودها ، والقاعدة التي بيّنا فيها أن الخبر الصادق يفيد اليقين ، كما يفيده الحس . وما دام قد ثبت صدق محمد صلى الله عليه وسلم في إخباره عن الله ، وثبت نقل هذا الخبر إلينا فقد حصل من هنا اليقين لدينا معشر المؤمنين بوجود هذه المغيَّبات .

    أقسام الغيب :
    عالَم الغيب على أقسام ، كل قسم منها يسمى غيباً :
    1- قسم لم ندركه نحن ولكن أدركه غيرنا من البشر ، كقصة يوسف مثلاً ، سماها الله غيباً لأن محمد صلى الله عليه وسلم وقومه لم يدركوها بحواسهم ، لم يَرَوْها ولم يسمعوا بها ، ولكن بني إسرائيل ، ( أعني أولاد يعقوب ) يوسف وإخوته ، أدركوها وعاشوها ، وكانت هي وقائع حياتهم .
    2- وقسم لم يدركه البشر ، وإن كان من الممكن عقلاً أن يدركوه لو قدم الله موعد إيجادهم ، كالحوادث التي كانت في الأرض من قبلهم وأخبار المخلوقات التي كانت تسكنها ، ولكنهم لم يعرفوا عنها في الواقع ، وعن أخبار خلق أبيهم آدم ، وبداية الحياة البشرية ، إلا ما جاءهم من طريق الوحي .
    3- وقسم لا يمكن إدراكه بالحواس ، ولا الحكم عليه بالعقل ، ولا الإحاطة بحقيقته بالخيال ، كصفات الله ، وما غيّبه عنا من مخلوقاته ، كالملائكة والجن والشياطين ، وأحوال يوم القيامة ، وما بعده من الحساب والثواب والعقاب .

    شبهة وردها :
    قد يقول قائل : إن من أمور الغيب التي استأثر الله بها إنزال الغيث والعلم بما في الأرحام ، فكيف تخبر النشرة الجوية عن جوّ الغد ، أصحو أم ماطر ؟ ويكشف العلم عما في بطن الحامل : هل هو ذكر أم أنثى ؟
    والجواب :
    1- إن الذي أنزل القرآن هو الله ، وإن الذي خلق الكون وما يقع فيه هو الله ، فلا يمكن أن يأتي في القرآن نص صريح قاطع بإنكار أمر قائم مشاهَد ملموس . وإذا وجدنا نصاً يظهر منه مخالف للواقع ، ندقّق النظر فيه ، فنرى أن المعنى المقصود منه غير ما بدا لنا (1) .
    2- النشرة الجوية إنما تخبر عن المطر بعد رؤية أسبابه ، وتمام خلقه ، وبيان ذلك أن المطر الذي ينزل في سواحل الشام مثلاً ، تبيّن ( من العلم بسنن الله في الكون ) أن سببه الهواء الذي يجيء من البحر الأطلسي ، فيمر بمضيق جبل طارق ، فيصطدم بكتلة هوائية راكدة ، فتشكل السحب من اختلاف درجة حرارة الهواء القادم والهواء الراكد ، فإذا رأوه علموا استناداً إلى معرفة سنن الله أنه سيتوجه إلى ساحل الشام بعد كذا .
    فهو كمن شاهد موزِّع البريد من نافذته ، وقدّر متى يصل إلى داره ، فقال لأهله : سيأتي موزع البريد بعد خمس دقائق , ما علم في الحقيقة الغيب ، ولكن رأى الواقع قبل أن يراه غيره .
    ومثله من يخبر عن نوع الجنين بعد تشكيله .
    وأما إنشاء السحاب ، وإنزال المطر في أرض كتب الله عليها الجفاف ، ومنعه عن أرض أنزله الله عليها ، ومعرفة جنس الجنين ، وهو لا يزال حُوَيْناً منوياً ، أو حويناً صادف بويضة ، فهذا هو المراد من الآية والله أعلم .
    ____________
    (1) وهذا ، إذا كان النص آية من القرآن ، وليس في القرآن أية تدل دلالة قطعية على نفي أمر حكم العقل بوجوده حكما قطعياً . وأما إن كان النص حديث آحاد ( أي نقله واحد عن واحد ) ، فإننا نجزم أن الرسول لم يقله ، لأن الرسول صلوات الله عليه لا يقول ما يخالف القرآن ولا الواقع المحسوس .
    ___________________

    قال الله سُبحانه وتعالى { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } الأنبياء:18


    تغيُّب

  3. افتراضي

    الإِيمَان بالمَلائِكةِ وَالجِنِّ
    الوحي وإمكانه ولزومه :
    الوحي ممكن عقلاً ، لأن الله قادر على خلق الملائكة ، واصطفاء الرسل ، وشرع الأحكام ، لا يمنع العقل ذلك ، بعد أن آمن بوجود الله ، وقدرته وإرادته . وهو واقع فعلاً ، لأن الخبر الصادق ورد به ، وقد قدمنا أن الخبر الصادق طريق من طرق العلم ( بمعنى اليقين ) ، وأننا نوقن بما نصدق الخبر به كما نوقن بما نراه ونسمعه . وهو لازم إذ لولاه لاقتصر البشر على عالم المادة ، ولجهلوا ما وراءه ، ولكانوا كالأنعام والمواشي ، يعيشون لدنياهم وحدها , لا يتصلون بربهم ، ولا يعملون لآخرتهم . ولولاه لفقد السمو الخلقي ، والرفعة الإِنسانية .

    ومهما أوردوا من نظريات في علم الأخلاق La morale ، وفي الأساس الذي تُبنى عليه ، فإن الأخلاق إذا لم تُبْنَ على أساس من العقيدة ، كان بناؤها على كثيب من الرمل ، لأن الإِنسان مفطور على حب نفسه ، وجلب النفع لها ، ودرء الأذى عنها ، فلا يعمل عملاً لا يكون له فيه لذة أو كسب (1) .

    ولو أن رجلاً لا يملك إلا ديناراً يدخره لعشائه ، ورأى صندوقاً لمساعدة الأيتام ، هل يضع الدينار في الصندوق إذا كان لا يؤمن بالله واليوم الآخر ، ويبيت طاوياً ولا يخبر بذلك أحداً يراه ؟
    أما المؤمن فإنه يضعه في الصندوق لأنه يعلم أن الله يراه ، ويعطيه بدله سبعمئة دينار يوم القيامة . المؤمن وحده هو الذي يعمل الخير ، رآه الناس أم لم يَرَوْه ، شكروه أم لم يشكروه ، أثابوه وعوّضوه عنه أم لم يثيبوه ولم يعوِّضوه .

    ولو حاسب الله الناس في الآخرة على ذنوبهم ، ولم يرسل إليهم رسلاً يعرّفونهم شرع ربهم ، لاحتجّوا وقالوا : { رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ } .
    ولادَّعوا أنهم لو بُلِّغوا الرسالة لعملوا بها ، ولو عرفوا الشريعة لاتّبعوها فكانت الرسالات { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } .

    شبهة وردها :
    يقول ناس : لماذا لم يهد الله الناس كلهم إلى طريق الجنة ؟ ولماذا وضع في نفوسهم الشهوة ثم عاقبهم على الزنا ؟ وغرز فيهم حب المال وحاسبهم على جمعه من غير الحلال ؟ والجواب : أولاً - إن الله لا يقال له ( لماذا ) لأنه لا يُسأل عما يفعل ، ولأنه الحاكم المطلق له الأمر وله الحكم ، ثم إن هذا القول كقول طلاب المدرسة : لماذا لا يعطوننا أسئلة الامتحان من أول السنة ، ولماذا أخفَوْها عنا ، وكلّفونا الاستعداد لها ؟ إنهم أخفوها ليجدّ الطالب ويقرأ المقرر كله ، ولو أعطيناه أسئلة الامتحان من الآن ، لما بقي معنىً للامتحان .
    والدنيا دار ابتلاء ، والابتلاء في لغة العرب الاختبار ( الامتحان ) ، ليتميز الطائع من العاصي ، والمستقيم من المنحرف ، ولولا حواجز السباق (1) لما بان الخائر الضعيف من الفارس المغوار .
    _________
    (1) أي سباق الخيل .
    ولو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة ، ولو أراد لخلقهم للطاعة الخالصة كما خلق الملائكة ، ولكن هكذا شاء ، ولا رادّ لما يشاء ، ولا يُسأل عما يفعل ، ونواصينا بين يديه ، ونحن ملك له راجعون إليه ، ما لنا رب غيره ولا إله سواه ، إن شاء عذّبنا وإن شاء عفا عنا ، ونحن نسأل الله عفوه ورحمته ، ونعوذ به من عذابه ، لأننا لا نستطيع أن نتخلص من عذابه إلا بعفوه ، ولا نستطيع أن ننال العفو إلا منه وحده .
    ______________

    الملائكة :
    وجود الملائكة ثابت وارد في القرآن ، فمن أنكر شيئاً مما ورد في القرآن من خبرهم كفر ، والذي ورد من خبرهم وصفتهم في القرآن هو :
    1- أنهم خُلقوا قبل البشر ، وخبّرهم ربّنا أنه :
    { جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } .
    2- أنهم خُلقوا للطاعة الخالصة :
    { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } .
    فهم :
    { لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ .. وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ .. يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ } .
    3- وأن الله لما أتمّ خلق آدم ، علّمه الأسماء (1) وامتحنهم بالسؤال عنها فلم يعرفوها حتى أعلمهم آدم بها ، فلمّا بان فضله بذلك عليهم ، أمرهم بالسجود له ، سجود تحية لا سجود عبادة .
    4- أنهم يتشكلون بأشكال مادية أحياناً ، ويظهرون بصورة بني آدم ، ففي قصة مريم :
    { فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } .
    5- وأن مقرهم السماء ينزلون منها إلى الأرض (1) بأمر الله :
    { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ } .
    6- وأنهم درجات وأصناف في أصل الخلقة وفي مقام العبودية ، جعلهم الله :
    { رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ... وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ } .
    فمنهم من ينزل بالوحي وهو جبريل :
    { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ ... وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } .
    ومنهم ملك الموت (2) الموكَّل بقبض الأرواح :
    { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } .
    _________
    (1) إذا كان في النجوم ما يحتاج الوصول إليه إلى مليار سنة ضوئية ، والسماء أبعد من النجوم كلها قطعاً ، فبأي سرعة كانوا ينزلون ؟ إن العقل يعجز عن تصور هذه السرعة ! .
    (2) لم أجد ( على كثرة ما بحثت ) نصاً من كتاب أو سنة ثابتة أن اسمه ( عزرائيل ) .
    ______________

    ......... إلخ

    7- ومن أعمالهم التي خبر القرآن عنها ، أنهم يثبّتون المؤمنين في المعارك :
    { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا } .
    ويبشرون المؤمنين عند الموت ويؤنّبون العاصين :
    { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا ... إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ }
    ... إلخ

    أنهم لا يتناكحون ولا يتناسلون ، ولا يوصفون بذكورة ولا أنوثة .
    هذا جل ما جاء في القرآن من خبر الملائكة ، وفي السنة الصحيحة كثير من أخبارهم . جاءت في أحاديث آحاد ، لكن صحت روايتها ، وثبت سندها . ومن أنكر شيئاً مما ورد في القرآن عن الملائكة أو غيرهم كفر .
    والإيمان بالملائكة أحد أركان العقائد الإسلامية :
    { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ... } .

    ثمرة الإيمان بالملائكة :
    ازدياد الشعور بعظمة الله ، واستشعار رحمته ، إذ وكّل الملائكة بالدعاء للمؤمنين والاستغفار لهم ، والتحرز عما أمكن من المعاصي ، حين يتذكر أنهم يسجّلون عليه كل ما يقوله ويفعله ، والإِقدام والشجاعة في الجهاد ، حين يتصور أنهم يؤيدون المجاهدين ، بأمر رب العالمين ، والعمل للجنة ليكون ممن يسلّمون عليه ، والبعد عن أسباب دخول النار لئلا يكون ممن يوبّخونه .
    ومن ثمراته الإجمالية التشبه بهم في لزوم الطاعة ، واجتناب العصيان ، وتقوية الجانب الملائكي في الإِنسان .
    قال الله سُبحانه وتعالى { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } الأنبياء:18


    تغيُّب

  4. افتراضي

    الجن :
    خبّر الله في القرآن بأنه خلق خلقاً آخر ، تعجز عيوننا عن رؤيتهم على صورهم الأصلية ، كما تعجز عن رؤيته الملائكة ، ورؤية الأشعة التي هي فوق البنفسجية وتحت الحمراء , وهذا الخلق هو الجن .
    والذي يجب الإيمان به ، ويكفر منكره ، هو ما جاء من أخبارهم في القرآن ، وإن لم يخصِّصه الله بالذكر ، ويجعله من أركان الإيمان صراحة كالإيمان بالملائكة .

    1- خبّر القرآن أن الجن خُلقوا من النار .
    ولا يلزم من هذا أن يكونوا ناراً تحرق ما تمسه ، ولا يمنع أن يكون الله قد حوّلهم فيما بعد إلى طبيعة أخرى . فالإنسان خُلق من الطين ، ولكنه لم يبق طيناً بل أنشأه الله خلقاً آخر على سنة الله في الكون ، إذ يحوّل المخلوقات من حال إلى حال . فيجعل من ( الخلية ) أحياء مختلفي الصفات والهيئات والطبائع ، ويجعل من ( البذرة ) اليابسة شجرة خضراء الأوراق ملونة الأزهار .
    2- وخبّر أنهم خلقوا قبل خلق الإِنسان :
    { وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ } .
    3- وأنهم يروننا ولا نراهم
    { يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ } .
    4- وأنهم مُكلَّفون مثلنا
    { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ... وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ... } .
    5- وأن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بلغتهم
    كما بلغتهم من قبلها رسالة موسى :
    { قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ } .
    6- وأنه كان منهم الصالحون والعاصون
    وأنهم كالبشر أصناف :
    { وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً ... وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ } .
    7- وأن الله سخرهم لسليمان :
    { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ (1) وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ } .
    8- وأنهم لا يعلمون الغيب
    لذلك لبثوا يعملون لسليمان بعدما مات :
    { مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } .
    9- وأن الله تحداهم ، كما تحدى البشر أن يأتوا بمثل القرآن :
    { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } .
    10- وأنهم كانوا يتحسسون أخبار السماء من الملائكة ، فلما جاء الإسلام مُنعوا من ذلك ورُمُوا بالشهب :
    { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً } .

    الشياطين :
    وهم كفار الجن ، أبوهم إبليس .
    الشياطين في القرآن :
    1- الشيطان هو العدو الأول للبشر ، أخرج أباهم من الجنة ، وهو يعمل على منعهم من دخولها ويبعدهم عن طريقها . ويغريهم بسلوك طريق النار ، وهم مع ذلك يتبعونه ويَدَعون شرعَ الله إلى وسواسه ، وهديَ الأنبياء إلى ضلاله .
    وقد وبّخهم الله على فعلهم وعلى هذه الحماقة منهم ، إذ يستجيبون لعدوهم الذي يريد العذاب لهم ، ولا يستجيبون لربهم الذي يدعوهم ليغفر لهم ويرحمهم :
    { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } .
    2- دلت هذه الآية على أن الشياطين يتناسلون ، ويكون لهم ذرية وأنهم جميعاً ذرية إبليس .
    3- سلط الله الشيطان على الناس ، ولكنه لم يعطه القدرة على النفع والضرر ، ولم يمنحه القوة التي لا تُدفع ، بل أعطاه الكيد :
    { إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً... وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ...وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ ...} .
    4- عمله الوسواس والإغراء بالشر والدعوة إلى القبائح :
    { يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ ... يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً } .
    برنامجه كله ينحصر في الشر والفحش والخلاف ، وأول مادة في هذا البرنامج وأول ما فتن به آدم وحواء ، التكشّف والتعرّي ، ولبس القصير من الثياب :
    { يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا } .
    فكان نزع الثياب ، وإبداء العورات ، أول مادة في هذا القانون الشيطاني .
    ومن شأن إبليس أن يحسّن في عيون أتباعه ( السيّءَ ) حتى يَرَوْه حسناً ، ويجمّل لهم القبيح فلا بصرونه قبيحاً :
    { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } .
    ومن شأنه أن يدفع أولياءه إلى إثارة الشبه في وجوه المؤمنين ، وشغلهم عن دعوتهم دعوة الحق بالجدال والمراء ، وقد نبّهنا الله إلى ذلك ، وقال لنا :
    { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ... } .
    فلا تستجيبوا لهم ولا تسقطوا في شركهم :
    { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } .
    ومن شأنه أن يشغل المؤمن عن ذكر ربه حتى ينساه ، فيقدم على المعاصي ، فالعاصون :
    { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ } .
    ولكن :
    { الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ ( فأنساهم ربهم ) تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } .
    { الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ ( فأنساهم ربهم ) تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } .
    5- لكن الشيطان رغم دأبه على الإفساد ، وثباته على عداوة بني آدم ، وأنه يأتيهم عن أيْمانهم وعن شمائلهم ، ومن أمامهم ومن خلفهم ، وأنه يقعد لهم كل مرصد ، وأنه يستفِزّهم بصوته ويجلب عليهم بخيله ورَجِلِه ، وأنه يشاركهم في الأموال والأولاد ... إنه على هذا كله لا يملك إلا الوسواس ، والإغراء بالشر ، لا يقدر على نفع لهم ولا ضر ، وحين يتجادل الكفار والشياطين في الآخرة ، يقول لهم :
    { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ... } .
    ولما دعا إبليس ربه أن يؤجّل موته ، وأجابه :
    { قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } .
    قال الله عز وجل :
    { هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ، إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ... إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ، إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } .
    6- وهو يخذل أتباعه ويتخلى في ساعة العسرة عنهم ، ويخون عهدهم :
    { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ ( أي : يوم بدر للمشركين من أهل مكة ) لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ } . يعني الملائكة التي نزلت يومئذ لتأييد المؤمنين ، { إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ } .
    قال الله سُبحانه وتعالى { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } الأنبياء:18


    تغيُّب

  5. افتراضي

    الإِيمَان بالرُّسُلِ
    الرسل جميعاً بشر ، لا يختلفون عنهم في شيء.
    _______
    (1) الرسل جميعاً بشر : يشبهون البشر في كل شيء ، إلا ما كان من ذلك منافياً لاصطفائهم للرسالة كالأمراض المشوِّهة المنفِّرة ، أو المانعة من القيام بالدعوة .
    __________
    ليس فيهم شيء من الألوهية ، لأن الألوهية لله وحده ، ولكنهم بشر يوحى إليهم ، وقد عجبت الأمم الاولى من الوحي فقال لهم الله عز وجل راداً عليهم ، مبيِّناً أنه لا مكان لعجبهم :
    { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا } .
    وعجبوا أن يكون الرسول من البشر ومنعهم من الإِيمان :
    { أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً } .
    فردّ الله عليهم بأن الرسول إنما يكون من جنس من أُرسل إليهم ، فالبشر يُرسل إليهم رسول من البشر :
    { لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً } .
    وناقشوا رسلهم :
    { قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا ... قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } وقد منَّ علينا فأوحى إلينا الشريعة ، وأمرنا بتبليغها .
    { وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } . فرد الله عليهم مخاطباً رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم :
    { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ } .
    وقال لهم رداً عليهم :
    { وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ( أي : على هيئة رجل ) وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ } .

    حقيقة الرسول :
    الرسول بشر يمتاز بالوحي ، وقد قال تعالى لمحمد :
    { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ } .
    وقد أكد بشريته باستعمال ( إنما ) وهي تفيد الحصر والقصر ، وتنفي عنه ما ينافي البشرية ، ثم أكدها مرة ثانية بقوله : ( مثلكم ) .
    هو مثلنا في تكوين جسده ، وطبيعة خَلقه ، ولكنا لسنا جميعاً لا في خُلُقه ، ولا في مزاياه ولا في عظمته .

    فإذا كان بشراً مثلنا ، يجوز عليه ما يجوز علينا ، فهل يخطئ كما نخطئ ؟ والجواب :
    1- إن الخطأ إما أن يكون في مجال التبليغ عن الله ، وفي بيان الشريعة . وهذا النوع من الخطأ يستحيل وقوعه من الرسل جميعاً ، لأن الرسول { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } .
    ويستحيل أن تقع من الرسول ( بعد رسالته ) معصية ، أو يأتي ما يجرح العدالة أو يُخِلّ بالمروءة أو ينافي الكمال ، لأن الله جعله قدوة ، وأمر المسلمين أن يتأسّوا به ، وأن يتبعوه في فعله :
    { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } .
    وهذه الأسوة ثابتة للرسل جميعاً :
    { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } .
    وذلك يقتضي العصمة من ارتكاب المعاصي وإتيان النقائص .
    2- وإما أن يكون الخطأ في أمر شرعي اجتهد فيه الرسول ، ولم ينزل عليه فيه شيء من ربه . وهذا النوع من الخطأ ممكن وقوعه من الرسل ، ولكن الله لا يقرّهم على الخطأ بل يبيّن لهم وجه الصواب فيه ، كما وقع من الرسول في قصة الأعمى ، وفي قصة أسرى بدر ، اجتهد فبيّن الله له أنه لم يصب في اجتهاده .
    وقد فكّرت في موقف الرسول صلى الله عليه وسلم يوم جاءه الأعمى ، وقلت لنفسي : لو لم ينزل الله هذه الآيات من ( عبس وتولى ) ، وعرض موقفه على عقلاء الدنيا وساستها وعلمائها ، هل كان فيهم أحد يقول بأن في موقف الرسول صلى الله عليه وسلم ما يُنتقد أم يقرر الجميع أن الذي فعله هو عين الصواب ؟ .
    رجال من كبار القوم يتألّفهم ويحاول أن يكسبهم لنصرة الدعوة ، فيأتي واحد من أتباعه يسأله عن مسالة ليست مستعجلة ، ولا ينشأ عن تأخيرها ضرر ، وهو يستطيع أن يسأل عنها في كل وقت ، فيُرجىء جوابه حتى ينتهي مما هو فيه . هل يفعل أحد من الناس غير هذا ؟ هل في الدنيا من لا يقول بأن عمل الرسول هو الذي يَرَوْنه الصواب ؟ .
    إنه هو الصواب في مقياس المنطق البشري ، ولكن لما نزل الوحي بمقياس آخر ، تبين أن ميزان الله أقوم من موازين الناس ، وأن حكم من خَلَق العقل أصح من حكم العقل ، بل هو الحكم القويم ، وحكم العقل هنا هو المعوّج المنحرف .
    3- وإما أن يكون الخطأ في أمر من الأمور الإِدارية والحربية ، وهذا أيضاً ممكن وقوعه لأن الرسول بشر ، يفكر في هذه الأمور تفكيراً بشرياً ، وقد كان الصحابة يسألونه في مثل هذه الأحوال : هل القرار الذي قرره بأمر من الله ووحي ، أو باجتهاد منه ؟ فإن خبّرهم بأن ليس لديه فيه أمر من الله ، وأنه رأي شخصي ، عرضوا عليه آراءهم فأخذ بها أو ردّها .
    4- أما الأمور الدنيوية الخالصة ، فكان الرسول يتكلم فيها برأيه الشخصي ، وقد يخطئ في الأمور الصناعية والزراعية والطبيّة التي لا يعرفها في العادة إلا أهلها ، كما أخطأ في مسألة تأبير ( أي تلقيح ) النخل ، وليس في هذا عيب أو نقص ، لأنه لا يُطلب من العظيم ولو كان عالماً - ولو كان أكبر علماء الدنيا - أن يعرف كل الذي يعرفه أرباب الصناعات ، ورجال الزراعة والتجارة ، وسائر المهن .
    ومسألة تلقيح النخل مسألة زراعية فرعية ، أبدى فيها صلى الله عليه وسلم رأياً عارضاً ، لم يُلزمهم به ولم يحملهم عليه ، ولم يقل لهم إنه من الدين ، وإن الله أوحى به ، فلما تبين له خطؤه قال : " أنتم أعرف بأمور دنياكم " (1) .
    ________
    (1) ولعل الحديث الوارد في الذباب إذا سقط في الإناء من هذا القبيل ، والدليل على ذلك أنه لم يقل أحد : إن غمس جناحي الذبابة واجب ، وإن مخالفة هذا الأمر - وعدم غمسه – حرام
    ______________

    الرسول لا يعلم الغيب :
    قال تعالى : { قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ... قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } .

    الرسل كثيرون وأصول الرسالات واحدة :
    بيّن الله في القرآن أن لكل أمة من الأمم رسولاً أرسله الله إليها :
    { وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ... وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ } .
    ولكن الله لم يذكرهم جميعاً في القرآن ، بل ذكر بعضاً منهم :
    { وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ } .
    ولكنهم جميعاً بُعثوا بتوحيد الله ، والتصديق باليوم الآخر ، واتباع ما شرع الله . فأصول الإسلام هي نفسها أصول الديانات السابقة ، التي بُعث بها الرسل الأولون :
    { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } .
    أرسل كل رسول إلى قومه وجعل رسالته إليهم بلسانهم ليكلِّمَهم ويُفهمهم :
    { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ... } .
    وختم هذه الرسالات برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وجعلها عامة للناس جميعاً ، وجعله خاتم النبيين فلا نبي بعده ، ولا وحي ينزل من السماء بعد أن انقطع بموته ، وكان بها كمال الدين وإتمام النعمة :
    { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً } .
    سؤال وجوابه :
    قد يسأل سائل : كيف كانت رسالة محمد للناس كلهم ، وكانت رسالة كل رسول إلى قومه ، وكيف بقيت إلى يوم القيامة لا تُنسخ ولا تُعدّل ، وقد نُسخت الشرائع من قبلها وعُدّلت ؟ .
    والجواب ( والله أعلم ) : إن شريعة الإسلام جاءت مرنة ، تصلح لكل زمان ومكان . وبيان ذلك أن العقائد والعبادات في الإسلام جاءت بها نصوص قطعية مفصّلة ، لا تقبل التعديل ولا التبديل ، لأن العقائد والعبادات لا تتبدل بتبدل الأزمان ، ولا تختلف باختلاف الأعراف .
    والأوضاع الدستورية والمعاملات المالية والأحوال الإِدارية ، التي يؤثر فيها تبدل الزمان واختلاف العرف ، جاءت فيها نصوص عامة هي كالأساس والدعائم في البناء ، وتُرك لنا أن نضع لكل زمان ما يصلح له بشرط المحافطة على هذه القواعد .
    وأمثل على ذلك بأمثلة أعرضها عرضاً موجزاً :
    من الأمثلة : أن الإِسلام أوجب أن يكون الحاكم منتَخَباً برأي الأمة ، وأن يكون فيه من الصفات ما يمكنه من القيام بأعباء الحكم ، وأن يلتزم بالدستور الإِسلامي الذي هو القرآن ، وأن يستشير أهل الحَلّ والعقد .
    وترك لنا تحديد أسلوب الانتخاب ( أي البيعة ) ، وطريقة تعيين أهل الحَلّ والعقد ، وكيفية الاستشارة ... إلخ .
    وألزمنا أن نحكم بين الناس بالعدل ، ولكنه ترك لنا رسم الطريق الموصل إلى العدل ، وأن نحدد أسلوب تعيين القضاة وأصول المرافعات .
    وفتح لنا باب ( الاستصلاح ) ، فكل أمر فيه مصلحة للمجتمع الإِسلامي ، وليس في الشرع ما يوجبه أو ينهي عنه ، إذا أمر به الحاكم المسلم ، صار واجباً دينياً ، كالقوانين المالية ، وقانون أصول المحاكمات ، والأنظمة الإِدارية ، كنظام السير ، ونظام البلديات ، وأمثالها .

    فالإسلام فيه من المرونة ما يجعله صالحاً لكل زمان ومكان ، ولكن بعض الفقهاء المتأخرين - لضيق أذهانهم - يضيّقون على الناس ما وسعه الشرع ، حتى يضطروهم ( كما قال ابن القيم في كتاب الطرق الحكيمة ) إلى ابتغاء التوسعة ، في غير ما جاء به الإِسلام .
    وسبب آخر : هو أن الأمم كانت ( على عهود الرسل الأولين ) تعيش في عزلة ، لا تقاربَ بينها ولا اتصال ، إلا على الدواب والجمال ، فتعارفت الأمم بعد رسالة محمد ، ودنا البعيد ، وطُويت للمسافر الأرض ، حتى وصلنا إلى زمان تُلقى فيه الخطية في أميركا ، فيسمعها مَنْ في الصين قبل من كان قاعداً أمام الخطيب (1) ، وصارت الدنيا كأنها بلد واحد ، والأمم كلها أمة واحدة ، ولو أن المسلمين قاموا بما يجب عليهم من الدعوة لدينهم ، وتبليغ رسالة الإسلام ، لعمت هذه الدعوة الأرض كلها .
    __________
    (1) هذه حقيقة : لأن انتقالها عن طريق الموجات الإذاعية أسرع من انتقالها عن طريق الاهتزازات الهوائية .
    ________________

    الإسلام لا يفرق بين الرسل :
    وإذا كان في اتباع الأنبياء ( ممن يدعون الأنتساب إلى واحد منهم ) من يطعن على غير نبيه ، فإن الإسلام أوجب على المسلم تعظيم الأنبياء والرسل جميعاً ، فإذا أساء القول في واحد منهم أو طعن عليه ، خالف طريق الإسلام :
    { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } .
    فالمسلم يحب موسى وعيسى وغيرهما كما يحب محمداً ، ويجلّهم ويكبرهم كإكباره محمداً وإجلاله .
    واليهودي الذي دخل النصرانية لما جاء بها المسيح لم يخسر موسى ، ولكنه ربح معه عيسى . والنصراني الذي يدخل اليوم في الإسلام لا يخسر عيسى وموسى ، ولكن يربح معهما محمداً ، وصلى الله على محمد وعلى جميع الأنبياء المرسلين .

    الرسل في القرآن :
    المسلم يعتقد أن القرآن كلام الله ، نزل به جبريل على محمد ، وبلغه محمد كما سمعه من جبريل ، وأن ما بين دفّتي المصحف هو القرآن كله ، كما نزل به جبريل ، فمن أنكر شيئاً منه أو شكّ فيه ، خرج من الإِسلام .
    وقد ورد في القرآن ذكر خمسة وعشرين نبياً ، جُمعت أسماؤهم في خمس آيات هي قوله تعالى :
    { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ، وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ، وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ } .
    وقوله تعالى :
    { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً ، وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً } .
    وقوله :
    { وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً .. وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً .. وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ } .

    وذكر آدم ولم يصرح بأنه كان رسولاً ، ولكن قد تدل الآيات التي ذكر فيها على ترجيح القول برسالته .
    خمسة وعشرون ، منهم من اقتصر على ذكر اسمه كإدريس وذي الكفل ، ومنهم من أورد قصته موجزة كإسماعيل وإسحاق ويونس ، ومنهم من أورد قصته مفصلة كإبراهيم وموسى ويوسف وعيسى . وكل ما جاء به في القرآن من قصص الأنبياء حقٌ وصدق يجب الإيمان به :
    { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } .

    المعجزات :
    لما أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى القدس ، فذهب وعاد في ليلة واحدة لم تستطع قريش أن تصدق ذلك ، وعدّته مستحيلاً ، لأنه لا يمكن تحقيقه بوسائلها المعروفة وهي الإِبل والدواب ، ولكن هذا المستحيل صار اليوم أمراً ممكناً مألوفاً ، لا يُعجب منه ولا ينكره أحد .
    ولو قيل لأكبر علماء الطبيعة قبل قرن أو قرنين من الزمان : إن الناس سيركبون متن الريح بمراكب من الحديد والفولاذ ، ويخترقون نطاق الهواء ، ويسجلون حديث المحدث وخطبة الخطيب فيُسْمعونها من شاؤوا متى شاؤوا ، ولو مات المحدث والخطيب ، لقال : إن ذلك مستحيل ، مع أنه وقع اليوم وصار معروفاً .
    فكيف تحقق المستحيل ؟
    الجواٍب : إن المستحيل قسمان ، مستحيل في العادة ، كالأمور التي ذكرتها . ومستحيل في العقل كاجتماع النقيضين ، والوجود والعدم مثلاً . فلا يكون الرجل نفسه موجوداً في هذا الوقت في هذا المكان ، وهو غير موجود فيه . وكتبدُّل هويّة الشيء فلا يكون الكتاب ملعقة ، في الوقت الذي يكون فيه كتاباً .
    المستحيل في العقل لا يتصوّر وقوعه ، أما المستحيل في العادة ، فقد رأينا كيف أن العلم ( علم العبد بقوانين الطبيعة ) (1) صيّره ممكناً . فهل يعجز الخالق الذي أوجد هذه القوانين أن يصيّره ممكناً ؟! .
    لا شك في قدرته على ذلك ، فوقوع المستحيل في العادة ممكن لله عز وجل ، فإذا صح الخبر به تحقّقنا من وقوعه ، وأيقنّا به .
    ____________
    (1) أي سنن الله في الكون .
    ___________________
    قال الله سُبحانه وتعالى { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } الأنبياء:18


    تغيُّب

  6. افتراضي

    الكرامات :
    وقد جاء في القرآن ذكر ثلاثة أنواع فيها وقوع المستحيل في العادة .
    نوع وقع على يد الرسل لمّا تحدّتهم أقوامهم ، إثباتاً لرسالتهم ، وتأكيداً لصدقهم ، ويسمى المعجزة , فإبراهيم أُلقي في النار ، فبدّل الله طبيعة النار المحرقة وجعلها برداً وسلاماً ، وموسى ألقى عصاه فانقلبت حيّة , وكذلك كل ما جاء في القرآن من المعجزات .
    ونوع وقع على يد وليٍّ لله صالح ، كوجود الطعام عند مريم في المحراب .
    ونوع وقع على يد كافر ، كما صنع السامِرِيّ لبني إسرائيل من الحُلِيّ عجلاً له خوار ، وتسمى استدراجاً .
    ويجب الإيمان ( أولاً ) بأن الأنواع الثلاثة ممكنة الوقوع ، لأنها وردت في القرآن .
    ويجب الإيمان ( ثانياً ) على وجه التفصيل ، بكل ما ورد من ذلك في القرآن .
    أما ما يرويه الناس من الكرامات بنسبونه إلى بعض من يسمونهم أولياء ، فهو خبر يحتمل الصدق والكذب ، فإن كان واقعاً من ولي - والولي هو المؤمن التقي : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } - ولم يكن فيه معصية ، وصدّقتَ به ، لم يكن عليك من الله شيء ، وإن لم يصح عندك فلم تصدّق به ، لم يكن عليك من الله شيء .
    أما إن كانت الكرامة المزعومة تشتمل على معصية ، ( كبعض ما يروي الشَّعْراني في الطبقات ) ، أو كانت واقعة من غير مؤمن ، أو من غير تقيِّ ، فليست كرامة .
    المعجزة والسحر :
    لما كانت المباراة بين موسى وبين سحرة فرعون ، ألقَوْا حبالهم وعِصِيَّهم ، فرآها الناس حيات وثعابين ، وألقى موسى عصاه فصارت حية ، وأكلت هذه الحيات والثعابين ، فهل الأمران سواء ؟ هل عمل موسى من جنس عمل سحرة فرعون ؟!
    إذا كان من جنسه فلماذا آمن السحرة ؟ كان عمل السحرة خداعاً للبصر وإيهاماً للناس . أرَوْهم حيات وثعابين مع أن الحبال والعصي لا تزال على حالها ، حبالاً وعصياً . أما عصا موسى فقد تحوّلت ( فعلاً ) إلى حية .
    لذلك آمن السحرة هذا الإِيمان السريع ، إنهم رأوا شيئاً ليس من السحر ، ولا من التخييل ، ولا من التهويل . شيء هزّ قلوبهم حتى اضطرها إلى الإيمان ، وبلغ منهم الإيمان مبلغاً ، جعلهم يتحدَّوْن فرعون ولا يبالون به ، إنهم تصوروا عظمة الله الذي آمنوا به ، فهانت عليهم عظمة فرعون الزائفة ، وربوبيته المكذوبة . لقد صغرت الدنيا في عيونهم فلم يحفلوا بتهديد فرعون إياهم بالصلب وقطع الأعضاء . إن فرعون لا يملك إلا تعذيبهم في الدنيا وما الدنيا في جنب الآخرة ؟ وما عذابها المؤقت عند نعيم الآخرة الدائم ؟ لذلك صرخوا في وجهه مستهينين بقضائه : { فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } .
    إني أتمنى والله وأنا المولود في الإِسلام ، الذي تسلسل من آبائه الإِسلام ، أن يكون لي مثل هذا الإيمان الذي كان لسحرة فرعون ، بعد دقائق معدودات من إسلامهم (1) .
    ____________
    (1) الإسلام له معنى عام ، ومعنى خاص ، ومعنى أخص ، فالمسلم بالمعنى العام : كل من اتبع رسولاً وقت رسالته ، والمسلم بالمعنى الخاص من اتبع رسالة محمد ، والمعنى الأخص : ما ورد في حديث ( جبريل ) ، الذي شرح معنى الإِيمان والإِسلام والإِحسان ، وإطلاق الإسلام هنا بالمعنى العام .
    ____________

    معجزات محمد عليه الصلاة والسلام :
    المعجزتان الكبريان : القرآن ، وهذه المزايا المفردة ، التي جعله الله بها أهلاً لحمل رسالة الإِسلام .
    ترجمة حياته صلى الله عليه وسلم كانت في ذاتها معجزة .

    و محمد صلى الله عليه وسلم هو وحده الذي جمع العظمة من أطرافها , وإن من الظلم لمحمد ، وإن من الظلم للحقيقة ، أن نقيسه بواحد من هؤلاء الآلاف من العظماء الذين لمعت أسماؤهم في دياجي التاريخ ، من يوم وجد التاريخ , وما من أحد من هؤلاء إلا كانت له نواحٍ يحرص على سترها وكتمان أمرها ، ويخشى أن يطلع الناس على خبرها . نواح تتصل بشهوته ، أو ترتبط بأسرته ، أو تدل على ضعفه وشذوذه ، ومحمد هو وحده الذي كشف حياته للناس جميعاً ، فكانت كتاباً مفتوحاً ، ليس فيه صفحة مطبقة ، ولا سطر مطموس ، يقرأ فيه من شاء ما شاء .
    وهو وحده الذي أذن لأصحابه أن يذيعوا عنه كل ما يكون منه ، ويبلّغوه ، فرَوَوْا كل ما رأَوْا من أحواله في ساعات الصفاء ، وفي ساعات الضعف البشري ، وهي ساعات الغضب ، والرغبة ، والانفعال .
    وروى نساؤه كل ما كان بينه وبينهن ، هاكم السيدة عائشة تعلن في حياته وبإذنه أوضاعه في بيته ، وأحواله مع أهله ، لأن فعله كله دين وشريعة , لقد رووا عنه في كل شيء حتى ما يكون في حالات الضرورة البشرية ، فعرفنا كيف يأكل ، وكيف يلبس ، وكيف ينام ، وكيف يقضي حاجته ، وكيف يتنظّف من آثارها .

    والعظمة إما أن تكون بالطباع والأخلاق والمزايا والصفات الشخصية . وإما أن تكون بالأعمال الجليلة التي عملها العظيم .
    وإما أن تكون بالآثار التي أبقاها في تاريخ أمته وفي تاريخ العالم .
    ولكل عظيم جانب من هذه المقاييس تقاس بها عظمته ، أما عظمة محمد فتقاس بها جميعاً لأنه جمع أسباب العظمة ، فكان عظيم المزايا ، عظيم الأعمال ، عظيم الآثار .
    والعظماء إما أن يكونوا عظماء في أقوامهم فقط ، نفعوها بقدر ما ضروا غيرها ، كعظمة الأبطال المحاربين والقواد الفاتحين .
    وإما أن تكون عظمته عالمية ، ولكن في جانب محدود ، في كشف قانون من القوانين التي وضعها الله في هذه الطبيعة وأخفاها حتى نُعمل العقل في الوصول إليها ، أو معرفة دواء من أدوية الأمراض , أو قصة عبقرية ، أو ديوان شعر بليغ ...
    أما محمد فكانت عظمته عالمية في مداها ، وكانت شاملة في موضوعاتها .
    وكان مؤمناً بما يدعو إليه ، وكثير ممن نعرف من الدعاة ، قديماً وحديثاً ، يقولون بألسنتهم ما تخالفه أفعالهم ..
    أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان خلقه القرآن أي : أن كل فعل من أفعاله ، وكل خلق من خلائقه ، آيات تتلى ، ومحاضرة تلقى ، وحلقة درس ومجلس وعظ ، لأنها كلها تنظلق بما يأمر به القرآن .

    وما عُرف عنه أنه ذمّ طعاماً قط , وكان يلبس ما وجد ، ولا يلتزم زيّاً خاصاً ، ولا نوعاً خاصاً ، ولا لوناً خاصاً , وليس في الإسلام محرم من الثياب إلا ثوباً يكشف عن عورة ، ولا يجوز للمرأة المسلمة أن تكشف عن أكثر من وجهها وكفيها ، وما كان من حرير للرجال ، وما كان من الثياب الخاصة بأهل دين غير الإسلام بحيث إن لبسه لابس ظُنَّ أنه منهم ، كلباس الرهبان مثلاً ، وما كان من لباس النساء خاصة يلبسه الرجال ، أو من لباس الرجال خاصة تلبسه المرأة ، وما كان فيه من سرف وتبذير ، وكل ثوب بعد ذلك جائز اتخاذه في الإِسلام .

    والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يحرّم زينة الله التي أخرج لعباده ، ولا الطيبات من الرزق ، ولا يردّها ، ولا يأباها إن وجدها ، ولكنه لم يكن يحرص عليها ، ويجعلها أكبر همه من دنياه .
    لقد فرغ كذلك من شهوة الغنى والجاه ، وأنتم تعرفون أن قريشاً عرضوا عليه ما شاء من أموالهم إن شاء الغنى , و السلطان والإِمارة , ولم يتركوا شيئاً مما يعلمون ميل النفوس إليه ، وتعلُّقَها به ، إلا بذلوه له ، ليترك دعوته ، فكان يأبى عليهم ما عرضوه ، راثياً لهم مشفقاً عليهم .
    وفرغ كذلك من أمر الشهوة الجنسية ، ولقد غرّ أقواماً من المستشرقين ، الذين درسوا الرسول بهذه العقلية الأرضية المريضة ، وقاسوه بالمقياس الذي يقيسون به العظماء من رجالهم . فرأوا أنه تزوج تسع نسوة ، فقالوا إنه رجل شهواني , ، يحسبونه من نوع من عرفوا من رجال السيف أو القلم . فنابليون مثلاً الذي أكره أمة كاملة بحكومتها ووجوه شعبها على أن يكونوا ( قوادين ) له ، يوصلونه إلى الفتاة البولونية (1) التي أحب ، وزاد على ذلك فاضطر أبا الفتاة على أن يلزمها الإِثم الذي أراده منها ، وجعل استقلال بولونيا رهناً بتحقيق هذه الرغبة النجسة الفاجرة . وليس ذلك وزر نابليون وحده ، بل إن اسكندر دوماس ، وبيرون ، وغوت ، وبودلير ، والعشرات من أمثالهم كانت كلها كذلك ، وهذه تراجم عظمائهم ، إذا بلغت في أي منها بحث أخباره الجنسية ، زكمت أنفك روائح تلك الأرجاس ، فجاؤوا بهذه العقلية يدرسون سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدلوا بقولهم عنه إنه شهواني ، على جهل بعلم النفس ، وجهل بتاريخ محمد ، وبُعْد عن الحياد والنزاهة في البحث .
    ____________
    الفتاة البولونية هي : ( ماري فاليفسكا ) وقصتها مشهورة ، حتى لقد أخرجت بها الأفلام للسينما .
    __________

    إن أشد أيام الرغبة الجنسية يقظة وثورة هي السن التي بين البلوغ والخامسة والعشرين ، هذه هي السن الخطرة التي ينبغي فيها على كل عاقل وعاقلة أن يحذر فيها كل ما يجر إلى المعصية من التكشف والاختلاط ، ومتابعة النظر إلى المحرمات ، وإدمان الفكر فيها ، ولو كان الاختلاط باسم العلم أو الدرس . فأين كان محمد في هذه السن ؟ وما هي حوادث صبوته ؟ لقد كان حرّاً ، في بلد حرّ ، ولو أرادها لم يمنعه منها مانع من رقابة ولا من عرف ، ولقد كان لِداتُه (1) من الشباب غارقين في هذه الملذات ، لا يحرمها عليهم دين ولا قانون
    .
    (1) اللِّدات : المتقاربون في السن ، وتكون اللدات للرجال والأتراب للنساء .
    _____________________________


    إن سيرة محمد مكشوفة للعدو والصديق ، معرّضة لأنظار كل ناقد ، فهل ترون فيها أنه كان في هذه السن من أرباب الصبوات ومن ذوي الشهوة العارمة ومن المقبلين على المتع والملذات ؟ فقد فكر مرة واحدة في أن يمارس بعض ما يمارس لِداتُه من اللهو ، فألقى الله على عينيه النوم حتى فاته ما فكر فيه . ولو أنه واقع شيئاً من ذلك فهل كان يسكت عنه خصومه من المشركين ، وقد كانوا حريصين على حربه وإيذائه من كل سبيل ؟ وتزوج وهو ابن خمسة وعشرين ، فهل تزوَّجَ الفتاةَ البكر الجميلة ، أم تزوج امرأة في سن أمه أرملةً في الأربعين ؟ وسائر زوجاته أما كان جلّهن أرامل ، تزوجهن زواج المصلحة ؟ وقد أحل الله له أكثر من أربع ، فأعطاه بذلك أكثر من باقي المسلمين ، ولكنه حرمه بالمقابل حقاً منحه لكل زوج ، وهو حق الطلاق .
    على أن القوة الجنسية ليست عيباً ، وكيف وهي مظهر الرجولة ؟ وفيم تكون الرجولة إن لم تكن في هذا ؟ لكن العيب أن يحيا الرجل لها وحدها ، ولا يفكر إلا فيها ، وأن يطلبها من طريق الحرام .
    وقصة زواجه بزينب التي يجترّ بتردادها الخصوم ، لا تستحق أقوالهم فيها الرد ، لأنها في الواقع مبنية على تحريف متعمّد للواقع ، أو على سوء فهم ظاهر .
    وزينب فتاة جميلة ، وهي قريبة من الرسول ، لو كان قد فكّر فيها لتَزَوّج بها ، وكان ذلك لو أراده أكبر أمانيها أو أماني أهلها ، ولكن الله جعلها محوراً لإصلاحين اجتماعيين من الإِصلاحات الإِسلامية ، واحد كانت هي مكان التجربة فيه ، والآخر كان مكانه الرسول نفسه .
    أراد الإِسلام القضاء على هذه العزلة الجاهلية ، وهذا الشعور الطبقي ، بتزويج زينت - وهي من أشرف أسر العرب - بزيد وهو أسيرٌ متبنَّى ، ولا يُعَدُّ في نظر هذا المجتمع كفؤاً لها ، فتزوّجته على كُره منها ومن أهلها ، وكانت حياتها سلسة متصلة من المنازعات ، وكان كلاهما يتمنى الفراق ، ولكن الرسول كان يمنعه من طلاقها ، ويقول له :
    { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ } .
    حتى امتلأ الكأس وفاضت ، ولم يبق إلى الاحتمال سبيل .. فطلّقها ! وهنا تجيء التجربة الثانية وهي أصعب وأشق ، ويكون على الرسول حمل عبئها ، بزواجه من زينب ، لإبطال عادة التبنِّي ، وبيان أن زوجة المتبنَّى لا تحرم على المتبني . والصعوبة فيها في تعريض محمد لأن يَظنَّ به هذا المجتمع أنه تزوّج امرأة ابنه ، وهذا الموقف أشق ما مر بالرسول ، ومع ذلك قد احتمله راضياً بأمر الله .
    فالحكاية ليست كما يظنون ويقدرون . وما يقولونه فيها لغوٌ لا يستحق الرد ، وما عرضتُ له إلا لأبيِّن الحق لمن لا يعرفه من القراء (1) .
    وقوة الجسد هي الانتصار على المقاومة المادية ، وقوة القلب نصر على الخصوم ، وهنالك قوة أكبر ، لأنها نصر على ما هو أكبر من المادة ، ومن الخصم ، هي قوة الخُلُق ، وهي نصر على النفس ، وطبائعها وغرائزها ورغباتها وميولها .
    __________
    (1) اقرأ كتاب " نداء للجنس اللطيف " للسيد رشيد رضا .




    وهذه مسألة نفسية مسلَّمة ، عبّر عنها الرسول بألفاظ شتى في مناسبات مختلفة ، فقال : " ليس الشديد بالصُرَعَةَ (1) ، ولكنّ الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب " .
    فإن القوة التي تحتاجها للتغلب على غضبك ، وإطفاء ناره في صدرك ، وأن تبدو هادئاً في حركاتك وصوتك ولهجتك تقدّر بمئة ، فهي أصعب بمئة مرة من تلك , وجرِّب أن تجيء لغضبان قد أعماه الغضب ، حتى لا يبصر ما أمامه ، فتحاول أن تذكره الخُلُق الحسن ، واللين والعفو ، هل تجد في كل عشرة آلافٍ واحداً يستجيب لك في هذه الحال ؟ .
    __________
    (1) الصرعة : مدمن المصارعة ومحترفها . والمعنى المراد : أن قوة الأعصاب التي يملك بها المرء نفسه عند الغضب ، أكبر من قوة المصارع الذي يغلب بها خصمه عند المباراة .
    __________
    صوّر لو أن رجلاً قتل أحب الناس إليك وأعزهم عليك ، ثم جاءك مستسلماً لدعوتك ( وأنت الداعية ) ، هل تنسى ما ذرفت من ماء العين على قريبك ، وما أرقت عليه من دمع القلب .. وتعفو ؟ .
    لقد عفا الرسول عن ( وحشي ) قاتل ( حمزة ) ، لما أسلم ، لكن غلبته طبيعته البشرية ، فيما لا يخالف الإسلام ، ولا يضر الرجل ، فقال له : " لا تجعلني أراك " ، فكان يتوارى عن عينيه .
    وهند ، هند امرأة أبي سفيان ، التي بلغ من حقدها على محمد ودعوته ، أن فعلت ما لا تفعله امرأة ، ولا يفعله إنسان ، ولا يفعله الذئب ، ولا النمر . شقت صدر حمزة وأخرجت كبده ولاكته .. هند التي فعلت في حرب الرسول الأفاعيل ، لقد عفا عنها وبايعها وقَبِل إسلامها .
    وأهل الطائف الذين سمعتم بخبر ما فعلوا بالرسول ، لما أسلموا عفا عنهم . وهاكم الموقف الأكبر ، المثل الأعلى في بابه ، في كل العصور : أهل مكة الذين جرعوه وأصحابه الصّاب والعلقم ، وآذوه في جسده ونفسه وعقيدته ، وقالوا عنه : ونالوا منه ومن أصحابه ، وقاطعوه ، وحبسوه في الشِّعب ، ووضعوا الشوك في طريقه ، وألقَوْا على رأسه كرش الناقة ، وهو ساجد ، وسخروا منه أنواع السخريات ، واستمر ذلك لا يوماً ولا يومين ، ولا سنة ولا سنتين ، ولكن ثلاث عشرة سنة ، ثم حاربوه وذبحوا أقرباءه وأصحابه ، حتى ظفر بهم ، وأقامهم أمامه حول الكعبة ، أذلاّء لا يملكون دفاعاً ، وجاءت ساعة الانتقام .. لا ، دعُوا كلمة الانتقام فإنها لا تليق بالمقام ، ساعة العقوبة المشروعة ، التي يكون فيها الرد على هذه السلسلة الطويلة من التعديات والإساءات ، وها هو ذا يقول لهم : " ما ترون أني فاعل بكم ؟ " .
    إنهم يذكرون ما صنعوا ويعرفون ما يستحقون ، ولكن يذكرون أيضاً خلق محمد ويعرفون مثله ، فيقولون : " أخ كريم ، وابن أخ كريم" .
    ويسكتون في انتظار الحكم القطعي ، ولو كان الحكم بقتلهم جميعاً لما وُجد من كتّاب التاريخ الصديق منهم والعدو من يلومه بكلمة ، ولكن حكم محمد كان غير ذلك ، كان مفاجأةً لا يتوقعها أحد ، مفاجأةً أدهشت عصره وكل عصر يأتي بعده ، قال لهم : " اذهبوا فأنتم الطلقاء " .
    وأنا آسف أن أعرض الموجز ، ولقد كنت أتمنى لو جعلت الفصل عنه وحده ، لأجْلُوه عليكم كما ينبغي أن يُجلى ، هذا الموقف يحتاج إلى قوة عشرة آلاف مصارع .
    وأنا أعجب لماذا حاول المتأخرون من مؤلفي السيرة الاستكثار من المعجزات ، والتوسع فيها ، وإضافة معجزات لم تكن ، وما حاجتهم إليها ؟ وكل موقف من سيرة الرسول ، وكل جانب من شخصيته ، هو معجزة من أكبر المعجزات .
    وما المعجزة ؟ أليست الأمر الذي يعجز الناس عن مثله ؟! .
    إن صدقه وأمانته معجزة ، ولن أسرد عليكم أمثلة كثيرة ، فالمجال ضيق ولكن أعرض مثالاً واحداً ، حادثة مررت بها في مطالعاتي مئات المرات ، فكنت أقرؤها على أنها خبر عادي ، ثم تنبّهت إليها يوماً فجأة فإذا هي أعجوبة ، وكم في السيرة من أمثال هذه الاخبار !! كلكم تعرفون أنه لما هاجر الرسول إلى المدينة ترك علياً مكانه ليرد الودائع التي كانت عنده لقريش ، فهل فكرتم يوماً ما قصة هذه الودائع ؟ .
    يردها لقريش لا للمسلمين ، إذ لم يبق أحد من المسلمين في مكة لما هاجر الرسول ، لأنه كان آخر من هاجر ، بقي كما بقي الربان في السفينة الجانحة ، لا يتركها حتى ينزل الركاب جميعاً ، ويصلوا إلى قوارب النجاة ، وهذه مَنْقبة ذكرتها عرضاً .
    قصة الودائع هي أن قريشاً كانت ( على كلّ ما كان بينها وبين الرسول ) لا تجد من تأتمنه على ذخائرها إلا محمداً ، فتصوروا حزبين مختلفين ، الحرب قائمة بينهما ، حرب اللسان واليد والمبدأ والعقيدة ، ثم يأتمن أفراد الحزب على أموالهم وأوراقهم رجلاً من الحزب الآخر ! .
    هل سمعتم بمثل هذه الحادثة ؟ وكيف يستودعونها هذا الخصم ، إن لم يكن في أخلاقه وأمانته معجزة من المعجزات ، والشك فيه أحد المستحيلات ؟ .
    هكذا كان محمد ! .
    ويومَ بدرٍ ، يومَ مرّ يعدل الصفوف قبل المعركة ، وفي يده قدح ( قطعة من الخشب ) ، فوجد سواد بن غزية بارزاً من الصف ، فدفعه بالقدح في بطنه وقال : " اعتدل يا سواد " ، قال : " يا رسول الله أوجعتني ، وقد بعثك الله بالحق والعدل " .
    تصوروا هذه المشهدة ، قائد الجيش يجابهه جندي عادي بهذا الكلام ، ماذا ترونه صانعاً به ؟
    يؤدبه ؟ يعرض عنه ؟ أو تبلغ به سماحة الصدر ونبالة الطبع ، فيسامحه ويعفو عنه ؟ أو يزيد على الغاية فيقول : " عفواً أنا أعتذر إليك " ؟ .
    أما رسول الله فقد صنع شيئاً لا يصنعه أحد ، ولا يخطر على بال أحد ، كشف له عن بطنه وأعطاه القدح ، وقال له : " استقد " ، أي : أوجعني كما أوجعتك .
    أقاد من نفسه وهو سيد البشر ! .
    هكذا كان محمد !
    كانت سيرة حياته كلها معجزة ، عجز عظماء العالم جميعاً عن أن يتركوا لهم سيرة مثلها . في كل ناحية منها عزة وعظمة ، في قوة جسده ، وتكوينه الرياضي ، في روحه الرياضية ، وأنه لا يستخفه النصر حتى يبطره ، ولا تزلزله الهزيمة حتى تثير غضبه أو تذهب بعزمه .
    في ثباته في المعامع الحمر حتى كان أبطال الصحابة يحتمون به ، وفي شجاعته التي تضعضع أمامها صناديد الرجال ، وفي تواضعه للمسكين والفقير ، ووقوفه للأرملة وللعجوز .
    في إقراره بالحق ، في صدق التبليغ عن الله ، حتى إنه بلّغ الآيات التي نزلت في تخطئته وفي عتابه ، وفي احترامه العهود وحفاظه على كلمته ، مهما كلفه الحفاظ عليها من مشقة ونصب ، سواء عنده في ذلك معاملاته الشخصية وشؤون الدولة .
    في ذوقه وحسّه المرهف ، وأنه هو الذي سنّ آداب الطعام وقرر قواعد النظافة في وضعه مع أصحابه إذ يعلمهم ويعمل معهم ، ويعيش مثلما يعيشون ، ويستشيرهم ويسمع منهم ، ويجلس حيث يجد المكان الفارغ في آخر المجلس حتى كأن القادم عليه لا يراه ، ينظر في وجوه القوم فيقول : " أيكم محمد ؟ " .
    لأن محمداً لم يكن يمتاز عليهم في جلوسه ، ولا في ثيابه ، كان مثلهم في كل شيء ، في سلوكه المهذّب العفيف مع النساء ، وفي سيرته في بيته ومع أهله ، ومزحه الصادق ، وانطلاق نفسه ، وأنه كا محبَّباً إلى كل قلب ، في تواضعه ورفضه أن يُعَدّ ملكاً ، ونهى أصحابه عن القيام له ، وأنه كان يقوم بحاجة أهله ، ويخصف بيده نعله ، وأنه عاش حياة الفقر زهداً في الغنى لا عجزاً عنه ، ولو شاء لكان قصره أفخم من إيوان كسرى ودارة قيصر ، ولكنه اختار الآخرة فكانت دور نسائه جميعاً ، نسائه التسع ، لا يتجاوز طولها كلها (1) خمسة وعشرين متراً .
    وكان منزل عائشة غرفة واحدة مبنية من اللَّبِن والطين ، وكانت من الضيق بحيث إنها لم تكن تسع لنومها وصلاته ، فكان إذا سجد دفع رجلها ليسجد في مكانها . أما طعامه فقد حدثت عائشة أنه كان يمر الشهر والشهران ، ولا يوقَد في بيت رسول الله نار ليخبز ليها الخبز ، قالوا : " فماذا كنتم تأكلون ؟ " .
    قالت : " التمر والماء " ، هذا هو طعام أسرة رسول الله .
    وفي بيانه وفصاحته ، أنه كان أبلغ من نطق وأبان ..
    كل ذلك فيه الإعجاز ، وفيه الدليل على أن الله ما اختاره لأسمى الرسالات ، وما جعله خاتم الأنبياء ، حتى أعده لذلك إعداداً جعله واحداً في بني آدم ، ليس له في شمائله نظير صلى الله عليه وسلم .
    { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } .
    _____________
    (1) دور نسائه التسع : مكانها في الحجرة الشريفة ، التي دفن فيها ، ومساحتها في حدود ما ذكرت .
    _____________
    قال الله سُبحانه وتعالى { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } الأنبياء:18


    تغيُّب

  7. افتراضي

    الإِيمَانُ بالكُتُبِ
    القرآن :
    القرآن هو معجزة محمد .
    والذين زعموا أن القرآن من تأليف محمد ، أنكروا عليه أنه نبي ، ولكنهم وصفوه بأنه إله ، ونحن نشهد :
    " أن لا إله إلا الله وأنه عبد الله ورسوله " .
    ذلك أن القرآن لا يستطيع أن يأتي به بشر ، ولا يمكن أن يأتي به بشر ، ولا يمكن أن يأتي إلا من عند الله . فمن قال إن محمداً ألّفه ، فقد منح محمداً صفة الألوهية ! .
    وإلا فأروني رجلاً كان أميّاً لا يقرأ ولا يكتب كما كان محمد ، ولم يدخل في عمره مدرسة ، بل لم يكن في بلده مدرسة ، بل هو لم يكن في بلدة كبيرة من بلدان الحضارة ، بل كان في قرية متوارية بين الجبال السود ، وراء رمال الصحراء ، لم تدرِ بها ( روما ) ولا ( القسطنطينية ) ولا ( مدائن كسرى ) ، ولم يدر أحد فيها بفلسفة ( اليونان ) و ( الرومان ) ولم يسمع واحد منهم بأدب ( الهند ) و ( إيران ) .
    قرية ليس فيها عالم ولا باحث ، ولا مثقف ثقافة صغار المفكرين في ذلك الزمان ، وهو لم يخرج منها إلا إلى قرية مثلها أو أكبر قليلاً منها ، هي ( بُصْرى ) الشام ، من أرض حَوْران ، ولم يقم فيها إلا يوماً أو أياماً قليلات معدودات .
    هل يمكن لمثل هذا الرجل أن يأتي بمثل القرآن ؟ .
    هذه تواريخ العباقرة والنابغين بين أيديكم ، تواريخ الأمم كلها في العصور كلها ، فهل فيها حادث مثل هذا الحادث ؟ .
    لقد ألف ( مورارت ) قطعة موسيقية وهو دون العاشرة ، ونظم ( بشار ) الشعر وهو في مثل هذه السن ، ونبغت مؤلفة ( جين إير ) وأختها كاتبة ( أعالي وذرنج ) نبوغاً مفاجئاً ، وترك ( شكسبير ) هذه الثروة الأدبية ، ولم يكن من أكابر أدباء عصره ومثقفيه . كل هذا ممكن ، ويمكن أن يؤلِّف شاب مغمور كتاباً يأتي فيه بقصة رائعة ، أو نظرية علمية جديدة لأنه عبقري ، والعبقرية ليست وقفاً على المتعلمين ، ولا على خرّيجي الجامعات ، وقد تظهر العبقرية حيث لا يُتوقّع ظهورها ، ولكن من عرفهم التاريخ من عباقرة العلم والأدب والفن ، إنما سبقوا زمانهم بقرن مثلاً ، زادوا على أقرانهم خمسين في المئة ، أو مئة في المئة . إن لسبقهم حدوداً ، إنه سبق معقول .
    وليس في التاريخ كله ، رجل كانت له ظروف محمد صلى الله عليه وسلم ، يأتي بكتاب هو في الأسلوب الأدبي في أبهى صور الجمال ، وهو في مجال التشريع قانون في ذروة الكمال ، وهو في الإِلهيات والإِخبار عن المغيَّبات ، يأتي بما لا يعرفه أحد من البشر ، ولا يمكن أن يدركه بنفسه العقل البشري ، وهو في الطبيعة يشير إلى قوانين وظواهر لم يكن يعرفها أحد في عصره ، ولا في العصر الذي تلا عصره ، ولا في العصور العشرة التي جاءت بعد ذلك . فيه إشارات إلى قوانين لم تُكشف إلا بعده بألف وثلاثمئة سنة ، وقوانين لم تُكشف للآن .
    كتاب أمره الله أن يتحدّى به الناس جميعاً ، فتحدى الإِنس والجن ،: أن يأتوا بعشر سور من أمثال سوره ... أن يأتوا بسورة واحدة .. فعجزوا ! وهذا التحدي قائم إلى الآن ، والعجز مستمر إلى الآن .
    إعجاز ثابت ، ولكن لا تبحثوا كما بحث علماء البلاغة ، عن مواطن الإعجاز ، فإن موطن الإعجاز ليس في ألفاظه وحدها ، ولا في أخباره عن المغيَّبات فقط ، ولا في أمر واحد من الأمور التي ادَّعَوا أن الإِعجاز فيها ، بل فيه كله مجتمعاً .
    وإن كان كل ناظر في القرآن ، يلمح الإِعجاز من الجهة التي ينظر فيها .
    تعرفون قصة رئيس قسم تحقيق الشخصية ، الذي أسلم لما سمع قوله تعالى : { بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ } .
    فكّر : لماذا خصّ ( البنان ) بالذكر ؟ ماذا فيه ؟ فيه بصمات الأصابع ، هذه المعجزة الإِلهية العجيبة ، كم ظهر على الأرض من ناس ؟! إنه ليس فيهم اثنان تتفق بصمة أحدهما وبصمة الآخر .
    إنها ظاهرة عجيبة ، ولكنها عُرفت من قريب ، لم يكن يعرفها على عهد محمد ولا في القرون العشرة التي تلت عهد محمد .
    فلا بد إذن أن يكون محمد قد تلقّاها من عند الله ، ولا بد أن يكون القرآن كلام الله . وفي القرآن مئات من أمثال هذه الإِشارة ، لا نزال نجد كل يوم من ينتبه إلى واحدة منها ، كلما درس القرآن دارسٌ بدت له من إعجازه جوانب لم يدركها الأولون ، لأنه لا تفنى عجائبه .
    لذلك يجب أن يفسَّر القرآن في كل زمان تفسيراً جديداً . يفسره الأديب ، ويفسره الحقوقي ، ويفسره الفلكي ، ويفسره عالم النفس ، وعالم الاجتماع ، والمؤرخ ، كل واحد منهم يجد فيه مجالاً لعلمه واختصاصه ، ودليلاً من اختصاصه وعلمه على أن القرآن كلام الله .
    إن معجزات الرسل الأولين وقعت مرة وانقضت ، ولكن معجزة محمد قائمة تتكرر كل يوم . ومعجزات الرسل دليل من غير جنس الرسالة ، على صحة الرسالة ، ومعجزة رسالة محمد ، هي رسالته نفسها ، صلى الله عليه وسلم وعلى إخوانه الأنبياء والمرسلين .
    قال الله سُبحانه وتعالى { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } الأنبياء:18


    تغيُّب

  8. افتراضي

    الإيمان بالكتب
    نحن نؤمن بالقرآن ، وبالكتب المنزلة التي خبّرنا عنها القرآن ، وهذه الكتب هي : ( صحف إبراهيم ) ، و ( صحف موسى ) وهي ( التوراة ) ، و ( زبور داود ) ، و ( إنجيل عيسى ) .
    والقرآن هو الحاكم عليها ، والميزان الذي يُعرف به صحيحها من الذي حُرِّف منها ، قال تعالى :
    { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } .
    فما أخبرنا الله في القرآن أنه من هذه الكتب آمناً به ، وقلنا بكفر من أنكره ، وما وافق القرآن من أخبار هذه الكتب اعتقدنا أنه باق على صحته ، وأن التحريف لم يصل إليه ، وما جاء من أخبارها مخالفاً لما رواه القرآن عنها اعتقدنا أنه محرَّف عن أصله .
    صحف إبراهيم :
    خبّرنا الله أن مما جاء في صحف إبراهيم ، ونكرر في صحف موسى :
    { أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ... وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى } .
    إلى آخر هذه الآيات :
    وأن من ذلك قوله :
    { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ، بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ، إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى ، صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } .
    التوراة :
    التوراة منزّلة من عند الله ، فيها هدىً للناس ، وفيها حكم الله ، قال تعالى : { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ... إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ } .
    ومما خبّرنا به عن أحكام التوراة قوله :
    { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } (1) .
    وخبّرنا أن فيها بشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم ، قال :
    { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ } .
    وأن فيها وصف المؤمنين :
    { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ } .
    الزَّبُور :
    قال تعالى :
    { وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً } .
    وخبّرنا أن مما كتب في الزبور وراثة الصالحين الأرض ، قال تعالى : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } .
    ولعل المراد بالأرض الجنة ، لقوله تعالى حكاية عن المؤمنين الذين يدخلونها :
    { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ .. } .
    الإِنجيل :
    قال تعالى :
    { وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ } .
    وبيّن أن الإِنجيل المنزّل ، يشتمل على أحكام تشريعية ، قال تعالى :
    { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْأِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ } .
    وفيه تعديل لشريعة التوراة :
    { وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } .
    وفيه كالتوراة بشارة بمحمد ، ووصف للمؤمنين به .
    ونحن نؤمن بكل ما أنزل الله من : ( صحف ) ، و ( توراة ) ، و ( زبور ) ، و ( إنجيل ) ، ونحترم سائر الأنبياء وفيهم : ( إبراهيم ) و ( موسى ) و ( داود ) و ( عيسى ) ، صلى الله عليهم جميعاً .
    ____________
    (1) لبعض العلماء بحث في هذه الأحكام ، هل كُلِّفنا نحن المسلمين بها أم لا ؟ راجع " تفسير المنار " .
    ______________
    خَاتِمَة
    هذه هي العقائد الإِسلامية :
    من اعتقدها واعتقد بكل ما أخبر به القرآن ، وظهرت آثار هذا الاعتقاد في عمله ، فهو المسلم الكامل . يعمل بالقرآن الذي اعتقد صحته ، لا يكتفي بتلاوته بلا فهم ، ولا بتلحينه والتطريب به بلا علم ، بل يتخذه دستوراً لحياته ، يحلّ حلاله ، ويحرّم حرامه . يعمل ما أوجبه ، ويترك ما نهى عنه .
    إن كانت ديانات الناس للمعابد وحدها ، فالإِسلام ليس للمسجد وحده ، ولكن للمسجد وللدار وللسوق ، ولقصر الحكم ، وللحرب وللسلم . الإسلام يلازم المسلم دائماً ، يبيّن له ما يُباح له ، وما يحرم عليه . هو معه إنْ خلا بنفسه ، ومعه إن انفرد بأهله ، وهو معه في تجارته وفي عمله ، كل عمل من أعمال المسلم له حكم من الأحكام الخمسة ، ومنها الإباحة الأصلية . وإنْ كانت الديانات الأخرى عبادات فقط ، لا علاقة لها بالسياسة ، ولا بالعلم ، فالإِسلام عبادة ، وقانون مدني ، وقانون جزائي ، وقانون دولي ، ونظام إداري ، ومذهب خلقي ، وهو علم ، وهو سياسة ، وهو عمل ، وهو جهاد ، افتحوا أيّ كتاب من كتب الفقه ، وانظروا في فهرسه ، تروا هذه الجوانب كلها فيه (1) .
    وإنْ كانت العبادات في الديانات الأخرى صلاة فقط ، فالعبادة عندنا ليست صلاةً وصياماً فقط ، بل إنّ كل عمل ينفع الناس إن قصد به فاعله وجه الله ، كان له عبادة .
    وإذا فصلوا بين الدين - الذي هو عبادة فقط - وبين العلم ، فالإِسلام دين العلم . أول كلمة نزلت من كتابه كانت ( اقرأ ) ، لم تكن ( قاتل ) ، ولا ( اجمع المال ) ، ولا ( ازهد في الدنيا ) . و ( اقرأ ) هذه أول كلمة أُنزلت من القرآن وجاء بعدها ذكر العلم ، ما منَّ الله على الإِنسان بما أعطاه من مال ولا قوة ولا جاه ، بل بأنه علّمه ما لم يعلم .
    وكل عمل يحتاج إليه مجتمع إسلامي ، يكون تعلمه فرض كفاية على القادرين عليه ، فهل في الوجود دين - إلاّ الإِسلام - يجعل تعلم الكيمياء ، والطب ، والطيران ، من الفروض الدينية ؟ .
    والإِسلام دين الغنى ، الله سمى المال في القرآن خيراً ، فقال :
    { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } .
    وقال في آية الوصية :
    { إِنْ تَرَكَ خَيْراً ... } . أي : مالاً .
    فينبغي أن يكون المسلمون أغنياء ، ولكن بشرط أن يجمعوا المال من الحلال ، وأن يكون المال في أيديهم لا في قلوبهم . والمال وكل ما في الكون مسخّر للإِنسان . والإِنسان المسلم يُحسّ أنه عبد الله ، ولكنه سيد لما في الكون من أشياء ، يتصرف فيه تصرف السيد ، يستجلب النفع الذي أودعه الله فيه ، فهو يرغب في النافع ولكن لا يعظّمه لذاته ، فإن عظّمه لذاته صار عبداً له ، وكان بذلك قد أشركه في العبادة مع الله .
    والمال جعله الله لجلب النفع ، فإنْ أنتَ ادخرته وخبأته ولم تنتفع منه صرت خادماً له وعبداً ، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم :
    " تَعِس عبد الدرهم " .
    والثياب جُعلت لدفع البرد ، وستر الجسد ، فإن عظّمتها لذاتها ، فحفظتَها ورعيتَها ولم تنتفع بها ، صرت عبداً لها ، وقد :
    " تعس عبد الخميصة " .
    والإسلام دين القوة ولكن بلا ظلم .
    والإسلام للدنيا والآخرة :
    { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ... } .
    وهو يريد من المسلمين أن يصدقوا الإِيمان ، وأن يتبعوا الشرع ، وأن يكونوا مع هذا أرقى الامم ، وأقوى الأمم ، وأعلم الأمم ، وأغنى الأمم ، ليجمعوا حسنة الدينا وحسنة الآخرة ، وأن يعلم كل مسلم - بعد هذا - أن عليه واجباً آخر ، هو التعريف بالإِسلام ، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، فلا يكره الناس على الإِسلام { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } .
    بل يعرض عليهم محاسنه حتى يرغبوا فيه ، ولا يدعو بلسان مقاله فقط ، بل بلسان حاله ، بأن يكون المجتمع الإسلامي صورة مجسِّمة لمبادئ الإسلام لا بأن يكون صورة مشوهة لها ، تنفر منها وتبعد عنها كما هي الحال الآن . بأن يكون الداعي قويّ العقل ليقيم الحجة ، عالماً بالإسلام ليحسن العرض ، مثقّفاً بثقافة العصر ليكلّم الناس بلغة العصر ، وأن يكون لطيف المدخل ، خفيف الظل ، لا فظّاً ولا غليظاً ، ولا جافياً عاتياً .
    وأن يعلم أن الإسلام ملا يفزع من المناظرة ، ولا يهرب منها ، وأن كل شيء في بالدليل وبالحجة والبرهان ، وأنه يطالب بالدليل حتى ممن يدعي ما يخالف الإسلام :
    { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ... وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } .
    لو كان له برهان ... ولكن يستحيل إقامة الدليل على خلاف التوحيد . ولو وجد هؤلاء الدعاة إلى الله لدخلت الدنيا كلها في دين الله ، والله أنزل هذا الدين ، وهو قد تعهد بحفظه :
    { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } .
    فالإسلام باق لا يزول ، والعاقبة له ، ولكن إما أن نعود - نحن المسلمين - إلى ديننا ، فيكون لنا شرف النصر في الدنيا ، وثواب الله في الآخرة ، وإما أن يستبدل بنا قوماً غيرنا يدخلون في الإِسلام ، ويتولّوْن الدعوة إليه والدفاع عنه .
    ونعوذ بالله من أن يستبدل بنا ، ونسأله أن يردّنا إلى ديننا ، وأن يكتب النصر له على أيدينا ، وأن يغفر لنا ويرحمنا .
    وآخر دعوانا : أن الحمد لله رب العالمين .
    قال الله سُبحانه وتعالى { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } الأنبياء:18


    تغيُّب

  9. افتراضي

    هذا الفصل ( سقط سهواً مني ) وهو الفصل الثاني , ماقبل " الإيمان بالله " ..
    قَواعدُ العقَائِد (1)
    القاعدة الأولى :
    ما أدركه بحواسي لا أشك في أنه موجود . هذه بديهية عقلية مسلّمة .
    ولكن المشاهد أني أمشي في الصحراء ساعة الظهيرة ، فأرى بركة ماء ، تلوح ظاهرة للعين ، فإذا جئتها لم أجد إلا التراب لأن الذي رأيته سراب . وأضع القلم المستقيم في كأس الماء ، فأراه منكسراً ، وهو لم ينكسر , والسحرة والمشعوذون يعرضون غرائب تراها ولا حقيقة لها .
    فالحواس إذن تخطئ ، وتخدع ، وتتوهم ، أو يتوهم صاحبها . فهل أشك لهذا في وجود ما أحس به ؟ .
    لا ، لأني إن شككت فيما أرى وأسمع وأحس ، تداخلت لديّ الحقائق والخيالات . وصرت أنا والمجنون سواء .
    ولكن أضيف شرطاً آخر لحصول العلم ( أي اليقين ) بوجود ما أحسه ، هو : ألاّ يحكم العقل بالتجربة السابقة أن الذي أحس به وهم أو خداع حواس ، والعقل يخدع أول مرة ، فيحسب السراب ماءً ، فإذا رآه مرة أخرى أدرك أنه سراب . والعقل يحكم بعد أن رأى القلم منكسراً أول مرة ، أنه لا يزال مستقيماً كما كان وإن بدا للعين منكسراً . والأمور التي تخطئ فيها الحواس أو تخدع ، أمور محدودة معدودة معروفة ، لا تبطل القاعدة ولا تؤثر فيها ، ومنها عمل سحرة فرعون ، وما يعمله سحرة ( السيرك ) في هذه الأيام .

    القاعدة الثانية :
    هناك أشياء ما شاهدناها ولا أحسسنا بها ، ولكن نوقن بوجودها كما نوقن بوجود ما نشاهده ونحس به . نوقن بوجود الهند والبرازيل ، ولم نزرهما ولم نرهما ، ونوقن بأن ( الإِسكندر المقدوني ) فتح بلاد فارس ، ( والوليد بن عبد الملك ) بنى الجامع الأموي ، ولم نحضر حروب الإِسكندر ، ولا شهدِنا بناء الجامع الأموي .
    ولو نظر كل واحد منا في نفسه لرأى أن ما يوقن بوجوده من الأشياء التي لم يرها ، أكثر من الأشياء التي رآها من الممالك والبلدان ، ومن حوادث التاريخ الذي كان ، ومما يقع الآن .
    فكيف أيقن بوجود هذه الأشياء ، وهو لم يدركها بحواسه ؟ .
    أيقن به حين نقله جماعات عن جماعات ، لا يتصور إمكان اتفاقهم ( في العادة ) على اختراع هذه الأخبار ، ونقلها كذباً .
    فالقاعدة الثانية : أن اليقين كما يحصل بالحس والمشاهدة ، يحصل بالخبر الذي نعتقد صدق صاحبه .

    القاعدة الثالثة :
    ما مدى العلم الذي تبلغه الحواس ؟ وهل تستطيع أن تصل إلى إدراك كل موجود ؟ .
    إن مثل النفس والحواس مع الموجودات ، كمثل رجل سجنه الحاكم في برج القلعة ، وسدّ عليه الأبواب والنوافذ ، ولم يترك له إلا شقوقاً في جدار البرج ، شقاً يطل منه على النهر يجري في الشرق ، وشقاً على الجبل الذي يقوم في الغرب ، وشقاً على القصر الذي يجثم في الشمال ، وشقاً على الملعب الذي يقع في الجنوب .
    السجين هو النفس ، والقلعة الجسد ، وهذه الشقوق هي الحواس : حسّ النظر يشرف منه على عالم الألوان ، وحسّ السمع على عالم الأصوات ، وحسّ الذوق على عالم الطعوم ، وحسّ الشم على عالم الروائح ، وحسّ اللمس على عالم الأجسام .
    1- والسؤال الآن : هل أدرك بكل حاسة من هذه الحواس كل ما في العالم الذي تشرف عليه ؟ السجين عندما ينظر من شق النهر ، لا يرى النهر كله ، ولكن جزءاً منه ، وكذلك العين حين تشرف على عالم الألوان ، لا تراه كله بل ترى بعضه .
    أنا لا أرى نملة تمشي على بعد ثلاثة أميال ، مع أن النملة موجودة , وإن لهذه النملة صوتاً ، ولكني لا أسمعه ، لأن أذني تلتقط الهزات من خمس إلى عشرين ألفاً ، فما نقص لا تسمعه ، وما زاد ثقب طبلة الأذن فبطل بذلك السمع . وأنا لا أشم للسكر رائحة ، مع أن النملة والذباب يشمه ويسرع إليه . فالحواس إذن لا تدرك من العوالم التي سُلّطت عليها إلا جزءاً منها .
    2- ثم ألا يمكن أن يكون بين عالم الألوان الذي تشرف عليه العين ، وعالم الأصوات الذي تطل عليه الأذن عالم آخر ، لا أدركه أصلاً لأنه ليس عندي الحاسة لإدراكه ؟ .
    الأكمه ( الذي ولد أعمى ) قد يستطيع بالسماع معرفة أن البحر أزرق والمرج أخضر ، ولكنه لا يستطيع أن يدرك ما هي الزرقة وما هي الخضرة . والأصم ، قد يعرف بالتعلم أن في الأنغام : البيات والرصد والسيكا ، ولكنه لا يستطيع أن يدرك حقيقة النغم . فهل يحق للأعمى أن يكر وجود الخضرة ، وللأصم أن يجحد حقيقة النغم لأنه لا يدركها ؟ .
    إن الغرفة التي تبدو لك ساكنة سكوناً عميقاً ، فيها - في جوّها - جميع الأغاني والأصوات التي تذاع الآن ، من جميع الإذاعات . أنت لا تحس بها لأنها ليست لوناً تراه بعينك ، ولا صوتاً تسمعه بأذنك . إنها اهتزازات من نوع آخر ، فيها صوت ولكن لا تدركه الأذن ، فإذا جئت بالرّاد (1) الذي يردّها عليك ، سمعتها .
    الضغط الجوي لا تحس باختلافه القليل ، لأنه ليس لديك حاسة تدركه بها ، فإذا جئت بـ ( البارومتر ) أدركته به . الهزات الخفيفة لا تدركها ، ولكن ( الرادار ) يدركها .
    ففي الوجود أشياء كثيرة لا تدخل في نطاق الحواس ؛ لأنها ليست لوناً يُرى ، ولا صوتاً يُسمع ، ولا جماداً يُلمس ، ولا رائحة تُشَم ، ولا طعماً يذاق ، فهل يحق لي أن أنكرها ، لأن حواسي المحدودة لا تدركها ؟ .
    3- والحواس هل هي كاملة ؟ كان الأقدمون يحصرونها في خمس حواس فقط ، لا يتصورون إمكان الزيادة عليها . ولكن كُشفت في الإِنسان الآن حواس أخرى أودعها الله فيه ، وما يقبل الزيادة يوصف بالنقصان .
    أنا أغمض عيني ، وأبسط يدي أو أقبضها ، فأحس بأنها مبسوطة أو مقبوضة ، لم ألمسها ولم أرها ، فبأي حاسة أحسست لها ؟ بما يسمى ( الحسّ العضلي ) . وأحس بالتعب والونى ، وبالغثيان ، وبالانبساط أو الانقباض ، وما أحسست بذلك بواحدة من الحواس الخمس ، بل ( بالحس الداخلي ) . وأمشي فلا أميل ، مع أن الطفل أول مشيه يميل ، وراكب الدراجة ولاعبو ( السيرك ) ، الذين يأتون بالعجائب ، بأي حاسة ضبطوا توازنهم ؟ إن هناك حاسة ثامنة هي ( حاسة التوازن ) ، وأذكر أنهم كشفوا موضعها ، الذي وضعها الله فيه . في الأذن الداخلية مادة سائلة قليلة ، بها يكون التوازن ، وأذكر أنهم في تجاربهم استخرجوها من أرنب ، فصارت تمشي الأرنب مترنّحة كأنها سكرى .
    _________
    (1) الراد : اسم فاعل من ردّ وضعتها لـ ( الراديو ) ، لانه يرد الصوت الذي يرسله المذياع .
    فالقاعدة الثالثة : هي أنه لا يحق لنا أن ننكر وجود أشياء لمجرد أننا لا ندركها بحواسنا .
    _________
    القاعدة الرابعة :
    قلنا : إن الحواس محدودة المدى ، فأنا لا أستطيع أن أرى ببصري كل مرئي ، وهذا صحيح ، ولكن الله أعطانا ( مَلَكة ) نتم بها نقص الحواس ، هي الخيال . أنا إن لم أستطع أن أرى داري في دمشق ، وأنا في مكة ، أستطيع أن أتخيّلها فكأنني أراها ، فالخيال يكمّل الحواس .
    الخيال عند علماء النفس خيالان : خيال مرجع ، كتخيّلي الدار في دمشق وأنا في مكة ، وخيال مبدع ، هو خيال الشعراء والقصاصين والرسامين ، وسائر أهل الفنون . فانظروا إلى خيالات هؤلاء الفنانين ، هل جاؤوا بشيء غير ما في الواقع ؟ الذي نحت تمثال ( فينوس ) جاء بصورة لم نر من يماثلها تماماً ، ولكن هل كانت جديدة ، أم أخذ أجزاءً من الواقع ، فألّف بينها ؟ أخذ أجمل أنف رآه ، وأجمل فم ، وأجمل جسم ، فجمع هذا إلى ذاك ، فجاء بجديد ، ولكن هذا الجديد مؤلف من أجزاء قديمة .
    وتمثال الثور المجنح الأشوري في متحف باريس ، ما فيه إلا أن ناحِتَهُ أخذ رأس رجل فوضعه على جسد ثور ، ووضع له أجنحة طائر . صورة جديدة ، ولكنها مؤلفة من أجزاء قديمة .
    بل إننا إذا أوغَلْنا في الإغراب في جمع هذه الأجزاء ، نجد الخيال نفسه قد عجز عن الإلمام بهذا الجمع ، خذوا - مثلاً - جزءاً من عالم الرائحة ، وجزءاً من عالم الصوت : فقولوا إن فلاناً المغني قد غنى نغمة معطرة بعطر الورد ، أو إن العطر الفلاني له رائحة لونها أحمر ، واعرضوا هذه الصورة على خيالكم ، تجدوا أنكم لم تستطيعوا أن تتخيلوها ، مع أنها جميعاً ما خرجت عن عالم الواقع .
    فنحن لا نستطيع أن نتخيل نغمة عطرة ، ولا رائحة حمراء ، فكيف إذن نتخيل الآخرة وما فيها ، وهي عالم يختلف عن عالمنا ؟!
    قال ابن عباس : ( ما في الدنيا مما في الآخرة إلاّ الأسماء ) . فلا خمر الآخرة كخمرة الدنيا ، ولا حورها كنسائها ، ولا نار جهنم كنارها ، ولا الصراط الممدود على جهنم كالجسور الممدودة على الأودية والأنهار .
    فالقاعدة الرابعة : أن الخيال البشري لا يستطيع أن يُلمّ إلاّ بما أدركته الحواس .
    القاعدة الخامسة :
    لما أبصرت العين العود المستقيم أعوج ، وهو في كأس الماء ، لم ينخدع العقل بما رأت العين ، بل عرف أنه لم يزل مستقيماً , ولما أبصرنا ساحر ( السيرك ) يخرج من فمه مئة منديل ومن كمّه عشرين أرنباً ، أدرك العقل أنها خدعة . فالعقل أصبح حَكَماً ، وحكمه أبعد مدى ، ولكن هل يحكم على كل شيء ، ويمتد مداه إلى غير ما نهاية ؟ .
    إن العقل لا يستطيع أن يدرك شيئاً ، حتى يحصره بين اثنين : الزمان والمكان . فما لم ينحصر بينهما ، لم يدركه العقل بنفسه . فلو قال لك مدرس التاريخ : إن حرباً وقعت بين العرب والفرس ، ولكنها لم تقع قبل الإِسلام ولا بعده ، ولم تقع في زمن من الأزمان ، ولكنها وقعت فعلاً ، لم تدرك ذلك ولم تصدقه ، ولم تقبله ، ولو قال لك مدرس الجغرافية : إن بلدة ليست في سهل ولا جبل ولا في برّ ولا بحر ، ولا في أرض ولا سماء ، ولا في مكان من الأمكنة ، ولكنها موجودة ، لم تدرك ذلك ، ولم تصدقه ، ولم تقبله .
    فالعقل لا يحكم إلا في حدود الزمان والمكان . فما كان خارجاً عنهما من مسائل الروح ، وأمور القدر ، وآلاء الله وصفاته ، فلا حكم للعقل عليه .
    ثم إن العقل محدود , ولا يستطيع أن يحيط به ، تصوّر خلود المؤمنين في الجنة ! إن عقل المؤمن موقن بأنه حقيقة ، وقد جاءه هذا اليقين من الخبر الصادق . ولكن انظر هل يحيط عقلك بالخلود ؟ ركّز فكرك فيه ، تجد أنك تتصور بقاءهم في الجنة قرناً وقرنين ، ومئة قرن ، ومليون ، وألف مليون ، ثم تجد عقلك يقف عاجزاً ، ويسأل : وبعد ؟ إنه يريد أن يضع لذلك نهاية . إنه لا يدرك الـ ( لا نهاية ) ، وإذا افترض الوصول إليها وقع في التناقض الذي يقول ببطلانه .
    أن العقل يختل ميزانه إن حاول الحكم على غير المحدود ، ويقع في التناقض المستحيل ، إذا بحث فيما لا ينتهي .
    فالعقل إذن لا يستطيع أن يحكم ، ولا يصح حكمه إلا في الأمور المادية المحدودة . أما ( ما وراء المادة ) ، أي عالم الغيب ( الميتافيزيك ) ، فلا حكم للعقل عليه .
    للمزيد : كتاب " شرح المواقف " للسيد ، ورسالة " المقصد الأسنى " للغزالي (1) ، وسائر كتب علم الكلام .

    القاعدة السادسة :
    ولقد قرأت في مجلة ( المختار ) ، المترجمة عن مجلة ( ريدرز دايجست ) ، مقالةٌ نشرت أيام الحرب ، لشاب من جنود المظلات ( يوم كانت المظلات والهبوط بها شيئاً جديداً ) يروي قصته فيقول : إنه نشأ في بيت ليس فيه من يذكر الله أو يصلي ، ودرس في مدارس ليس فيها دروس للدين ، ولا مدرّس متدين ، نشأ نشأة ( علمانية ) مادية ، أي مثل نشأة الحيوانات التي لا تعرف إلا الأكل والشرب والنكاح ، ولكنه لما هبط أول مرة ، ورأى نفسه ساقطاً في الفضاء قبل أن تنفتح المظلة ، جعل يقول : يا الله يا رب ، ويدعو من قلبه ، وهو يتعجب من أين جاءه هذا الإيمان ؟ .
    وبنت ( ستالين ) نشرت من عهد قريب مذكّراتها ، فكرت فيها كيف عادت إلى الدين ، وقد نشأت في غمرة الإلحاد ، وتعجب هي نفسها من هذا المعاد . وما في ذلك عجب ، فالإيمان بوجود إله ، شيء كامن في كل نفس ، إنه فطرة ( غريزة ) من الفِطر البشرية الأصلية , ولكن هذه الفطرة ، قد ( تغطيها ) الشهوات والرغبات والمطامع ، والمطالب الحيوية المادية ، فإذا هزتها المخاوف والأخطار والشدائد ، ألقت عنها غطاءها فظهرت ، ولذلك سمي غير المؤمن ( كافراً ) ، ومعنى الكافر في لسان العرب ( الساتر ) .
    في قرارة نفس كل إنسان الإيمان بإله ، هذه حقيقة نعرفها نحن المسلمين ؛ لأن الله خبرنا أن الإيمان فطرة فطر الناس عليها . وقد عرفها الإفرنج من جديد ، ( دور كايم ) أستاذ الاجتماع الفرنسي المشهور (1) له كتاب في أن الإيمان بوجود إله بديهية . لا يمكن أن يعيش الإنسان ويموت من غير أن يفكر في وجود إله لهذا الكون ، ولكن ربما قصر عقله فلم يهتد إلى المعبود بحق ، فعبد من دونه أشياء ، عبدها على توهم أنها هي الله ، أو أنها تقرب إلى الله .
    و( فرعون ) تكبر وتجبر ، وقال : { أنا ربكم الأعلى } ، فلما أدركه الغرق ، قال : { آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل .. } .
    القاعدة السابعة :
    هي أن الإِنسان يدرك بالحَدْس أن هذا العالم المادي ليس كل شيء ، وأن وراءه عالماً روحياً مجهولاً ، يدك منه لمحات تدل عليه . ذلك أن الإِنسان يرى اللذات المادية محدودة ، إذا هي بلغت غايتها ووصلت إلى حدها . لم تعد اللذة لذة ، ولكن صارت ( عادة ) ، فذهب طعمها ، وبطل سحرها ، وصارت كالنكتة المحفوظة ، والحديث المعاد .
    يبصر الفقير سيارة الغني تمر به ، وعمارة الغني يمر بها ، فيحسب أنه يحوز الدنيا إن حاز مثلها ، فإن صارت له ، لم يعد يشعر بالمتعة بها . ويسهر المحب يحلم بوصل الحبيب ، يظن أن متع الدنيا كلها بحبه ، والأماني كلها في قربه ، فإذا تزوج التي يحب ، ومر على الزواج سنتان ، اضمحلت تلك الأماني ، وماتت تلك المتع ، ولم يبق له منها إلا ذكرها .
    ثم يجد أنه يسمع الأغنية الحالمة ، في الليلة الساجية ، قد خرجت من قلب مغنٍّ عاشق ، فهزت من سامعها حبّة القلب ، وأطلت به على عالم الروح . ويقرأ القصة العبقرية للأديب البارع ، فيحس كأنها تمشي به في مسارب عالم مسحور ، فيه مع السحر شعر وعطر ، فإذا انتهت القصة رأى كأنه في حلم لَذٍّ فتان ، وصحا منه ، فهو يحاول عبثاً أن يعود إلى لذته وفتونه .
    وإذا بالنفس تتشوق أبداً إلى هذا ( العالم الروحي ) العلوي ، العالم المجهول ، الذي لا تعرف منه إلا هذه اللمحات ، التي لا تكاد تبدو لها حتى تختفي ، وهذه النفحات التي لا تهبّ حتى تسكن ، فيعلم أن اللذات المادية محدودة ، وأن اللذات الروحية أكبر منها كبراً ، وأعمق في النفس أثراً . ويُوقن ( بالحدس النفسي ، لا بالدليل العقلي ) أن هذه الحياة المادة ليست كل شيء (1) ، وأن العالم المجهول ، المختبئ وراء عالم المادة ، حقيقة قائمة ، تحنُّ إليها الأرواح ، وتحاول أن تطير إليها ، ولكن هذا الجسد الكثيف يحجبها عنها ، ويمسكها عن أن تنطلق وراءها ، وهذا هو الدليل النفسي على وجود العالم الآخر .
    القاعدة الثامنة :
    الاعتقاد بوجود الحياة الآخرة نتيجة لازمة للاعتقاد بوجود الله ، وبيان ذلك أن الإله لا يقرّ الظلم ، ولا يدع الظالم بغير عقاب ، ولا يترك المظلوم من غير إنصاف . ونحن نرى أن في هذه الحياة من يعيش ظالماً ويموت ظالماً لم يعاقَب ، ومن يعيش مظلوماً ويموت مظلوماً لم ينصَف . فما معنى هذا ؟ وكيف يتم هذا ما دام الله موجوداً ، وما دام الله لا يكون إلا عادلاًَ ؟ معناه أنه لا بد من ( حياة أخرى ) يكافأ فيها المحسن ويعاقَب المسيء ، وأن ( الرواية ) لا تنتهي بانتهاء هذه الدنيا . ولو أنه عُرض ( فلم ) في الرائي ( التلفزيون ) ، فقطع من وسطه وقيل ( انتهى ) ، لما صدق أحد من المشاهدين أنه انتهى ، ولنادوا ماذا جرى للبطل ؟ وأين تتمة القصة ؟ ذلك لأنهم ينتظرون من المؤلف أن يتم القصة ، ويسدد حساب أبطالها . هذا والمؤلف بشر ، فكيف يصدّق عاقل أن ( قصة ) الحياة تنتهي بالموت ؟ كيف ، ولم يسدد بعد الحساب ، ولا اكتملت الرواية ؟ .
    فأيقن العقل من هنا ، أن لهذا الكون رباً ، وأن بعد الدنيا آخرة ، وأن ذاك العالم المجهول ، الذي لمحت الروح ومضة من نوره في الأغنية الحالمة ، والقصة البارعة ، واستروحت نفحة من عطره ، في ساعة التجلي ، ليس عالم المثل (1) الذي كان خيالاً صاغه أفلاطون ، ولكنه عالم الآخرة , الذي هو حقيقة أبدعها خالق أفلاطون . ورأى الإِنسان أن أكبر لذائذ الدنيا ، لذة الوصال ، لا تدوم إلا نصف دقيقة ، فعلم أنها ليست إلا مثالاً من لذات الآخرة , وإن هذه اللذة التي لا تدوم إلا نصف دقيقة ، مثال مصغر للذّات العالم الآخر ، التي تدوم أبداً ، والتي لا حد لها تقف عنده ، والتي تبقى ( لذة ) دائماً ، ولا تصير ( عادة ) ، كما تصير اللذات في الدنيا عادات .


    وبذلك تم الكتاب بحمد الله ,
    قال الله سُبحانه وتعالى { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } الأنبياء:18


    تغيُّب

صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. بَنَان الطنطاوي؟ قتيلةُ الإسلام التي لا يعرفها أحد؟
    بواسطة أبو المظفر السناري في المنتدى قسم المرأة المسلمة
    مشاركات: 16
    آخر مشاركة: 10-17-2010, 10:56 PM
  2. وضعنا موضوعا حول تعريف التطرف فحذف فعرفنا معنى التطرف.
    بواسطة دنيا في المنتدى قسم الحوار العام
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 03-06-2010, 08:28 PM
  3. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 02-12-2009, 07:42 PM
  4. تنبيه: كيف تدخل في الإسلام ...Your Way To Islam
    بواسطة ISLAMIC SERVICE في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 12-01-2008, 02:31 AM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء