الإِيمَان بالقَدَرِ
معنى القدر والقضاء :
الذي يُفهم من الآيات التي ذكرت القدر كقوله تعالى :
{ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } .
وقوله عن الأرض :
{ وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا } .
وقوله عن القمر :
{ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ } .
الذي يفهم منها أنّ القدر ، هو السنن التي سنها الله لهذا الكون ، والنظام (1) الذي سلكه به ، والقوانين الطبيعية التي سيّره عليها ، وأنّ كل ما فيه قد خُلق بمقادير معينة ، ونسب محددة ، فما من موجود إلا وقدر قبل إيجاده مقداره وعدد ذراته ، وكمية العناصر التي يتألف منها ونوعها .. إلخ
وأنا أوضح الفرق بين القدر والقضاء بمثال { وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى } : العمارات التي تقام تعلق عليها لوحة فيها : إن التصميم للمهندس الفلاني ، والتنفيذ للمقاول الفلاني ، فالمهندس يرسم الخريطة ويعين علو البناء وسمك الجدران ، وما يوضع فيها من الحديد و ( الإِسمنت ) والحجر ، ونسبة كل منها ، وما يكون فيها من أبواب ونوافذ ، يقدر ذلك ويحدده ، هذا مثال القدر . والمقاول ينفذ ما قدره المهندس ، وهذا مثال القضاء .
وكلاهما لله وحده . وكما يمكن للمهندس أن يبدّل ( إذا أراد ) في بعض تفصيلات التصميم ، فالله من رحمته جعل الدعاء والصدقة سبباً في رفع بعض ما كان مقدَّراً ، قدّرها وحده ، ورفعها بالدعاء وحده (2) .
__________
(1) النظام هو الخيط الذي تنظم به حبات العقد والسبحة والسلك الذي تسلك به .
(2) ولو كان كل ما يفعل العبد مجبراً عليه من الأزل ، لا يبدَّل ولا يعدَّل ، وليس له اختيار فيه ، لم يبق من فائدة لبعثة الأنبياء ، وجهاد الكفار ، ولا للدعاء . وقد دعا الأنبياء والخلفاء الراشدون وصلحاء كل أمة ، طالبين دفع البشر ، وجلب الخير .
________________
الثواب والعقاب :
هذا معنى القدر بوجه عام ، وهو يشمل كل موجود أوجده الله ، قدر الله مقاديره وأحواله ، وعلم ما سيكون له وما يكون منه ، ومن جملة مخلوقات الله الإنسان . وهنا تعترض مشكلة طالما خاض فيها الخائضون ، وطالما كثر فيها الجدال ، هي أمر الثواب والعقاب . إذا كان كل ما يقع في الكون مرسوماً ومعلوماً عند الله من قبل ، وكانت سنن الله لا تبديل لها ولا تغيير ، فكيف يكون الثواب والعقاب ؟ .
والجواب الإِجمالي : أنه لا بد من التفريق بين وضع الإِنسان المشاهد ( الملموس ) ، وبين صفات الله وأعماله ، وهي مغيَّبة ، لا يستطيع العقل أن يحكم عليها ، ولا يصل إلى إدراكها ، ولا يعرف عنها إلا ما جاء بطريق الوحي .
الإنسان مخير :
الإِنسان له حرية ، له ( عقل ) يستطيع أن يحكم به على الأمور المادية ، ويميّز به بين الخير والشر ، وله ( إرادة ) يستطيع أن يعمل بها الخير أو أن يعمل الشر .
وإذا كانت يدي سليمة ما بها مرض أو شلل ، فأنا أستطيع أن أرفعها ، فهل في الناس من يدَّعي أنني لا أستطيع رفع يدي ؟ وإذا كنت قادراً على رفع يدي رفعتها لأعطي فقيراً ديناراً ، أو رفعتها لأضرب بريئاً بالعصا ، فهل هذا كذلك ؟ أليس إعطاء الفقير حسنة تستحق الثواب ، وضرب البريء سيئة تستوجب العقاب ؟ .
والإنسان مجبر :
لقد استطعت أن أحرك يدي بإرادتي ، لأن الله جعل عضلاتها خاضعة لي ، ولكني لا أستطيع التحكم في عضلات قلبي ومعدتي .
حر مخيَّر في حدود الطاقة البشرية :
فالإنسان حر مخيَّر في حدود الطاقة البشرية ، وكونه مجبراً - في بعض الحالات - لا ينفي عنه صفة الحرية , فهو ( إنسان حر ) ، يتصرف ضمن الحدود الإِنسانية ، وليس إلهاً ليصنع ما يشاء .
الثواب والعقاب منوط بالحرية :
فإن لم تكن حرية فلا عقاب . المكره على فعل الشر لا يعاقب عليه . والله إنما يؤاخذنا على ما نملك الخيار في فعله أو تركه .
وإذا كانت المحاكم البشرية ، بعدالتها النسبية ، تقدر ظروف المتهم ودوافعه ، وبيئته واستعداده ، وترى تقدير ذلك من العدل ، فهل يُترك ذلك في حكمة رب العالمين ، التي فيها العدالة المطلقة ؟ وهل يعاقب المذنب الناشئ من والِدَيْن فاسِقَيْن ، وبيئة فاسدة ، والذي عاش طفولة مهمَلة مشرّدة ، كمن أذنب الذنب نفسه ، وهو ناشئ في أفضل البيئات ، مولود من خير الآباء .
مقاييس العدالة :
على أن أكثر علماء الكلام قد أخطؤوا أكبر الخطأ ، حين طبقوا على الله مقاييس العدالة البشرية .
تنبّهت إلى هذه الحقيقة بواقعة وقعت لي ، أسردها الآن فيها عبرة ، وإن لم يكن موضع سردها هذا الكتاب
كنت سنة ( 1931 ) أدرِّس في مدرسة إبتدائية في الشام ، وكنت في فورة الشباب وعنفوانه ، وفي رأسي خواطر ، وفي نفسي غرور ، وعلى لساني بيان واندفاع ، فعرضت لي شكوك في مسألة القدر ، كنت أسأل عنها العلماء ، فلا أجد عندهم الجواب الشافي لها ، فيدفعني الغرور إلى جدالهم وإزعاجهم . حتى جاء يوم كنت فيه في المدرسة ، وكنت أؤدب تلميذاً بالضرب ، ( وكان الضرب من وسائل التأديب في تلك الأيام ) ، ففجر الولد وتوقّح ، وجعل يصرخ ويقول : ( هذا ظلم .. أنت ظالم .. ) !! .
ثقوا يا أيها القراء ، أني لما سمعت ذلك سقطت العصا من يدي ، ونسيت الولد والمدرسة ، ورأيت كأني كنت في ظُلْمة فأضيء لي مصباح منير ، فقلت لنفسي : إن التلميذ يرى ضربي إياه ظلماً ، وأنا أراه عدلاً . والعمل واحد ، وإذا ذهب يشكو إلى أهله قالوا له : لا ما هذا ظلم ، هذا عدل ، إنه يضربك لمصلحتك . فإذا كان التلميذ لا يحق له أن يطبق مقاييسه الناقصة على عدالة المعلم ، فكيف أطبق أنا مقاييسي البشرية للعدالة على الله ؟ .
ألا يمكن أن يكون الفعل الذي أراه ظلماً هو عين العدل ؟
الولد المريض يرى الإِبرة التي يدخلها الطبيب تحت جلده ظلماً ، وهي في رأي أبيه عدل كل العدل ، لأن الولد نظر إلى ألمها ، والأب أبصر أثرها في شفاء الولد .
مع النصوص :
لا بد قبل الكلام على النصوص من التذكير بهذه القواعد :
1- إن عمل العقل منحصر بفهم النصوص ، ولا يستطيع أن يدرك من نفسه حقيقة القدر بالتفصيل ، لأنه - كما قدمنا - عاجز عن الخوض فيما وراء المادة ، لذلك ينبغي اجتناب المابحث التي لم يوضِّحها النص .
2- أن نعرف أن الاصل هو القرآن ، فإن تعارضت آية منه وحديث من أحاديث الآحاد ، ولم يمكن التوفيق بينهما على شكل مقبول ، أخذنا بالآية (1) .
_________
(1) من القواعد المعروفة عند أهل المصطلح : أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول ما يناقض القرآن ، ولا ما يخالف الواقع المشاهَد ، فإن روي حديث مناقض للقرآن ، أو يخالف الواقع المشاهد ، نحكم أن الرسول لم يقله ، ولو روي بسند صحيح .
_________
- أنه لا يمكن أن يكون في القرآن أو صحيح الحديث نص صريح ، ينكر وجود أمر واقع مشاهد ملموس ، لأن الذي أنزل القرآن هو الذي أوجد الواقع ، ولا ينفي ربُّنا ما أوجده .
4- إن كثيراً من النصوص التي يُفهم منها الإِجبار ونفيُ الاختيار عن الإِنسان كقوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ } .
فلا يملك الوليد الذي صُوِّر بنتاً أن يجعل نفسه صبياً ، ولا الأسود اللون أن يصيِّر لونه أبيض .
ومثلها قوله تعالى :
{ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } .
وما يشير إلى الأحداث الكونية التي هي فوق طاقة الإِنسان كقوله :
{ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ، لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } .
ومثلها :
{ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ } .
وما يدل عى الظروف المؤدية إلى الصلاح أو الفساد ، وليست من صنع الإِنسان ، كقوله :
{ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } .
ومن الآيات التي جاءت فيها كلمة الهداية بمعنى الدلالة والإِرشاد ، كقوله : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } .
وقوله :
{ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } .
الذي ظهر لي : أن أكثر هذه النصوص ، تشير إلى الأمور التي تؤثر في صلاح الإِنسان وفساده بعض التأثير ، وليست من صنعه ، وقد قدمت القول بأن الله لا يؤاخذ العبد عليها ، ولا يمكن أن يجبر الله عبده على أمر بحيث لا يستطيع تركه ثم يعاقبه عليه .
هذه هي النصوص التي وقف عندها أصحاب الفرق المنحرفة ، فأساؤوا فهمها ، وأخطؤوا في تطبيقها . وكان عليهم :
- التفريق بين آيات الإخبار عن مشيئة الله وقدرته وتصرّفه في ملكه ، والآيات المتعلقة بالثواب والعقاب .
2- اعتبار مجموع النصوص لا الوقوف عند أفرادها ، ومن تتّبع مجموع النصوص رأى أن القرآن يثبت للإِنسان الحرية والإرادة ، اللتين يترتّب عليهما الثواب والعقاب .
فمن يقرأ قوله تعالى عن القرآن : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } يفهم منه بادي الرأي (1) أن الهدى والضلال أمر مقرر ، قدّره الله على العباد ، فجعل هؤلاء ضالين ، وهؤلاء مهتدين . ولكن إذا انتبه إلى قوله تعالى : { هُدىً لِلْمُتَّقِينَ } ، وقوله : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ } ، علم أن الهدى والضلال ليس إلزاماً من الله ، ولكنه تبع لحالة المرء ، فإن كان متَّقياً كان القرآن هدى له ، وإن كان فاسقاً كان له ضلالاً .
وتبقى مع ذلك الشبهة قائمة ، فيقول القائل : وما يدريني إذا كان الله قد جعلني مع المتقين أو جعلني مع الفاسقين ؟
فإذا انتبه إلى قوله تعالى : { لِلْمُتَّقِينَ ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ... } ، وقوله : { ... إِلَّا الْفَاسِقِينَ ، الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ } ، علم أن المسألة ليس فيها إجبار ، وأن مردها إلى صفات وأعمال داخلة في نطاق حرية الإِنسان وطاقته .
فإن عملتَ الثلاث الأولى كنت بذلك من المتقين ، فاستحققتَ الهداية ، وإن عملت الثلاث الأخرى كنت بذلك من الفاسقين ، فاستحققت الضلال .
بحث عقيم :
وهنا يرد قولهم : هل عملت السوء بمشيئة الله أم لا ؟ هل كنت أستطيع ألا أعمله ؟ وهل خَلَقت أنا عملي ؟ وأمثال هذه الأمور التي ملأ بحثها كتب علم الكلام . وذلك كله بحث عقيم ، لأن الخالق لا يقاس على المخلوقين ، والعقل لا يحكم على الله وصفاته ، والله لا يُسأل عما يفعل ، وإنما يسألنا عن أفعالنا ، والله عادل لا شك في عدله وخير لنا أن ننظر إلى أنفسنا ، وأن نحسن استعمال عقولنا ، ونعمل على توجيه إرادتنا إلى الخير ، وندع المباحث المتعلقة بالله ، التي لم يتكلم فيها السلف ولا شغلوا أنفسهم بها .
الاحتجاج بالقدر :
ومن العصاة من يحتج لعصيانه بالقدر ، تقول للزاني : لم زنيتَ ؟ فيقول : لأنه قُدِّر علي ! وهي حجة واهية ، مردودة من وجهين :
1- لأن الحساب والعقاب يكون على العمل ، وعلى الدوافع إليه والبواعث عليه . وهذا الزاني لم يطّلع على اللوح المحفوظ ويَرَ أن الزنا مكتوب عليه - كما يزعم - ويذهب ليزني تنفيذاً لحكم القدر ، وإنما تبع الشهوة ، وطلب اللذة العاجلة ، واستجاب لنداء الشيطان .
وقد احتج المشركون بمثل هذه الحجة فقالوا :
{ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا } .
فرد الله عليهم بقوله :
{ قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ؟ } .
أي : من أين عرفتم قبل أن تشركوا أن الشرك مقدر عليكم ؟ وهل جربتم الإيمان فوجدتم أنه ممتنع عليكم ؟ .
2- أن لو كان هذا المحتج بالقدر صادقاً لرضي بكل ما يقدره الله عليه ، من فقر ومرض وجوع ، وفَقْد حبيب ، وذهاب مال ، والمشاهد أنه لا يرضى بذلك ، وهو مقدَّر عليه ، ولا يسكن إليه ، بل هو يعمل لجمع المال ، ودفع المرض ، وإذهاب الجوع ، ويألم لفَقْد الحبيب ، وذهاب المال . فلماذا سخَّر قواه كلّها ، واستعمل عواطفه لجلب لذة الدنيا ، ودرء الألم فيها ، ولم يسخِّر عقله لقمع الشهوة ، ومنع النفس من الحرام الذي ترغب فيه ، وهو يعلم ما في عقبه من العذاب .
نحن والسلف أمام عقيدة القدر :
خصوم الإِسلام يتهمون المسلمين اليوم بالتواكل والتكاسل ، لأنهم يؤمنون بالقدر . وإن كان في هذه التهمة بعض الحق ، كان السبب فيها سوء فهم كثير من المتأخرين لعقيدة القدر . لقد اتخذها كثير من المسلمين الجاهلين حجة لارتكاب المعاصي ، وسبباً للكسل والخمول ، مع أن سلفنا قد اتخذوا منها دافعاً إلى العمل والجهاد .
تقديس الأموات :
ذلك ( رد فعل ) لسوء حاضرنا ، وجلال ماضينا .
Bookmarks