بسم الله الرحمن الرحيم

بقلم د. أحمد إدريس الطعان
بريد إلكتروني : ahmad_altan@maktoob.com
ثورة العقل الأوربي :
لقد بدأت ثقة الناس تتزعزع في الكنيسة عندما وجه إليها مكيافللي 1469 – 1527م انتقادات فاضحة في رجالها الذين يحيون حياة الرذيلة والشهوات ، ويحتكرون المتع الدنيوية داخل أسوارها في حين يدعون الناس إلى حياة الزهد والتقشف ، واعتبر الكنيسة رأس الشر وأساس الفساد وأنها السبب في انهيار العقيدة الدينية وقال : "" كلما كان الناس أقرب إلى كنيسة روما وهي رأس ديننا كانوا أقل تديناً ""( ) .
وانتقاداته في الحقيقة لم تقتصر على الكنيسة بل انتقد المسيحية عموماً ورأى أنها أوهنت من عزيمة الإنسان وأسلمت الدنيا لأهل الجرأة والعنف ( ) ، ولذلك فهـو يفضل الوثـنية على المسيحية لأن الأديان الوثنية تُمجِّد الجاه والصحة والـقوة وتضفي هيبة على القادة والأبطال ، بينـما المسيحية تحـض على التواضع والضعف( ) .
وعلى كل حال فقد عُرف عن مكيافللي بأنه مكرس لأخلاق القوة هذه الأخلاق التي نادى بها قديماً السوفسطائيون عندما رأوا أن العدالة هي سيادة القوي على الضعيف ، وإذعان الضعيف لهذه السيادة ( ) ، وأن القانون من اختراع الضعفاء للحد من تسلط الأقوياء وأن القوة هي الحق ( ) .
ثم تفاقمت هذه النزعة بعد مكيافللي على يد نيتشه 1844 – 1900 م الفيلسوف الألماني الذي يرغب في القضاء على الملايين من الضعفاء والفقراء لأنه يؤمن بالبطل وبالإنسان الأعلى أو الأرقى الذي يجب أن يستعيض بالقوة عن الأخلاق ، وهو مثل ميكيافللي يعتبر المسيحية هي السبب في ترسيخ أخلاق الرقيق .( ) ولم تكن نظرية داروين " البقاء للأقوى " إلا خطوة أخرى في هذا الاتجاه .
وأهم ما عُرف عن مكيافللي أيضاً أن الغاية تبرر الوسيلة لذلك يجب على الحاكم أن يكون ماكراً مكر الذئب ، ضارياً ضراوة الأسد ،غادراً غدر الثعلب ، وأن يتعلم كيف يبتعد عن الطيبة والخير ، وأن يرتكب الشر والفظائع أحياناً- ، ويقترف الإساءات ويسير على مبدأ " فرق تسد " ، من أجل المحافظة على سلطانه . ( )
ولكن عليه في نفس الوقت أن يُخفي هذه الصفات المرذولة ، ويكون دَعِيّاً ماهراً ومرائياً كبيراً وأن يحسن التظاهر بالأوصاف الحميدة والتدين الشديد . ( )
هذه المبادئ المكيافللية التي كانت تحدياً للكنيسة في إيطاليا كانت تتزامن مع ثورة مارتن لوثر 1483 – 1546م في ألمانيا عام 1518م داخل الكنيسة للإصلاح الديني الذي حدّ كثيراً من تسلط البابوات وأتباعهم ، لقد كانت البروتستانية في البداية احتجاجاً على الغفرانات ثم تطورت إلى الفحص الحر للكتاب المقدس ، والتجربة الشخصية . ( ) وشملت حركته هذه جنيف وفرنسا وهولندا واسكتلندا ( ) .
لقد جعل لوثر الفرد حراً في قراءة الكتاب المقدس وحراً في تفسيره ، وألغى وساطة الكهنـة والأسرار المقدسة التي تحتفظ بها الكنيسة ، وجعل الصلة مباشرة بين الله والإنسان الفرد . ( ) وأظهر أنه يمكن الخلاص خارج الكنيسة ، وأنه يمكن تأويل الكتاب المقدس تأويلاً عقلياً ( ) وتحرير الإنسان من أي نظام لاهوتي فوق الطبيعة ( ) . وبذلك يكون لوثر قد قضى بضربة واحدة على ما شاع مئات السنين من أن حياة الرهبنة والأديرة ضرورية لتحقيق السعادة الأبدية ( ) .
ولذلك رحبت الطبقة المتوسطة بالبروتستانتية لأنها رأت فيها منفذاً يتيح لها ممارسة الحياة بصورة حرة ، وممارسة التجارة ، وتحقيق الأرباح ، ومحاصرة للتدين إلى زوايا ضيقة . ( ) وأصبح الكثيرون لا يذكرون الدين إلا يوم الأحد بعد أن يكونوا قضوا أيام الأسبوع منهمكين في الحياة الدنيوية ( ) .
ومما وطد الدعوة اللوثرية ظهور إيرازموس 1466 – 1536م الذي هاجم الكنيسة الكاثوليكية بضراوة ، وسخر من صكوك الغفران ، ودعا إلى عدم الاكتفاء بالحياة الآخرة ، وضرورة الارتقاء بالحياة الدنيا ، وتهكم بالمظاهر الفارغة التي يوليها الأساقفة عنايتهم مثل عدد العُقَد الواجب عملها في الصندل الذي يلبسه الراهب ، ولون ردائه ، ونوع القماش الذي يُصنع منه ، وتفاخرهم بشكليات مضحكة مثل قول أحدهم بأنه قضى على نهمه الجسدي بالاقتصار على أكل السمك فقط ، ودعوى آخر بأن يده لم تلمس النقود طوال ستين سنة إلا من فوق القفاز أو بالإشارة . ( ) ولم يخطر في بال أحدهم أن يحب الناس ، وهي الوصية الجوهرية للمسيح عليه السلام . ( )
لقد امتد أثر الرشديين إلى هيجل 1770 – 1831م - فيما بعد - فأكد أن المسيحية وغيرها من الأديان ليست إلا طرقاً مجازية للتعبير عن الحقيقة الفلسفية الفريدة ولا شيء غير ذلك ، والدين في كل المستويات ميتافيزيقا ظاهرية معلنة لجمهور الناس الذين لا يستطيعون فهم التصورات الفلسفية المجردة ، وإنما يحتاجون إلى مضمون الفلسفة في صور سائغة ( ) ، وعبر عن ذلك في كتابه فلسفة الدين ( ) .
ولكن علينا أن نتذكر هنا أننا أشرنا إلى مثل هذا الكلام لابن رشد سابقاً وقلنا أنه ليس تعبيراً عن الحقيقة المزدوجة ، ولا يراد به أن هناك حقيقتين وإنما حقيقة واحدة تختلف الطرق في الوصول إليها ، والقصد هنا إيضاح امتداد الأثر الرشدي إلى قرون لاحقة .
في هذه المرحلة كان كوبرنيقوس 1473 – 1543م متردداً في طرح نظريته الجديدة لأنها تهدم الفلك الأرسطي والنظرة المدرسية للكون ، والتي تتبناها الكنيسة لأنه كان يعلم كم سيتعرض للازدراء إذا أذاع نظريته ، وقد فكر أن يلغيها أو يبوح بها سراً لأقاربه وأصدقائه كما كان يفعل الفيثاغوريون ( ) . ولكنه سلك طريقاً آخر فقام بإهداء كتابه للبابا ، وبدأ يتكلم بنظريته ولكن ليس على مستوى عام ، ويعرضها على بعض الأفراد ، فلم يتعرض لأي مضايقة في حال حياته ، ربما لأن الكنيسة لم تدرك ما في النظرية من مخاطر تهدد تعاليمها ، وربما لأنها كانت أكثر ليبرالية في ذلك الوقت قبل مجلس الترنت الذي مارس بعده الجزويت الاضطهاد واستعادت محاكم التفتيش نشاطها ( ) .
تقوم النظرية على قلب الفلك القديم فبدلاً من النظرة التي كانت سائدة والتي تعتبر الأرض - مهد المسيح - هي مركز الكون وهو ما تتبناه الكنيسة ، أصبحت النظرة الجديدة تعني أن الشمس هي المركز والأرض ليست إلا كوكباً من الكواكب التي تدور حول الشمس وهو ما ترفضه الكاثوليكية لأن فيه انتقاصاً من مهد المسيح وتهويناً لشأنه وهو ما يعتبر هرطقة تستحق الموت ( ) .
لقد أنزل إذن كوبرنيقوس الإنسان من مركزيته الكونية التي خصه بها اللاهوت المسيحي ( ) ، وكانت هذه النظرية أول اقتحام جدي للعلم عندما نشرت سنة 1543م ، ولكنها لم تصبح ذات نفوذ إلا في القرن السابع عشر عندما تولاها كبلر وغاليلو وأصلحاها ، ثم بدأ العراك بين العلم والعقائد الجامدة ، وهو العراك الذي أدار فيه المحافظون معركة خاسرة ضد المعرفة الجديدة ( ) . ورغم إيـمان كوبرنيقوس المخلص فقد كان لنظريته أثر مدمر على اللاهوت المسيحي ( ) وشكلت صدمة قوية للكنيسة مهدت لانفصال العلم عن الدين في الغرب وذلك بسبب التصادم الشديد الحاصل بين النظريات العلمية المطروحة ونصوص الكتاب المقدس ( ) . ولذلك رفض كل من مارتن لوثر 1483 – 1546 م وكالفن 1509 – 1564 م هذه النظرية، واعتبر لوثر أن كوبرنيقوس منجم مدع ، لأن الشمس والقمر هي التي يجب أن تدور ، ويسوع أمر الشمس أن تظل كما هي لا الأرض ، وكذلك رفضها كالفن فقال : "" العالم ثابت لا يمكن تحريكه ، من يجرؤ على أن يضع سلطة كوبر نيقوس فوق سلطة الروح القدس ؟ ""( ) .
وهكذا بدأت الكنيسة تفقد هيبتها من النفوس ، وبدأ البساط يسحب من تحت أقدام القائمين عليها ..
رجاء دعوة من أخ مسلم بظهر الغيب ..