دارون..
"الإمام المقدام، والعالم المدقق، والفيلسوف المحقق"!! (*)
وعِدل هذه الألقاب لا يبلغ أن يكون اعتدالًا، في حقّ رجلٍ يستدرك على أمةٍ لا تُجمِع ضلالًا!!
يقول د. عمرو الشريف في وصف دارون ورحلته وكتابه: (على رأي الأستاذ خالد محمد خالد رحمه الله المفكر الإسلامي الكبير، يقول: وكأنّ دارون قد قرأ الآية "قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق")اهـ، والظاهر أنّ الدكتور يقصد قول د.حسن حامد: (لقد قال لي فضيلته –أي الأستاذ خالد محمد خالد-: جاء في الوحي "القرآن الكريم" قول الحق تبارك وتعالى "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ"، لم يقم أحدٌ من علماء المسلمين بتنفيذ هذا الأمر، غير أنّ دارون دون أن يطّلع على القرآن المجيد -على ما يبدو "قال حسام: كذا الأصل!"- قد قام بتنفيذ ذلك، إذ استقل السفينة "بيجل" وطاف بها حول العالم جامعًا لعينات الأحياء من نباتٍ وحيوان، ثم أخذ يبحث ويدقق ويتأمل كيف بدأ الخالق الكريم خلق تلك الأنواع ... اهتدى دارون إلى نظريته الشهيرة، التي أقامت الدنيا ولم تقعدها، والتي يقول فيها بأنّ الحياة بدأت بكائناتٍ بسيطةٍ من خليةٍ واحدة، ثم أخذت ترتقي وتتطور نوعًا وراء آخر، بل نوعًا من نوع، إلى أن ظهر الإنسان أرقى المخلوقات)(1).
وأنا أسائل رجلًا وقف لغرضٍ نبيلٍ ليقول مثل هذا القول، كيف يستقيم لك ردٌّ على الإلحاد بعد ذلك؟! كيف تجمع بين الزراية على علماء الإسلام والدفاع عن الإسلام؟! وعندما يقف دارون ليستدرك على علماء الإسلام جميعًا، ليقوم بما لم يقم به واحدٌ منهم عجزًا أو كسلًا أو أيَّ شيءٍ قبيح، فما أدراك ألّا يأتي غيره ليستدرك عليهم مرةً أخرى؟! وأيُّ يقينٍ يتبقى؟! ولأيّةِ ثوابتَ تدعو؟!
يقول دارون (إنني أتحدث عن الانتقاء الطبيعي كقوةٍ فاعلةٍ أو "إله" .. والإيمان بالخلق المعجِز أو بالتدخل المستمر من قِبل قوةٍ خالقةٍ يعني أنّ "إلهي الانتقاء الطبيعي" تحصيلُ حاصل)(2)، فهل هذا هو الرجل الذي قام بما لم يقم به علماء المسلمين جميعًا دون أن يطلع على القرآن الكريم على ما يبدو!!؟ وثقيلٌ على قلبي ثقلًا يوشك أن يُسكنه أن يعتقد مسلمٌ أن دارون نهض في أمرِ الله بما لم ينهض به أبو بكرٍ ولا عمرُ ولا عثمانُ ولا عليٌّ ولا ابنُ مسعودٍ ولا خالدٌ ولا ابنُ عباسٍ ولا أبو عبيدة ولا أحدٌ من علماء المسلمين!! وعجبًا لفكرةٍ تضربُ رأسَ امرئٍ فتتركه شتاتًا لا يدرك عاقبةَ قوله، ولا يسكت حتى يهجو أهله كأنّه ابن الروميّ أو دعبل(3)!
وصبرًا جميلًا...! ما سياق هذا الأمر بالسير والنظر؟! اقرأ إذًا:
(وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ * أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يُعَذِّبُُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ * وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (العنكبوت:16 – 24).
ولا أظنّ أن مستحضرًا لسياق هذه الآيات الكريمة، يستطيع أن يهنأ بقوله إنّ علماء المسلمين ما قاموا بالأمر، إذ إنّ المقام مقام استدلال على الكفّار أصلًا، والاستدلال لا يكون إلّا بما يسعه عقل خصمك، وإنْ كان كذلك -وهو كذلك– فإنّ قوم إبراهيم عليه السلام ما عقلوا مخترعات دارون، إلّا أن تكون أضغاث أحلامٍ حين يلعب بهم الشيطان!!
ولو صحّ هذا الكلام في علماء المسلمين في هذه الآية، فما نقول في قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ)؟! أو قوله تعالى (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ)؟! أيكلّف اللهُ عباده بالمحال؟! أيرضى الدكتور أن يقول في قول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ) ما قال في قوله تعالى (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ)؟! أم يكفيه أنّ (إيثار "كيف" دون غيره من أسماء الاستفهام أو الموصول، فلم يقل ألم تر ما فعل ربك، أو الذي فعل ربك، للدلالة على حالة عجيبة يستحضرها من يعلم تفصيل القصة، وأوثِر لفظ "فعل ربُّك" دون غيره لأنّ مدلول هذا الفعل يعمّ أعمالًا كثيرةً لا يدل عليها غيره)(4)؟؟! واعجب إذاً .. هل الانتخاب الطبيعي يؤول بك إلى استحضار حالةٍ عجيبةٍ، من يستحضرها يدرك أنّ إعادة الخلق أهون على الله من بدئه؟!
ثمّ مهلًا مهلًا! هل تكلّم دارون عن بدء الخلق؟! هل تعني تسميته لكتابه "أصل الأنواع" أنّه تعرّض لأصل الأنواع؟! من يقرأ كتاب أصل الأنواع؛ يعلم أنّ دارون لم يتكلم عن أصل الأنواع، وأنّ تسميته لكتابه كانت تسميةً غير دقيقة، وما تعرّض دارون إلا لتحولِ نوعٍ إلى آخر، ولو أنصفنا د.عمرو لأقرّ أن دارون لم يتكلم عن بدء خلق الأحياء، فضلًا عن خلق سائر الخلق! لو أنصفنا لعلمَ أنّه تعدى وظلمَ في نظره في دلالة الآية الكريمة، وفي قوله في حقِّ علماء المسلمين، ورفع دارون فوق مكانه ظلمًا؟!
وقد يعدل د.عمرو في نفسه أو على الملأ، إلى قولٍ هو إلى الحق أقرب، وبحفظ مكانة أهل العلم أليق، وهو قول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: (إن التعبير هنا بلفظ الماضي "كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ" بعد الأمر بالسير في الأرض؛ لينظروا كيف بدأ الخلق، يثير في النفس خاطرًا معينًا .. تُرى هنالك في الأرض ما يدل على نشأة الحياة الأولى وكيفية بدء الخليقة فيها، كالحفريات التي يتتبعها بعض العلماء اليوم ليعرفوا منها خط الحياة؛ كيف نشأت؟! وكيف انتشرت؟! وكيف ارتقت؟! - وإن كانوا لم يصلوا إلى شيءٍ في معرفة سر الحياة ما هي؟ ومن أين جاءت إلى الأرض؟ وكيف وجد فيها أولُّ كائنٍ حي؟ - ويكون ذلك توجيهًا من الله للبحث عن نشأةِ الحياة الأولى والاستدلال به عند معرفتها على النشأة الآخرة.
ويقوم بجانب هذا الخاطر خاطرٌ آخر، ذلك أن المخاطبين بهذه الآية أولَ مرةٍ لم يكونوا مؤهلين لمثل هذا البحث العلمي الذي نشأ حديثًا؛ فلم يكونوا بمستطيعين يومئذٍ أن يصلوا من ورائه إلى الحقيقة المقصودة به - لو كان ذلك هو المقصود - فلا بد أنّ القرآن كان يطلب منهم أمرًا آخرَ داخلًا في مقدورهم، يحصلون منه على ما ييسر لهم تصور النشأة الآخرة، ويكون المطلوب حينئذٍ أن ينظروا كيف تبدأ الحياة في النبات والحيوان والإنسان في كل مكان، ويكون السير في الأرض كما أسلفنا لتنبيه الحواس والمشاعر برؤية المشاهد الجديدة، ودعوتها إلى التأمل والتدبر في آثار قدرة الله على إنشاء الحياة التي تبرز في كل لحظةٍ من لحظات الليل والنهار.
وهناك احتمالٌ أهم يتمشى مع طبيعة هذ القرآن؛ وهو أنه يوجه توجيهاته التي تناسب حياة الناس في أجيالهم جميعًا، ومستوياتهم جميعًا، وملابسات حياتهم جميعًا، ووسائلهم جميعًا، ليأخذ كلٌّ منها بما تؤهله له ظروف حياته ومقدراته، ويبقى فيها امتدادٌ يصلح لقيادة الحياة ونموها أبدًا، ومن ثمَّ لا يكون هناك تعارضٌ بين الخاطرين، هذا أقرب وأولى.)(5).
إن قال الدكتور عمرو ذلك، فأنا أسلّم جدلًا بأنّ المقصود بالآية هم علماء المسلمين لا الكفّار، وأنّ العلماء من لدن الصحابة إلى دارون مقصّرون، وأنّ دارون هو الذي شرع في تطبيق الآية برحلته، وأنّ المقصود ليس استحضار حالةٍ عجيبة، تورث المشركين معرفةً بإمكانية البعث، وإنّما المقصود هو النظر في الأرض، والبحث عن الحفريات، والنظر في الجينات ومباحث الوراثة، لنسلّم جدلًا بهذا كلّه، فهل يعني هذا التسليم أنّ البحث في الحفريات ومباحث الوراثة يقود إلى القول بالأصل المشترك للأنواع؟! هل يعني هذا التسليم أنّ دارون أصاب في قوله؟! هل يعني أنّ الدكتور عمرو نجح في إثبات نظرية التطور كآليةٍ لبدء الخلق، وأنّ من يرى في الحفريات والوراثة دليلًا على الخلق المباشر مخطئ؟! وقبل ذلك هل تصح دعوى الأستاذ سيد قطب رحمه الله أنّ الأقدمين كانوا عاجزين عن فعل ما فعله دارون؟!
يأتي جواب هذه الأسئلة تباعًا.. ولكن قبل الجواب أحدّثكم عن قصة الدحية!
--------
الحواشي:
(*) كذا وصفه شبلي شميل (مجموعة أعماله: م1/ ص69) ، وهو أوّل من نشر الداروينية في الثقافة العربية، ويقول فيه إسماعيل مظهر أوّل مترجم لكتاب "أصل الأنواع" إلى العربية: (لماذا حمل دكتور شميل على الأديان؟ حمل عليها متابعةً لرأيه المادي، بل جريًا وراء غايةٍ محدودة، غايةٍ سعى إليها كثيرٌ من ماديِّي القرن الثامن عشر، وتنحصر تلك الغاية في أن يتبدل الناس بدينهم الأدبي دينًا آخر، وما هو ذلك الدين؟ هو عبادة المادة.) "ملقى السبيل في مذهب النشوء والارتقاء: ص43"، أهذا هو أصل الصراع؟! نعم! بل هذا هو الشأن كله!
(1) قضية الوحي من الخلق إلى دارون- حسن حامد عطية – ص7.
(2) Darwin in a letter to Asa Gray, June 5, 1861 (in Francis Darwin,ed. The life and letters of Charles Darwin, 2vol. "New York: Basic Books, 1959" 2:165) – By Creation and the courts – Norman Geisler – P31
(3) يقول شيخ المعرة: لو نطق الدهر هجا أهله *** كأنّه الرومي أو دعبل!
(4) التحرير والتنوير – الطاهر ابن عاشور.
(5) في ظلال القرآن – سيد قطب.
يتبع إن شاء الله..
Bookmarks