من الآيات الدالة على عذاب القبر وتحليلها
تمهبد:
لقد ابتليت الأمة اليوم بنفر من المتعالمين الذين بلغ بهم الغرور مبلغه ، فظنوا أنهم وحدهم أولو الألباب والنهى ، وأن سائر الخلق من سابق ولاحق ، هم دونهم وعيا وفهما وذكاءً ، فراحوا يحاكمون كتب السنة إلى أفهامهم العليلة ، ظنا منهم أنها تخالف القرآن في بعض موضوعاته مخالفةً لا يمكنهم السكوت عليها ، وأنّى لهم أن يسكتوا على ذلك وهم الغيورون على الإسلام ، ولأنهم أهل للابتكار ، فقد أتوا بما لم يأت به الأوائل ، فأنشأوا قانونا للتعامل مع السنة يحاكمون مروياتها من خلاله إلى القرآن ، فإن وافقته قبلوها وإلا ، فلا ، مهما كانت رتبة الرواية ، ومهما كان مُخرِّجها .
ولأنهم يعلمون قيمة صحيح البخاري عند أهل العلم به ، فقد جعلوه مرمىً لسهامهم ، يطعنون في مروياته بدعوى مخالفتها لآيات القرآن ، والله وحده يعلم أن لا مخالفة بين صحيح الأحاديث وصريح الآيات إلا في عقول من لا يُقَدِّرون للسنة قدرها ، ولا يفقهون من الكتاب إلا قليلا ، ولو أنهم أخلصوا في دعواهم ، لتريثوا قبل أن يتخبطوا ، ولراضوا أنفسهم بالصبر والتأني والبحث والدرس ، حتى يقفوا على حقيقة الأمر ، فإن أعياهم ذلك ، فما كان يضيرهم أن يسألوا أهل إن كانوا لا يعلمون.
وكان من بين الموضوعات التي طرحها بعضهم مؤخرا موضوع عذاب القبر الثابت خبره بالأحاديث القطعية المتواترة ، حيث قال قائلهم: إن القرآن لم يتحدث عن عذاب القبر ، لا ، بل إن آيات القرآن تعارض أن يكون هناك عذابٌ في القبر ، فكيف تأتي السنة بما يتعارض وآيات القرآن ؟
هكذا زعم المدَّعي.
ولأن الحكمة ضالة المؤمن ، فقد تتبعت ما ذكره من آيات زعم أنها تنفي أن يكون هناك عذاب قبر ، فألفيتها آيات تتحدث عن عذاب الآخرة ، فجعل هذا الواهم تخصيص عذاب الآخرة بالذكر دليلا على نفي وجود عذاب القبر.
ياله من دليل !!
فمتى صح عند العقلاء أن تخصيص الشيء بالذكر دليل على نفي ما عداه ؟
والعجيب أن من يسمى شيخ القرآنيين "أحمد صبحي منصور" وهو يصر على إنكار أي لون للحياة في القبر يعترف بأن قاعدته هذه لها استثناءات ممثلة في حياة الشهداء ، ويعترف أيضا بعذاب آل فرعون وقوم نوح في قبورهم.( )
لكن لا عجب ، فإن الأمر واضح ، فهو لم يستطع أن يلف حول هذه النصوص القرآنية الواضحة في المسألة ، موهما أنه استطاع أن يتعامل مع سواها بالتأويل والدهاء.
ونخاطبه بصوت العقل الذي يزعم ورفاقه أنهم وحدهم أهله واصفين غيرهم - وخصوصا علماء الأزهر - بالجهل ونسائله:
في أي عقل يمكن أن يكون مقبولا التفريق بين المتماثلات ، وخصوصا في أمر الثواب والعقاب ، فلماذا –حسب زعمك - لا يُنَكّل في القبر بمن فعلوا فعل قوم نوح وزادوا عليه ، ولماذا لا ينال عذاب القبر من فَعل فِعل آل فرعون؟
ونخاطبه بصوت القرآن الذي ينسب نفسه إليه ، ونسائله:
هل يمكن أن يخالف القرآن منهاجه العادل في المساواة بين الناس في قانون الثواب والعقاب؟ ولماذا هذا التجني على القرآن ؟ فمتى فرّق القرآن الكريم بين آل فرعون وشركائهم في الكفر والتكذيب في الحكم عليهم بالعقاب الذي يستحقونه؟
إن القرآن الكريم يصرح بأن آل فرعون ومن يساوونهم في الكفر والتكذيب هم سواء في استحقاق العذاب.
قال تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُولَـئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ 10كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ] (سورة آل عمران:10، 11)
وقال سبحانه:
[وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ 50 ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ 51 كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ 52 ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 53 كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ 54] (سورة الأنفال: 50 – 54)
هذا ، وقد رأيت أن أجمع هنا بعض الآيات القرآنية الدالة على ثبوت عذاب القبر ، ثم أقوم بتحليلها مبينا وجه دلالتها على عذاب القبر.
ولست أزعم أنني حصرت كل الآيات الدالة على ذلك ، ففي الكتاب العزيز الكثير والكثير مما يثبت عذاب القبر ، بما لا يبقي حجة لمنكريه اعتمادًا على زعم إغفال القرآن الكريم له.
كما أنني لست أزعم أن ما سأسوقه هنا من أدلة على عذاب القبر ، مستوٍ في الدلالة ، بل هو متفاوت ما بين صريح وأصرح وما دون ذلك.
ولعلنا بذلك نكون قد أدينا بعض حق القرآن علينا في الكشف عما حواه من أدلة على وقوع عذاب القبر.
والله تعالى أسأل أن يهدينا والجميع إلى سواء السبيل.

الدليل الأول - قال تعالى:
[وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ 93 وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ 94] (سورة الأنعام: 93 ، 94)
المعنى الإجمالي:
النص الكريم يخاطب كل من يصلح للخطاب ، مبينًا لهم حال الظالمين عندما يغمرهم الموت بسكراته ، والملائكة باسطو أيديهم إليهم بالعذاب والضرب ، كما قال سبحانه في آية أخرى :
[وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ] (سورة الأنفال: 50 )
وتقول –الملائكة- مُوَبخةً لهم ومؤكدة عجزهم: [أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ] من هذا العذاب ، وخلصوها مما هي فيه ، إن كانت لكم قدرة على ذلك.
فالأمر هنا للتوبيخ والتعجيز كما يقول الآلوسي ( )
ثم تصرح الآية بعذاب القبر ، فيما حكته من قول الملائكة للظالمين:
[الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ]
فالحديث لا زال للملائكة موجها للظالمين عندما يغمرهم الموت. وكلمة "اليوم" هنا مراد بها يوم الموت ، كما يدل على ذلك السياق( ) وعلى هذا ، فالعذاب الموصوف بالهون أي الهوان هنا، هو عذاب القبر.
ولما كان الهوان ملازما لهذا العذاب كل الملازمة ، متمكنا منه كل التمكن ، جاء التعبير عنه بالإضافة هكذا [عذاب الهون] وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة.
ثم يمضي السياق مؤيدا أن المراد بذلك هو عذاب القبر ، فيقول سبحانه بعد ذلك: [وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ] فما من شك في أن هذا المجيء ، هو القدوم على الله تعالى بعد الموت ، وهو الكائن في القبر ، وبذلك يلتئم السياق ، وتتسلسل الأحداث ، وتكتمل الصورة في هذا المشهد ، ملائكة يقبضون أرواح الظالمين ، يعذبونهم ويوبخونهم ، فيعاينوا واقعا ما علموه من قبل خبرا ، فيقيم الله عليهم بذلك الحجة ، ويقول في إظهار حجته عليهم بما عاينوه من واقع سبق لهم أن أنكروه: [وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ]
وجه الدلالة في النص الكريم على عذاب القبر:
الكلام في النص الكريم صريح الدلالة على عذاب القبر ، لأن الكلام فيه عن موقف الظالمين عندما يغمرهم الموت بقبض أرواحهم عن طريق ملك الموت ، لتتولى ملائكة العذاب بعد ذلك تعذيبهم في قبورهم ، كما يدل عليه قوله [بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ ] وقوله: [الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ] في ضوء ما مر بيانه من أن هذا اليوم ، هو يوم الموت ، لأن السياق لا يلتئم صريحا إلا بهذا.

الدليل الثاني- قال تعالى:
[وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ 50 ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ 51 كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ 52]
(سورة الأنفال: 50 – 52)
فالآيات تخاطب كل من يصلح للخطاب ، مخبرة إياهم عن حال الكفار ، عندما تقبض ملائكة الرحمن أرواحهم ، بأنهم يضربونهم ، ويزجرونهم ، ويتوعدونهم بعذاب الحريق ، يوم القيامة ، الذي هو جزاؤهم اللائق بهم ، لما قدموه من أعمال غير صالحة ، ومبينة لهم أن حالهم في هذا كحال آل فرعون وغيرهم ، الذين سبقوهم في الكفر فكان العذاب مصيرهم.
وجه الدلالة في النص الكريم على عذاب القبر:
هذه الآيات صريحة في الدلالة على أن ما سبق ذكره من ضرب الملائكة لهم وتوعدهم بعذاب الحريق هو كائن عند الموت لقوله [إذ يتوفى...] وهذا معناه أن ما لحقهم من عذاب الضرب هو حال الوفاة ، وهو ممتد أيضا متجدد لما أفاده التعبير بالمضارع في قوله تعالى:[يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ]
ثم تذكر الآيات أن ما حاق بهم ، هو ما حاق بآل فرعون عندما كفروا بآيات الله. وإن مما حاق بآل فرعون ، عذابهم في قبورهم ، بعرضهم على النار غدوا وعشيا ، كما جاء ذلك صريحا ، في قوله تعالى: [النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ] (سورة غافر: 46)
وسيأتي الحديث عنها مفصلاً إن شاء الله.
الدليل الثالث - قال تعالى:
[وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ]
(سورة التوبة: 101)
المعنى الإجمالي:
وردت هذه الآية في سياقٍ يُصنِّف الناس حسب أعمالهم ، بقصد التمييز بين أهل الحق وأهل النفاق ، لتبصير المؤمنين بأهل النفاق ، بالكشف عن حالهم ، وبيان أن الله مطلع على أحوالهم ، ومجازيهم على أعمالهم .
ومن هذه الأصناف ، هذا الصنف الذي تحدثت عنه هذه الآية ، وهو صنف المنافقين الذين اتخذوا النفاق عادة لهم وسجية ، فإنهم مهما حاولوا إخفاء نفاقهم عنك يا رسول الله ، فإنه لا يخفى على الله نفاقهم، ولذا فقد توعدهم بالعذاب في كل المراحل التي يتقلبون فيها وبينها ، أي: في الدنيا ، وفي البرزخ ، وفي الآخرة.
وذلك هو قوله تعالى: [سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ]
وجه الدلالة في الآية على عذاب القبر:
هذه الآية صرحت بتعذيب الله المنافقين في مراحل ثلاث ، اثنتان مذكورتان في قوله [سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ] والثالثة في قوله: [ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ] ولما كانت هذه الثالثة معلومًا منها على جهة اليقين ، أنها الكائنة يوم القيامة لأنها آخر المراحل، كما يدل على ذلك التعبير بـ "ثم" الدالة على الترتيب والتراخي ، ولأن العذاب فيها قد وصف بأنه "عظيم" وعادة القرآن ألا يوصف بهذا إلا عذاب الآخرة ، فقد بقي مرحلتان هما سابقتان على هذه الأخيرة ، وليس ذلك إلا:
1- العذاب في الدنيا
2- العذاب في القبر أي في البرزخ.
وليس أصرح من هذا قي الإخبار عن عذاب القبر.

الدليل الرابع - قال تعالى:
[يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء] (سورة إبراهيم: 27)
المعنى الإجمالي:
تخبر هذه الآية الكريمة بأن الله عز وجل يعين عباده الصالحين ويثبتهم بالقول الحق في الدنيا ، إن عرض لهم ما يعمل على زحزحتم عنه ، ويعينهم ويثبتهم به في القبر أيضا ، عندما يسأله الملكان: من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن الرجل الذي بعث فيكم ؟
وقد أخرج في ذلك مسلم في صحيحه ، بسنده المتصل عن البراء بن عازب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت " قال : " نزلت في عذاب القبر ، فيقال له : من ربك ؟ فيقول : ربي الله ، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم ، فذلك قوله عز وجل : [يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا ، وفي الآخرة] "( )
وإنما نسبت الحياة في القبر هنا إلى الدار الآخرة مع أنها ليست منها ، لكونها مرحلة مؤدية إليها ، وخطوة في طريق السير إليها.
ومثل هذا يقال أيضا في معنى حديث " إن القبر أول منازل الآخرة"( )
وإذا كان الله عز وجل يمُِد عباده الصالحين بمدد من عنده ، يعينهم على الثبات عند المحن في الدنيا ، وعند السؤال في القبر ، فإن الظالمين لا معين لهم ولا نصير ، ومن ثم فهم لا يثبتون على الحق كالمؤمنين ، بل يضلهم الله عنه ، لضلالهم عن ربهم في دار العمل.
وجه الدلالة في الآية على عذاب القبر:
تصرح هذه الآية بأن الله عز وجل يثبت المؤمنين بالقول الثابت في الحياة الدنيا ، وكذلك في الآخرة أي في القبر الذي هو الخطوة الأولى في الطريق إلى الآخرة ، ولما كانت الدار الآخرة دار جزاء وليست دار سؤال ولا تثبيت ، وكانت السنة الصحيحة قد دلت على أن السؤال والتثبيت إنما هو في القبر ، فقد لزم القول بأن المراد بالآخرة هنا الحياة في القبر ، وأن التثبيت فيها هو التثبيت عند سؤال الملكين ، وما يتبع ذلك من نعيم الاطمئنان إلى رضوان الله.
وفي مقابل ذلك ، فإن إضلال الظالمين ، هو زيغهم عن الحق في الدنيا وفي القبر ، فلا ينجون من فتنة السؤال ، فيلحقهم ما هم أهله من سوء ما ينتظرهم من عذاب الله يوم القيامة ، إضافة إلى ما تقوم به ملائكة العذاب من ضرب وجوههم وأدبارهم عند موتهم وبعده ، كما صرحت بذلك آيات أخرى ، قد ذكرناها في مواضعها من هذا البحث.

الدليل الخامس - قال تعالى:
[وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى 124 قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا 125 قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى 126 وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى 127] (سورة طه: 124-127)
المعنى الإجمالي:
توضح هذه الآيات بطريق العموم الذي يفيده اسم الموصول "مَن" أن من يعرض عن ذكر الله ، فإن له في القبر "معيشة ضنكا" أي عيشا ضيقا، يحشر على أثرها يوم القيامة أعمى ، فيتساءل عن سبب ذلك وهو الذي كان حادّ البصر في الدنيا ، فيجيبه المولى عز وجل: [قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى]
ثم تبين الآيات أن هذا هو جزء من عذاب من جاوز حدود الله ، فأسرف في المعاصي ، أما العذاب الأقسى والأبقى حيث لا ينقطع ، فهو عذاب الآخرة ، وقانا الله وجميع المسلمين إياه.
وجه الدلالة في النص الكريم على عذاب القبر:
تدل هذه الآية على أن المعرض عن ذكر الله سوف يعيش في قبره في ضيق وعدم سعة ، وهو عذاب القبر ، ولأن هذه العيشة الضنك لا يمكن أن يراد بها عذاب الآخرة ، لأن الله عز وجل قال بعدها: [وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى]، ولأننا رجحنا بالأدلة أن ليس مرادا بها معيشة الحياة الدنيا منفردة ، فقد لزم أن تكون هذه المعيشة الضنك في القبر.
ويرى بعض المفسرين أن تكون شاملة لكل الدور.
قال السعدي في تفسيره:
وبعض المفسرين، يرى أن المعيشة الضنك، عامة في دار الدنيا، بما يصيب المعرض عن ذكر ربه، من الهموم والغموم والآلام، التي هي عذاب معجل، وفي دار البرزخ، وفي الدار الآخرة، لإطلاق المعيشة الضنك، وعدم تقييدها.( )
وقال الشنقيطي في كتابه اضواء البيان:
ولا ينافي ذلك شمول المعيشة الضنك لمعيشته في الدنيا . وطعام الضريع ، والزقوم . فتكون معيشته ضنكا في الدنيا ، والبرزخ ، والآخرة ، والعياذ بالله تعالى .
وهذا رأي لا نعارض قبوله لأنه محتمل ، كما أنه شامل للرأي الذي ذكرناه ، وهو أن المعيشة الضنك عذاب القبر.

الدليل السادس - قال تعالى:
[حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ 99 لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ]
(سورة المؤمنون: 99، 100)
المعنى الإجمالي:
تحكي لنا الآيات حال العبد العاصي عند معاينة الموت وتيقنه ، وهي الحالة التي يدرك العبد فيها أن صلته بالدنيا قد انقطعت بلا طمع في العودة إليها ، وهو ما يعرف بوقت الغرغرة ، لكن مع انقطاع طمعه وهول ما رأى وعاين ما ينتظره من عذاب الله ، يدعو ربه أن يعيده إلى الدنيا ليتدارك ما فاته ، فيقول: [رَبِّ ارْجِعُونِ ] أي مُلِحًّا على الله في طلب الرجوع إلى الدنيا مكررا هذا الدعاء ( )، لكن هيهات هيهات ، إذ يأتيه الجواب بالرفض ، [كلا] ليخلد في حياته البرزخية إلى يوم البعث.
والبرزخ هو الحجاب الحاجز بين شيئين ، ومرادٌ به هنا الحياة في القبر ، لأنها حياة حاجزة ما بين الدنيا والآخرة.
وقوله [وَمِن وَرَائِهِم] أي: أمامهم ، لأن كلمة وراء من ألفاظ الأضداد التي تأتي بمعنى وضده ، فهي تحتمل الأمام والخلف ، وهي هنا بمعنى الأمام ، أي ويستقبلهم برزخ يمكثون فيه إلى يوم البعث.
ومن الآيات التي أتت فيها كلمة "وراء" بمعنى أمام ، قوله تعالى: [أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا] (سورة الكهف: 79)
فقوله: [وَكَانَ وَرَاءهُم] أي أمامهم ، إذ لو كان الملك خلفهم ، فقد نجوا منه.
وجه الدلالة في النص على عذاب القبر:
في النص الكريم تصريح بأن عذاب القبر كائن واقع ، وأن العبد العاصي يعاينه عند الموت وذلك من وجهين:
أحدهما- قوله تعالى: [حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ] فهو نص في معاينة هذا العذاب ، إذ لو أنه لم ير ما يسوؤه ، وهو العذاب ، فلماذا يدعو ربه: أن يعيده إلى الدار الدنيا ، أي ليتدارك ما فاته من الطاعات التي تنجيه من هول ما عاين ؟
وثانيهما- قوله تعالى: [وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ]
فهو فيما يظهر منه ، يحمل تلويحا لهذا العاصي وأمثاله ، بما سيكون في هذا البرزخ ، من شدة وكرب ، وهو عذاب القبر.
وذلك كما تقول لمن أنت حريص عليه على سبيل النصح والتحذير: لا تهلك مالك ، فإن وراءك أياما طويلة.
ففي قولك هذا تلويح بشدة هذه الأيام ، وأنه إذا ما أتلف ماله ، ضاقت معيشته فيها ، ونصح له بأن يعد العُدَّة لمواجهتها.
وفي الحديث " مروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر ، فإذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة ورأيت أمرا لابد لك من طلبه فعليك نفسك ودعهم وعوامهم ، فإن وراءكم أيامَ الصبر صبر فيهن كقبض على الجمر ..." الحديث ( )

الدليل السابع - قال تعالى:
[فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ 45 النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ]
(سورة غافر:45 ، 46)
المعنى الإجمالي:
يبين لنا النص الكريم أن آل فرعون قد حاق بهم سوء العذاب نتيجة كفرهم ومصادتهم لمن آمن بالله ، بعد أن أنجاه الله منهم ، ووقاه مكرهم.
ثم بينت الآية التالية أن عذابهم هذا الذي حاق بهم نوعان:
الأول- في القبر، وهو أنهم يعرضون على النار مرتين يوميا ، إحداهما في الصباح والأخرى في المساء.وهو ما يفيده قوله تعالى: [وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ 45 النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا]
والثاني- عذاب الآخرة ، وهو العذاب الأكبر ، وهو ما يفيده قوله تعالى: [وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ]
وجه الدلالة في الآية على عذاب القبر:
دلت هذه الآية بطريق واضح على أن آل فرعون يعذبون في قبورهم بعرضهم على النار غدوا وعشيا ، وهذا العرض لا يكون إلا في القبر ، لأنه قال بعد ذلك: [وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ] فلم يكن مفر من فهم التعذيب بالعرض على النار إلا على أنه في القبر.
وإذا ثبت ذلك في حق آل فرعون ، ثبت في حق غيرهم أيضا ممن نحوا نحوهم ، ومضوا على طريقتهم.
وهذا ما يتسق ونهج القرآن الذي لا يفرق في قانون الثواب والعقاب بين من تتماثل أعمالهم ، أيا كان نوعهم أو مكانهم أو زمانهم ، وإننا لنقرأ في الكتاب العزيز قوله تعالى:
[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُولَـئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ 10كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ] (سورة آل عمران:10، 11)
ونقرأ أيضا قوله تعالى:
[وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ 50 ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ 51 كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ 52 ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 53 كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ 54] (سورة الأنفال: 50 – 54)
فهذه الآيات تبين بجلاء واضح أن آل فرعون كغيرهم من الكفار في العذاب ، فلا خصوصية لهم في ذلك ، ولِمَ الخصوصية ؟ فما الذي يميز كفرا عن كفر أو تكذيبا عن تكذيب ؟!!!
ولذلك جاء في السنة الصحيحة أن هذا العرض عام لكل الخلائق ، حيث أخرج البخاري في معنى قوله تعالى (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا) بسنده المتصل ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن أحدكم إذا مات عُرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيُقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة".( )

الدليل الثامن - قال تعالى:
[إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ] (سورة فصلت: 30)
المعنى الإجمالي:
ورد عن بعض السلف أن تنزل الملائكة عليهم بالطمأنينة والبشرى عند الموت ، وورد عن بعضهم أنه في الآخرة( )
والذي يترجح لدينا هو أن ذلك عند الموت ، لأنه في يوم القيامة يكون الحساب الأكبر ، والقول الفصل الذي ليس بالهزل ، فلا مجال لتمهيد ببشرى ، فالحكم الحاسم قد جاء موعده.
وجه الدلالة في الآية على نعيم القبر وعذابه:
أن الملائكة إذا كانت مطمئنة للمؤمنين بشيء عند الموت ، فلا شك أن محل هذه الطمأنينة كائن بعد الموت مباشرة وهو نعيم القبر ، وإذا ثبت أن للصالحين في القبر نعيما ، فقد ثبت ضده وهو أن لغيرهم عذابا في قبورهم.

الدليل التاسع - قال تعالى:
[ مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا]
(سورة نوح: 25)
المعنى الإجمالي:
في هذه الآية الكريمة يخبر الله تعالى عن قوم نوح عليه السلام أنهم لما كفروا بالله تعالى ، وأجرموا في حق نبيه نوح عليه السلام ، عاقبهم الله تعلى بالإغراق في الطوفان ، ويخبر أنهم فور إغراقهم فيه أدخلوا نارا ، حيث لم يجدوا من ينصرهم من الله فينجيهم من عذابه.
ولعله أراد بالإدخال هنا عرضَهم على النار المعبرَ به في حق آل فرعون في قوله تعالى: [النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ] (سورة غافر: 46)
وهو ما ذكره المفسرون احتمالا ( )، وهو رأي وجيه مبني على ظاهرة تفسير نصوص القرآن بعضها ببعض ، وهي أفضل طرق التفسير كما نص على ذلك العلماء.
وجه الدلالة في الآية على عذاب القبر:
هذه الآية من أوفر الآيات صراحة في الدلالة على عذاب القبر ، لأنه قوله [فَأُدْخِلُوا نَارًا] مرتب على قوله [أُغْرِقُوا] عطفا بالفاء المفيدة للترتيب والتعقيب ، وهذا معناه أن هذا التعذيب بالنار هو كائن بعد الإغراق مباشرة.
ولما كانت آيات القرآن جازمة بأن دخول الكافرين النار هو كائن يوم القيامة ، وكانت آياته أيضا دالة على وقوع العرض على النار في القبر لآل فرعون بالنص على ذلك ، ولغيرهم أيضا بطريق القياس ، كان تفسير الإدخال في النار بالعرض عليها مناسبا ومنسجما مع منطق القرآن في تعبيره عن عذاب القبر.
وحينئذٍ تكون علة التعبير عن العرض بالإدخال ، هو تحقق الوقوع ، فأخبار الله تعالى لا تتخلف.
________________________

الحواشي:
- ينظر كتاب عذاب القبر والثعبان الأقرع أحمد صبحي منصور ص 11 وما بعدها
- ينظر تفسير روح المعاني للآلوسي
- قال الآلوسي: [ اليوم ] المراد به مطلق الزمان لا المتعارف ، وهو إما حين الموت أو ما يشمله وما بعده .
- صحيح مسلم - كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه - حديث:‏5226‏
- المستدرك على الصحيحين للحاكم - كتاب الجنائز حديث:‏1307‏

- يرى بعض المفسرين أن هذه المعيشة الضنك هي في الدنيا ، وهو رأي محتمل ، لكنه في نظرنا مرجوح للأسباب الآتية:

1- إرداف ذكر المعيشة الضنك بالحشر ، فإنه يدل على أنها في القبر
2- ليس مشاهدا في الواقع بكثرة أن المعرضين عن الله يعيشون في شظف وضيق من العيش ، بل كثير منهم يُشَاهَدون أهل غنى ورفاهة.
فلها ولغيره ترجح لدينا أن المراد بالمعيشة الضنك عذاب القبر ، وهو اتجاه مؤيد بحديث اختلف في رفعه ووقفه ورجح ابن كثير وقفه وهو ما أخرجه ابن أبي حاتم قال: حدثنا أبو زُرْعة، حدثنا صفوان، حدثنا الوليد، حدثنا عبد الله بن لهيعة، عن دَرَّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل: { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا } قال: "ضمة القبر" قال ابن كثير( 5/ 323 ط دار طيبة) :الموقوف أصح .
- تفسير السعدي ص 515
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 4 /127

- قال القرطبي عند تفسيرها: وقيل: إن معنى" ارْجِعُونِ" على جهة التكرير، أي ارجعني ارجعني ارجعني. ينظر تفسير القرطبي 12 /149 ط دار الكتب المصرية
- المستدرك على الصحيحين للحاكم - كتاب الرقاق - حديث:‏7987‏
- أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الجنائز ، باب الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي ( 3/286 حديث 1379) ، وأخرجه أيضا مسلم في صحيحه 8/160 – كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه.

- ينظر ما نقله الطبري عن السلف في تفسيرها 21 / 467 وصحح صاحب الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور [4 /276] نسبة ذلك إلى مجاهد وقال:
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد، في قوله (تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا) قال: عند الموت.
- انظر التسهيل لابن جزي