بسم الله الرحمن الرحيم

بقلم د . أحمد إدريس الطعان
بريد إلكتروني : ahmad_altan@maktoob.com

الفكر الرشدي وبوادر العلمنة :
درج بعض الباحثين على البدء بالتاريخ للعلمانية منذ عصر النهضة ( ) الذي يؤرخ لبدايته عادة مع فتح القسطنطينية في عهد السلطان محمد الفاتح سنة 1453 ( ).
كما درجوا عادة على اعتبار مساوئ الكنيسة واضطهادها وتاريخها الأسود ( ) هو الذي أنتج العلمانية ( ) . بيد أننا إذا رجعنا إلى الوراء قليلاً إلى القرن الثالث عشر سنجد أن بدايات الصراع بين الفكر والكنيسة يمكن أن يعتبر من آثار ترجمة الفكر الرشدي إلى اللغة اللاتينية ، وبالتالي فيمكن القول : إن الفكر الرشدي العلماني – بالاعتبار الغربي - هو الذي أنتج الاضطهاد الكنسي ، ثم إن هذا الاضطهاد ساهم في شيوع الفكر الرشدي وانتشاره في الغرب ، ذلك أنه من المعروف في تاريخ المـعتقدات والآراء أن أكـثر ما يسهم في انتشارها هو الاضطهاد والقمـع والمحاصرة ( ).
لقد حرر الفكر الرشدي الغرب من سيطرة الكنيسة فبدأ يراجع مسلماته التي ظلت طيلة ألف عام فوق العقل ، ولا يجرؤ أحد على المجاهرة بما يناقض المسلمات الكنسية . وقد تم ذلك على يد ميشيل سكوت فهو أول من أدخل ابن رشد إلى اللاتين في القرن الثالث عشر ، وجميـع كتب ابن رشد المهمة تقريباً تُرجمت من العربية إلى اللاتينية في أواسط القرن الثالث عشر . ( ) ومن المعروف لدى باحثي الفلسفة أن ابن رشد تبنى مذهب أرسطو وانبهر به انبهاراً لا يقل عن انبهار بعض المعاصرين اليوم بالفكر الغربي وسمي " الشارح " وعرف في الغرب بهذا اللقب ( ) لقد كاد ابن رشد أن يفضل أرسطو على الأنبياء واعتبره أكمل البشر حين قال : "" نحمد حمداً لا حد له ذاك الذي اختار هذا الرجل – أرسطو- للكمال فوضعه في أعلى درجات الفضل البشري التي لم يستطع أن يبلغها أي رجل في أي عصر كان "" ( ) .
وإذا كان العلمانيون اليوم يشيدون بابن رشد ويعتبرونه رائد عصر التنوير ، وسيد العقلانيين العرب ومطلق ثورة العقل العربي . ( ) ويهاجمون الفكر الإسلامي السلفي باعتباره فكراً تقليدياً ،ويُسمُّون دعاة هذا الفكر " ملاك الحقيقة المطلقة " ( ) ويتهمونهم بممارسة الإرهاب الفكري بالإقصاء والنفي فإن رائدهم هذا هو الذي ينفي كل الآخرين ويعترف بأرسطو وحده وذلك "" لأن مذهب أرسطو [ بنظره ] هو الحقيقة المطلقة ، وذلك لبلوغ عقله أقصى حدود العقل البشري ، ولذا فإن من الحق أن يقال عنه : إن العناية الإلهية أنعمت به علينا لتعليمنا ما يمكن أن نتعلم "" ( ) 0
لقد تزامن انتقال الفكر الرشدي إلى الغرب مع عاملين :
العامل الأول : الفتح الثقافي الإسلامي والعربي للبلاد الأوروبية .
فقد كان هذا الفتح هائلاً ولم يكن ابن رشد وحده هو الذي يحتل الساحة الثقافية الأوربية بل أعلام كثر ، يقول أحد علماء اليهود مبيناً هذا الأثر : "" إنه لم يبق بين اليهود الخاضعين للعرب واحد لم يترك دين إبراهيم ، ولم تفسده ضلالات العرب أو ضلالات الفلاسفة "" ( ) .
وقد بلغت السلطة الثقافية العربية في الغرب آنذاك أن بعض الأعلام الغربيين مثل أولهرد فـون باث يعتـرف بأنه كثيراً ما نحل أفكاره الخاصة مؤلفين عرباً حتى تظفر بالرواج ( ). والشاعر الفرنسي " فولشير الشارتي " سحره العرب أثـناء الحروب الصليبية بأخلاقهم وحضارتهم فقال : "" أفبعد كل هذا ننقلب إلى الغرب الكئيب ، بعدما أفاء الله علينا وبدل الغرب إلى الشرق "" ( ) .
وبين أيدينا نص طويل ولكنه يجلي الصورة بوضوح للعلاقة الثقافية آنذاك بين المسلمين والغرب يقول أسقف قرطبة " ألقارو " إن كثيرين من أبناء ديني يقرؤون أساطير العرب ويتدارسون كتابات المسلمين من الفلاسفة وعلماء الدين ليس ليدحضوها ، وإنما ليتقنوا اللغة العربية ، ويحسن التوسل بها ،وأين نقع اليوم على النصراني من غير المتخصصين الذي يقرأ التفاسير اللاتينية للإنجيل ؟ واحسرتاه ! إن الشباب النصارى جميعهم اليوم الذين لمعوا وبذوا أقرانهم بمواهبهم لا يعرفون سوى لغة العرب والأدب العربي … منفقين المبالغ الطائلة في اقتناء الكتب العربية ، ويذيعون جهراً في كل مكان أن ذلك الأدب العربي جدير بالإكبار والإعجاب ، ولئن حاول أحد إقناعهم بالاحتجاج بكتب النصارى فإنهم يردون باستخفاف : وامصيبتاه ! إن النصارى قد نسوا حتى لغتهم الأم فلا تكاد تجد اليوم واحد في الألف يستطيع أن يدبج رسالة بسيطة باللاتينية السليمة ، بينما العكس من ذلك لا تستطيع إحـصاء من يحسن منهم العربية تعبيراً وكتابة وتحبيراً . بل إن منهم من يقرضون الشعر بالعربية حتى لقد حذقوه وبذوا في ذلك العـرب أنفسهم "" ( )
هذا العامل جعل الغربيين كما هو ملاحظ من النصوص ينبهرون بالحضارة الإسلامية الغازية مما حدا بالتنويريين والمتحررين منهم أن يتعاطفوا مع هذه الحضارة ، ويتقبلوا الفكر الوافد ليس على أنه فكر معاد . وإنما على أنه فكر إنساني يسهم في رقي الإنسان وتحضره حتى لقد كاد روجر بيكون 1211 – 1294م أن يُعدم حرقاً بسبب شغفه بكل ما هو عربي وتحمسه لعلومهم ، وطُرد من أكسفورد لمدة عشر سنوات بسبب شجبه للمعاملة غير الإنسانية للعرب ، ولهجه دائماً بأسماء علمائهم ، ومخالطته للكفرة أعداء الرب – المقصود العرب والمسلمين – وإشادته بآلاتهم وأجهزتهم ، وتدوينه لتجاربهم ، ونقده الدائم للنظام الكنسي ، فاتهم لذلك بالاشتغال بالسحر وحكم عليه بالسجن مدى الحياة ولكن التعيس مات شقياً بائساً بعد أن قضى خمسة عشر عاماً في أعماق السجن المظلم الرطب عام 1294م ( ) .
العامل الثاني : لقد ترافق انتقال الفكر الرشدي إلى الغرب مع أجواء الحروب الصليـبية ، وحالة العداء الشديدة التي تزعمتها الكنيسة لكل ما هو عربي وإسلامي . كان ذلك منذ أن دعا البابا أوربان الثاني في القرن الحادي عشر الميلادي 1095 م في كلير مونت بفرنسا إلى تحرير قبر المسيح المقدس وكان يوصيهم قائلاً : "" عليكم أن تُطهِّروا الأرض المقدسة التي يعيـش فيها إخوانكم المسـيحيون من أولئك الرعاع ""( ) ، فبدأ الوعاظ يطوفون أوربا يؤلبون الفرسان " العاطلين عن العمل " بحماس لكي ينقذوا قبر المسيح ، وكانت هي في الحقـيقة دعـوى تخفي أطماع الكنيسة السياسية ( ).
في تلك الأثناء التي كان الغرب يتربص بالمسلمين الدوائر، والكنيسة تُجيّـش الفرسان ، وتُحمِّس الجنود لقتال الكفرة الفجرة كان الأسقف أجناتيوس في بيزنطة يتلقى رسالة من أخيه الروحي البطريرك تيودوسيوس من بيت المقدس يقول فيها : "" إن العرب هنا هم رؤساؤنا الحكام وهم لا يحاربون النصرانية بل على العكس من ذلك يحـمونها ويذودون عنها ، ويوقرون قساوستنا ورهباننا ويجلون قديسينا "" ( )
ولكن الخطب الحماسية الرنانة كانت قد فعلت فعلها في قلوب المسيحيين وأججت نار الحقد المسعور حتى دفعتهم أن يدخلوا بيت المقدس فيحصدوا الأرواح حصداً ، ومصادرهم الغربيـة تشير إلى أنهم ذبحوا قرابة عشرة آلاف إنسان في الشوارع من النساء والأطفال والرجال ( ). ومما يزيد الجرح عمقاً أن أحد البطاركة نفسه كان يعدو في زقاق بيت المقدس وسيفه يقطر دما يحصد به كل من يواجهه ، ولم يتوقف حتى بلغ كنيسة القيامة فغسل يديه وهو يردد : "" يفرح الأبرار حين يرون عقاب الأشرار ، ويغسلون أقدامهم بدمهم ، فيقول الناس حقاً إن للصديق مكافأة وإن في الأرض إلهاً يقضي ""( )
لقد كان البابا يخاطب الفرسان الصليبين قائلاً : "" أي خزي يجللنا ، وأي عار لو أن هذا الجنس من الكفار الذي لا يليق به إلا كل احتقار ، والذي سقط في هاوية التعري عن كرامة الإنسـان ، جاعـلاً نفسه عبـداً للشيـطان قد قُدِّر له الانتصار على شعب الله المختار "" ( ).
وكانت الحملة الصليبية الثانية سنة 1144م شارك فيها لويس السابع 1121 – 1180م وكونراد الثالث 1093 – 1152 م ملكا فرنسا وألمانيا ولم تـنجز شيئاً ( ) ثم استعاد صلاح الدين بيت المقدس سنة 1187 م ولم يفعل كما فعل النصارى قبل ثمان وثمانين عاماً بل احتل المدينة احتلالاً نظامياً وإنسانياً لم يؤذ فيه أحداً من النصارى ، ولم ينهب بيوتهم ، ثم أطلق الأزواج والأسرى ، وقدم الهبات والعطايا للأرامل واليتامى ( ).
وفي سنة 1189م قاموا بحملة صليبية ثالثة شارك فيها فريدريك بربروسا 1152 – 1190 م ملك ألمانيا . وفيليب أغسطس 1165 – 1223م ملك فرنسا ، وريـكاردوس قلب الأسد 1157 – 1199 ملك انكلـترا ، ولكن الحملة باءت بالفشل( )
وعموماً فقد نجحت الحروب الصليبية " المقدسة "في خلق شقة واسعة تفصل بين الشرق والغرب بدلاً من أن تعيد تدعيم الجسر الرابط بين ثقافتين تجمع بينهما في نهاية المطاف مفاهيم إيمانية مشتركة ( ).
في مثل هذه الظروف العدائية احتك الفكر الرشدي بالغرب فما كان من الكنيسة إلا أن جندت سدنتها لمحاربة الفكر الرشدي الغازي فقامت بترجمة كتاب " تهافت التهافت " ترجمة لاتيـنية بعـيدة كل الـبعد عن حقيقـة الكتاب ومحشوة بالتحريف والتناقض والافتراء( )،علماً بأن ابن رشد مشائي أرسطي في أغلب فلسفته ، والكنيسة كذلك كانت تتبنى نظرية أرسطو في الكون ، ولكن الذي منعها من مهادنته والتحالف معه هو أنه عربي مسلم . وبذلك كان جل خدام الكنيسة في القرن الثالث عشر متفقين على مناهضة الرشدية ومحاربتها ومن هؤلاء ريمون لول، وجيل دوروم ، وتوما الأكويني ، وألبرت الكبير ، وغليوم الأفرني ،وبترارك ( ) .
لقد شن ريمون لول حرباً صليبية في القرن الثالث عشر ضد الرشدية ، والرشدية عنده تساوي الإسلام ، وهدم الإسلام كان حلم حياته السعيدة وبلغت أهمية ريمون لول منتهاها بين سنتي 1310 و1312م على الخصوص حيث تنقل في أوربا مفنداً ابن رشد ومحمد  ، وقد اقترح على كليمان الخامس إيجاد منظمة حربية جديدة لهدم الإسلام ، وإنشاء كليات لدراسة العربية ، والحكم على ابن رشد وأتباعه ( ).
وأما بترارك فقد بلغ به الحقد على العرب والمسلمين أن شن مقاطعة اقتصادية وثقافية لكل ما هو عربي وإسلامي ، فيرفض أن يتعاطى أي دواء عربي ، أو يحمل اسماً عربياً ، ويقول لصديقه : "" أرجو منك فيما هو خاص بي ألا تعتمد على عربك( ) وأن تعدهم كأنهم لم يكونوا ، فأنا أمقت هؤلاء القوم وأعرف أن بلاد الروم( ) أنجبت علماء وبلغاء وفلاسفة وشعراء ورياضيين وخطباء ، وهناك ولد الطب أيضاً ، وأما أطباء العرب فعليَّ أن أعرف من هم ، وأما أنا فإنني أعرف شعراءهم فلا يمكنني أن أتصور من هو أكثر منهم تخنثاً وارتخاء وهجراً ... ولا أكاد أُحمل على الاعتقاد بإمكان صدور ما هو صالح عن العرب ، ومع ذلك فبأي حق لا أدريه أيها العلماء تغمرونهـم بمدائح لا يستحقونها "" . ثم يصف من يمدح العرب بحضرته بأنه كمن يطعنه بخنجر أو يلسع قلبه بقراص( ) .
إن هذا النص بالإضافة إلى كشفه عن مدى الحقد الصليبي الذي امتلأت به قلوب بعض خدام الكنيسة ، فهو يلفت النظر أيضاً إلى المدى الذي بلغته الثقافة الإسلامية في امتلاكها لناصية الحضارة والعلم ، واجتذابها لتعاطف الأعداء قبل الأصدقاء .
إن العاملين الذين ذكرناهما وتحدثنا عنهما إلى الآن كلاهما أسهما في شهرة الفكر الرشدي وذيوعه وانتشاره ، فالتعاطف مع الحضارة الغازية من جانب الراغبين في التحرر من الاحتكار الكنسي للعلم والثقافة ، والاضطهاد الكنسي للفكر الرشدي ومحاربته والسعي إلى قمعه ونفيه جعل لهذا الفكر أنصاراً أو جماهير ، ولكن كان للعامل الثاني الدور الأساس في بلورة الصورة الرشدية في أعين الغرب ، وتحديد صفة هذا الفكر وذلك بوصمه بالإلحاد والكفر والزندقة ، لتجعل منه الكنيسة ممثلاً للعرباوية - أي العرب - الذين سعت دائماً إلى اعتبارهم ملحدين كفرة ( ). وذلك ليكون الإلحاد وافداً من الشرق الإسلامي ، بقصد تجيـيش الغرب الذي لا تزال السيادة فيه للمسيحية - ضد الإسلام - وإذكاءً لبواعث الحقد والكراهية الصليبية .
ولم يجد التيار العقلاني الناهض المتأثر بالعرب والمتعاطف معهم أي غضاضة في هذه الصورة التي رُسمت لابن رشد وفكره بل إنها تُقبِّلت بترحيب ، واستُخدمت كسلاح مضاد للكنيسة والسلطات الكهنوتية بعكس ما أرادت هذه السلطات ورغبت .
وهكذا يكون ابن رشد افُتريَ عليه مرتين الأولى: من قبل الكنيسة . والثانية: من قبل التيار المناهض لها، وأُريد له أن يكون ملحداً زنديقاً من قبل الطرفين، واتخذته الرشدية اللاتيـنية التي بدأت تتصادم مع الكنيسة غطاءً لأفكارها التحررية، وستاراً لدعوتها العلمانية ( ).
هذا التوظيف الغرضي ( ) للفكر الرشدي ساعد في الواقع على بروز ابن رشد كرائد للعقلانية في مواجهة القمع والاضطهاد الفكري الكنسي ، فبدأت تتزايد ترجمات كتبه إلى اللاتينية تزايداً هائلاً حتى لم تكد تمر سنة فيما بين 1480 م و 1580 م دون ظهور طبعة جديدة لإحدى تلك الترجمات ( ). وطوال عدة قرون تالية درست أوربة فلسفة أرسطو من خلال عيني ابن رشد ، واحتلت الرشدية مقام السيادة في الجامعات الغربية الكبرى( ) مثل جامعة " بادوفا " في إيطاليا التي أصبحت معقل الرشديين فيما بعد ( ).
ثم توسع انتشار الأضاليل الرشدية - على حد تعبير المسيحيين المحافظين - حتى وجدت لها صدى في الجامعة الباريسية حتى يمكن القول إن رسائل توما الأكويني ، وألبرت كانت موجهة شخصياً ضد أساتذة باريسيـين تأثروا بالرشدية( ) وهو ما يبدو واضحاً في رسالة لتوما تحمل عنوان " ضد الرشدية الباريسية "( ) .
والذي يـبدو أن الرشدية أصبحت في ذلك الوقت كالعلمانية اليوم معياراً - لدى جماهيرها- للثقافة والتحضر والرقي ، فلا بد لكي يُعد الباحث من المثقفين واسعي الإطلاع أن يتشدق باسم ابن رشد ، ويتفوه ببعض أفكاره لقد أصبحت الرشدية في نظر المحافظين " ابتلاء بالتـشرق " على غـرار " الابتلاء بالتغرب "( ) الذي نحاربه اليوم ، وغدت ثقافة دارجة لدى الطبقة الراقية في البندقية ( )، حتى أن الذي لا يتبنى الرشدية ، ولم يطلع عليها يعتبر تقليدياً أو ظلامياً أو رجعياً على غرار ما هو سائد اليوم لدى العلمانيين المتغربين ، نستشف ذلك من حديث بترارك مع أحد الرشديين إذ يستشهد الأول أثناء حديثه بالقديس بولس ، فيعبس الرشدي ازدراء ويقول : "" احتفظ لنفسك بهذا النوع من المعلمين وأما أنا فلي معلمي ، وأعرف من أعتقد "" . ثم يتابع الرشدي قائلاً : "" أيه ! إبق نصرانياً صالحاً ، وأما أنا فلا أؤمن بواحدة من جميع هذه الأساطير ، ولم يكن بولسك ، وأوغستنك – أوغسطين – وجميع هؤلاء الناس الذين تقيم لهم وزناً غير ثرثارين ، آه ! ليتك كنت قادراً على مطالعة ابن رشد ... فتبصر مقدار ما هو أعلى من جميع هؤلاء المجّان "" ( )
إن هذا النص فيه دلالات متعددة فهو يكشف عن المدى الذي بلغه الفكر الرشدي في السيطرة على عقول الطبقة المثقفة ودفعها في طريق المواجهة للثقافة التقليدية التي يمثلها كل من بولس وأوغسطين وبترارك ، ولكن علينا أن لا ننسى أن مثل هذا الكلام لم يكن يمكن المجاهرة به لأن ذلك يؤدي إلى الموت ، كل ما في الأمر أنه حوار شخصي يدور بين بترارك وأحد زائريه في منزله .
إن النص يكشف أيضاً عن جهل بترارك باللغة العربية التي يكتب بها ابن رشد ولذلك فإن الرشدي يتحسـر لأن بترارك لا يمكنه قراءة ابن رشد مباشرة ، وقد سبق لنا قريباً أن نقلنا نصاً يوضح احتقـار بترارك للعرب ولغتهم وحضارتهم . والله أعلم .

مع الرجاء الدعاء من إخوتي المسلمين