المشاركة الأصلية كتبت بواسطة رشاد جواد
بعد نفي ابن رشد و احراق الكثير من كتبه اصدر ابو جعفر المنصور بيانا يحرم فيه الاشتغال بالفلسفة ; ومنذ ذلك الحين الى يومنا هذا انقطع العرب عن التفكير الفلسفي حيث لم يؤسسوا ولو مذهبا فلسفيا واحدا منذ وفاة ابن رشد وحتى القرن الواحد و العشرين . لقد حرم ابو جعفر المنصور الفلسفة فقط ولم يحرم الاشتغال بالطب و الرياضيات و الفلك و الكيمياء لذلك من اليسير فهم ترك العرب التفكير الفلسفي ولكن لماذا تركوا سائر العلوم العقلية واكتفوا فقط بعلوم الشريعة?
هذا إذا فرضنا فهما معينا للفلسفة و المشروع الفلسفي فيمكن عندها أن نقترب من إستنتاج كهذا, و هو ما يفعله بعض المستشرقين المتعصبين كما يلاحظ شيخنا عياض بشكل صحيح و هؤلاء عندما يكتبون عن الحركة العقلية أو العقلانية في تاريخ الإسلام فإنما يركزون على أفرادا آستخدمهم المفكريين الاوروبيين في عصر التنوير لمواجهة "الكنائسية" التي كانت وقتذاك بمثابة "الفرعونية" و "الكهنوتية" و "الكسروية" التي تناولها القرآن الكريم بالنقد و التجريح, مع فارق بينهم طبعا فتوماس أكوينا أخذ من إبن رشد التوفيق بين الدين و الفلسفة, أخذ من حجة الإسلام الغزالي التفكير العقلاني في الدين, بينما أخذت مدرسة الرشدية في فرنسا مثلا العقلانية المجردة من إبن رشد, و أخذ جون لوك العقلانية الانسانوية من ابن طفيل و إذا تتبعنا سيرة الحركيين التنويرين سنجدهم كلهم اعتمدوا مشاريع فلسفية-سياسية لفلاسفة مسلمين (سواء من كان مسلما بالحضارة و الثقافة أو بالعقيدة) و هذا ما يعترف به حتى ألد أعداء الدين في أوروبا اليوم Jonathan Irvine Israel الذي يدعو إلى تطبيق العالمانية الشمولية في الغرب.
هذا النوع إنما لسان حاله يريد أن يقول هذا هو الطريق للنهضة يا مسلمين و هم غالبا إنما يقصدون الطريقة التي فهم بها التنويريون مشاريع المسلمين و كأن التنويريون إنما تقدموا في الحقل المادي بهذه الأفكار, يمكن أن نقول أنها ساهمت في مواجهة "الكنائسية" لكن نحن لا نحتاج إليها فنحن لم نمر بنفس التجربة فتخلفنا اليوم ليس سببه الدين بل الدين يكاد ينعدم في الحياة العامة و كأنه انحصر في المسجد و التطبيقات الفردية على مستويات متفاوتة, و عندما تقرأ لمثل هؤلاء فلا يستبعد أن تترك إنطباعا مثل هذا الذي نقرأه الآن, مع العلم أن العكس هو الصحيح.
بعد إبن رشد ظهر كثير من الرموز اشتغلوا بالفلسفة أي بالفكر العقلاني سواء في الدين أو خارج الدين, أما في الدين فظهرت حركات تجديدية أعادت للدين صفاءه و نقاءه, و اشتغلوا في نصوص الدين ليبينوا ما الصحيح و ما السقيم منه, كما أنهم اشتغلوا في مناهج فهم النصوص فكانت هناك أفهاما تعمل العقل لتبين العلاقة بين فهم النص و طريقة تطبيقه في الواقع.
و لابد أن نلاحظ إختلاف كبير بين المستشرقين في تناول تاريخ الفكر العقلي و العقلاني عند المسلمين, فها هو المستشرق الهولندي Michiel Leezenberg مثلا لا يتحدث عن فيلسوف أو فكرة فلسفية عند المسلمين إلا و حاول أن يجد لها أثرا و أصلا في فلسفة اليونان و كأنه يريد أن يقول أن المسلمين لم يفعلوا إلا قص و لصق باللغة العربية لكن مع ذلك هو يختلف عن كثير من المستشرقين الآخرين فيضع حجة الإسلام الغزالي و شيخ الإسلام إبن تيمية و صدر الدين الشيرازي في كتابه بينهم.
أما المستشرق البلجيكي Herman De Ley فعند حديثه عن الفكر الإسلامي العربي نجده يرى أن السلفية الإصلاحية بقيادة الأفغاني و عبده محمد و من جاء بعدهم إنما هي إمتداد للفكر الإعتزالي أي الفكر العقلاني في الإسلام.
و قلما تجد بينهم (إلا في مقالات متناثرة) من يربط الحركة الفلسفية في تاريخ الإسلام بالمنهاج العلمي الذي تم تطويره على يدي البيروني و إبن الهيثم, و كأنهم طبعا يريدون أن يقولوا لنا إن هذا المنهاج هو من صنيعة كيبلر و غاليليو و كوبارنيكوس ... !!!!! فلماذا لا يكتبون عن هذا التفكير المنهجي العلمي و يقولوا هذا هو الطريق؟ لأن السيد الذي يريد أن يبقى سيدا لا يمكن أن يعطي الحرية لعبيده عندما يكون العبد هو الركيزة الاساسية في بقاءه سيدا و هم لن يتركوا اي بلد خاضع لهم يتطور سواء كان البلد ذو توجه إسلامي في السياسة أو توجه قومي أو يساري.
لا أستطيع أن أحصر لك أصحاب المشاريع الفلسفية أو المواقف الفلسفية بعد إبن رشد, لكن إذا نظرنا إلى العصر الحديث فسوف نجد حركات فلسفية إسلامية, مثلا أصحاب مشاريع فلسفية كريني غينون و حسين نصر (في التصوف) أو عبد الوهاب المسيري و عبد الرحمان طه (في نقد الفلسفات الدهرية), إحياء الفكر المقاصدي عند الدكتور أحمد الريسوني و هذا الفكر إنما هو في الحقيقة حركة عقلية في فهم النص و ربط أي تطبيق معين بالتطورات التي لها أثر على الفهم و التطبيق, ثم نجد أصحاب مواقف فلسفية مثل محمد الغزالي السقا و مالك بن نبي و علي عزت بيغوفيتش ووو.. و القائمة تطول.
و لا يمكن لنا أن نقول أن الإكتفاء بعلوم الشريعة هو اظهاد او إبعاد للفكر العقلي في الشريعة, العكس هو الصحيح, فالشريعة يمكن أن تقرأها قراءة تستخرج منها كنوز و يمكن أن تقرأها قراءة تستخرج منها تحديات لكل الشرائع و النظم البشرية و هذا و ذاك لا يتم إلا بعقل نافذ يدخل في فحوى الأحكام و الحِكم.
بالنسبة لي و عندما أنظر في كتاب الاتجاهات المعاصرة في دراسة السنة النبوية في مصر و بلاد الشام للدكتور محمد عبد الرزاق اسود أراه مليئا بنماذج تعكس حركية التفكير العقلاني في النصوص و حول النصوص.
التعديل الأخير تم 11-14-2010 الساعة 11:18 PM
الفلسفة الإنسانية أو علمنة الفلسفة و العلم وراء الكارثة الحديثة التي تسبب اللاوعي و الإحباط كنتيجة للصراع بين المتناقضات, فعلى سبيل المثال لا الحصر, تصور الحياة على أنها عبثية -أو نتيجة عملية عبثية- من جهة, و من جهة ثانية إبعاد صفة العبث عن هذا التصور و عن أي محاولة فلسفية فكرية متتالية في إثبات هذا التصور!!
Bookmarks