قد ظهر في ساحة "الإنتاج الفكري" في الآونة الأخيرة، جماعةٌ أخذتهم نظرية التطور والهالة الدعائية حولها، فظنّوا أن النظرية صارت حقيقةً علميةً مبرهنة، وما ذاك إلا لبعدهم عن دائرة الجدل حول النظرية، فتسلطت عليهم النظرة الأحادية، حتى عميت عليهم الأنباء فجهلوا، ثم أرادوا إصلاحًا بعد أن أُتوا من قبل الجهل، فزعموا أن نظرية التطور "العلمية" لا تعارض الإسلام، ثم راموا سلفًا لهم فوجدوا نصوصًا لبعض المتقدمين، فأساءوا فهمها لعدم التصور الصحيح، وهكذا تحقق مرادهم من نفي التعارض، ثم وجدوا سلفًا في هذا النفي، وليس من غرضي هنا أن أبين وجه التعارض، فهذا سيأتي بتفصيلٍ في غير ذلك من المباحث بإذن الله تعالى، ولكن المقصود هنا أن نرى السلف المزعوم، وكيف يُفهم كلامهم على وجهه، ثم كيف خرج الجهل بمقصودهم إلى نقيضه، ليصير كلامهم من دعائم الإعجاز العلمي في "موافقة الإسلام لنظرية التطور"!!

وأبدأ بأقوى ما نقلوه دلالةً على مرادهم في نظرهم، وهو نقلٌ عن أبعد السلف المزعوم عن هدي الكتاب والسنة، وذلك ما ورد في "إخوان الصفا" من أن: (الكائنات التي دون فلك القمر وهي أربعة أجناس: المعادن والنبات والحيوان والإنسان، وذلك أن كلَّ جنسٍ منها تحته أنواعٌ كثيرة، فمنها ما هو في أدون المراتب، ومنها ما هي في أشرفها وأعلاها، ومنها ما هي بين الطرفين، فأدون أطراف المعادن مما يلي التراب الجص والزاج وأنواع الشبوب، والطرف الأشرف الياقوت والذهب الأحمر، والباقية بين هذين الطرفين من الشرف والدناءة كما بينا في رسالة المعادن، وهكذا أيضًا حكمُ النبات فإنها أنواعٌ كثيرةٌ متبائنةٌ متفاوتة، ولكنّ منها ما هي في أدون الرتبة مما يلي رتبة المعادن وهي خضراء الدمن، ومنها ما هي في أشرف الرتبة مما يلي رتبة الحيوان وهي شجرة النخل .... واعلم يا أخي أن أول مرتبة الحيوان متصلةٌ بآخر مرتبة النبات، وآخر مرتبة الحيوان متصلةٌ بأول مرتبة الإنسان، كما أن أول مرتبة النباتية متصلٌ بآخر مرتبة المعدنية، وأول مرتبة المعدنية متصلٌ بالتراب والماء كما بينا قبل ذلك، فأدون الحيوان وأنقصه هو الذي ليس له إلا حاسةٌ واحدةٌ فقط وهو الحلزون ... رتبة الحيوانية مما يلي رتبة الإنسانية لما كانت معدنًا للفضل، وينبوعًا للمناقب لم يستوعبها نوعٌ واحدٌ من الحيوان ولكن عدة أنواع، فمنها ما قارب رتبة الإنسانية بصورة جسده مثل القرد، ومنها ما قارب بالأخلاق النفسانية كالفرس في كثيرٍ من أخلاقه، ومنها كالطائر الإنساني أيضًا ومثل الفيل في ذكائه، وكالببغاء والهزار ونحوهما من الأطيار الكثيرة الأصوات والألحان والنغمات، ومنها النحل اللطيف الصنائع ... فهذه الحيوانات في آخر رتبة الحيوان، مما يلي رتبة الإنسان، لما يظهر فيها من الفضائل الإنسانية، وأما باقي أنواع الحيوانات فهي فيما بين هاتين المرتبتين)(1).

وبمثل هذا النقل وأدنى منه في الوضوح، نُسب القول بنظرية التطور إلى القزويني والفارابي وابن مسكويه وغيرهم، رغم أنّ هذا النقل وأمثاله لا يمت إلى نظرية التطور بصلة، بل على العكس من ذلك، فإنّه يصب في صالح قضيةٍ حلّت نظرية التطور محلها، وهي قضية (السلسلة العظمى للكائنات)، تلك القضية الفلسفية التي ينسب وضعها إلى أفلاطون، ومنه انتقلت إلى الفلسفة العربية والأوربية على السواء، وسأبين هذه القضية وما آلت إليه باختصار، ثم أعود إلى كلام "إخوان الصفا" لننظر إليه في ضوء ذلك!

قد نشأ مفهوم (السلسلة العظمى للكائنات) Great Chain of Beings في الفكر اليوناني من القدم، تتراص فيه الكائنات الصنف تلو الآخر، في القاع تقبع الجمادات، يليها النبات ثم الحيوان، ثم الإنسان ثم الملائكة ثم الرب، وهذا الترتيب لا يعني أن الكائنات يمكن أن تتحول من نوعٍ إلى الذي يليه، بل هو ترتيبٌ وصفيٌّ لحالةٍ ثابتةٍ تتدرج فيها الكائنات في الشرف من أدنى إلى فاضل، فالخالق خلق الكائنات جميعًا مرةً واحدة، ثم ينظر الفيلسوف ويرتب هذه الكائنات من حيث الفضل أو الحيوية، دون أن يعني ذلك أن الحيوان يتحول إلى إنسان، أو أن النبات يتحول إلى حيوان!



شكل(1) : مثال للسلسلة العظمى للكائنات!(2)

وبمرور الوقت اكتُشِفت أنواعٌ جديدةٌ من الحيوانات، لتأخذ مكانها – أو بتعبير أدق لتوضع - في هذه السلسلة بحسب ما يُنسب لها من صفات، حتى بدأ اكتشاف كائناتٍ منقرضةٍ يزعزع الثقة في مفهوم السلسلة، وكانت هذه ضربةً قويةً لمفهوم الكمال المفترض في السلسلة، وظهرت الحاجة لتطوير هذه السلسلة والتعديل فيها، وبالفعل تعرضت لتعديلاتٍ كثيرة، حتى آل الأمر حديثًا إلى التصور الشجري للكائنات الحية، حيث التفرع والتشعب، ولا مانع من انتهاء أحد الفروع عند جنسٍ منقرض، وفي هذا التصور ينتج كلُّ فرعٍ عن أصله.

ونعود إلى نص "إخوان الصفا" فنجد أنه ينسجم مع فكرة "سلسلة الكائنـات"، فما هو إلا ترتيب الكائنات جميعًا، دون ادعاء أن نباتًا يتحول إلى حيوان، أو أن حيوانًا يتحول إلى إنسان، وكيف ينسب القول بالأصل الواحد للأنواع لمن يقول (واعلم يا أخي بأن الحيوانات التامة الخلقة كلها كان بدء كونها من الطين أولًا ذكرًا وأنثى، ثم توالدت وتناسلت وانتشرت في الأرض سهلًا وجبلًا وبرًّا وبحرًا من تحت خط الاستواء ... وهناك أيضًا تكون أبونا آدم أبو البشر وزوجته، ثم توالدا وتناسلت أولادهما وامتلأت الأرض منهم)(3)؟!!



شكل(2): صورة من "إخوان الصفا" تنفي تمامًا ما يقوم به بعض الكتّاب من محاولة نسبة القول بالتطور له.



فهذا مثالٌ من حال من يُنسب إلى القول بالداروينية، رغمًا عنه وليًّا لعنق قوله، في حين أنّ حقيقة قوله إثبات قضيةٍ حلت الداروينية محلها، وهي قضيةٌ ليست من الإسلام في شيء، وإنما دخلت في كتابات بعض أهل القبلة من تأثرهم بفلسفة اليونان، وإذ رأيتَ أن ما نسبوه لإخوان الصفا لا يصح، فمثله ما نُسب لابن مسكويه والقزويني وغيرهم، إذ ما استدلوا على نسبتهم للقول بالتطور، إلا بنصوصٍ تشبه – أو هي أدنى من - ما نقلتُ من "إخوان الصفا"، أُخذت بسوء فهمٍ وحكمٍ مسبق، وهي عندما تؤخذ في سياقها، تكون على نقيض ما نسبها إليه بعض الباحثين في التوفيق بين الإسلام ونظرية التطور!


* * * *

وأشد من ذلك في الجناية على أصول البحث، ما فعله جون آفري(4) من نسبة القول بالتطور، لابن رشد الحفيد خلفًا عن أرسطو، زاعمًا أن كتابات ابن رشد أحدثت صدمةً للقارئ المسلم والنصراني على السواء، ثم يزيد أن فكر ابن رشد وصل إلى أوربا، ومنه كانت البذرة التي نمت إلى الداروينية بعد ذلك، والسؤال الذي نبحث عن جوابه ليس في تأثير ابن رشد في الفكر الأوربي، ولا في دور ابن رشد في نشر فكر أرسطو، فذانك أمران ثابتان تضافرت على صحتهما الأدلة، ولكن السؤال هو عن قضية التطور في أنواع الكائنات الحية، هل حقًّا قال ابن رشد بها؟!



شكل(3): صورة من ترجمة شرح ابن رشد لأعمال أرسطو إلى اللغة اللاتينية في عام 1563م(5).



الحقيقة أنّ الجواب عن هذا السؤال بالنفي من أوضح وأسهل ما يكون، إذ إن أرسطو نفسه لا يعرف عنه القول بتطور الكائنات الحية كما زعم آفري، بل القول بثبات الأنواع مشتهرٌ عنه بما يغني عن التوثيق، حتى أن بعض الباحثين في تاريخ الفلسفة يرى أنّ أرسطو هو أصل القول بثبات الأنواع في الفكر الإنساني، وهذه وإن كانت مبالغةً لا دليل عليها، إلا أنها تكفي في بيان مخالفة آفري وشططه في نسبة أرسطو للقول بالتطور، وقد تبعه في هذه النسبة موقع aboutdarwin.com، فقد ذكر أنّ أرسطو "درس الحيوانات البحرية، ووضع أنموذجًا للتطور لا يعتمد على الجينات، ووضع نظامًا لتصنيف جميع الحيوانات"(6) ونعم أيضًا...! فقد درس أرسطو الحيوانات البحرية وغير البحرية، ولكن لا يصح أن أرسطو قد وضع نظريةً أو أنموذجًا للتطور، وليس ثمّ دليلٌ على ذلك، وإنما الذي قاله أرسطو هو اختلاف الحيوية في النباتات عن بعضها، وكذا اختلافها في النبات عن الحيوان، ولم يقل بقابلية الأنواع للتحول إلى غيرها، وما قال بما يشبه نظرية التطور في شيء، فهذه جهة قويةٌ في نفي نسبة ابن رشد الحفيد للقول بالتطور خلفًا لأرسطو، إذ إن أرسطو نفسه لم يقل بالتطور!

ومن جهةٍ أخرى فإنّ مثل ابن رشد الحفيد، عندما يقول بفكرة تطور الكائنات الحية عن أصلٍ واحد، فهذه زلةٌ لها الطبل، وسيرد عليه كثيرٌ من أهل العلم، كما رُدّ عليه فيما وقع فيه من ضلالات، ولكنّ ذلك ما اشتهر عنه وما عرف، وما ردّ عليه في ذلك ولا شنّع عليه، ولا دليل على أنّ كلامه أحدث "صدمةً للقارئ المسلم والنصراني" على السواء!

ومن جهةٍ ثالثةٍ فإن البينة على من ادعى، ومن ينسب ابن رشد الحفيد للقول بنظرية التطور لا يوثق كلامه، وهاهي كتبه ومؤلفاته لا نجد فيها أنموذجًا تطوريًّا، ولا ذكر عنه خصومه والمبطلين لأقواله هذا القول، ويلخص ذلك جيدًا قول د. زينب عفيفي في دراسة ابن رشد للكائنات الحية: (والواقع أن فهمه لتلك الكائنات كان قائمًا على إدراكه لغاياتها ونشوئها وتطورها، كما هو الحال عند أرسطو، فتطور هذه الكائنات لم يكن قائمًا على أسس مادية فقط، بل على أسس غائية، وإن كان ذلك لم يبعده في دراسته لتلك الكائنات عن منهج المشاهدة والملاحظة، والاستقصاء والتجربة، مع التزامه بالأصول والمبادئ والعلل، التي قرّرها من قبل واعتبرها مبادئ للموجودات، يقول يوسف كرم " إن الغائية تحكم تكيف الكائنات في البيئة، فكل كائنٍ في الطبيعة يحاول تحقيق كماله الممكن، والطبيعة تحقق هذا بدرجاتٍ متفاوتة، ولذلك نجده متابعًا لأرسطو، يبدأ بالمواد المعدنية في أسفل، ثم النبات، ثم يصعد أكثر وأكثر إلى الحيوان الكامل وأخيرًا إلى الإنسان، وكانت فكرة الثبات وعدم التغير في العالم تحكمه، ولذلك كان يؤكد أن الأنواع علاقات ثابتة أبدية للكمال أو عدم الكمال، وهذه الأنواع خالدة أبد الدهور، وهي توجد على الهيئة التي توجد عليها، وأن ما يطرأ عليها من تحولاتٍ كثيرةٍ فإنها لا تمس جوهرها")(7).

فالقول بنسبة نظرية التطور لابن رشد أو غيره من أهل القبلة قبل دارون، من المجازفة التي لا دليل عليها، وهي تقوم على غلطٍ كبير، وخطأٍ في فهم قول المتكلم، وعدم معرفةٍ بالسياق الذي يتكلم فيه، فإن اجتمع إلى هذا الرغبة في البحث عن سلف، سيما السلف "التنويري!" ذي الوزن، الذي يغلب على الظنّ أنه لن ينهض لتحرير مذهبه أحد، وزيد على ذلك أنّ هذا "عملٌ صالحٌ" يسعى المرء من خلاله للتوفيق بين "العلم!" والدين، تبين ضرورة الحذر من قبول مثل هذه الدعاوى، وأهمية العودة إلى الأصول لتمحيصها ومعرفة حقيقتها!


* * * *


وفي هذا المقام يكون من القصور ألّا ننظر في قول الدكتور عبد الصبور شاهين وفقه الله، إذ إنّ المتوقع أن يبحث الدكتور عن سلفٍ له فيما ذهب إليه من وجود "أوادم" قبل آدم عليه السلام، ويغلب على ظنّي أن الدكتور لو وقفَ على النصوص المنقولة أعلاه لاستدل بها على وجود سلفٍ له فيما قال، بدلًا من أن يقول:
(إذا كان علماء السلف قد اتفق جمهورهم على أن آدم هو أول الخليقة، وأول ما خلق من تراب، فإن بعضهم قد ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فتصوروا لهذه الخليقة وجودًا ممتدًا في أعماق الزمان قبل آدم، ربما إلى ملايين السنين، والمهم أن أحدًا ممن قال بهذا المذهب لم يلق نكيرًا من الفريق الآخر .. بل عاشت الآراء المتناقضة جنبًا إلى جنب، حتى تلقيناها ورأينا كيف أنار الله بصيرة الأقدمين فامتدت رؤيتهم إلى أعماق الغيب قبل التاريخ على هذه الأرض، وتنوعت رؤيتهم تبعًا لاختلاف التخيلات، وما نحسب أنهم اعتمدوا على شواهدَ مادية .. بل هي محض تخيلاتٍ هداهم إليها تأملهم المنطقي في أحوال الدنيا .. "ذكر المسعودي في كتابه عن بعض العلماء أن الله سبحانه وتعالى خلق في الأرض قبل آدم ثمانيًا وعشرين أمةً على خِلق مختلفة، وهي أنواع: منها ذوات الأجنحة وكلامهم قرقعة، ومنها ما له أبدانٌ كالأسود ورؤوسٌ كالطير، ولهم شعورٌ وأذنابٌ وكلامهم دوي، ومنها ما له وجهان واحدٌ من قبله والآخر من خلفه، وأرجل كثيرة، ومنها يشبه نصف الإنسان بيدٍ ورجلٍ وكلامهم مثل صياح الغرانيق، ومنها ما وجهه كالآدمي وظهره كالسلحفاة وفي رأسه قرن وكلامهم مثل عوي الكلاب ومنها ما له شعرٌ أبيض وذنَبٌ كالبقر، ومنها ما له أنيابٌ بارزةٌ كالخناجر وآذانٌ طوال، ويقال: إن هذه الأمم تناكحت وتناسلت حتى صارت مائة وعشرين أمة" "المستظرف / 398" هذه صورةٌ من تفكير الأقدمين وتخيلاتهم عن الماضي السحيق قبل هذه الخليقة، فقد لفقوا أشكالًا من المخلوقات لا دليل على أنها وجدت إلا في الاحتمال الخيالي، ومع ذلك يبقى – بعد استبعاد ما لا دليل عليه من الأشكال – أن الأرض كانت معمورة قبل آدم، سواء بمثل تلك الأصناف أو بأصناف أخرى كالديناصورات، أو الماموث أو بأوادم آخرين قبل آدم أبينا على ما قرره بعض العلماء، أي إن آدم لم يكن أول مخلوق عاقل على هذه الأرض)(8).

فأبدأ في تناول هذه الفقرة التي خلطَ فيها باطلٌ بباطل، حتى ما يكاد المرء يميز ما يريد الدكتور قوله، أبدأ في تناولها من جهة موضوعنا، وهو السلف الذي بحث عنه الدكتور، وأحسب أن الدكتور ذهب في الكتب جيئةً وذهابًا فما وجدَ له سلفًا إلا في كتاب "المستظرف" ينقل عن "المسعودي"! ويبدو أنّ الدكتور لم ينقل من كتاب المسعودي لأنّه ما وجد هذا الكلام المنقول عند المسعودي حقًّا! فاكتفى بنقله من كتاب "المستظرف" ليكون سلفه (ذكر المسعودي في كتابه عن بعض العلماء أن...)اهـ، فمن هم هؤلاء العلماء؟! وما حقيقة قولهم!؟ وهل هم حقًّا يخالفون السلف أو يقولون بنظرة تطورية للكائنات؟!! هذا هو ما وجده الدكتور عبد الصبور شاهين وفقه الله وما أداه إليه البحث العلمي الرصين!

ثمّ إنّ الدكتور يبدأ الفقرة بقضية (آدم هو أول الخليقة)، فيزعم أن جمهور السلف على أنّ آدم هو أول الخليقة، ثم يزعم أنّ هناك بعضٌ من علماء السلف على أنّ آدم ليس أول الخليقة، ولا أدري من أين أتى الدكتور بهذه الدعاوى وما علاقتها بنظرية التطور أو وجود "أوادم" قبل آدم!؟ وعلى أيّ من القولين(!) فإنّه إما أن يكون آدم أول الخليقة، أو أن تكون غيره من الأمم قد سبقته، وليس في أحد القولين أنّ هناك "أوادم" قبل آدم! ونحل "جمهور السلف" قولًا بأن آدم أول الخليقة مجازفةٌ عظيمة! إذ ليس في السلف واحدٌ يقول – أو ينسب إليه القول – إن آدم أول الخليقة، وليس فيهم من يقول إن هناك أوادم قبل آدم! ولا أدري أحقّا يظن الدكتور أنّ هناك خلافًا "عاشت فيها الآراء المتناقضة جنبًا على جنبٍ" بخصوص "الأوادم!" أم هو يسعى إلى اختلاق ذلك اختلاقًا؟!

أما ما حكاه الدكتور عن المستظرف عن المسعودي عن بعض العلماء من وجود عجائب المخلوقات قبل آدم، فإن الدكتور يقول "ما نحسب أنهم اعتمدوا على شواهدَ مادية"، ثم يقول إنها "محض تخيلاتٍ هداهم إليها تأملهم المنطقي في أحوال الدنيا"، فما هو التأمل المنطقي الذي يؤدي إلى القول بوجود هذه الكائنات العجيبة؟!! ولا يمتنع في العقل أن توجد مثل هذه الكائنات، لكن لا يقال إن القول بوجودها يؤدي إليه "التأمل المنطقي"! غير أنّ الدكتور يريد أن يضفي على القول "الذي يحسبه – أو يجعله! - سلفًا له" شيئًا من المنطقية!

وهذه الكائنات العجيبة التي ذكر الدكتور حكايتها عن المستظرف عن المسعودي عن بعض العلماء! هي (ذوات الأجنحة ... أبدانٌ كالأسود ورؤوسٌ كالطير .... نصف الإنسان بيدٍ ورجلٍ .... وجهه كالآدمي وظهره كالسلحفاة....إلخ)اهـ، فالعجب أن يقفز الدكتور على هذا القول ليقول إنه بعد استبعاد ما لا دليل عليه من الأشكال (أن الأرض كانت معمورة قبل آدم، سواء بمثل تلك الأصناف أو بأصناف أخرى كالديناصورات، أو الماموث أو بأوادم آخرين قبل آدم أبينا على ما قرره بعض العلماء)، فهل يرى امرؤٌ عنده مسحةٌ من إنصافٍ وعدلٍ أنّ "بعض العلماء" قد قرروا وجود "أوادم آخرين!" قبل آدم!!


* * * *

وإذن ... ما استطاع واحدٌ من الذين يحاولون التوفيق بين نظرية التطور والإسلام، أن يأتي بسلفٍ واحدٍ من أهل القبلة جميعًا، يقول بأن الإنسان انحدر عن حيوانٍ أدنى منه، أو أنّ صنوف الكائنات أتت من أصلٍ واحدٍ مشتركٍ بعمليةٍ تطوريةٍ طبيعية، فهذه النظرية خارجة تمامًا عن العقيدة الإسلامية، بل لم توجد في أعمال أهل الضلال والبدع والباطنية، أفتراهم جميعًا كانوا على ضلالةٍ، لا يحسنون فهمَ النصوص - رغم يسر تصور نظرية التطور - حتى جاء دارون ليصلح لهم عقيدتهم ويسدد فهمهم؟!! وما الذي يضطر إخواننا للتوفيق بين الإسلام وهذه النظرية، ولو تعلموا وصبروا لوجدوا أنهم أساءوا في تصحيح هذه النظرية كما أساء من نسبها لسلفٍ من أهل القبلة إذ أراد إحسانًا؟!


الهوامش:

(1) إخوان الصفا وخلان الوفا: (2 / 111- 115).
(2) The evolution wars .. A guide to the debates – Michael Ruse – P21.
(3) إخوان الصفا وخلان الوفا: (2 / 121).
(4) Information theory and evolution – John Avery – p2.
(5) (الفيلسوف ابن رشد .. مفكرًا عربيًّا ورائدًا للاتجاه العقلي) إشراف وتصدير د. عاطف العراقي ، صفحة 15.
(6) http://www.aboutdarwin.com/literature/Pre_Dar.html.
(7) العالم في فلسفة ابن رشد الطبيعية – د.زينب عفيفي – صفحة 148.
(8) أبي آدم .. قصة الخليقة بين الأسطورة والحقيقة – د. عبد الصبور شاهين - صفحة 51 و 52.