صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 15 من 26

الموضوع: مع د.عمرو الشريف في نظرية التطور!!

  1. افتراضي مع د.عمرو الشريف في نظرية التطور!!

    (وليعلم من يريد أن يعلم: من رجلٍ أسلسَ للعصبيةِ المذهبيةِ قيادَه، حتى ملكت عليه رأيَه، وغلبته على أمرِه، فحادت به عن طريق الهدى، أو من رجلٍ قرأ شيئًا من العلم فداخَلَه الغرور، إذ أعجبته نفسُه، فتجاوز بها حدّها، وظنّ أنّ عقله هو العقل الكامل، وأنه الحكم لتُرضى حكومته، فذهب يلعب بأحاديث النبي، يصحح منها ما وافق هواه وإن كان مكذوبًا موضوعًا، ويكذّب ما لم يعجبه وإن كان الثابت الصحيح، أو من رجلٍ استولى المبشرون على عقله وقلبه، فلا يرى إلا بأعينهم، ولا يسمع إلا بآذانهم، ولا يهتدي إلا بهديهم، ولا ينظر إلا على ضوء نارهم يحسبها نورًا، ثم هو قد سمّاه أبواه باسمٍ إسلاميّ، وقد عدّ من المسلمين أو عليهم في دفاتر المواليد وفي سجلات الإحصاء، فيأبى إلا أن يدافع عن هذا الإسلام الذي أُلبِسه جنسيةً ولم يعتقده دينًا، فتراه يتأول القرآن ليخضعه لما تعلّم من أستاذِيه، ولا يرضى من الأحاديث حديثًا يخالف آراءهم وقواعدهم، يخشى أن تكون حجتهم على الإسلام قائمة!! إذ هو لا يفقه منه شيئًا، أو من رجلٍ مثل سابقِه إلا أنّه أراح نفسه، فاعتنق ما نفثوه في روحه من دينٍ وعقيدة، ثم هو يأبى أن يعرف الإسلام دينًا أو يعترف به، إلا في بعض شأنه، في التسمّي بأسماء المسلمين، وفي شيءٍ من الأنكحة والمواريث ودفن الموتى، أو من رجلٍ مسلمٍ عُلم في مدارسَ منسوبةٍ للمسلمين، فعرف من أنواع العلوم كثيرًا، ولكنه لم يعرف من دينه إلا نزرًا أو قشورًا، ثم خدعته مدنية الإفرنج وعلومهم عن نفسه، فظنّهم بلغوا في المدنية الكمال والفضل، وفي نظريات العلوم اليقين والبداهة، ثم استخفّه الغرور، فزعم لنفسه أنّه أعرف بهذا الدين وأعلم، من علمائه وحفظته وخلصائه، فذهب يضرب في الدين يمينًا وشمالًا، يرجو أن ينقذه من جمود رجال الدين، وأن يصفيه من أوهام رجال الدين!! أو من رجلٍ كشف عن دخيلة نفسه، وأعلن إلحاده في هذا الدين وعداوته، ممن قال فيهم القائل "كفروا بالله تقليدًا"!، أو من رجلٍ ممن ابتليت بهم الأمة المصرية في هذا العصر، ممن يسميهم أخونا النابغة الأديب الكبير كامل الكيلاني "المجددينات" .. أو من رجلٍ أو من رجلٍ ..

    ليعلموا هؤلاء كلهم، وليعلم من شاء من غيرهم، أن المحدِّثين كانوا محدَّثين ملهمين، تحقيقًا لمعجزة سيد المرسلين، حين استنبطوا هذه القواعدَ المحكمة لنقد رواية الحديث، ومعرفة الصحاح من الزّياف، وأنّهم ما كانوا هازلين ولا مخدوعين، وأنّهم كانوا جادّين على هدى وعلى صراطٍ مستقيم، فكانت تلك القواعد التي ارتضوها للتوثق من صحة الأخبار، أحكم القواعد وأدقها، ولو ذهب الباحث المتثبت يطبقها في كلّ مسألة لا إثبات لها إلا صحة النقل فقط، لآتته ثمرتها الناضجة، ووضعت يده على الخبر اليقين، وعلى ضوء هذه القواعد سار علماؤنا المتقدمون في إثبات مفردات اللغة وشواهدها، وفي تحقيق الوقائع التاريخية الخطيرة، ولن تجد من ذلك شيئًا ضعيفًا أو باطلًا، إلا ما أبطلته قواعد المحدثين، وإلا فيما لم ينل العناية بتطبيقها عليه
    ).

    (مقدمة أبي الأشبال أحمد شاكر رحمه الله لتحقيق سنن الترمذي).

    يتبع إن شاء الله..
    " أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ "
    صفحتي على الفيسبوك - صفحتي على تويتر.

  2. #2

    افتراضي

    أها ..!
    قد بدا غبار خيل الله من بعيد ، فلنر عن أشلاء من سينقشع غبارها ..!
    إن عرفتَ أنك مُخلط ، مُخبط ، مهملٌ لحدود الله ، فأرحنا منك ؛ فبعد قليل ينكشف البهرج ، وَيَنْكَبُّ الزغلُ ، ولا يحيقُ المكرُ السيء إلا بأهلِهِ .
    [ الذهبي ، تذكرة الحفاظ 1 / 4 ].
    قال من قد سلف : ( لا ترد على أحد جواباً حتى تفهم كلامه ، فإن ذلك يصرفك عن جواب كلامه إلى غيره ، و يؤكد الجهل عليك ، و لكن افهم عنه ، فإذا فهمته فأجبه ولا تعجل بالجواب قبل الاستفهام ، ولا تستح أن تستفهم إذا لم تفهم فإن الجواب قبل الفهم حُمُق ) . [ جامع بيان العلم و فضله 1/148 ].

  3. افتراضي

    دارون..
    "الإمام المقدام، والعالم المدقق، والفيلسوف المحقق"!! (*)
    وعِدل هذه الألقاب لا يبلغ أن يكون اعتدالًا، في حقّ رجلٍ يستدرك على أمةٍ لا تُجمِع ضلالًا!!

    يقول د. عمرو الشريف في وصف دارون ورحلته وكتابه: (على رأي الأستاذ خالد محمد خالد رحمه الله المفكر الإسلامي الكبير، يقول: وكأنّ دارون قد قرأ الآية "قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق")اهـ، والظاهر أنّ الدكتور يقصد قول د.حسن حامد: (لقد قال لي فضيلته –أي الأستاذ خالد محمد خالد-: جاء في الوحي "القرآن الكريم" قول الحق تبارك وتعالى "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ"، لم يقم أحدٌ من علماء المسلمين بتنفيذ هذا الأمر، غير أنّ دارون دون أن يطّلع على القرآن المجيد -على ما يبدو "قال حسام: كذا الأصل!"- قد قام بتنفيذ ذلك، إذ استقل السفينة "بيجل" وطاف بها حول العالم جامعًا لعينات الأحياء من نباتٍ وحيوان، ثم أخذ يبحث ويدقق ويتأمل كيف بدأ الخالق الكريم خلق تلك الأنواع ... اهتدى دارون إلى نظريته الشهيرة، التي أقامت الدنيا ولم تقعدها، والتي يقول فيها بأنّ الحياة بدأت بكائناتٍ بسيطةٍ من خليةٍ واحدة، ثم أخذت ترتقي وتتطور نوعًا وراء آخر، بل نوعًا من نوع، إلى أن ظهر الإنسان أرقى المخلوقات)(1).

    وأنا أسائل رجلًا وقف لغرضٍ نبيلٍ ليقول مثل هذا القول، كيف يستقيم لك ردٌّ على الإلحاد بعد ذلك؟! كيف تجمع بين الزراية على علماء الإسلام والدفاع عن الإسلام؟! وعندما يقف دارون ليستدرك على علماء الإسلام جميعًا، ليقوم بما لم يقم به واحدٌ منهم عجزًا أو كسلًا أو أيَّ شيءٍ قبيح، فما أدراك ألّا يأتي غيره ليستدرك عليهم مرةً أخرى؟! وأيُّ يقينٍ يتبقى؟! ولأيّةِ ثوابتَ تدعو؟!

    يقول دارون (إنني أتحدث عن الانتقاء الطبيعي كقوةٍ فاعلةٍ أو "إله" .. والإيمان بالخلق المعجِز أو بالتدخل المستمر من قِبل قوةٍ خالقةٍ يعني أنّ "إلهي الانتقاء الطبيعي" تحصيلُ حاصل)(2)، فهل هذا هو الرجل الذي قام بما لم يقم به علماء المسلمين جميعًا دون أن يطلع على القرآن الكريم على ما يبدو!!؟ وثقيلٌ على قلبي ثقلًا يوشك أن يُسكنه أن يعتقد مسلمٌ أن دارون نهض في أمرِ الله بما لم ينهض به أبو بكرٍ ولا عمرُ ولا عثمانُ ولا عليٌّ ولا ابنُ مسعودٍ ولا خالدٌ ولا ابنُ عباسٍ ولا أبو عبيدة ولا أحدٌ من علماء المسلمين!! وعجبًا لفكرةٍ تضربُ رأسَ امرئٍ فتتركه شتاتًا لا يدرك عاقبةَ قوله، ولا يسكت حتى يهجو أهله كأنّه ابن الروميّ أو دعبل(3)!

    وصبرًا جميلًا...! ما سياق هذا الأمر بالسير والنظر؟! اقرأ إذًا:
    (وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ * أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يُعَذِّبُُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ * وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (العنكبوت:16 – 24).

    ولا أظنّ أن مستحضرًا لسياق هذه الآيات الكريمة، يستطيع أن يهنأ بقوله إنّ علماء المسلمين ما قاموا بالأمر، إذ إنّ المقام مقام استدلال على الكفّار أصلًا، والاستدلال لا يكون إلّا بما يسعه عقل خصمك، وإنْ كان كذلك -وهو كذلك– فإنّ قوم إبراهيم عليه السلام ما عقلوا مخترعات دارون، إلّا أن تكون أضغاث أحلامٍ حين يلعب بهم الشيطان!!


    ولو صحّ هذا الكلام في علماء المسلمين في هذه الآية، فما نقول في قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ)؟! أو قوله تعالى (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ)؟! أيكلّف اللهُ عباده بالمحال؟! أيرضى الدكتور أن يقول في قول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ) ما قال في قوله تعالى (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ)؟! أم يكفيه أنّ (إيثار "كيف" دون غيره من أسماء الاستفهام أو الموصول، فلم يقل ألم تر ما فعل ربك، أو الذي فعل ربك، للدلالة على حالة عجيبة يستحضرها من يعلم تفصيل القصة، وأوثِر لفظ "فعل ربُّك" دون غيره لأنّ مدلول هذا الفعل يعمّ أعمالًا كثيرةً لا يدل عليها غيره)(4)؟؟! واعجب إذاً .. هل الانتخاب الطبيعي يؤول بك إلى استحضار حالةٍ عجيبةٍ، من يستحضرها يدرك أنّ إعادة الخلق أهون على الله من بدئه؟!


    ثمّ مهلًا مهلًا! هل تكلّم دارون عن بدء الخلق؟! هل تعني تسميته لكتابه "أصل الأنواع" أنّه تعرّض لأصل الأنواع؟! من يقرأ كتاب أصل الأنواع؛ يعلم أنّ دارون لم يتكلم عن أصل الأنواع، وأنّ تسميته لكتابه كانت تسميةً غير دقيقة، وما تعرّض دارون إلا لتحولِ نوعٍ إلى آخر، ولو أنصفنا د.عمرو لأقرّ أن دارون لم يتكلم عن بدء خلق الأحياء، فضلًا عن خلق سائر الخلق! لو أنصفنا لعلمَ أنّه تعدى وظلمَ في نظره في دلالة الآية الكريمة، وفي قوله في حقِّ علماء المسلمين، ورفع دارون فوق مكانه ظلمًا؟!

    وقد يعدل د.عمرو في نفسه أو على الملأ، إلى قولٍ هو إلى الحق أقرب، وبحفظ مكانة أهل العلم أليق، وهو قول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: (إن التعبير هنا بلفظ الماضي "كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ" بعد الأمر بالسير في الأرض؛ لينظروا كيف بدأ الخلق، يثير في النفس خاطرًا معينًا .. تُرى هنالك في الأرض ما يدل على نشأة الحياة الأولى وكيفية بدء الخليقة فيها، كالحفريات التي يتتبعها بعض العلماء اليوم ليعرفوا منها خط الحياة؛ كيف نشأت؟! وكيف انتشرت؟! وكيف ارتقت؟! - وإن كانوا لم يصلوا إلى شيءٍ في معرفة سر الحياة ما هي؟ ومن أين جاءت إلى الأرض؟ وكيف وجد فيها أولُّ كائنٍ حي؟ - ويكون ذلك توجيهًا من الله للبحث عن نشأةِ الحياة الأولى والاستدلال به عند معرفتها على النشأة الآخرة.

    ويقوم بجانب هذا الخاطر خاطرٌ آخر، ذلك أن المخاطبين بهذه الآية أولَ مرةٍ لم يكونوا مؤهلين لمثل هذا البحث العلمي الذي نشأ حديثًا؛ فلم يكونوا بمستطيعين يومئذٍ أن يصلوا من ورائه إلى الحقيقة المقصودة به - لو كان ذلك هو المقصود - فلا بد أنّ القرآن كان يطلب منهم أمرًا آخرَ داخلًا في مقدورهم، يحصلون منه على ما ييسر لهم تصور النشأة الآخرة، ويكون المطلوب حينئذٍ أن ينظروا كيف تبدأ الحياة في النبات والحيوان والإنسان في كل مكان، ويكون السير في الأرض كما أسلفنا لتنبيه الحواس والمشاعر برؤية المشاهد الجديدة، ودعوتها إلى التأمل والتدبر في آثار قدرة الله على إنشاء الحياة التي تبرز في كل لحظةٍ من لحظات الليل والنهار.

    وهناك احتمالٌ أهم يتمشى مع طبيعة هذ القرآن؛ وهو أنه يوجه توجيهاته التي تناسب حياة الناس في أجيالهم جميعًا، ومستوياتهم جميعًا، وملابسات حياتهم جميعًا، ووسائلهم جميعًا، ليأخذ كلٌّ منها بما تؤهله له ظروف حياته ومقدراته، ويبقى فيها امتدادٌ يصلح لقيادة الحياة ونموها أبدًا، ومن ثمَّ لا يكون هناك تعارضٌ بين الخاطرين، هذا أقرب وأولى.
    )(5).


    إن قال الدكتور عمرو ذلك، فأنا أسلّم جدلًا بأنّ المقصود بالآية هم علماء المسلمين لا الكفّار، وأنّ العلماء من لدن الصحابة إلى دارون مقصّرون، وأنّ دارون هو الذي شرع في تطبيق الآية برحلته، وأنّ المقصود ليس استحضار حالةٍ عجيبة، تورث المشركين معرفةً بإمكانية البعث، وإنّما المقصود هو النظر في الأرض، والبحث عن الحفريات، والنظر في الجينات ومباحث الوراثة، لنسلّم جدلًا بهذا كلّه، فهل يعني هذا التسليم أنّ البحث في الحفريات ومباحث الوراثة يقود إلى القول بالأصل المشترك للأنواع؟! هل يعني هذا التسليم أنّ دارون أصاب في قوله؟! هل يعني أنّ الدكتور عمرو نجح في إثبات نظرية التطور كآليةٍ لبدء الخلق، وأنّ من يرى في الحفريات والوراثة دليلًا على الخلق المباشر مخطئ؟! وقبل ذلك هل تصح دعوى الأستاذ سيد قطب رحمه الله أنّ الأقدمين كانوا عاجزين عن فعل ما فعله دارون؟!

    يأتي جواب هذه الأسئلة تباعًا.. ولكن قبل الجواب أحدّثكم عن قصة الدحية!


    --------


    الحواشي:

    (*) كذا وصفه شبلي شميل (مجموعة أعماله: م1/ ص69) ، وهو أوّل من نشر الداروينية في الثقافة العربية، ويقول فيه إسماعيل مظهر أوّل مترجم لكتاب "أصل الأنواع" إلى العربية: (لماذا حمل دكتور شميل على الأديان؟ حمل عليها متابعةً لرأيه المادي، بل جريًا وراء غايةٍ محدودة، غايةٍ سعى إليها كثيرٌ من ماديِّي القرن الثامن عشر، وتنحصر تلك الغاية في أن يتبدل الناس بدينهم الأدبي دينًا آخر، وما هو ذلك الدين؟ هو عبادة المادة.) "ملقى السبيل في مذهب النشوء والارتقاء: ص43"، أهذا هو أصل الصراع؟! نعم! بل هذا هو الشأن كله!
    (1) قضية الوحي من الخلق إلى دارون- حسن حامد عطية – ص7.
    (2) Darwin in a letter to Asa Gray, June 5, 1861 (in Francis Darwin,ed. The life and letters of Charles Darwin, 2vol. "New York: Basic Books, 1959" 2:165) – By Creation and the courts – Norman Geisler – P31
    (3) يقول شيخ المعرة: لو نطق الدهر هجا أهله *** كأنّه الرومي أو دعبل!
    (4) التحرير والتنوير – الطاهر ابن عاشور.
    (5) في ظلال القرآن – سيد قطب.


    يتبع إن شاء الله..
    " أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ "
    صفحتي على الفيسبوك - صفحتي على تويتر.

  4. افتراضي

    قصة الدحية!


    يقول د.عمرو الشريف: (قال الله عزّ وجل "والأرض بعد ذلك دحاها"، المفكر القديم التراثي سأل العلماء: هي الأرض وضعها إيه؟!، قالوا: الأرض مستوية، ففسر دحاها أي سواها، وتمر الأيام ويكشف أن الأرض كالبيضة ... فوجد أنّ لفظ دحاها، الدحية هي مبيض النعام، المكان الذي تبيض فيه النعام ... والدحية هي البيضة ... هو راجع .. ففسر تبعًا لما يكشفه العلم)(1).

    قلتُ لا يوجد خلافٌ بين المفسرين واللغويين في أنّ الدحية لا تعني البيضة، وأنّ دحاها لا تعني جعلها كالبيضة، وإنّي مطمئنٌ بأنّ الدكتور الفاضل سيرضى بهذا الإجماع دليلًا، لأنّه فيما ساق من أدلةٍ على صحة نظرية التطور، قد قال إنّه لا يوجد خلافٌ ذو بالٍ بين العلماء حول ثبوت تطور الأحياء(2)، وقسمةٌ ضيزى أن يحتج الدكتور بإجماعٍ – منخرم - لعلماء الطبيعة على صحة قضيةٍ طبيعية، ولا يرضى بإجماعٍ – ثابتٍ - لعلماء اللغة والتفسير على صحة قضيةٍ لغويةٍ وتفسيرٍ لآي القرآن! أعيذ الدكتور من هذا الكيل بمكيالين!

    أما إجماع المفسرين فيقول أ. محمود عباس محمود: ( للمفسرين في تفسير قوله تعالى "دحاها" قولان، الأول: أنّه بمعنى بسطها، وهذا قول أكثر المفسرين، وقد حكى القرطبي أقوالًا مقاربةً لمعنى البسط فقال "وقيل دحاها سوّاها، وقيل دحاها حرثها وشقّها قاله ابن زيد، وقيل دحاها مهدها للأقوات، والمعنى متقارب"، الثاني: أنّه مفسَّرٌ بما بعده، يعني قوله تعالى "أخرج منها ماءها ومرعاها * والجبال أرساها"، فدحيها هو إخراج الماء والمرعى <النبات الذي يرعى> وشق الأنهار وجعل الجبال والرمال والسُّبل والآكام، وهذا القول نسبه ابن كثيرٍ إلى ابن عبّاسٍ وغير واحد، قلتُ: وليس بين هذين القولين تعارض، لأنّ من قال إنّ قوله "دحاها" بمعنى بسطها، يرى أنّ البسط مفسّر بإخراج الماء والمرعى وإرساء الجبال، فقوله "أخرج منها ماءها ومرعاها * والجبال أرساها" تفسيرٌ وبيانٌ وتكملةٌ لقوله "دحاها"، فإنّ بسط الأرض وتمهيدها للسكنى لا يتأتى بمجرد البسط، بل بإخراج الماء والمرعى وإرساء الجبال، وهذا الجمع مستفادٌ مما قاله النسفيّ وأبو السعود والشنقيطي)(3).

    ومن جهة اللغة فلن يجد الدكتور في شيءٍ من معاجم اللغة قط، أنّ الدحية تعني البيضة أو أنّ دحاها تعني جعلها كالبيضة، وإنّما الذي في لسان العرب: (والأُدحيُّ والإِدحيُّ والأُدحيَّة والإِدحيَّة والأُدحوّة مَبِيض النعام في الرمل، وزنه أُفْعُول من ذلك، لأن النعامة تدحوه برجلها ثم تبيض فيه، وليس للنعام عش، ومَدْحَى النعام موضع بيضها)(4)، فالكلام عن مكان وضع البيض الذي تبسطه النعامة "برجلها"، وهذا بالتأكيد ليس بيضي الشكل، وإنّما المعنى الذي سيجده الدكتور في المعاجم، هو المعنى الذي قال به المفسرون جميعًا.

    وإنْ رضينا بهذين الإجماعين إنصافًا، قلنا بما قال به المفسر "التراثيّ القديم"، إنّ "دحاها" تعني بسطها، ومدّها للسكنى، ليتهيأ لمن على سطحها العيش عليها، ويكون ذلك من تمام منته سبحانه، بتهيئة هذا الكوكب الصخري لعيش آدم وبنيه، ومن جنس هذه المنّة أن يخرج من الأرض ماءها ومرعاها، وأن تكون الجبال لها كالرواسي، ولا علاقة بين الآية الكريمة وبين شكل الكوكب الأرضي أصلًا، بل المقام مقام امتنانٌ منه سبحانه بما هيّأ لخلقه في هذه الأرض، وذلك مثل قوله تعالى "والله جعل لكم الأرض بساطًا * لتسلكوا منها سبلًا فجاجًا"، وقوله تعالى "والأرض وما طحاها"، وقوله تعالى "والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي"، وقوله تعالى "وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي"، وقوله تعالى "وإلى الأرض كيف سطحت".

    وعن كروية الأرض، فقد نقل الشيخ عطية سالم عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله قوله (وكذلك أجمعوا على أنّ الأرض بجميع حركاتها من البر والبحر مثل الكرة، قال: ويدل عليه أنّ الشمس والقمر والكواكب لا يوجد طلوعها وغروبها على جميع من في نواحي الأرض في وقتٍ وحدٍ بل على المشرق قبل المغرب) ثم قال الشيخ عطية (فهذا نقلٌ من إمامٍ جليلٍ في علمي المعقول والمنقول، على أنّ الأرض على شكل الكرة، وقد ساق الأدلة الاضطرارية من حركة الأفلاك على ذلك، ومن جهة العقل أيضًا يُقال: إنّ أكمل الأجرام هو المستدير كما في قوله تعالى "ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت"، وعليه فلو قدِّر لسائرٍ على وجه الأرض، وافترضنا الأرض مسطحةً كسطح البيت أو القرطاس مثلًا، لكان لهذا السائر من نهاية ينتهي لها، وهي منتهى التسطيح أو يسقط في هاوية(5)، وباعتبارها كرةً فإنّه يكمل دورته، ويكررها ولو سار طيلة عمره لما كان لمسيره منتهى، لأنّه يدور على سطحها من جميع جهاتها، والعلم عند الله تعالى)(6)، وما ذكره الشيخ رحمه الله يصلح أن يكون دليلًا نقليًّا على كروية الأرض، فإنّ غاية البسط والمدّ لا تكون إلا في الشكل الكروي وما يشبهه، وبذلك نقول في القرآن وفي اللغة وفي الفلك بما هو قول الحق الذي عليه العالِمون من الأولين والآخرين، والله أعلم.

    يقول روبرت شادوالد (إنّ قدماء اليونان قدّموا نموذج الشكل الكروي للأرض للعالم الغربي، وقد كان أتباع فيثاغورس (500 ق.م) من أوّل من تبنى هذه الرؤية، وفي نهاية القرن الرابع قبل الميلاد استطاع أرسطو (384 – 322 ق.م) أن يقدم عدةَ أدلةٍ تجريبيةٍ على كروية الأرض، ومعظم الفلاسفة اليونان كان يعد المسألة منتهية، وانتشر هذا المفهوم إلى الشرق الأدنى القديم مع المد الهليني)(7)، أي أنّ كروية الأرض ليست من بدع العلم الحديث، حتى يُقال إنّها كانت خفيةً عن المفسرين القدامى أجمعين، حتى لا نجد فيهم واحدًا يقول إنّ "دحاها" تعني جعلها كالبيضة!

    وبعدُ .. ألا يسع امرؤٌ أن يمسك لسانه فلا يقول في كتاب الله بغير علم، ليتحدّث الناس بما قال ويذهب قوله كلَّ مطار، يلتقطه الذين يدعون غير المسلمين، وتصير الدعوة لدين الله بما ليس من دين الله، ثمّ تستقر قولة هذا الذي أطلق لسانه، وتأخذ موضعها من عقل د. عمرو وفكره، فإذا به يُحاكم المفسر التراثي إلي هذه المقولة، ويخفض بها فلكًا قديمًا ومفسرًا قديمًا، ويرفع بها علمًا حديثًا و"مفسرًا!" حديثًا، ثم يمضي فيؤسس على هذا المثال، ويقعّد أنّ المفسر القديم الذي لم يهتدِ لتفسير الخلق بمعنى نظرية التطور، ليس مرجعًا ولا معيارًا، ولو كان هذا المفسّر أمةً من الناس لا تجمع على ضلال؟! ألا يسع الأول السكوت عسى أن يسكت الآخِر؟!

    ألا فليعلم الأول والآخر أنّ هذا الدين قد نقله إلينا هؤلاء السلف، وأنّ رمي هذا السلف جميعه بالخطأ غمزٌ لهذا الدين، علم ذلك من علم وجهله من جهل، وليعلم الأول والآخر أنّ السبيل الذي يعملون فيه هو الذي رسم هؤلاء السلف حدوده، وكلّ قولٍ يأتي به قائلٌ ولا أصل له في كلام السلف فهو عليه ردّ، علم ذلك من علم وجهله من جهل، وليعلم الأول والآخر أنّ اللحظة التي يقولون فيها بقولٍ يرونه ناسخًا لقول القرون الخيرية، هي لحظةٌ قد ركبوا فيها إثمًا عظيمًا وقالوا في دين الله بغير علم، علم ذلك من علم وجهله من جهل، وليعلم الأول والآخر أنّ الدعوةَ المدخولةَ بالبدع والأخطاء دعوةٌ مجتثة، تستمد بقاءها من غفلة الناس عن الخطأ المتبرقع برطانة المتعالمين، علم ذلك من علم وجهله من جهل، ولينظر كلاهما مليًّا في هذه القضايا العقلية، وليسمعا قول نصيح!


    --------
    الحواشي:

    (1) النقط محل الصوت غير الواضح، لم يتبين لي قول الدكتور فيه.
    (2) سيأتي الردّ على هذه الإجماعات تفصيلًا بإذن الله تعالى.
    (3) خلق السماوات والأرض في ضوء القرآن والعلم الحديث – أ. محمود عباس محمود – ص397، مع التنبيه على أنّ تتمة أضواء البيان من أول سورة الحشر إلى آخره كانت من عمل الشيخ عطية سالم وليست من عمل الشيخ الشنقيطي رحمهما الله، وبالنسبة لكتاب الأستاذ محمود عباس فهو من أجمع ما قرأت في موضوعه وأحسنه ترتيبًا.
    (4) لسان العرب – مادة (دحا).
    (5) الغريب حقًّا أنّه في هذا الزمان مازال هناك من يؤمن بأنّ الأرض مسطحة الشكل Flat Earth "FE"، ولهم منتديات ومواقع على الشبكة العنكبوتية:
    http://www.theflatearthsociety.org/forum/index.php
    http://theflatearthsociety.net/talk/
    (6) تتمة أضواء البيان – الشيخ عطية سالم – ملحق بأضواء البيان م9 ص 21.
    (7) The history of science and religion in western tradition – An encyclopedia edited by Gary B. Ferngren – P411.



    يتبع إن شاء الله ..
    " أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ "
    صفحتي على الفيسبوك - صفحتي على تويتر.

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jul 2010
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    1,721
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    1

    افتراضي

    يرفع..

  6. #6

    افتراضي يرفع

    يرفع في وقت عرض برنامج بيني وبينكم لدكتور محمد العوضي مع الدكتور عمرو الشريف

  7. #7

    افتراضي

    يرفع في وقت عرض برنامج بيني وبينكم لدكتور محمد العوضي مع الدكتور عمرو الشريف
    هل يتكلم عن التطور ؟؟

    و متى يعرض البرنامج ؟؟ و على اى قناه ؟

  8. افتراضي

    هل يتكلم عن التطور ؟؟
    في العام الماضي خُصص ثلث البرنامج " العشر الحلقات الأخيرة " لهدم ركائز النظرية الدارونية آلياتها وخرافاتها والتدليس الذي حصل من كبار أنصارها وكان هذا مع الدكتور صبري الدمرداش , أما هذا العام فلم أُوَفَق للتفرغ لهذا البرنامج النافع ولكن علّي أُحمّل الحلقات وأشاهدها لا حقاً إن شاء الله , عموماً الشيخ محمد العوضي معروف بجهوده في محاربة الفكر الإلحادي والعلمانية , وقد يفيدك بالتفاصيل من تيابع موسم 2011 من برنامج بيني وبينكم .

    و متى يعرض البرنامج ؟؟ و على اى قناه ؟
    من موقع قناة الرأي
    مواعيد برنامج بيني وبينكم : 8:45 | 17:50
    ولكن قناة الرأي كويتية , فراعي فروق التوقيت الزماني .

    ويمكنك مشاهدة البرنامج على موقع الرسالة ولكن يتطلب التسجيل ,
    هذا الرابط : http://www.alresalah.net/index.jsp?i...il.jsp?pid=220

    وبعضُ أهل الهمّة باشروا برفع الحلقات على اليوتيوب
    اكتب : بيني وبينكم 2011

    مشاهدة نافعة
    قال الله سُبحانه وتعالى { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } الأنبياء:18


    تغيُّب

  9. #9

    افتراضي

    شكرا لكى اخت عربيه

  10. افتراضي

    يتبع قريبًا إن شاء الله..
    " أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ "
    صفحتي على الفيسبوك - صفحتي على تويتر.

  11. افتراضي

    "أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ "


    المقصلة...! آلة الإعدام الشهيرة...! اقترح صنعها طبيب، واخترعها مع جمعٍ من "الباحثين"، وسمّيت Guillotine باسمه "جوزيف جيوتين"، يا له من قاسٍ شرّير! لكنّ الرجل كان يبحث عن سبيلٍ للرحمة، إذ إنّه اقترحها كوسيلة لتنفيذ حكم الإعدام، وكانت معظم آلات الإعدام تسحق الرأس أو تكرر الضرب حتى الموت، فأراد الاكتفاء بالقتل ومنع الألم على قومٍ هم ولابد سيقتلون، يا له من حكيمٍ رحيم! لكنّ الرجل كان في زمن الثورة الفرنسية، وعمله ذلك كان عونًا لسُعار قتل "أعداء الثورة"، يا له من ظالمٍ فاسد! لكنّ الرجل ربما كان يريد تقليل الظلم، بتخفيف ما يقدر عليه ولو كان الألم، يا له من موضوعيٍّ عاقل! لكنّه.. لكنّه.. حيّرنا هذا الرجل! وكيف لنا أن نحكم على غرضه وقصده إلّا أن نعرفه جيدًا، ونحيط به من كل وجه، ثمّ نحكم عليه، فكم من الوقت يحتاج د.عمرو للحكم على هذا الرجل؟! ثمّ هب أنّ له من الوقت ما شاء.. فهل له أن يجزم بنية الرجل وغرضه والحكم فيه؟! لا أدري.. لا أدري كيف يكون منهج الدكتور عمرو وهو يحكم على غيره!

    يقول د.عمرو في لقائه مع الشيخ محمد العوضي(1) إنّه من الأدلة القوية على نظرية التطور، ما يسمى بالأعضاء الأثرية، وضرب لذلك مثلًا بعضلات الأذن والثدي الزائد..
    وليفتح الدكتور عمرو معي قوسًا...

    هناك مظلةٌ تندرج تحتها مجموعةٌ من "الأدلة" التي يطرحها التطوريون، والمقصود هو مظلة ادعاء عيوبٍ في خلق الله تعالى لا تناسب حكمته عند التطوريين، ثم تُجعل هذه العيوب سبيلًا للبرهنة على التطور كما سيأتي، وهذه المظلة تغطي عدة مستوياتٍ في الطرح التطوري، فعلى المستوى العضوي تشمل الانتكاسات التطورية Atavism والأعضاء الأثرية Vestigial organs والأعضاء غير النموذجية Non-optimal organs مما يؤدي إلى الأمراض Diseases ثمّ تتسع لتشمل الاستدلال بالحيوانات المنقرضة Extinct animals وعلى المستوى الجيني فتضم الجينات عديمة الفائدة Junk DNA والتعقيد الجيني غير السائغ Gratuitous genetic complexity والأمراض الوراثية Inherited diseases.. وأبدأ ببيان معنى المستبهم من هذه الأمور(*)، مع بيان اندراجها عند التطوريين تحت المظلة المذكورة!

    في البدء.. نذكر كلمةً للتطوري الشهير جاي ستيفن جاولد يقول فيها: (ما كانت نظرية الانتخاب الطبيعي لتحل محل مذهب الخلق الإلهي لو كان تصميمٌ واضحٌ رائعٌ منتشرًا في كل الكائنات، لقد فهم تشارلز دارون ذلك فركّز على المعالم التي لم تكن لتوجد في عالمٍ أُسس على وفق الحكمة البالغة... وهذا المبدأ مازال صحيحًا اليوم)(2)، فهذا الذي سنذكره كلّه هو عند التطوريين من الأدلة على أنّ المخلوقات لا تظهر تصميمًا رائعًا واضحًا، وأنّها ليست على وفق ما تقتضيه حكمة الخالق البالغة، لذلك فقد حلّ الانتخاب الطبيعي محلّ حكمة الخالق، وليس محل الخلق المباشر فحسب كما يفهم المنتصرين لنظرية التطور من أصحاب الديانات.

    نبدأ بالأعضاء الأثرية Vestigial organs وهي الأعضاء التي فقدت وظيفتها السابقة أو تعدّلت فيها تلك الوظيفة لوظيفةٍ أخرى(3)، ومن الأمثلة التي تُذكر في هذا الصدد الزائدة الدودية والثدي في الذكور وجناحي النعامة، وليس من شرط العضو الأثري عند التطوريين أن يكون عديم الوظيفة، بل يكفي أن تكون الوظيفة بسيطةً بالنسبة للتركيب المعقد للعضو، ولذلك فاستبعاد د.عمرو الشريف الزائدة الدودية من الأعضاء الأثرية بقوله "كان زمان بندّي –نعطي- مثال بالزائدة الدودية في الإنسان، ثبت أن الزائدة الدودية لها وظيفة"(4)، هذا الاستبعاد من الدكتور يدل على ضعف اطلاعه على كتابات التطوريين، فليس من شرط العضو الأثري عند التطوريين أن يكون العضو عديم الوظيفة، بل إنّ هذا الفهم من د.عمرو مما يرفضه التطوريون بشدة، ويرمون من يطرحه من مخالفيهم بالجهل بالنظرية!

    أمّا الأعضاء التي تمثّل الانتكاسات التطورية Atavisms فهي أعضاء تظهر –نادرًا- في نوعٍ ليست من صفته الدائمة، ولكنها تمثّل صفةً دائمةً في أنواعٍ أخرى، ومن أمثلة ذلك ظهور الذيل في الإنسان والأرجل في الحيتان، وحتى تكون الانتكاسة حقيقية عند التطوريين، فلابد أن يكون العضو موجودًا في نوعٍ آخر في سلسلة أجداد النوع الذي حدثت فيه، فمثلًا حين يولد طفلٌ بقدمٍ زائدة أو بأصبع زائدٍ، فهذا لا يمثّل شيئًا بالنسبة للتطوريين، لأنّه ليس في الأنواع السابقة للإنسان عندهم من كان ذا ثلاثة أرجل أو ستة أصابع(5)!

    يتساءل دوجلاس فوتويما وهو تطوريٌّ متخصص في الأحياء، بعد حديثه عن أحد أنواع الضفادع التي تعيش في الكهوف المظلمة، والتي تحتوي على عينٍ بدائيةٍ ضامرة كمثال على عضوٍ أثريٍّ، يتساءل "هل نجد هنا دليلًا على تصميمٍ حكيم؟!"(6)، والأعضاء الأثرية والانتكاسات التطورية كلاهما يشتبهان في الطرح، ويُساقان نفس المساق، حتى أنّ الدكتور عمرو خلط بين الاثنين، فجعل الثدي الزائد من أمثلة الأعضاء الأثرية، بينما هو عند التطوريين من الانتكاسات التطورية، بما يدل على ضعف اطلاع الدكتور عمرو على كتابات التطوريين، وعلى أية حال فالذي يعنينا هو ما تم من الإشارة إلى سبيل احتجاج التطوريين بالأعضاء الأثرية والانتكاسات التطورية على انتفاء الحكمة وبالتالي على نظرية التطور كما يزعمون!

    ثمّ تقابلك الأحاديث عن الأعضاء غير النموذجية Non-optimal organs، وهي أعضاء قائمةٌ بوظيفةٍ تامةٍ تناسب تركيبها، إلّا أنّ هناك تركيبًا أفضل وأداءً أحسن كان ممكنًا في نظر التطوريين، وهذا التركيب وذا الأداء يمكن أن يكونا مثاليين، أو واقعيين في أنواعٍ أخرى مختلفة، ومثال ذلك الشهير هو عين الإنسان، فهي وإن كانت تقوم بوظيفتها، إلّا أنّها لو كانت مثل عين الأخطبوط مثلًا لكانت أفضل، وتكون الأمراض Diseases هي نتاج هذا التصميم غير المثالي، فالأمراض ما هي إلا برهانٌ على أنّ الأعضاء ليست أفضل ما يمكن!

    يقول إليوت سوبر: (إن عين الأخطبوط ليس فيها بقعة عمياء في حين أنّ أعيننا فيها، وإنّ عين العقرب مزودة "بنظارات شمس" وأعيننا ليس فيها، إنّه يبدو جليًّا بما يكفي أنّ خصائص العين البشرية لا يمكن استنتاجها انطلاقًا من افتراض أنّ الله خلقها!)(7)، ويقول الإخباري التطوريّ روبن ويليامز: (هل أعيننا كاملة؟! إنّها ليست كذلك طبقًا للنظّارة القابعة على أنفي بينما أكتب الآن، وليست كذلك مقارنةً مع الكم الهائل مع الأعين في المملكة الحيوانية، ولا بالمقارنة بين التركيب المروّع لأعيننا مع عين الأخطبوط على سبيل المثال)(8)، ويقول جاولد: (يتضح التطور في عيوب الخلق التي تمثّل تسجيلًا للتطور، لِمَ ينبغي أن يجري الفأر ويطير الخفاش ويسبح الدُّلفين وأكتب أنا هذه المقالات، وكلنا نستعمل أعضاءً صُنعت من نفس العظام إلا إن كنّا ننحدر من أصلٍ مشترك؟! أليس المهندس -الذي بدأ من الصفر- بقادرٍ على أن يصنع أعضاءً أحسن لكل حالةٍ على حدة؟!)(9)!

    وقد بلغ الأمر حدّ أن يوضع كتابٌ بعنوان "الثَّغرات في التشريح البشري.. نظرة التكوين التطوريّ لجسم الإنسان"، ينذر فصلًا يعنونه بعنوان "الثغرات السخيفة والغبية والخطيرة"، ويرصد بزعمه الأعضاء التي تمثّل ثغراتٍ في التشريح البشري، فتوزيع الشعر في جسم الإنسان "سخيـف"، وتصميم العين فيه "غبــاء" و "إعاقة"، وتكوين البنكرياس من شقّين في الجنين "خطير"، ثمّ لا يكتفي بل يقترح البديل المناسب في رأيه –وهو سفيه- ويعلّق بقوله: (إنّ هؤلاء الأطباء يكسبون معايشهم من علاج الأخطاء العديدة في تركيبنا، الحقيقة أنّ جسمنا مليءٌ بالعديد من الأعضاء التي كان من الممكن أن تعمل بشكلٍ أفضل، الحقيقة المحزنة أنّ التطور ليس مهندسًا، وإنّما هو مصلحٌ غير خبير)(10).

    وعن الحيوانات المنقرضة Extinct Animals فتعريفها واضح، وعن وقوعها تحت مظلة الاستدلال بانتفاء حكمة الخالق فيها، فخذ قول الإحاثي التطوري كيث تومسون: (بالسماح لهذه الكائنات بالانقراض، فإنّه إمّا أنّ الربّ غيّر رأيه أو أنّه اعترف بأخطائه)(11)، ويقول: (إنّ مفهوم الانقراض برمّته يعارض الاعتقاد بوجود إله، خلق الكون في حدثٍ واحد، وجعله كاملًا)(12).

    أما على مستوى التركيب الجيني، فهناك الجينات الميتة Dead genes أو أشباه الجينات Pseudogenes أو الجينات عديمة الوظيفة Junk DNA، وبعيدًا عن الدخول في تفاصيل تعريفاتٍ ربما تأتي في موضع التفصيل إن شاء الله، فالمقصود هو الجينات التي لا تؤدي وظيفةً في الكائن الذي توجد فيه، وقد يكون التركيب الجيني مع وظيفةٍ قائمة، ولكن –مثل الحال في الأعضاء غير المثالية- يتصور الإنسان طريقةً أفضل، تجعل من التركيب والوظيفة أقرب للمثالية بدلًا من التعقيد غير السائغ Gratuitous genetic complexity والذي يزيد من حدوث الخطأ وربما الأمراض كمثل الأمراض الوراثية Inherited diseases، وقد فصّل الحديث عن هذه المسائل التطوريُّ المعروف جون آفيز في كتابه "داخل الجينوم البشري.. من أجل إثبات التصميم غير الذكي"(13)، ولعل عنوان الكتاب يكفي في بيان المقصود!

    والآن نغلق القوس..

    نغلق القوس.. هل عرف د.عمرو أن "دليل" "الأعضاء الأثرية" الذي طرحه يقوم على إنكار الحكمة من وجود هذه الأعضاء؟؟ فالتطور يا د.عمرو يقوم على إنكار حكمة وعلم وقدرة الخالق، ولا فرق بين الخلق المباشر والخلق غير المباشر، فكلاهما عندهم يتنافى وانعدام الحكمة، وأنت كمسلمٍ لا يسعك إلا أن تؤمن بحكمة الله تعالى في الكون، وكل ما في الكون من خلقه، وكل ما خلقه فقد خلقه لحكمةٍ، فلا فرق إذن.. لا فرق يا سيدي بين أن تُسأل: ما الحكمة من الأعضاء الأثرية وأنت تؤمن بالخلق المباشر، أو أن تُسأل وأنت تؤمن بالخلق غير المباشر!

    لذلك فأنت متناقض يا د.عمرو! نعم..! تناقضٌ يلزم من إيمانك بإلهٍ لا يقع في ملكه إلا ما يريد، وهو سبحانه لا يريد إلا لحكمة، فهو عليمٌ حكيمٌ قديرٌ خبير، ثمّ إيمانك بنظريةٍ تقوم على نفي الحكمة من وجود بعض الأعضاء، لمجرد ظنّهم انعدام الحكمة، ثم ينفون بنفي الحكمة خلق الله لها، فلا معنى إذن لأن تسايرهم في مرادهم، فتنفي خلق الله تعالى، ثمّ تستدرك فتقول إنّه خلقٌ غير مباشر، وهل الخلق غير المباشر يكون لغير حكمة؟! ألا ترى يا دكتور أنّ القضية هاهنا تنصب بالأساس على صفات الخالق تعالى، ومن خلال ذلك ينطلق التطوريون في استدلالهم بهذه المذكورات؟؟

    إنّ هذا الطرح التطوريّ كلّه لو وضع في صورةٍ واضحةٍ للاستدلال، لخرجت لنا صورة برهان الخلف، وهي صورةٌ لا يمكن بحال أن يتم إثباتها بالطريقة التجريبية، كما أنّها لا تقوم على طريقةٍ فلسفيةٍ منطقيةٍ صحيحة، كما سيأتي تفصيله إن شاء الله، وسنسترجع حينئذٍ سؤالي للدكتور عن تقويمه لمخترع المقصلة!


    ----------
    (1) في لقائه مع الدكتور محمد العوضي، عن نظرية التطور، عند الدقيقة 15 تقريبًا.
    (*) يندرج تحت هذه المظلة كذلك أمورٌ أخرى، كالاستدلال بالأخلاق المرذولة والأعمال المستنكرة moral evil اللازمة من خلقة الإنسان، لكني تركت التفصيل فيها لعدم اشتهارها بين المنتصرين لنظرية التطور من غير أهل الاختصاص، كما أنّ الرد عليها يسيرٌ على من طالع ردود أهل السنة على مسألة وجود الشر في العالم.
    (2) Ever since Darwin – Jay Stephen Gould – P.91.
    (3) Why evolution is true? – Jerry A. Coyne – P.61.
    (4) في لقائه مع الدكتور محمد العوضي، عن نظرية التطور، عند الدقيقة 15 تقريبًا.
    (5) Why evolution is true? – Jerry A. Coyne – P.69.
    (6) Science on trial – Douglas Futuyma – P. 198.
    (7) Evidence and evolution... The logic behind the science – Elliott Sober- P.146.
    (8) Unintelligent design – Robyn Williams – P.65.
    (9) Hen's teeth and horse's toes – Jay Stephen Gould – P.258.
    (10) Quirks of human anatomy… An evo-devo look at the human body – Lewis I. Held – P. 105.
    (11) Fossils… Very short introduction – Keith Thomson – P.8.
    (12) Fossils… Very short introduction – Keith Thomson – P.14.
    (13) Inside the human genome... A case for non-intelligent design – John C. Avise.


    يتبع إن شاء الله..
    " أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ "
    صفحتي على الفيسبوك - صفحتي على تويتر.

  12. #12

  13. افتراضي

    وفيكم بارك الله أستاذنا الكريم أبا حب الله..
    " أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ "
    صفحتي على الفيسبوك - صفحتي على تويتر.

  14. افتراضي

    "يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ العَلِيمُ القَدِيرُ"

    وما يقول د.عمرو في الطبيب إجاز مونيز Egas Moniz ؟! ذلك الرجل الذي توصّل إلى علاجٍ للاضطرابات السلوكية والعقلية.. يا له من عبقريّ ذكي! وكان هذا العلاج بإجراءاتٍ جراحيةٍ تتم على الفص الأمامي من المخ Frontal lobotomy! يا له من جريءٍ مغامر! لكنّ هذا العلاج لم يخضع لما تقتضيه الطريقة العلمية في إثبات فاعلية دواءٍ ما! وإنّما اكتُفيَ به بشهادة بعضٍ ممن تحسنت حالتهم فحسب... يا له من عجولٍ متهوّر! لكن.. لكنّ الغريب أنّ هذا الطبيب حصل على جائزة نوبل في الطب والفسيولوجي سنة 1949م عن هذا العلاج، وأُجريت هذه العمليات على آلافٍ من المرضى إلى سبعينات القرن الماضي، أصابتهم بسببها مضاعفاتٌ وإعاقاتٌ ولم تُفلح دواءً، حتى أنّ أقرباء هؤلاء "الضحايا" يُطالبون الآن بسحب جائزة نوبل من هذا "الطبيب"... فما رأي الدكتور عمرو في هذا الطبيب، والمجتمع الطبي الذي سار خلفه، ولجنة جائزة نوبل التي منحته الجائزة، والمرضى الذين رضوا بالخضوع لهذه الطريقة العلاجية... ما رأي الدكتور عمرو في هؤلاء كلّهم؟!

    قد أوضحتُ –فيما سبق- أنّ نظرية التطور لم توضع لتحل محل الخلق المباشر، وإنما حقيقتها أنها تحل محل حكمة الخالق، وهذا لا يمكن أن يقول به أحدٌ يعرف لله حقه، ويقدره سبحانه حق قدره، فمعتقد كل مسلمٍ هو أنّ الله تعالى "أتقن وأحكم خلق مخلوقاته، فبعض المخلوقات وإن لم تكن حسنةٌ في نفسها فهي متقنةٌ محكمة"(1)، كما ورد عن ابن عباسٍ رضي الله عنه القول: "أما رأيتَ القردة ليست بحسنةٍ ولكنّه أحكم خلقها؟!"(1)، واقرأ إن شئت قوله تعالى: "الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ"(2).

    وشبيهٌ بذلك –ونظائر ذلك كثيرة- أننا نرى أنّ الله تعالى قدّر أن تنتصر فارس على الدولة البيزنطية، وأن يستطيل المشركون بنصرة أشباههم على قومٍ أهل كتاب، فأنزل تعالى سورة الروم يعلّم المؤمنين، يعلمّهم أنّه "ينصر من يشاء"، وأنّه "كان حقًّا علينا نصر المؤمنين"، وأنّ الظالمين "ما لهم من ناصرين"، ويعد سبحانه بغلبة الروم "ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله"... نرى ذلك فنعلم أنّه لو تقدّم واحدٌ خفيت عليه حكمة غلبة فارس ابتداءً، لينفي عن الله تصريف أمور خلقه، لعُدّ مجترئًا على ما لا علم له به، خارجًا من المعضلة إلى ذات المعضلة بكلامٍ قبيح، فلا فرق بين نفي الحكمة في تصريف الله لشؤون خلقه وأرزاقهم، سواءً على النافي أجعل التصريف مباشرًا أو غير مباشر!

    وشبيهٌ بذلك –أيضًا- أننا نرى قوله تعالى "الم" في فواتح بعض سور الكتاب الحكيم، فلا نجزم لذلك بمعنى في لسان العرب، فقائلٌ إنّها عبارةٌ عن أسماء الله الحسنى، وقائلٌ إنّها عبارةٌ عن أسماء السور، وقائلٌ إنّها لا معنى لها، غير أنّ هذا الخلاف في المعنى لم يعنِ عند أحدٍ من أهل الإسلام أنّ الله تعالى أنزلها بلا حكمةٍ، فالاختلاف في معناها مقامٌ "والمقام الآخر في الحكمة التي اقتضت إيراد هذه الحروف في أوائل السور ما هي؟ مع قطع النظر عن معانيها في أنفسها"(3)، وفوق ذلك فلم يزعم مخلوقٌ يمشي على رجلين أنّ غيابَ المعنى أو الاختلاف فيه في الحروف المقطعة يعني غيابه في كتاب الله عزّ وجلّ كله، لم يزعم ذلك مخلوقٌ يبصر بعينيه، بل إننا نحتج على الملاحدة بما في كتاب الله من عظيم المعنى وغاية الإحكام أنّ هذه الأحرف المقطعة لها معنى أو من ورائها حكمةٌ وإن لم نعلمها، فلا يستطيع منصفٌ –ولو من الملاحدة- أن يرد على هذه الحجة.

    فكيف إذًا يجيء (عاقلٌ) إلى عضوٍ في جسد الإنسان "لا يعلم له وظيفةً" ولا يستطيع أن يجزم "بانعدام الوظيفة"، ثمّ يزعم أنّ "انعدام الوظيفة أو المعنى" يعني "انعدام الحكمة"، ثم لا يكتفي فيزعم أنّ هذا يعني غياب الحكمة في كل مخلوقات الله فيثبت بذلك الاحتجاج السقيم نظرية التطور؟! ثمّ يأتي مسلمٌ يؤمن بأنّ الله يخلق ما يشاء، وأنّه سبحانه لا يشاء شيئًا إلا لحكمةٍ علمها من علمها وجهلها من جهلها، يأتي مسلمٌ ليتابع هذا (العاقل) على هذا الكلام فيثبت بذلك نظرية التطور ويقول إنّها ما هي إلا خلقٌ غير مباشر، ونحن نؤمن أنّ الله قد يرزق الناس بعضهم من بعض، فما المانع أن يخلق الخلق بعضهم من بعض؟! هكذا يقول مسلمٌ لا يتذكر أننا إذ نؤمن أنّ الله قد يرزق الناس بعضهم من بعض فإنما ذلك على مقتضى الحكمة والعلم والقدرة، أمّا إثبات أنّه يخلق بعض الأنواع من بعض كما تقول نظرية التطور فهذا قولٌ على الله بغير علمٍ، وهو ثانيًا قولٌ قام على نفي الحكمة عن الله في خلقه، فهل تنفي الحكمة عن الله في رزقه؟!

    إنّ هذه الثنائية بين الخلق والتطور، ليوازي الأول إثبات الحكمة والعلم والقدرة، ويعني الثاني غيابها، هذه الثنائية تجدها واضحةً في كتابات التطوريين بما لا تخطؤه عين، فيقول جاولد: "يجيب دارون إننا يجب أن نبحث عن العيوب والغرائب، لأنّ أي كمالٍ في التصميم العضوي وفي البيئة يغبّش على مسار التاريخ ويمكن أن يكون خُلِق هكذا كما نجده، وهذا المبدأ هو أقوى موجِّهٍ لدارون"(4)، ويقول فيليب كيتشر: "لو أنّك كنت تصممّ الجينوم الخاص بكائنٍ ما، فإنّك لن تملأ هذا الجينوم بجيناتٍ لا قيمة لها"(5)، ويقول مايكل شيرمر: "بدلًا من أن يكون مصممًا تصميمًا ذكيًّا، فإنّ الجينوم البشري يبدو خليطًا .... تم بناؤه بالتطور في ملايين السنين"(6).

    وأختم التمثيل –ولم أقصد الحصر- بكلمة فرانسيسكو آيالا: "إن "التصميم" في الكائنات ليس "ذكيًّا"، بل إنّه يتعارض مع التصميم الذي نتوقعه من المصمم الذكي –يقصد الخالق- أو حتى من مهندسٍ من البشر، فهو تصميمٌ مليءٌ بالإعاقات والنفايات والأعمال الوحشية بما لا يُجيز نسبته إلى أيّ كائنٍ يتصف بالذكاء والحكمة والخيرية المطلقة"(7)، وهذا الاستدلال الذي يسوقه التطوريون بالأعضاء الأثرية وأخواتها، لو صيغ في صورةٍ واضحةٍ للاستدلال لكان هكذا:
    المقدمة الأولى: إمّا أن العضو أو الكائن خلقه إلهٌ حكيم أو أنّه تكون نتيجة التطور.
    المقدمة الثانية: لو كان العضو أو الكائن خلقه إلهٌ حكيم لكان كاملًا خاليًا من العيوب.
    المقدمة الثالثة: العضو أو الكائن محل الدراسة ليس كاملًا.
    النتيجة: العضو أو الكائن محل الدراسة تكوّن نتيجة التطور ولم يخلقه إلهٌ حكيم(8).

    ومن نظر في هذه المقدمات وجد أنّ المنهج التجريبي لا يستطيع إثبات أيٍّ من هذه المقدمات الثلاثة، فعلى أية أسسٍ يبني المنهج التجريبي قسمته أن الخلق إمّا أن يكون من إلهٍ حكيمٍ أو عن طريق التطور؟! ما الذي يملكه المنهج التجريبي مثلًا لينفي أن يكون الخلق من إلهٍ حكيمٍ لكنّه غير قادرٍ كما هو معتقد جون ستيوارت مل؟! وما الذي يملكه المنهج التجريبي لينفي أن يكون الخلق من إلهٍ لا يكون خلقه لحكمةٍ كما هو معتقد بعض الفرق الإسلامية؟!

    ولا يُقال هنا إن الإله لابد أن يكون حكيمًا، بناءً على طريقة المؤمنين في الاستدلال، لأنّ المنهج التجريبي لا يرضى بهذه الحجج "الفلسفية"! فالغرض المقصود أنّ نظرية التطور في ذاتها، لا تحمل الأدلة على هذه القضية، لا تطرح أية أدلةٍ تجريبية للدلالة على هذه القضايا، وإنّما تقوم على مقدماتٍ فلسفيةٍ غير مسلّمةٍ، لا فرق بينهم وبين خصومهم في الاعتماد على "ما وراء الطبيعة"، إلّا إنّهم يعتمدون عليه في النفي وخصومهم يعتمدون عليه في الإثبات، وهم يتناقضون باعتمادهم عليه بما لا يوافق المنهج التجريبي، وخصومهم لا يتناقضون لأنّهم لا يحصرون طرق إثبات العلم في المنهج التجريبي.

    ثمّ ما الذي يملكه المنهج التجريبي حيال المقدمة الثانية؟! أيستطيع أحد التطوريين أن يضع لنا تصورًا للإله الحكيم بناءً على المنهج التجريبي؟! أيوجد في المنهج التجريبي ما يبحث في "الحكمة" وهي أمرٌ وراء الطبيعة الظاهرة؟! أيستطيع المنهج التجريبي أن يبيّن لنا ما الذي يتوقع من فعل الإله الحكيم؟! هل يمكن للمنهج التجريبي أن ينفي الحكمة في خلق الشر في العالم عندما تكون هذه الدنيا دار ابتلاء كما قدّر خالقها؟! هل التطوريون يعتقدون ويبنون على ما لا يستطيعون إثباته بالمنهج التجريبي؟!

    يقول دوكنز (إنني أعتقد –إلا أنني لا أستطيع أن أثبت- أن كل ما هنالك من حياةٍ وذكاءٍ وإبداعٍ، وأن كل "التصميم" في كل مكانٍ في الكون، ما هو إلا نتيجة مباشرةٍ أو غير مباشرةٍ للانتخاب الطبيعي الدارويني)(9)، فهل هذه هي الحال هنا؟! يعتقد التطوريون –ولا يستطيع أحدهم أن يثبت- أن الكائنات إما خلقها إلهٌ حكيمٌ أو أنتجها التطور، ويعتقدون أن الإله الحكيم لابد أن يخلق كائنًا كاملًا خاليًا من العيوب، يعتقدون ذلك ولكنّهم لا يستطيعون إثبات أيٍّ من تلك المعتقدات على وفق أصول المنهج التجريبي!

    ثمّ ما الذي يملكه المنهج التجريبي مع المقدمة الثالثة؟! كيف له أن يحكم على كائنٍ ما أنّه غير كاملٍ؟! وكيف له أن يضع معاييرَ للكائن الكامل أو المثالي؟! هل مثلًا يكون الإنسان كاملًا إذا كان قادرًا على الطيران وله عدة أجنحة؟! أو يكون كاملًا حين لا يحتاج لأنثى من أجل التكاثر كما توقع بعض أصحاب النظرة التقدمية للتاريخ الإنساني؟! وما هو السبيل التجريبي للجزم بأنّ هذا الكائن كامل، أو أنّ هذا العضو مثالي؟! وهل المرجعية في تصور الكمال في المخلوقات صارت إلى خيال التطوريين أو إلى أحلام الآدميين؟!

    وأيًّا كان المنهج التجريبي المتعلق بدراسة الأحياء هنا، سواءً أكانت منهجية بوبر Popper بالبدء بإطارٍ نظريٍّ ثم من بعد ذلك تأتي الملاحظة أو التجربة، أم كانت منهجية رينبرجر Rheinberger بالبدء بالتجربة أو الملاحظة ثم الاستنتاج النظري منها، فهذه وتلك كلتاهما لا يكفيان في هذا المقام.

    فطريقة بوبر تنطوي على البدء بافتراض صحة نظرية التطور، ثمّ البحث في التجارب والملاحظات التي تؤيدها أو تعارضها، إذ إنك عندما تكون في مقام المناظرة مع من يرى عدم صحتها، ومعه الدليل النقلي على مخالفتها للخلق الوارد في النصوص، عندما تكون في هذا المقام وتبدأ بافتراض صحة النظرية، فهذا ما هو إلا مصادرةٌ على المطلوب، وإقصاء للمخالف واستبدادٌ بالرأي، فالمشاهدات والتجارب التي ستقف عليها بعد ذلك قد توافق معتقدك في نظرية التطور، كما أنّها قد توافق معتقدي في الخلق، فاتخاذك إيّاها أدلةً على نظرية التطور حصرًا، هو مغالطةٌ قائمة على الانطلاق من صحة فرضيتك وحسب، فإن لم تكن تلك مصادرة، فأي شيءٍ تكون؟!

    أمّا طريقة رينبرجر فتقوم على جمع الملاحظات ونتائج التجارب أولًا، فهل ترى في الاستدلال بهذه المقدمات الثلاث شيئًا قام على غير ملاحظة وجود أعضاءٍ غير مثالية، فهل هذه الملاحظة في حد ذاتها تكفي لصحة نظرية التطور في مقابل الخلق؟! وهل كنّا نقول إن الله خلقنا في الأرض لننعم فيها فلا نبأس أبدًا؟! هل كنّا نقول إنّ الله خلقنا في الأرض كيلا نجوع فيها ولا نضحى؟! إنا نقول إنّ اشتمال الخلائق على نقائص ومعايب وشرور، هي من جهة الخلائق نقصٌ فيها، ولكنها من جهة الخالق عزّ وجلّ كمالٌ وحكمة، فهي توافق ما لأجله خلقت السماوات والأرض، فلا يكفي هنا مجرد ملاحظة وجود الأعضاء غير المثالية لنصحح نظرية التطور، لأننا نرى أنّ وجود هذه الأعضاء من تمام الحكمة في خلق الإنسان في دار الابتلاء.

    وبعدُ.. فإنّي لا أدري يا د.عمرو.. ما رأيك فيمن يدّعي أنّه يبني إنتاجه الفكري على الطريقة التجريبية، ثمّ يُخرج لنا هذا الإنتاج فنجده لم يُبنَ على أساسٍ تجريبيٍّ بالمرة، ثمّ تفاجئنا المحافل العلمية أنّها تُبارك هذا الإنتاج، لا أدري هل بقي لنا –معشر المسلمين- شيءٌ من الاستقلالية بحيث نستطيع أن نقول لمن ظهر لنا خطؤه: قد أخطأتَ رغم علو صوتك!؟ أبقي لنا شيءٌ من تلك الاستقلالية أم أنّ كل العقول محتلة؟! لا أدري ما موقف د.عمرو من إجاز مونيز لو كان عاصره وهو يأخذ جائزة نوبل.. أكان يخالفه حين يعلم مخالفته للمنهج التجريبي، أم كان يسير مع التيار؟! وأيّ تيارٍ أقوى من حصوله على جائزة نوبل؟! لا سبيل لي أن أعرف موقف الدكتور لو كان عاصر مونيز إلا أن أقيس على موقفه من اعتقاد التطوريين بما لا يمكن إثباته بالمنهج التجريبي، أيخالفهم وقد علم مخالفتهم للمنهج التجريبي أم يسير مع التيار؟! وأي تيارٍ أقوى من نظرية التطور في المحافل العلمية في يومنا هذا؟!

    وهكذا.. لا يقوم الاحتجاج بالأعضاء الأثرية وأخواتها، على طريقةٍ تجريبيةٍ تتسق مع دعوى التطوريين، أنّ العلم عندهم ليس إلا ما وافق المنهج التجريبي وحسب، ذلك أنّ هذه القضية –قضية الخلق- لا يمكن أن تخضع للمنهج التجريبي، ولكن.. هل يصح الاحتجاج بالأعضاء الأثرية وأخواتها على طريقةٍ منطقيةٍ صحيحة، حتى ولو لم يكن ممكنًا بطريقةٍ تجريبية؟! بالتأكيد لا يصح! وهاك التفصيل!

    (1) فتح القدير (4: 328 و 330) – ط. دار الوفاء.
    (2) سورة السجدة: 7.
    (3) المصباح المنير في تهذيب تفسير ابن كثير: 31.
    (4) Why history matters – Jay Stephen Gould – P. 63.
    (5) Living with Darwin – Philip Kitcher – P.57.
    (6) Why Darwin matters – Michael Shermer – P.75.
    (7) Debating design from Darwin to DNA- edited by William A. Dembski and Michael Ruse – P.56.
    (8) Intelligent design creationism and its critics – edited by Robert T. Pennock - P.683.
    (9) New York Times, January 4, 2005.


    يتبع إن شاء الله...
    " أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ "
    صفحتي على الفيسبوك - صفحتي على تويتر.

  15. #15

    افتراضي

    كلام يشرح الصدر ..ولا أجد أصدق من أن أعبر عنه فأقول :الله..أمد بها صوتي
    مقالاتي
    http://www.eltwhed.com/vb/forumdispl...E3%DE%CF%D3%ED
    أقسام الوساوس
    http://www.eltwhed.com/vb/showthread...5-%E3%E4%E5%C7
    مدونة الأستاذ المهندس الأخ (أبو حب الله )
    http://abohobelah.blogspot.com/

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. نظرية الكائنات الفضائية ستحل محل نظرية التطور عند سقوطها
    بواسطة الدكتور قواسمية في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 24
    آخر مشاركة: 08-22-2015, 08:18 PM
  2. مع د.عمرو الشريف في نظرية التطور!!
    بواسطة حسام الدين حامد في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 25
    آخر مشاركة: 07-05-2012, 01:59 PM
  3. سلسلة العلم الحديث في مواجهة الالحاد مع د. عمرو الشريف [فيديو]
    بواسطة هاشمي في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 08-19-2011, 04:32 AM
  4. تعليقات: لماذا لا تعتبر نظرية التطور نظرية صحيحة من الناحية العلمية
    بواسطة مراد أبوعمرو في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 05-17-2010, 09:47 PM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء