وفيما يتعلق بموقف الشريعة الإسلامية من العلم والمعرفة، عدة مسائل لابد من الوقوف عندها:
المسألة الأولى : الموقف الشرعي من علوم غير المسلمين ومخلفات حضارتهم :
- علوم غير المسلمين نوعان :
النوع الأول: علوم دينية سواءً كانت في أديانهم أو في دين الإسلام ، والموقف الشرعي من هذا النوع فيه تفصيل كالتالي :
أ- العلوم الدينية التي ينقلونها عن أهل ملتهم، فالموقف الشرعي منها يختلف بحسب نوع التعامل معها:
(1) فإن كان النقل منها لمعرفة دين أصحابها دون اعتقاد مضمونه فهذا لابأس به، إذا كان النقل عن مأمونٍ خبير فيما يتحدث فيه . وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت رضي الله عنه أن يتعلم التوراة فتعلمها في خمس عشرة يوماً، ولايزال العلماء ينقلون عن أهل الأديان من واقع مصنفاتهم لمعرفة حقيقة دينهم لبيان ما فيه من الباطل والتناقض . وهذا منهج علمي صحيح أن تنقل عن صاحب الشأن لا عن من نقل عنه وهومن العدل الذي أمرنا به في قوله تعالى: { وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } (المائدة: من الآية8) . ولكن لاينبغي الاشتغال بهذا لمن لم ينضج في فهم دين الاسلام وذلك سداً للذريعة . وسيأتي الإشارة لهذا في ضوابط الإنفتاح .
(2) وإنْ كان النقل عنها للاستدلال بها والاعتماد عليها أو ترجمتها، فهذا لا يجوز؛ لأن في دين الاسلام غنية وكفاية في الدلائل والمسائل وفي العقائد والأعمال، وسيأتي الإشارة لهذا في الانفتاح الفكري المذموم .
ب— العلوم الدينية التي ينقلونها عن الاسلام سواءً في العقيدة أو الفقه أوالعلوم المساعدة لها كاللغة والأصول والتاريخ ونحوها . وهذا مثل كتب المستشرقين في العلوم الاسلامية، فالموقف الشرعي المنع من الاستفادة منها، والنهي عن ذلك، لما يلي :
(1) إن فيما كتبه علماء الاسلام غنية وكفاية في فهم قضايا الاسلام ولغته وتاريخه ، وهم أعلم به من الدخلاء الذين يكتبون عنه وهم خارجه .
(2) إن من أصول الرواية عدم قبول رواية ونقل الفاسق المسلم، كما في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } (الحجرات:6)، فكيف برواية الكافر !
(3) إنه ثبت من واقع كتب المستشرقين أن لهم أغراضاً خبيثة وأهدافاً سيئة يريدون نشرها من خلال كتبهم ، ويلوون أعناق النصوص ويبترونها ويفسرونها تفسيراً غريباً على التصور الإسلامي ويحرفون الكلم عن مواضعه ، فلاشك أن من كانت هذا حاله لاينقل عنه ، فكيف وروايته مجروحة ، وعندنا غنية وكفاية ؟!
النوع الثاني: علوم دنيوية بحتة، مثل الصناعات والاختراعات العلمية :
هذا لابأس من أخذه وقبوله، ويكون ذلك بعد إخضاعه لقوانين النقد العلمي وظهور صحته وصدقه، وهو إرث إنساني يمكن لأي أمة أن تطوره وتزيد فيه، وهو علم تراكمي شارك فيه عناصر من أديان متعددة، لكن ينبغي التنبه لما يلي:
أ- التفريق بين الحقيقة العلمية الضرورية وبين النظرية الظنية، والتفريق بين العلوم المادية والانسانية لأن للأخير ارتباط بالتوجه والدين والأخلاق .
ب- تصفية بعض المخترعات من المخزون الثقافي الذي تتضمنه، فكل تقنية لها ضلال ثقافي لا بد من تصفيته منها قبل نقلها، وتكييفها لتناسب الأمة المسلمة ذات الرسالة الربانية .
ج- عدم الوقوف عند الأخذ والتلقي وتجاوز ذلك إلى التفكير والابداع والتطوير .
د- كل الأمور المادية تدخل في الجواز سواءً كانت من الصناعات المادية أو غيرها مثل الفنون الإدارية والعسكرية مع أهمية تصفية ذلك مما يعلق فيه من المضامين الفكرية .
هذا ما يتعلق بعلوم غير المسلمين .
أما الآثار والمخلفات الحضارية للامم البائدة متنوعة، ويتنوع الحكم عليها بحسب نوعها (1):
(1) مافيه فائدة علمية أو مادية مثل الوثائق والنقوش وقطع النقود والجسور والآبار والعيون والسدود والقناطر والطرق ونحوه . فهذه يستفاد منها، وقيمتها بقدر الخدمة التي تؤديها للناس ، وليس لها فائدة أكثر من ذلك . فلا يجوز الاهتمام بها باعتبارها أثراً لايقدم خدمة عملية ، ولايجوز تعظيمها أو تقديسها .
(2) ما في وجوده منافاة للعقيدة الصحيحة، مثل التماثيل والصور والأصنام وبيوت العبادة لغير الله والمشاهد المبنية على القبور والمزارات ونحوها . فهذه يجب تحطيمها وإزالتها؛ لأنه ذريعة إلى الشرك .
(3) ما لاينفع فيه ولا ضرر منه لذاته مثل المباني الخربة وبقايا الأسوار والحصون والبنايات الكبيرة كالأهرامات وإيوان كسرى وحدائق بابل ونحوها . فهذا يهمل كما أهمله الصحابة، ولا يعنى به لأنه أث ، لأن هذا نوع تعظيم له ولمن خلَّفه .
وقد أرشدنا القرآن للمنهج الصحيح في دراسة الآثار وعرفنا القيمة الحقيقية لها، وهو أخذ العبرة والعظة من مصارع الذين هلكوا وظلموا أنفسهم، يقول تعالى: { قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ } (النمل:69) . ويقول جل ذكره: { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ } (القصص:58) .
المسألة الثانية: مدى الحاجة إلى (الانفتاح) على الفكر الآخر .
"إن الاسلام تصور مستقل للوجود والحياة، تصور كامل ذو خصائص متميزة، ومن ثمَ ينبثق منه منهج ذاتي مستقل للحياة كلها، بكل مقوماتها وارتباطاتها ، ويقوم عليه نظام ذوخصائص معينة . هذا التصور يخالف مخالفة أساسية سائر التصورات الجاهلية قديماً وحديثاً" (2) .
وليس له حاجة في الانفتاح على أي فكرٍ آخر؛ لأن هذا الفكر الآخر إنساني والاسلام منهج رباني كامل . وإذا كان لايستوي الخالق مع المخلوق، فكذلك لاتستوي شريعة الخالق مع أوهام المخلوق . وكلمة (الفكر الآخر) كلمة فضفاضة يراد بها أنواعاً متعددة من الأفكار والأهواء، لكنها جميعاً تجتمع في خصيصة واحدة وهي أن مصدرها (بشري) أرضي .
فإذا كان المقصود بالفكر: نتاج المعرفة الإنسانية فيما فيه منفعة دنيوية فهذا أمر مشترك بين سائر البشر يستفيد فيه بعضهم من بعض دون نكير . وإذا أريد بالفكر ما يكون موافقاً لمعنى الدين مثل التفسير الفكري للكون والإنسان والحياة والغيب ونحو ذلك ففي الإسلام غنية كافية وصادقة وهذا ما نريد بمنع الانفتاح عليه لما فيه من الضرر والشك في الدين الحق .
إذا عرفنا ذلك، وعرفنا منزلة العلم والنظر وعمارة الأرض في هذا الدين، وأدركنا إدراكاً جازماً بالفرق بين الخالق والمخلوق، ندرك حينها أنه ليس هناك أي حاجة للانفتاح على الفكر الآخر؛ إلا في دعوته إلى الحق وترك الضلال بالأدلة البرهانية المقنعة . فكل خصائص الكمال والتمام موجودة في الإسلام، لأنه منهج رباني ومصدره "إلهي"، فهو وحده مناط الثقة في أنه التصور المبرأ من النقص، والمبرأ من الجهل، والمبرأ من الهوى . وهذه الخصائص المصاحبة لكل عمل بشري والتي نراها مجسدة في جميع التصورات التي صاغها البشر ابتداءً من وثنيات وفلسفات، أو التي تدخل فيها البشر من العقائد السماوية السابقة ! ، وهو كذلك مناط الضمان في أنه التصور الموافق للفطرة الانسانية، الملبي لكل جوانبها، المحقق لكل حاجاتها . ومن ثم فهو التصور الذي يمكن أن ينبثق منه ، ويقوم عليه ، أقوم منهج للحياة وأشمله" (3) .
إن القول بحاجة الفكر الاسلامي إلى أي فكر بشري آخر هو كالقول بحاجة الله تعالى للانسان، ولكن المنهزمون فكرياً ونفسياً لم يتصوروا:
أولاً : طبيعة الفكر الاسلامي وخصائصه ومميزاته ومصدره، ثم لم يعرفوا:
ثانياً : الخلل الكبير الذي وقع فيه الفكر الانساني المبتعد عن الله تعالى في تصوره وقيمه وأدبياته . ونحن هنا لا نقصد أفكار آحاد المسلمين التي هي قابلة للأخذ والرد ولكن نريد الفكر الإسلامي المجمع عليه والمستند بقطعية ووضوح إلى الوحي الرباني .
-----------------------------------------
الهامش :
(1) انظر: منهج كتابة التاريخ الإسلامي، ص/192 .
(2) سيد قطب، معالم في الطريق، ص 2 .
(3) سيد قطب، خصائص التصور الإسلامي، ص / 45 .
يتبع ..
Bookmarks