اعلم أن البراهين في هذا المقام تفوق الحصر ، وتفوق السبر كما قيل أن لله طرائق ( أي للإستدلال عليه ) بعدد أنفاس الخلائق .
وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد
وللمتقدمين في تسديدها وتأييدها مسالك مأثورة ، ومناهج مشهورة ، وقد اقتطفت من نفائسها التليدة ، واستنبطت من عيونها الجديدة ما بلغ خمسا وعشرون دليلا ، وذالك من فضل الله علينا إذ هدانا لما هو أوضح سبيلا ، وأقوم قيلا ، وكلما ترقى العلم فتح لمعرفة الحق بدليله أبواب ، وتنوعت لرواد الحقيقة السبل وتسهلت الأسباب .( *)
الدليل الأول
برهان الفطرة :
إنما جعلنا الفطرة برهانا مع أنها ضرورية ، والضروري قسيم النظري الإستدلالي ، لأننا نعني بالبرهان هنا كل قاطع يحتج به ، والضروري وإن لم يبرهن عليه فإنه يبرهن به ويشار اليه ، دليل الفطرة يؤثره كثير على غيره من الادلة ، ويجعله أولاها و أولاها لا لأن الجبلة لها السبق طبعا فتقدم وضعا ، لأن ذالك من لطائف نكت المؤلفين في ترصيف التصنيف ، وهذا المقام مقام حقائق لا خيالات الظرائف والرقائق ، بل لأن الشعور بوجود الله تعالى والإذعان بخالق قادر فوق المادة محيط من وراء الطبيعة أمر غرزي في الإنسان مفطور عليه لا تغيره ريب المرتابين ، ولا تزلزله شكوك المشككين لأنه عقد في المرء طبع عليه جنابه ، وتأثره لسانه وبيانه ، ومن أثره ما يرى من انطلاق الألسنة في الكوارث ، وما تندفع اليه في الحوادث من اللجوء اليه والتضرع في دفع ما يمسها عليه انطلاقا وتضرعا لا يرده راد ، ولا يصده صاد ، ولو قيد لسان المضطر لنطق جنابه ، وأفصحت أشائره وأركانه ، ووجد حرارة تدفعه الى بارئه ، وتضطره الى الإستكانة لمنشئه . حالة لا تزعزع رواسيها عواصف الشبهات ، ولا تميل رواسخها رياح التمويهات ، لا جرم أن هذا الشعور لا صنع فيه للبشر ، ولا كسب فيه بتقليد ولا نظر ، فهو لازم من لوازم الإنسانية ، وصفة من صفاتها الذاتية . اشتبك بها اشتباك اللحم بالعظم ، وسرى في قواها سريان الدم في الجسم : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) سورة الروم : 30
قال الامام القزويني في سراج العقول : الدليل على ان معرفة الله واجبة كونها من الاامور التي تصل العقول اليها ، فإن الانسان اذا دهاه أمر وضاقت به المسالك ، فلا بد أن يستند الى اله يتأله له ، ويتضرع نحوه ، ويلجأ اليه في كشف بلواه ، ويسمو قلبه صعودا الى السماء ، ويشخص ناظره اليها من حيث كونها قبلة لدعاء الخلائق أجمعين ، فيستغيث بخالقه وبارئه طبعا وجبلة ، لا تكلفا وحيلة ، ومثل ذالك قد يوجد في الاطفال و الوحوش البهائم أيضا ، فإنها ظاهرة الخوف والرجاء .رافعة رؤوسها الى السماء عند فقدان الكلأ والماء ، وإحساسها بالهلاك والفناء ، هذا كله مركوز في جبلة الحيوانات فضلا عن الانسان العاقل وهي الفطرة المذكورة في القرآن والحديث ، ولكن أكثر الناس قد ذهلوا عن ذالك في حالة السراء ، وانما يردون اليه في الضراء . قال تعالى : ( وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ ) سورة الاسراء : 67
وأيضا فإن عامة الناس في جميع أقطار الأرض دعت أنفسهم الى الاعتراف بأن لهم خالقا من غير معلم ، ولا إثبات حجة عندهم ، ولا اصطلاح وقع بين كافتهم من أهل البوادي ، وأقاصي الهند والصين ، وأهل الجزائر الذين لم يبلغهم داع الى الإسلام ولا الى الشرك ، فإنهم استغنوا بشهادة أنفسهم على الأعم الأغلب بالخالق جل جلاله ، وذالك قوله تعالى : (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) سورة ابراهيم : 10
وهذا كله قريب من الضروريات . ولذالك قال بعضهم : المعرفة ضرورية ، فالناس كلهم يشيرون الى الصانع جل وعلا ، وإن اختلفت طرائقهم ومللهم ، ولا يجهلون سوى كنه الذات .
ولذالك لم يأت الأنبياء والرسل ليعلموا بوجود الصانع ، وإنما أتو ليدعوا الى التوحيد. قال تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ) سورة محمد : 19
وقال سبحانه : (وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ ) سورة إبراهيم : 52
والخلق إنما أشركوا بعد الاعتراف بالموجود تعالى لما أعتقدوه من الشركاء لله تعالى ، أو لنفي واجب من صفاته ، أو لإثبات مستحيل منها ، أو لإنكارهم النبوات.
ثم قال القزويني : فإن قيل فلأي شيء سلك أهل الأصول الإستدلال على هذا ؟ فالجواب إنما سلكوا ذالك قطعا للأطماع التي تشرئب الى ذالك ، وإلا فهم يعلمون أن ما شهدت به الفطرة أقرب الى الخلق
وأسرع تعقلا ، لأن الممكن الخارج والحادث الدال على محدث موقوفان على النظر الصحيح ، وتلك داعية ضرورية من الناظر . قال تعالى : ( أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ) سورة النمل : 62 ، (أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) سورة النمل : 64 ، ( أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً ) سورة النمل :61
الى غيرها من الآيات التي كلها إستفهام تقرير ، كأنه تعالى يقرر عباده على شيء فطرهم عليه . ومثل قوله تعالى : ( أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ ) الاعراف : 172 وقوله : ( أَفِي اللّهِ شَكٌّ ) إبراهيم : 10
ولهذا ورد في الحديث مرفوعا : إن الله تعالى خلق العباد على معرفته ، فاجتالتهم ( حولهم ) الشيطان عنها . فما بعثت الرسل الا للتذكير بتوحيد الفطرة وتطهيره عن تسويلات الشيطان بالاستدلالات النظرية والدلائل العقلية أهـــــــ.
وقال الامام الراغب الأصفهاني في الذريعة : من أشرف ثمرة العقل معرفة الله تعالى ، وحسن طاعته والكف عن معصيته ، فمعرفة الله العامية مركوزة في النفس ، وهي معرفة كل أحد أنه مفعول ، وأن له فاعلا فعله وناقلا نقله من الاحوال المختلفة ، وهي المشار اليها بقوله تعالى : ( فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) الروم :30 وبقوله : ( صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً ) البقرة : 138 وبقوله : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) الاعراف : 172 الآية ، فهذا القدر من المعرفة في نفس كل واحد ، ويتنبه الغافل اذا نبه عليهفيعرفه كما يعرف أن من هو مساو لغيره فذالك الغير مساو له ، ومن هذا الوجه قال تعالى : (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) لقمان :25 وقال في مخاطبة المؤمنين والكافرين : ( ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ) النحل : 53. وقال بعده : ( ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) النحل :54
وأما معرفة الله المكتسبة ، فمعرفة توحيده وصفاته ، وما يجب وما يجب أن يثبت له من الصفات ، وما يجب ان ينفى عنه . وهذه المعرفة هي التي دعا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام اليها وحثوا عليها ، ولهذا قال لهم ، قولوا لا إله إلا الله ، ولم يدع أحد الى معرفة الله تعالى ، بل دعا الى توحيده ، وهذه المعرفة – أعني المكتسبة – على ثلاثة أضرب :
ضرب لا يكاد يدركه إلا نبي وصديق وشهيد ومن داناهم وذالك معرفته بالنور الالهي من حيث لا يعتريه شك بوجه ، كما قال تعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ) الحجرات :15 .وضرب يدرك بغلبة الظن – أعني الظن الذي يفسره أهل اللغة باليقين – كما قال تعالى : ( الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) البقرة :46
وضرب يدرك بخيالات ومثل وتقليدات وإياه عنى بقوله : ( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ ) سورة يوسف: 106
فالأول يجري مجرى إدراك الشيء من قريب ولهذا قال تعالى في وصفهم : ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ) ق :37
والثاني يجري مجرى إدراك الشيء من بعيد ، وقد تعتريه شبهة ولكن تزول بأدنى تأمل ، كما قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ) الاعراف :201
والثالث يجري مجرى من يرى الشيء من وراء ستر فلا ينفك من شبهات كما أخبر تعالى عمن هذه حالته بقوله : ( إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ) الجاثية : 32
ولأجل صعوبة معرفة الله تعالى على الحقيقة حتى يتخلص الانسان من آفات الشرك قال تعالى : ( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ ) سورة يوسف: 106 وقال تعالى : (قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي)14( فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ ) الزمر : 14-15 وقال عليه الصلاة والسلام : ( من قال لا إله الا الله مخلصا دخل الجنة ).
وغاية معرفة الانسان ربه أن يعرف أجناس الموجودات جواهرها و أعراضها المحسوسة والمعقولة ، ويعرف أثر الصنعة فيها ، وأنها محدثة ، وأن محدثها ليس إياها ، ولا مثلا لها ، بل هو الذي يصح ارتفاع كلها مع بقائه تعالى ، ولا يصح بقاؤها وارتفاعه ، وبهذا النظر قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : سبحان من لم يجعل لخلقه سبيلا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته . بل لهذا قال عليه الصلاة والسلام : ( تفكروا في الآء الله ولا تتفكروا في ذات الله ).
ولما كانت معرفة العالم كله تصعب على الانسان الواحد لقصور أفهام بعضهم عنها واشتغال بعضهم بالضرورات التي يعرفها منهم جعل تعالى لكل إنسان من نفسه وبدنه عالما صغيرا أوجد فيه مثال ما هو موجود في العالم الكبير ، ليجري ذالك من العالم مجرى مختصر من كتاب بسيط يكون مع كل أحد نسخة يتأملها في الحضر والسفر والليل والنهار ، فإن نشط وتفرغ للتوسط في العلم نظر في الكتاب الكبير الذي هو العالم ، فيطلع منه على الملكوت ليعزز علمه ، ويتسع فهمه وإلا فله مقنع بالمختصر الذي معه ، ولهذا قال تعالى : ( وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ) الذاريات : 21
ولشرف متأملي ذالك قال تعالى : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ ) آل عمران:190 الآية . فنبه بمدحهم حيث قالوا : ( رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ ) آل عمران :191 . إنهم عرفوا المقصود بخلقه ، وذالك آخر الابحاث لأن الأبحاث أربعة . بحث عن وجود الشيء بهل هو ، وبحث عن جنسه بما هو ، وبحث عما يباين به غيره بأي شيء هو ، وبحث عن الغرض بلم هو ، وهذه الأبحاث يبتنى بعضها على بعض ، فلا يصح معرفة الثاني إلا بمعرفة الأول ولا معرفة الثالث إلا بمعرفة الثاني ، ولا معرفة الرابع إلا بمعرفة الثالث ، وقولهم : (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً) يقتضي أنهم عرفوا الأبحاث الأربعة. فدلت هذه الآية على أن البحث الذي يؤدي إلى معرفة حقائق الموجودات التي تتضمن معرفة البارئ تعالى هو من العلوم الشريفة ، بخلاف قول الصم البكم العمي الذين لم يجعل الله لهم نورا حيث بدعوا من اشتغل بمعرفة ذالك. أهـــ. كلامه في الباب الثامن.
وقرر أيضا شأن الفطرة على التوحيد في الباب السابع عشر في بحث كون العلوم مركوزة في نفوس الناس وعبارته ، نفس الإنسان معدن الحكمة والعلوم وهي مركوزة فيها بالفطرة ، مجعولة لها بالقوة كالنار في الحجر ، والنخل في النواة ، والذهب في الحجارة ، وكالماء تحت الأرض ، لكن كما أن من الماء ما يجري من غير فعل بشري ، ومنه ما يعاين تحت الأرض لكن لا يتوصل إليه إلا بدلو ورشاء ، ومنه ماهو كامن يحتاج في استنباطه الى حفر وتعب شديدين ، فإن عني به أدرك وإلا بقي غير منتفع به . كذا العلم في نفوس البشر منه ما يوجد من غير تعلم بشري ، وذالك كحال الأنبياء عليهم السلام ، فإنهم تفيض عليهم المعارف من جهة الملأ الأعلى ، ومنه ما يوجد بأدنى تعلم. ومنه ما يصعب وجوده كحال أكثر عوام الناس ، ولكون العلوم مركوزة في النفوس قال الله تعالى : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى ) الأعراف :172 ، فأقروا أن الله هو الذي يربهم ويغذيهم ويرزقهم ويكملهم من الطفولية فهذا إقرار نفوسهم كلهم بما ركز في عقولهم ، فأما الاقرار باللسان فلم يحصل من كلهم ، وكذا المعنى بقوله : ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) الزخرف : 87 . أي لئن اعتبرت أحوالهم لرأيت نفوسهم وجوارحهم تنطق بذالك وعلى ذالك قوله : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ) الروم:30 الآية. فبين أن الدين الحنيف وهو المستقيم قد فطر الناس عليه أي خلقهم عالمين به ، فإن المعاندين وإن قصدوا تبديله وإزالة الناس عنه لم يقدروا عليه ، وعلى ذالك قوله تعالى : ( صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً ) البقرة : 138.وقال تعالى فيمن قويت في قلوبهم الصبغة والفطرة : ( أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ ) المجادلة :22 . فسمى ذالك كتابا ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( كل مولود يولد على الفطرة ) .
وأما هذه الشهادة المأخوذة عليهم فالناس فيها ضربان : ضرب أجالوا خواطرهم حتى أدركوا حقائقها ، فصاروا كمن حملوا شهادة فنسوها ثم تذكروها ، ولذالك قال في غير موضع : ( لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) الاعراف : 130 (وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ) ص :29. وضرب أهملوا أنفسهم ولم يشتغلوا بما حملوا من الشهادة ، كما قال تعالى : ( وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ ) الصافات :13 فهم في الجهالة يتسكعون ، وعلى هذا حثنا الله تعالى على التذكر بقوله : (وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ ) المائدة :7 . وقال : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ) سورة القمر 32-40
أي يسرنا القرآن ليكون سببا تتوصلون به إلى تذكر ما سبق من عهدكم ؛ والتذكر على أضرب :
الأول : أن يكون باللسان عن صورة ما حصل في القلب .
الثاني : أن يكون بالقلب لصورة حصلت عن شيء معهود ، إما من البصر أو البصيرة أو غيره من المشاعر .
الثالث : أن يكون عن صورة مضمنة بالفطرة في الإنسان . وهو المشار إليه بهذه الآيات ، ومن هذا قال الحكماء : التعليم ليس يجلب الى الإنسان شيئا من خارج في الحقيقة ، وإنما يكشف الغطاء عما حصل في النفس فيبرزه بجلائه ، فمثله كمثل الحافر المستنبط الماء من تحت الأرض وكالصقيل الذي يبرز الجلاء في المرآة ، وهذا ظاهر لمن نظر بعين عقله أهــــ.
__________________
(*) دلائل التوحيد للشيخ / محمد جمال الدين القاسمي
يتبع ...
Bookmarks