بسم الله الرحمن الرحيم
بقلم : د.أحمد إدريس الطعان
بريد إلكتروني : ahmad_altan@maktoob.com

فكرة الحقيقة المزدوجة :
لقد شجع الفكر الرشدي الغربيين على الجرأة الجدلية في مواجهة – لا أقول الكنيسة وإنما بعض القائمين عليها ممن يُطمأن إليهم ، ويؤمن جانبهم ، ولكن لم يصبح هذا شائعاً في كل الأوساط ، وإنما كان محـاولات فردية تحاول أن تفلت من سلطان الكهنوت الكنسي ، ورقابة البابا .
ولكن الأمور كانت تسير لصالح الرشديين ، فلم يمض قرنان من الزمان حتى أصبحت الأضاليل الرشدية ( ) التي كانت تتحاشى العلانية ، ويتم تداولها سراً وبحذر ، أصبحت في أوائل القرن السادس عشر فلسفة جميع إيطاليا الرسمية تقريباً ( ) ، وأمسى كل التنويريين والوجهاء يتسابقون في تبني الفلسفة الرشدية الإلحادية التي أريد لابن رشد أن يمثلها إن بحق وإن بباطل -كما أسلفنا – فقد أصبح أغلب المثقفين يعتقدون أن الجحيم من اختراع الأمراء والرؤساء ، والصلوات والقرابين من اختراع الكهنة والأحبار ، وكل ما تمتلئ به الكتب المقدسة ما هو إلا أقاصيص وخرافات . ( )
وهكذا فقد كان من آثار الرشدية أن جرأت الناس في الغرب على إعادة النظر في معتقداتهم ومسلماتهم . وأدى ظهور المطبعة في القرن الخامس عشر( ) إلى انتشار الأفكار المناهضة للكنيسة والعقائد الشائعة ، كما استطاع الأفراد أن يمتلكوا نسخاً من الكتاب المقدس ، ويقرؤوه بأنفسهم بعد أن كان اقتناؤه وتفسيره حكراً على الكنيسة ورجالها . وبهذا الشكل بدأت الكنيسة تفقد سلطانها على العقول والأفكار ، وبدأ زمام الأمور يفلت من يدها( ) .
غير أنه إذا كان الفصل بين العلم والدين ، والقول بالنسبية المطلقة هو من أهم خصائص العلمانية ، وأجلى مظاهرها في العصر الحديث ، فإن ذلك يعود تكريسه في جانبه الأكبر إلى الرشدية اللاتينية ، ونُسب ذلك طبـعاً لابن رشد ، إن القـضية الأصـل المثـارة هنا هي ما سمي " بالحقيقة المـزدوجة " أو " الحقيقة ذات الوجهين " والتي أروم إلى اعتبارها الأساس الأول للعلمانية ، والمسمار الأول في نعش الكنيسة ( ) .
وتعني – الحقيقة المزدوجة - أنه يمكن أن يكون الشيء صادقاً فلسفياً خاطئاً لاهوتياً أو العكس ، وبذلك يصبح الفيلسوف حراً في المجاهرة بآرائه ونتائجه في مجال الفلسفة بحجة أنه فيلسوف وإن لم تكن مطابقة للاهوت ، وبذلك استطاع الفلاسفة أن يحصلوا على قدر من التسامح بوصفهم فلاسفة يعتبرون موضوعات الإيمان تتجاوز الفهم البشري وإن كانت نتائجهم الفلسفية تتعارض مع هذه الموضوعات . ( )
فهي فكرة –إذن - يراد منها استرضاء الكنيسة دون خسائر علمية أو فلسفية ، وعقد نوع من المهادنة بين الكنيسة والفلاسفة . ولقد عبر بترارك عن سخطه من هؤلاء الذين يفصلون بين الدين والفلسفة ولم يقبل هذه المهادنة ، لأنه يعلم أنها بداية النهاية بالنسبة لسلطان الكنيسة ، فالرشديون - كما يتحدث - إذا جاهروا بمجادلاتهم احتجوا بأنهم يتكلمون مع قطع النظر عن الدين ، إنهم يبحثون عن الحقيقة بنبذهم الحقيقة ، وإنهم يبحثون عن النور بإدارة ظهورهم نحو الشمس ، ولكنهم في السر لا يتركون مغالطة أو تجديفاً . ( )
أليس هذا هو ما يردده أولئك الذين يتحدثون - في عصرنا – عن أنهم رجال علم لا علاقة لهم بالدين ، ولذلك فهم يبيحون لأنفسهم باسم العلم أن يقرروا ما يشاءون من القضايا التي يرفضها الدين، فالدين بنظرهم له مجاله والعقل له مجاله ولا يتدخل أحدهما في شؤون الآخر( ) لأن العناصر الغيبية في الوحي ليست معقولة . ( )
ويبدو أنه بقدر ما أصبح للرشديين من سلطان على العقول أخذت هذه الفكرة تتمدد في الأوساط الثقافية فظهر من هؤلاء يونبوناتزي 1462 – 1525م وهو من أشهر أساتذة بادوفا في ذلك العصر ، وكانت جامعتها رشدية خالصة وقد تبنى هذا فكرة الحقيقة المزدوجة فأصدر كتاباً أنكر فيه خلود النفس ، ثم أعلن خضوعه لتعاليم الدين في الخلود ، وكاد أن يُعدم حرقاً ولكنه نجا بحماية أحد الكرادلة له( ) .
ويؤكد يونبوناتزي أن الجمهور الذي يفعل الخير طلباً للثواب الأخروي والنعيم ، ويتجنب الشر هرباً من الجحيم لا يزال في طور الطفولة ، وبذلك فهو بحاجة إلى الوعد والوعيد ، وأما الفيلسوف فيصدر عن المبادئ والبراهين فقط ، إن المشرعين بنظره هم الذين ابتكروا الخلود لا عناية منهم بالحقيقة ، بل حرصاً على الخير العام ، ومن هنا لا يمكن بنظره التوفيق بين العناية الإلهية والحرية الإنسانية ، فالأولى ثابتة بالإيمان ، والثانية ثابتة بالتجربة ( ) .
ظهر بعد ذلك فرنسيس بيكون 1561 – 1626 كمحام عن نظرية الحقيقة المزدوجة وهي تعني عنده أن ما يثبت بالعقل لا علاقة للإيمان به ، الإيمان طريق الوحي ، والعلم طريق العقل . ( ) وعلى ذلك فالكتاب المقدس شيء ، وكتاب الطبيعة شيء آخر ( ) ، والدراسة الفلسفية عنده لا تساند أي استدلال على وجود الله [عز وجل] أو العناية الإلهية ، وكل ما يمكن أن نصل إليه من دراسة كتاب الطبيعة هو إثبات وجود إله قادر وحكيم ( ) .
ولذلك أوصى بيكون في تقرير رفعه إلى الملك جيمس الأول لإصلاح التعليم أن تتم المحافظة على هوة عميقة بين العلوم الطبيعية من ناحية ، وبين الدين واللاهوت المقدس من ناحية أخرى ، ذلك أن الانسجام الاجتماعي والتكامل العلمي يتطلبان بنظره فصلاً صارماً بين هذين الجانبين ، فالفيلسوف الذي ينغمس في اللاهوت يخلق مذهباً خرافياً جامحاً ، في حين أن اللاهوتي الذي يهتم اهتماماً بالغاً بالفروق الفلسفية والكشوف العلمية ينتهي إلى الزندقة ، والمسلك الوحيد المنقذ - بنظره - هو إقامة ثنائية حادة بين العلوم الطبيعية والوحي الإلهي( ) .
ولم يكن غاليلو 1564 – 1642م المعاصر لبيكون بعيداً عن هذه النظرية فقد كان يستشهد بالكاردينال بارونيوس عندما قال : "" غاية الروح القدس أن يعلمنا كيف نذهب إلى السماء ، لا كيف تسير السماوات "" .( ) وكتب لصديق له : "" أعتقد أنه يجب أن لا نبتدئ في مناقشة المسائل الطبية بالاستشهاد بأقوال من الكتب المقدسة ، ولكن بالتجارب الحسية والبراهين الضرورية ""( ).
أما سبينوزا 1632 – 1677 م فقد استمات في الدفاع عن الحقيقة المزدوجة ليجد لنفسه منفذاً يقول من خلاله ما يشاء دون أن يخشى بطش اليهود فهو يرفض أن يكون العقل خادماً للكتاب ، كما يرفض أن يكون بينهما أي تناقض لأن لكل ميدانه الخاص ويمكنهما أن يعيشا في وئام ( ) "" فاللاهوت ليس خادماً للعقل ، والعقل ليس خادماً للاهوت ، بل لكلٍ مملكته الخاصة ، للعقل مملكة الحقيقة والحكمة ، وللاهوت مملكة التقوى والخضوع "" ( ) فإذا وجد تناقض في الكتاب مع العقل فلا خوف لأنه ليس في مملكة العقل ، ويستطيع عندئذ كل فرد أن يفكر كما يشاء دون أي خوف ( ) ويمكننا أن نبرر قبولنا للعقائد الموحى بها عن طريق اليقين الأخلاقي فقط ولا نملك أكثر من ذلك ( ) .

وهكذا وظف العلمانيون فكرة الحقيقة المزدوجة لأمرين الأول : - محاولة إيجاد تبرير لفضائح الكتاب المقدس وتناقضاته لكي لا يخسروا الجمهور المسيحي المؤمن .
- والثاني مخادعة الكنيسة لكي تكف عن اضطهادهم وإرهابهم .
ولكن إلى حين .
والحمد لله رب العالمين على نعمة الإسلام ..
الرجاء دعوة صالحة من أخ صالح .. بظهر الغيب ..