نَظْرَةُ المستشرقين للقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم
سبق وأشرتُ في موضوع ((مع المستشرق موراني حول تحقيق القرآن...)) لخلاصةِ ما ذكروه حول القرآن الكريم، وعلى رأسِهم نولدكه الذي زعم أن القرآن لم يصل كاملاً من جهةٍ، ثم عامَلَهُ كوثيقةٍ أدبيَّةٍ صارتْ في نظره ((دون)) التراث العربي القديم..
وجاء موراني مثلاً ففرض على نفسِه المتابعة والتقليد..
وقول نولدكه وموراني وغيرهما من المستشرقين ينطلق من رؤيتهم لبشرية القرآن الكريم، ولذا فهو في نظرهم لا يتجاوز أن يكون ((نصًّا)) أو ((وثيقة تاريخية ثمينة)) على حَدِّ تعبير موراني، ومن هنا درسه الكثيرون من المستشرقين في تأليفاتهم الخاصة بالأدب العربي، أو النصوص الأدبية، بل اعتبره نولدكه في كتابه ((ملاحظات نقدية حول الأسلوب والتركيب في القرآن)) ((دون)) الأدب العربي القديم..
THEODOR NOLDEKE. REMARQUES CRITIQUES SUR LE STYLE ET LA SYNTAXE DU CORAN PP: 5 ET 6 TRADUCTION DE G.H. BOUSQUET.
ويُعَلِّق موراني في آخر لقاء شبكة التفسير به على دراسات نولدكه؛ فيقول موراني: ((ومن هنا منطلق نولدكه العلمي في تأملاته في النص , وليس على أساس أَنَّه قرآن ، بل على أساسِ ما جاء فيه كنصٍّ , وهنا أعيد قولي حول مسألة تحقيق النص)).
فنولدكه لا ينطلق في دراساته من كون القرآن وحيًا، أو حتى من كونه قرآنًا، ولكنه ينطلق من كونه نصًّا أدبيًّا، بشريًّا، وليس وحيًا، ولا قرآنًا، ثم هو في نهاية المطاف لدى نولدكه قد صار دون التراث العربي القديم..
ويمكن صياغة ذلك بعبارة أخرى تؤدي الغرض: أن كلام الله قد صار لدى نولدكه دون كلام شعراء الجاهلية، والقرآن الذي هو كلام الله عز وجل قد صار دون الشِّعْر الجاهلي!!
وحتى هذه ((الحماقات الصبيانية)) التي أتى بها نولدكه فلم تكن من اختراعه، ولكنها كانت صياغةً أخرى ولمسات أخرى لقول كفار العرب قديمًا حين عادوا النبي صلى الله عليه وسلم ورموه بأنه شاعرٌ، وأنه يُعَلّمه بشرٌ..إلخ.
وهنا نقرأ قول الله عز وجل في القرآن الكريم: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة: 118].
لكن لابد من لفتِ الانتباه إلى أمرين:
الأول: أن الكفار قديمًا قد رجعوا عن قولهم هذا، ودخلوا في دين الله عز وجل أفواجًا، بعد أن وصلت آيات الله عز وجل إلى قلوبهم، ولامست أفئدتهم، فرأوا من إعجازها وسموّها ما يقطع بأنها ليست بقول بشرٍ، إن هو إلا وحيٌ يُوحى..
الثاني: يرى بعض الباحثين أن نولدكه قد تراجع عن آرائه، أو تَنَكَّرَ لها في آخر أيامه، خاصةً بعد أن ترك أحد أشهر ما كتبه عن القرآن لغيره يُعَدّله، ويطبعه، ويكتب عليه اسمه بجوار مؤلفه الأصلي، ثم ينص على أنه قد عَدَّلَه تعديلاً تامًّا، فقام ((شفالي)) بهذا العمل..
ومع هذا فقد وصف نولدكه كتابه المشار إليه بأنه اشتمل على ((حماقات صبيانية)) وصرّح بجوانب ضعف دراساته هذه في مقدمة الطبعة الْمُعَدَّلة.. وقد مضى اقتباس بعض مقدمة نولدكه في موضعٍ سابقٍ.
وعلى الرغم من ذلك فلا يزال موراني يرى أن دراسات نولدكه (التي يراها نولدكه نفسه حماقات صبيانية، أو ضعيفة) يراها موراني ((دراسات معتمدة))!!
ويرى طائفة من المستشرقين أن القرآن مأخوذٌ عن اليهودية أو النصرانية، وفي هذا الصدد يقول المستشرق ((ويلتش)) في مادة ((قرآن)) من ((دائرة المعارف الإسلامية)) باللغة الفرنسية 1981م تحت عنوان ((محمد والقرآن)): ((هناك آيات مدنية كثيرة تشعرنا بأن محمدا كان يبحث بفعالية من أجل استقاء معلوماته عن اليهود))، يقول ((ويلتش)): ((وفي هذه المقاطع لا يصعب علينا أن نرى محمدا يأخذ قصصا ومعلومات من مصادر متعددة بخاصة من اليهود والنصارى ثم يعيد صياغة ذلك في القرآن)).
وفي هذا الصدد يقول موراني أيضًا في كلامه مع د.إبراهيم عوض، أثناء لقاء شبكة التفسير بموراني: ((تساؤلات الدكتور ابراهيم عوض
د. ابراهيم عوض المحترم وفقكم الله ,
في ختام مشاركتكم القيّمة تتساءلون :
أما الاحتمال الثالث الذى طرحه بعض المستشرقين، كالمستشرق الألمانى شولتس ناشر ديوان أمية، من أن النبى وأمية قد استقيا كلاهما من مصدر ثالث مشترك فهو احتمال ليس له رِجْلان يمشى عليهما، إذ أين ذلك المصدر المشترك؟ ولِمَ لَمْ يظهر طوال كل هاتيك القرون؟ وكيف وقع كل منهما عليه، وبينهما كل هذا البعد المكانى والنفسى؟
اسمحوا لي أن أوضّح في هذا الموضوع امرا قد تكون له أهمية في سياق البحث الذي يفرض نفسه في هذه القضية :
لم يقصد المستشرق Schulthess ناشر ديوان أمية بن أبي الصلت عام 1911 مصدرا ثالثا مشتركا بالمعنى أنه كان كتابا أو مصدرا مكتوبا على شكل من الأشكال , بل طرح هذا الاحتمال أنّ هذا (المصدر) هو مصدر فكري مشترك وهو فكرة التوحيد وما يتعلق به عند كلاهما النبي في وحيه والشاعر في شعره .
لا يشك أحد في وجود الحنيفية في جزيرة العرب في فجر الاسلام بل هو يعتبر من الوقائع التاريخية جاء ذكره في القرآن أيضا .
أما أمية فقال فيه النبي : آمن شعره وكفر قبله .
فقال أمية في النبي : أنا أعلم أنّ الحنيفية حق ولكن الشك يداخلني في محمد .
( فتح الباري , 7 , 153 الى 154 ).
ليس السؤال في محله عندما تقولون : أيهما أخذ من الآخر , بل يجوز أن نتأمل في هذا الشعر الذي منه الكثير في السيرة النبوية مثل شعر أبي عامر وشعر أبي قيس بن أسلت وزيد بن عمرو بن نفيل وغيرهم لكي نبرز منه طبيعة الحنيفية ومفهومها لدي كل منهم حتى ولو لم يدخلوا في الاسلام .
هذا هو (المصدر الثالث ) ما يقصده شولتس : الاتجاهات الروحية في فجر الاسلام فلم يقصد بكلامه نقل مفردات من الشعر الى الوحي أو من الوحي الى الشعر لدى من اتبع الحنيفية على جزيرة العرب .
فعندما لا يشك اثنان في صحة النص القرآني فلنا أيضا ألا نشك في صحة هذه الأبيات لهؤلاء الشعراء .
الـدكتور م . مــورانـي
مستشرق . كلية الآداب . جامعة بون . ألمانيا)).http://www.tafsir.net/vb/showthread.php?t=3363
وأقتصر من كلام موراني على أمرين:
الأول: أنه يضع القرآن الكريم مع شعر الشعراء في درجةٍ واحدةٍ، بحيثُ يقول: ((فعندما لا يشك اثنان في صحة النص القرآني فلنا أيضا ألا نشك في صحة هذه الأبيات لهؤلاء الشعراء)).
وهذا باطلٌ قطعًا؛ لأنه لا قيمة لكلام أحدٍ من الناس في مقابل كلام الله عز وجل..
ولكنه لا حرج فيه عند موراني؛ لأنه لا ينطلق في كلامه من كون القرآن وحيًا، وإنما غايته أن يكون ـ كما زعم موراني ـ ((وثيقة تاريخية ثمينة)).
ولكن موراني أحسن حالاً في التَّهافُتِ من نولدكه لأنَّهُ ساوى بين القرآن الكريم وبين شِعْر هؤلاء الشعراء، بخلاف نولدكه الذي جعل شعر هؤلاء وتراث العرب الأدبي أعلى من القرآن الكريم، ورأى أن في القرآن الكريم ظواهر لغوية متناقضة، بخلاف شعر العرب وتراثهم الشِّعْري!!
ومع هذا فكلا قولي نولدكه وموراني باطلٌ قطعًا، بل لا يتجاوز أن يكون ((حماقات صبيانية)) على حَدِّ عبارة نولدكه نفسه في وصفِ كتابه!!
الثاني: أن موراني يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تأثر بالحنيفية، وهذا هو المصدر الثالث المشترك بين النبي صلى الله عليه وسلم في وَحْيه وبين الشاعر في شِعْرِه حسبما يرى موراني، ولذا فالحنيفية ((هو مصدر فكري مشترك، هو فكرة التوحيد، وما يتعلق به عند كلاهما النبي في وحيه والشاعر في شِعْرِه)) هكذا عبارة موراني..
فالتأثير الفكري السائد آنذاك قد تأثر به النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن لا ننكر أن الإنسان ابنٌ لبيئتِه، ولا نُنْكِر تأثير البيئة في فِكْر الإنسان، لكن موراني يرى أن هذا التأثير قد امتدَّ إلى ((النبي في وحيه)).
فالتأثير الفكري في نظر موراني هنا قد امتدَّ إلى الوحي، وهذا يعني بعبارة مختصرة: أن ثمة ما أدخله النبي صلى الله عليه وسلم في الوحي مما ليس من الوحي، ولكنه أدخَلَه في زعم موراني بناءً على التأثير الفِكْري السائد آنذاك وهو الحنيفية في عبارة موراني هنا..
ولم تكن الحنيفية هي كل شيءٍ عند موراني، ولكنه يرى أيضًا أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد تأثَّرَ بأمورٍ أخرى غير الحنيفية، وهي اليهودية أو النصرانية، كما يرى ذلك طائفة من المستشرقين، وسبق نقل كلام ((ويلتش)) في هذا الصدد..
وفي هذا يقول موراني أثناء كلامه عن الاستشراق:
http://www.tafsir.org/vb/showthread....5&page=2&pp=15
((عندما ننظر الى الحضارة الإسلامية بعد الانتشار السريع والمذهل للإسلام ديانة جديدة من الحجاز إلى بلاد الشام والعرق ومصر خلال ما يقل عن 30 سنة من التأريخ فلا بد أن نعترف بالحقيقة أن لقاء الحضارات والمجتمعات المختلفة بعضها ببعض لم يتم بغير تأثير متبادل , فمن هنا للإسلام وجوه حتى الى يومنا هذا , أم لا يرى المرء المتأمل آثارا فارسيا وهنديا وغيرها في الحضارة العربية ؟
لقد قلتم :
الإسلام مزيج ثقافي مستعار من عدة ثقافات أخرى يهودية ونصرانية، يونانية وفارسية , كما جاء ذلك على لسان الاستشراق .
ربما كانت العبارة ( مستعار) في غير موضعها . قد يكون من المستحسن أن يقال أنّ الأديان التوحيدية تكمن فيها جميعا عناصر متشابهة وأصول تجمع بين هذه الأديان , وهي فكرة التوحيد . لا أحد يزعم حسب علمي أنّ الاسلام لا ذاتية أصلية له كما لا أحد يزعم أنّ جميع العناصر والأفكار الاخلاقية (مستعارة) من غيره .
ومن يزعم أن الاسلام دينا وحضارة قد نشأ في فراغ بغير علاقة بما حوله من البيئة فتجاهل الوقائع التأريخة المسلّم بها في حضارة البشرية .
الـدكتور م . مــورانـي
مستشرق . كلية الآداب . جامعة بون . ألمانيا)).
نخلص من هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لدى المستشرقين لم يكن أمينًا على الوحي، ولكنه زاد فيه ونقص بناءً على التأثيرات الخارجية، سواء أكانت هذه التأثيرات هي اليهودية والنصرانية حسبما يراه طائفة كبيرة من المستشرقين، ومنهم ((ويلتش)) و((موراني)) كما سبق، أو هي الحنيفية حسبما فسَّرها موراني في بعض كلامه السابق مثلاً..
فالنهاية لدى الجميع واحدة، والخيط المشترك بينهم واحدٌ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أمينًا على الرسالة، فزاد فيها ونقص، ولزامًا لهذا لابد أن يكون في الإسلام وقواعده وأسسه والتي من أهمها القرآن الكريم، لابد بناءً على هذا التصوُّر الاستشراقي المتهافت، لابد أن يكون هناك أمورًا بشريةً، لم يرد بها الوحي، ولكن زادها النبي صلى الله عليه وسلم من عنديَّاته اعتمادًا في نظر موراني ونظرائه على اليهودية أو النصرانية أو الحنيفية أو التأثيرات الخارجية.
وذلك كله مبنيٌّ على تعريف المستشرقين للنبوة، والنبي، وقد ذكره موراني في موضعٍ آخر في التعليق على موضوع ((تحقيق القرآن))؛ فقال: ((النبي هو شخصية تأريخية , مؤسس دين بتصوراته الأخلاقية الروحية معبرا عن ايمانه بخالق الكون هادفا الى تغيير أسس المجتمع الذي هو فيه . يجب أن يكون له أتباع فالاّ فلن يفلح بأمره على مدى طويل . يرى نفسه وسيطا بين الخالق والبشر)).
http://70.84.212.52/vb/showthread.ph...8&page=7&pp=15
وبهذا التفسير الغريب، والتعريف الأغرب لن يبقَ على وجه الأرض لا دين ولا حقيقة ولا عِلْم، ولن تكون هناك مصداقية أو ثقة في أي قاعدة من القواعد، ولا في أي كلام..
لأنه تعريف موراني (والذي هو خلاصة تعريف المستشرقين) للنبي يعني بعبارة مختصرة أن النبي هو ((مؤسس)) ((بتصوراته)) ((معبرًا عن إيمانه)) ((هادفًا إلى تغيير)) ((يرى نفسه وسيطًا))..
فلا مجال في كلام موراني للكلام عن تكليف إيماني، كما أنه لا مجال لديه لأية صلة إيمانية أو حتى علميَّة يمكن الاستناد إليها لإثبات نبوة الأنبياء..
فهم بشر قاموا بحركات بناءً على تصورات لهم بغرض تغيير أساليب واقع معين عاشوا فيه، وتعبيرًا عمَّا بداخلهم هم، وفي نفس الوقت فهم يرون أنفسهم وسطاء بين الخالق وبين البشر..
فالأمر بشريٌّ بحت، لا مجال فيه لروحٍ أو إيمانٍ أو حتى علم أو قواعد علمية، أو منهجية..
فالأمر على حدِّ قول موراني في مناسبةٍ أخرى (وستأتي عبارته بنصها كاملة في مقالٍ لاحقٍ) حيث يقول: ((الباحث لا يهتم بالخالق ولا بصفاته))..
وهذا هو النتاج الطبيعي الذي حصل بعد فصل الدين عن الدولة في أوروبا، وتحطيم سلطة الكنيسة، وعزلها عن أداء دورها.. خاصةً بعد ارتفاع لهجة ((التجديد الديني)) داخل الكنيسة البروتستانتية الغربية (ذكر موراني في بعض رسائله أنه نشأ في البروتستانتية، كما في رسائله الخاصة التي نشرها في التعليق على هذا الموضوع).
وخلاصة دعوى ((التجديد الديني)) داخل الكنيسة البروتستانتية تتمثل في التملُّص من سلطة رجال الكنيسة، سواء في فهم الدين، أو في دراسة ((الإنجيل))!!
فأراد القوم تصدير هذا التِّيه والضياع الذي عندهم إلى عالمنا العربي والإسلامي..
وهنا نقرأ قول الله عز وجل في القرآن الكريم: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداًّ مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 109].
أما نحنُ فنعلم يقينًا من وقائع التاريخ الثابتة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمينًا صادقًا معروفًا بذلك بين قومه وعشيرته، حتى أنهم حين خالفه مَنْ خالفه منهم، وكفروا به، واتهموه بشتَّى التهم؛ قد اعترفوا في الوقت نفسه بصدْقِه وأمانته، ولم يجادلوا في ذلك أبدًا، ولا أنكروه..
فما اتَّهَمَهُ الكفار آنذاك بالخيانة ولا بالكذب، رغم العداء المستمر بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم، بل جمعوا له الجموع، وحرضوا عليه القبائل، وحضروا إليه بخيلهم ورَجِلِهم من كل حدبٍ وصوبٍ، قاصدين إلى استئصاله والقضاء على الدين الجديد، ورغم هذا كله لم يتهموه بكذبٍ أو خيانةٍ قطٍ، بل أقرُّوا له بالصدق، وأسموه الصادق، واعترفوا له بالأمانة، ووسموه بالأمين، صلى الله عليه وسلم..
ثم نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم ليؤَكِّد هذه اتّصافه بهذه الخصال الشريفة، والمعاني الجليلة، وأنه قد جمع أحسن الأخلاق وأزكاها وأعلاها..
ونعلم أيضًا من قواطع الْمِلَّة، ومحكمات النصوص القرآنية والنبوية أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحيٌ يُوحَى..
ونعلم أنَّ الله عز وجل قد عصم نبيَّه صلى الله عليه وسلم من كل شائبة نسيانٍ أو وهمٍ في أمور الشريعة، بل مُبَرَّأٌ من كل نسيان وسهوٍ فيما يخص الدين، قرآنًا وسنةً، تشريعًا وأخلاقًا وعبادةً وسلوكًا..
فالدين محفوظٌ بحِفْظِ الله له ولأساسيَّاتِه وقواعده..
نعلم هذا عِلْم اليقين ونقطع به من خلال أدلتِه الثابتة الراسخة رسوخ الجبال الرواسي..
وقد مضى في أكثر من موضعٍ في هذا الموضوع ما يدل على صِدْقِ النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلَّغَ وبراءته من وصمة السهو أو النسيان للوحي أو بعضه، وبه نكتفي عن التّكرار والإعادة..
كما نعلم يقينًا أن لكلِّ مقدمةٍ نتيجةٌ، ولا مقدِّمة بلا نتيجة أبدًا، بل هو ضربٌ من الخيال والمستحيل أن يزعم بعضهم مُقدِّمَة بلا نتيجة..
فالكلام الذي هو مُقَدِّمة يتبعه صوتٌ للكلام إن كان لفظًا، أو كتابة له إن كان خطًّا وكتابةً، وينتج عن الصوت أن يكون مسموعًا، ولو للشخص نفسه، كما ينتج عن الكتابة أن يكون مقروءًا..
كما ينتج عن هذا وذاك أن يكون الشخص متحمِّلاً لتَبِعَةِ كلامه ونتائجه، إِنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشر..
ثم نعلم يقينًا أنه إذا أرسل الله عز وجل نبيًّا إلى أهل الأرض فقد ألزمهم باتِّباعه وطاعته فيما يأمرهم به وينهاهم عنه؛ لأن النبيَّ مُبَلِّغٌ عن الله، يبلغهم ما أُرْسِلَ به إليهم، فتجب عليهم طاعته فيما يأمر وينهى، ولابد لهم من ذلك..
ولو لم تكن طاعة الأنبياء لازمةٌ لأهل الأرض، والإيمان بهم واجبٌ على مَنْ بلغه خبرهم؛ لما كان لإرسالهم معنًى، ولكان إرسالهم عبثًا ولغوًا يَتَنَزَّه عنه عقلاء البشر، فكيف بربِّ البشر سبحانه وتعالى؟!
ولو عَلِمَ مَلِكٌ مِن ملوك الدنيا أَنَّ رُسُلَه إلى نظيرٍ له ستُهَان ويُرْفَضُ ما يذهبون به لما أرسلَهم أصلاً، فكيف إذا أرسلهم مرةً فَرُفِضُوا، ثم أرسلهم ثانيةً فرُفِضُوا، وثالثةً ورابعةً؟!
فهل يكون هذا في نظرِ عقلاءِ البشر إلا سفهًا وطيشًا مِنْ هذا الْمَلِكِ الأرضي الدُّنْيَوِيّ؟!!
فكيف يُعْتَقَدُ هذا في حقِّ أحكم الحاكمين سبحانه وتعالى؟!
وهذا وإِنْ كان مستغربًا مستعظمًا لدى عقلاء البشر؛ لكنَّه ليس مستعظمًا ولا مستغربًا لدى موراني ونظرائه من أولئك الذين ساروا مع تيار ((التجديد الديني)) في الكنيسة البروتستانتية، وحاصله التملُّص من سلطان الكنيسة، ورفض سلطتها، سواءٌ في فهم الدين، أو في دراسة الإنجيل، أو في طريقة السلوك، وغير ذلك..
وهذا التيار له أسبابه ونتائجه، والتي منها مثلاً استغراق الكنيسة في زعوماتها حول إلهية الإنجيل في الوقت الذي تؤكد فيه مقدِّمات الأناجيل وخواتيمها أنها كتب ورسائل بشرية، كتبها أصحابها لأُناسٍ بأعيانهم، وقد مضى بيان ذلك في الكلام عن الإنجيل من موضوعي ((مع المستشرق موراني حول دعوى تحقيق القرآن...))، ومضى فيه أيضًا قول موراني: ((لا يعتبر الباحث الانجيل (مثلا) كتابا مقدسا في الأبحاث الموضوعية اذ ان اعتبره مقدسا أو حتى وحيا فارق ميدان الموضوعية في البحث . وكيف يعتبره وحيا عندما يجد في بداية كل كتاب فيه اسم مؤلفه الذين نشؤوا ما بين 60 الي110 عام بعد نشاط عيسى ! النظرة التأريخية شيء ونظرية الكنيسة وتعاليمها شيء آخر تماما)).
http://www.tafsir.net/vb/showthread....5&page=2&pp=15
وهذا الانقسام الجذري في النصرانية، ومثله ما جرى في اليهودية أيضًا؛ قد ألقى بظلاله على الدراسات الغربية والدارسين الغربيين، ومن هنا وشيئًا فشيئًا صار أنبياء الله ورسله في نظر موراني ونظرائه رجال إصلاحٍ، يزعمون أن الله أرسلهم، وليس على البشر الطاعة لهم، ولا يلزم أحدًا من الناس السماع للأنبياء، ولا الائتمار بأمرهم أو الانتهاء عمَّا نهوا عنه..
هكذا باختصار دارتْ الرَّحَى داخل الكنيسة، وهكذا يريدون تصديرها إلى العالم الإسلامي والعربي..
وإلى لقاءٍ آخر جديدٍ إن شاء الله تعالى.......
Bookmarks