بسم الله الرحمن الرحيم
قال ابن القيم - رحمه الله - في مواضع متفرقة من كتابه البديع " شفاء العليل " :
(فإن قيل: كيف تقوم حجته عليهم وقد منعهم من الهدى وحال بينهم وبينه ؟ قيل: حجتهُ قائمة عليهم بتخليته بينهم وبين الهدى وبيان الرسل لهم، وإراءتهم الصراط المستقيم حتى كأنهم يشاهدونه عياناً، وأقام لهم أسباب الهداية ظاهراً وباطناً ولم يحل بينهم وبين تلك الأسباب، ومن حال بينه وبينها منهم بزوال عقل أو صغر لا تمييز معه أو كونه بناحية من الأرض لم تبلغه دعوة رسله فإنه لا يعذبه حتى يقيم عليه حجته، فلم يمنعهم من هذا الهدى ولم يحل بينهم وبينه. نعم، قطع عنهم توفيقه ولم يُرد من نفسه إعانتهم والإقبال بقلوبهم إليه ، فلم يحل بينهم وبين ما هو مقدور لهم ، وإن حال بينهم وبين مالايقدرون عليه ؛ وهو فعله ومشيئته وتوفيقه ، فهذا غير مقدور لهم ، وهو الذي منعوه وحيل بينهم وبينه. فتأمل هذا الموضع واعرف قدره، والله المستعان ).
( بقي إلى إيمانهم طريق لم يُرهم الله إياه وهو مشيئته وتوفيقه وإلهامه وإمالة قلوبهم إلى الهدى وإقامتها على الصراط المستقيم، ذلك أمر لا يعجز عنه رب كل شيء ومليكه، بل هو القادر عليه كقدرته على خلقه ذواتهم وصفاتهم وذرياتهم، ولكن منعهم ذلك لحكمته وعدله فيهم وعدم استحقاقهم وأهليتهم لبذل ذلك لهم كما منع السفيل خصائص العلو، ومنع الحار خصائص البارد، ومنع الخبيث خصائص الطيب.
ولا يُقال فلم فعل هذا؟، فإن ذلك من لوازم ملكه وربوبيته ومن مقتضيات أسمائه وصفاته . وهل يليق بحكمته أن يسوي بين الطيب والخبيث والحسن والقبيح والجيد والرديء ؟. ومن لوازم الربوبية : خلق الزوجين وتنويع المخلوقات وأخلاقها. فقول القائل : لِمَ خلق الرديء والخبيث واللئيم ؟سؤال جاهل بأسمائه وصفاته، وملكه وربوبيته، وهو سبحانه فرق بين خلقه أعظم تفريق، وذلك من كمال قدرته وربوبيته، فجعل منه ما يقبل جميع الكمال الممكن، ومنه ما لا يقبل شيئاً منه، وبين ذلك درجات متفاوتة لا يحصيها إلا الخلاق العليم. وهدى كل نفس إلى حصول ما هي قابلة له، والقابل والمقبول والقبول كله مفعوله ومخلوقه وأثر فعله وخلقه. وهذا هو الذي ذهب عن الجبرية والقدرية، ولم يهتدوا إليه، وبالله التوفيق ).
(فإن قيل: فإذاً جوَّزتم أن يكون الطبع والختم والقفل عقوبةً وجزاء على الجرائم والإعراض والكفر السابق على فعل الجرائم –قيل: هذا موضعٌ يغلطُ فيه أكثرُ الناس، ويظنون بالله سبحانه خلاف موجب أسمائه وصفاته. والقرآن من أوله إلى آخره إنما يدل على أن الطبع والختم والغشاوة لم يفعلها الرب سبحانه بعبده من أول وهلة حين أمره بالإيمان أو بينّه له، وإنما فعله بعد تكرار الدعوة منه سبحانه والتأكيد في البيان والإرشاد وتكرار الإعراض منهم والمبالغة في الكفر والعناد، فحينئذ يطبع على قلوبهم ويختم عليها فلا تقبلُ الهدى بعد ذلك. والإعراض والكفر الأول لم يكن مع ختم وطبع، بل كان اختياراً،فلما تكرر منهم صار طبيعةً وسجيةً، فتأمل هذا المعنى في قوله تعالى: (إن الذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون، ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذابٌ عظيم). ومعلوم أن هذا ليس حكماً يعم جميع الكفار، بل الذين آمنوا وصدقوا الرسل كان أكثرهم كفاراً قبل ذلك ولم يختم على قلوبهم وعلى أسماعهم. فهذه الآياتُ في حق أقوام مخصوصين من الكفار، فعل الله بهم ذلك عقوبةً منه لهم في الدنيا بهذا النوع من العقوبة العاجلة، كما عاقب بعضهم بالمسخ قردة وخنازير وبعضهم بالطمس على أعينهم، فهو سبحانه يعاقب بالطمس على القلوب كما يعاقب بالطمس على الأعين، وهو سبحانه قد يعاقبُ بالضلال عن الحق عقوبة دائمة مستمرة، وقد يعاقب به إلى وقتٍ ثم يعافي عبده ويهديه كما يعاقب بالعذاب كذلك.
فإن قيل: انبعاثهم إلى طاعته طاعةٌ له فكيف يكرهها ؟ وإذا كان سبحانه يكرهها فهو يحب ضدها لا محالة إذ كراهة أحد الضدين تستلزم محبة الضد الآخر، فيكون قعودهم محبوباً له ، فكيف يعاقبهم عليه ؟ قيل: هذا سؤالٌ له شأن، وهو من أكبر الأسئلة في هذا الباب. وأجوبة الطوائف على حسب أصولهم. فالجبرية تجيبُ عنه بأن أفعاله لا تُعلل بالحكم والمصالح، وكل ممكن فهو جائز عليه، ويجوز أن يعذبهم على فعل ما يحبه ويرضاه وترك ما يبغضه ويسخطه، والجميع بالنسبة إليه سواء. وهذه الفرقة قد سدت على نفسها باب الحكمة والتعليل.
والقدرية تجيب عنه على أصولها بأنه سبحانه لم يثبطهم حقيقة ولم يمنعهم ، بل هم منعوا أنفسهم وثبطوها عن الخروج وفعلوا ما لا يريد، ولما كان في خروجهم المفسدة التي ذكرها الله سبحانه ألقى في نفوسهم كراهة الخروج مع رسوله. قالوا: وجعل سبحانه إلقاء كراهة الانبعاث في قلوبهم كراهة مشيئة من غير أن يكره هو سبحانه انبعاثهم، فإنه أمرهم به، قالوا: وكيف يأمرهم بما يكرهه ؟
ولا يخفى على من نوَّر الله بصيرته فسادُ هذين الجوابين وبُعدُهما من دلالة القرآن، فالجواب الصحيح أنه سبحانه أمرهم بالخروج طاعة له ولأمره واتباعاً لرسوله صلى الله عليه وسلم ونصرةً له وللمؤمنين، وأحب ذلك منهم ورضيه لهم ديناً ، وعلم سبحانه أن خروجهم لو خرجوا لم يقع على هذا الوجه، بل يكون خروجهم خروج خذلان لرسوله وللمؤمنين، فكان خروجاً يتضمن خلاف ما يحبه ويرضاه، ويستلزم وقوع ما يكرهه ويبغضه، فكان مكروهاً من هذا الوجه ومحبوباً له من الوجه الذي خرج عليه أولياؤه. وهو يعلم أنه لا يقع منهم إلا على الوجه المكروه إليه فكرهه وعاقبهم على ترك الخروج الذي يحبه ويرضاه، لا على ترك الخروج الذي يبغضه ويسخطه. وعلى هذا فليس الخروج الذي كرهه منهم طاعة حتى لو فعلوه لم يثبهم عليه ولم يرضه منهم.
وهذا الخروج المكروه له ضدان : أحدهما الخروج المرضي المحبوب، وهذا الضد هو الذي يحبه، والثاني التخلف عن رسوله والقعود عن الغزو معه. وهذا الضد يبغضه ويكرهه أيضاً. وكراهته للخروج على الوجه الذي كانوا يخرجون عليه لا ينافي كراهته لهذا الضد. فنقول للسائل: قعودهم مبغوض له . ولكن ههنا أمران مكروهان له سبحانه، وأحدهما أكره له من الآخر لأنه أعظم مفسدة. فإن قعودهم مكروه له، وخروجهم على الوجه الذي ذكره أكْرَهُ إليه، ولم يكن لهم بدّ من أحد المكروهين إليه سبحانه، فدفع المكروه الأعلى بالمكروه الأدنى، فإن مفسدة قعودهم عنه أصغر من مفسدة خروجهم معه، فإن مفسدة قعودهم تختص بهم ومفسدة خروجهم تعود على المؤمنين، فتأمل هذا الموضع.
فإن قلت: فهلا وفقهم للخروج الذي يحبه ويرضاه وهو الذي خرج عليه المؤمنون ؟ قلت: قد تقدم جواب مثل هذا السؤال مراراً. وأن حكمته سبحانه تأبى أن يضع التوفيق في غير محله وعند غير أهله، فالله أعلم حيث يجعل هداه وتوفيقه وفضله. وليس كل محل يصلح لذلك، ووضع الشيء في غير محله لا يليق بحكمته.
فإن قلت: وعلى ذلك فهلاّ جعل المحال كلها صالحة ؟ قلت: يأباه كمالُ ربوبيته وملكه، وظهور أسمائه وصفاته وفي الخلق والأمر. وهو سبحانه لو فعل ذلك لكان محبوباً له، فإنه يحب أن يُذكر ويُشكر ويُطاع ويُوحّد ويُعبد، ولكن كان ذلك يستلزم فوات ما هو أحب إليه من استواء أقدام الخلائق في الطاعة والإيمان، وهو محبته لجهاد أعدائه، والانتقام منهم، وإظهار قدر أوليائه وشرفهم، وتخصيصهم بفضله ، وبذل نفوسهم له في معاداة من عاداه، وظهور عزته وقدرته وسطوته وشدة أخذه وأليم عقابه، وأضعاف أضعاف هذه الحكم التي لا سبيل للخلق ولو تناهوا في العلم والمعرفة إلى الإحاطة بها، ونسبة ما عقلوه منها إلى ما خفي عليهم كنقرة عصفور في بحر.
فإن قيل: فإبليس شرٌ محض، والكفر والشرك كذلك، وقد دخلوا في الوجود، فأي خير في إبليس وفي وجود الكفر ؟ قيل: في خلق إبليس من الحكم والمصالح والخيرات التي ترتبت على وجوده ما لا يعلمه إلا الله، كما سننبه على بعضه. فالله سبحانه لم يخلقه عبثاً ولا قصد بخلقه إضرار عباده وهلاكهم. فكم لله في خلقه من حكمةٍ باهرة وحجةٍ قاهرة وآية ظاهرة ونعمة سابغة. وهو وإن كان للأديان والإيمان كالسموم للأبدان . ففي إيجاد السموم من المصالح والحكم ما هو خيرٌ من تفويتها. وأما الذي لا خير فيه ولا شر فلا يدخل أيضاً في الوجود فإنه عبث، فتعالى الله عنه. وإذا امتنع وجود هذا القسم في الوجود فدخول ما الشرُّ في إيجاده أغلب من الخير أولى بالامتناع. ومن تأمل هذا الوجود علم أن الخير فيه غالبٌ، وأن الأمراض وإن كثرت فالصحة أكثر منها، واللذات أكثر من الآلام، والعافية أعظم من البلاء، والغرق والحرق والهدم ونحوها –وإن كثرت- فالسلامة أكثر. ولو لم يوجد هذا القسم الذي خيره غالبٌ لأجل ما يعرض فيه من الشر لفات الخير الغالب. وفوات الخير الغالب شر غالب. ومثال ذلك النار، فإن في وجودها منافع كثيرةً، وفيها مفاسدُ، لكن إذا قابلنا بين مصالحها ومفاسدها لم تكن لمفاسدها نسبةٌ إلى مصالحها. وكذلك المطر والرياح والحر والبرد. وبالجملة فعناصر هذا العالم السفلي خيرها ممتزج بشرها، ولكن خيرها غالبٌ. وأما العالم العلوي فبريء من ذلك.
فإن قيل: فهلا خلق الخلاق الحكيم هذه الدنياخالية من الشر بحيث تكون خيرات محضة ؟ فإن قلتم: اقتضت الحكمة خلق هذا العالم ممتزجاً فيه اللذة بالألم والخير بالشر، فقد كان يمكن خلقه على حالة لا يكون فيه شر كالعالم العلوي؟ سلمنا أن وجود ما الخير فيه أغلب من الشر أولى من عدمه، فأي خير ومصلحة في وجود رأس الشر كله ومنبعه وقدوة أهله فيه: إبليس، وأي خير في إبقائه إلى آخر الدهر، وأي خير يغلب في نشأة يكون فيها تسعة وتسعون إلى النار وواحد في الجنة، وأي خير غالب حصل بإخراج الأبوين من الجنة حتى جرى على الأولاد ما جرى، ولو داما في الجنة لارتفع الشر بالكلية؟ وإذا كان قد خلقهم لعبادته فكيف اقتضت حكمته أن صرف البهم عنها ووفق لها الأقل من الناس؟ وأي خير يغلب في خلق الكفر والفسوق والعصيان والظلم والبغي، وأي خير في إيلام غير المكلفين كالأطفال والمجانين؟
فإن قلتم: فائدته التعويض . انتقض عليكم بإيلام البهائم. ثم وأي خير في خلق الدجال وتمكينه من الظهور والافتتان به ؟ وإذ قد اقتضت الحكمة ذلك فأي خير حصل في تمكينه من إظهار تلك الخوارق والعجائب؟ وأي خير في السحر وما يترتب عليه من المفاسد والمضار ؟ وأي خير في إلباس الخلق شيعاً وإذاقة بعضهم بأس بعض، وأي خير في خلق السموم وذات السموم والحيوانات العادية المؤذية بطبعها ؟ وأي خير في خراب هذه البنية بعد خلقها في أحسن تقويم وردها إلى أرذل العمر بعد استقامتها وصلاحها؟ وكذلك خرابُ هذا الدار ومحو أثرها؟ فإن كان وجود ذلك خيراً غالباً فإبطاله إبطال للخير الغالب. دع هذا كله فأي خير راجحٍ أو مرجوح في النار وهي دار الشر الأعظم والبلاء الأكبر ؟ ولا خلاص لكم عن هذه الأسئلة إلا بسد باب الحكم والتعليل، وإسناد الكون إلى محض المشيئة، أو القول بالإيجاب الذاتي وأن الرب لا يفعل باختياره ومشيئته.
هذه الأسئلة إنما ترد على من يقول بالفاعل المختار، فلهذا لجأ القائلون إلى إنكار التعليل جملة فاختاروا أحد المذهبين، وتحيزوا إلى إحدى الفئتين. وإلا فكيف تجمعون بين القول بالحكمة والتعليل وبين هذه الأمور ؟ .

قولهم : أي حكمةٍ ومصلحةٍ في إخراج آدم من الجنة إلى دار الابتلاء والامتحان ؟ فالجواب أن يقال : كم لله سبحانه في ذلك من حكمة، وكم فيه من نعمة ومصلحة تعجز العقول عن معرفتها على التفصيل. ولو استفرغت قواها كلها في معرفة ذلك ،فهو سبحانه إنما خلق آدم ليستعمره وذريته في الأرض ويجعلهم خلفاء يخلف بعضهم بعضاً، فخلقهم سبحانه ليأمرهم وينهاهم ويبتليهم. وليست الجنة دار ابتلاء وتكليف. فأخرج الأبوين إلى الدار التي خُلقوا منها وفيها ليتزودوا منها إلى الدار التي خُلقوا لها، فإذا وفَّوا تعب دار التكليف ونصبها عرفوا قدر تلك الدار وشرفها وفضلها، ولو نشأوا في تلك الدار لما عرفوا قدر نعمته عليهم بها. فأسكنهم دار الامتحان وعرَّضهم فيها لأمره ونهيه لينالوا بالطاعة أفضل ثوابه وكرامته. وكان من الممكن أن يحصل لهم النعيم المقيم هناك. لكن الحاصل عقيب الابتلاء والامتحان ومعاناة الموت وما بعده وأهوال القيامة والعبور على الصراط نوع آخر من النعيم لا يدرك قدره، وهو أكمل من نعيم من خُلق في الجنة من الولدان والحور العين بما لا يشبه بينهما بوجهٍ من الوجوه، ومن الحكم في ذلك أنه سبحانه أراد أن يتخذ من ذرية آدم رسلاً وأنبياء وشهداء يحبهم ويحبونه، وينـزل عليهم كتبه، ويعهد إليهم عهده، ويستعبدهم له في السراء والضراء، ويؤثرون محابه ومراضيه على شواتهم، وما يحبونه ويهوونه، فاقتضت حكمته أن أنزلهم إلى دار ابتلاهم فيها بما ابتلاهم ليكملوا بذلك الابتلاء مراتب عبوديته، ويعبدونه بما تكرهه نفوسهم، وذلك محض العبودية، وإلا فمن لا يعبد الله إلا بما يحبه ويهواه فهو في الحقيقة إنما يعبد نفسه، وهو سبحانه يحب من أوليائه أن يوالوا فيه ويعادوا فيه، ويبذلوا نفوسهم في مرضاته ومحابه، وهذا كلّه لا يحصل في دار النعيم المطلق.
ومن الحكمة في إخراجه من الجنة ما تقدم التنبيه عليه من اقتضاء أسماء الله الحسنى لمسمّياتها ومتعلقاتها، كالغفور الرحيم التواب العفو المنتقم الخافض الرافع المعز المذل المحيي المميت الوارث، ولا بد من ظهور أثر هذه الأسماء ووجود ما يتعلق بها. فاقتضت حكمته أن أنزل الأبوين من الجنة ليظهر مقتضى أسمائه وصفاته فيهما وفي ذريتهما، فلو تربت الذرية في الجنة لفاتت آثار هذه الأسماء وتعلقاتها والكمال الإلهي يأبى ذلك، فإنه الملك الحق المبين، والملك هو الذي يأمر وينهى ويكرم ويهين، ويثيب ويعاقب، ويعطي ويمنع، ويعز ويذل، فأنزل الأبوين والذرية إلى دار تُجرى عليهم هذه الأحكام، وأيضاً فإنهم أنزلوا إلى دار يكون إيمانهم تاماً، فإن الإيمان قولٌ وعمل وجهادٌ وصبر واحتمال، وهذا كله إنما يكون في دار الامتحان، لا في جنة النعيم، وقد ذكر غير واحد من أهل العلم منهم أبو الوفا بن عقيل وغيره أن أعمال الرسل والأنبياء والمؤمنين في الدنيا أفضل من نعيم الجنة، قالوا: لأن نعيم الجنة حظهم وتمتعهم، فأين يقاس إلى الإيمان وأعماله والصلوات وقراءة القرآن والجهاد في سبيل الله وبذل النفوس في مرضاته وإيثاره على هواها وشهواتها، فالإيمان متعلق به سبحانه، وهو حقه عليهم، ونعيم الجنة متعلق بهم وهو حظهم. فهم إنما خُلقوا للعبادة ، والجنة دار نعيم لا دار تكليف وعبادة، وأيضاً فإنه سبحانه سبق حكمه وحكمته بأن يجعل في الأرض خليفةً، وأعلم بذلك ملائكته، فهو سبحانه قد أراد أن يكون هذا الخليفة وذريته في الأرض قبل خلقه لما له في ذلك من الحكم والغايات الحميدة، فلم يكن بدّ من إخراجه من الجنة إلى دار قدر سكناهم فيها قبل أن يخلقه، وكان ذلك التقدير بأسباب وحكم، فمن أسبابه النهي عن تلك الشجرة، وتخليته بينه وبين عدوه حتى وسوس إليه بالأكل، وتخليته بينه وبين نفسه حتى وقع في المعصية، وكانت تلك الأسباب موصلة إلى غايات محمودة مطلوبة تترتب على خروجه من الجنة ثم يترتب على خروجه أسباب أخر جُعلت غايات لحكم أخر، ومن تلك الغايات عوده إليها على أكمل الوجوه، فذلك التقدير وتلك الأسباب وغاياتها صادرة عن محض الحكمة البالغة التي يحمده عليها أهل السموات والأرض والدنيا والآخرة، فما قدّر أحكم الحاكمين ذلك باطلاً، ولا دبره عبثاً، ولا أخلاه من حكمته البالغة وحمده التام، وأيضاً فإنه سبحانه قال للملائكة (إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون). ثم أظهر سبحانه من علمه وحكمته الذي خفي على الملائكة من أمر هذا الخليفة ما لم يكونوا يعرفونه ، بأن جعل من نسله من أوليائه وأحبائه ورسله وأنبيائه من يتقرب إليه بأنواع التقرب، ويبذل نفسه في محبته ومرضاته. يسبح بحمده آناء الليل وأطراف النهار، ويذكره قائماً وقاعداً وعلى جنبه، ويعبده ويذكره ويشكره في السراء والضراء، والعافية والبلاء، والشدة والرخاء، فلا يثنيه عن ذكره وشكره، وعبادته شدة ولا بلاء ولا فقر ولا مرض، ويعبده مع معارضة الشهوة وغايات الهوى وتعاضد الطباع لأحكامها ومعاداة بني جنسه وغيرهم له، فلا يصده ذلك عن عبادته وشكره وذكره والتقرب إليه، فإن كانت عبادتكم لي بلا معارض ولا ممانع فعبادة هؤلاء لي مع هذه المعارضات والموانع والشواغل، وأيضاً فإنه سبحانه أراد أن يظهر لهم ما خفي عليهم من شأن ما كانوا يعظمونه ويجلونه ولا يعرفون ما في نفسه من الكبر والحسد والشر، فذلك الخير وهذا الشر كامن في نفوس لا يعلمونها، فلا بد من إخراجه وإبرازه لكي تعلم حكمة أحكم الحاكمين في مقابلة كل منهما بما يليق به، وأيضاً فإنه سبحانه لما خلق خلقه أطواراً وأصنافاً وسبق في حكمه وحكمته تفضيل آدم وبنيه على كثير ممن خلق تفضيلاً جعل عبوديتهم أكمل من عبودية غيرهم، وكانت العبودية أفضل أحوالهم وأعلى درجاتهم، أعني العبودية الاختيارية التي يأتون بها طوعاً واختياراً لا كرهاً واضطراراً، ولهذا أرسل الله جبريل إلى سيد هذا النوع الإنساني يخيره بين أن يكون عبداً رسولاً أو ملكاً نبياً فاختار بتوفيق ربه له أن يكون عبداً رسولاً، وذكره سبحانه باسم العبودية في أشرف مقاماته وأفضل أحواله، كمقام الدعوة والتحدي والإسراء وإنزال القرآن، (وأنه لما قام عبد الله يدعوه) (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا) (سبحان الذي أسرى بعبده) (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده) فأثنى عليه ونوّه به لعبوديته التامة له، ولهذا يقول أهل الموقف حين يطلبون الشفاعة : اذهبوا إلى محمد عبدٌ غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فلما كانت العبودية أشرف أحوال بني آدم وأحبها إلى الله، وكان لها لوازم وأسباب مشروطة لا تحصل إلا بها، كان من أعظم الحكمة أن أخرجوا إلى دار تجري عليهم فيها أحكام العبودية وأسبابها وشروطها وموجباتها، فكان إخراجهم من الجنة تكميلاً لهم وإتماماً لنعمته عليهم، مع ما في ذلك من محبوبات الرب تعالى، فإنه يحب إجابة الدعوات وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، ومغفرة الزلات وتكفير السيئات، ودفع البليات، وإعزاز من يستحق العز، وإذلال من يستحق الذل، ونصر المظلوم وجبر الكسير، ورفع بعض خلقه على بعض، وجعلهم درجات ليعرف قدر فضله وتخصيصه، فاقتضى ملكه التام وحمده الكامل أن يخرجهم إلى دار يحصل فيها محبوباته سبحانه، وإن كان لكثير منها طرق وأسباب يكرهها، فالموقوف على الشيء لا يكون بدونه، وإيجاد لوازم الحكمة من الحكمة، كما أن إيجاد لوازم العدل من العدل.
وإذا عُرف ذلك فالآلام والمشاق إما إحسان ورحمة، وإما عدل وحكمة، وإما إصلاح وتهيئة لخير يحصل بعدها، وإما لدفع ألم هو أصعب منها، وإما لتولدها عن لذات ونعم يولدها عنها أمر لازم لتلك اللذات، وإما أن تكون من لوازم العدل أو لوازم الفضل والإحسان ،فتكون من لوازم الخير التي إن عطلت ملزوماتها فات بتعطيلها خير أعظم من مفسده تلك الآلام، والشرع والقدر أعدل شاهدٍ بذلك، فكم في طلوع الشمس من ألم لمسافر وحاضر، وكم في نزول الغيث والثلوج من أذى كما سماه الله بقوله (إن كان بكم أذى من مطرٍ) وكم في هذا الحر والبرد والرياح من أذى موجب لأنواع من الآلام لصنوف الحيوانات، وأعظم لذات الدنيا لذة الأكل والشرب والنكاح واللباس والرياسة، ومعظم آلام أهل الأرض أو كلها ناشئة عنها ومتولدة منها، بل الكمالات الإنسانية لا تنال إلا بالآلام والمشاق، كالعلم والشجاعة والزهد والعفة والحلم والمروءة والصبر والإحسان، كما قيل:
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يُفقـر والإقدام قـتّـالُ
وإذا كانت الآلام أسباباً للذات أعظم منها وأدوم كان العقل يقضي باحتمالها، وكثيراً ما تكون الآلام أسباباً لصحة لولا تلك الآلام لفاتت، وهذا شأن أكبر أمراض الأبدان، فهذه الحمى فيها من المنافع للأبدان ما لا يعلمه إلا الله، وفيها من إذابة الفضلات وإنضاج المواد الفجة وإخراجها ما لا يصل إليه دواء غيرها، وكثير من الأمراض إذا عرض لصاحبها الحمى استبشر بها الطبيب، وأما انتفاع القلب والروح بالآلام والأمراض فأمر لا يحس به إلا من فيه حياة، فصحة القلوب والأرواح موقوفة على آلام الأبدان ومشاقها، وقد أحصيت فوائد الأمراض فزادت على مائة فائدة، وقد حجب الله سبحانه أعظم اللذات بأنواع المكاره وجعلها جسراً موصلاً إليها، كما حجب أعظم الآلام بالشهوات واللذات وجعلها جسراً موصلاً إليها، ولهذا قالت العقلاء قاطبة إن النعيم لا يدرك بالنعيم، وإن الراحة لا تنالُ بالراحة، وإن من آثر اللذات فاتته اللذات، فهذه الآلام والأمراض والمشاق من أعظم النعم، إذ هي أسباب النعم، وما ينال الحيوانات غير المكلفة منها فمغمور جداً بالنسبة إلى مصالحها ومنافعها، كما ينالها من حر الصيف وبرد الشتاء وحبس المطر والثلج وألم الحمل والولادة والسعي في طلب أقواتها وغير ذلك، ولكن لذاتها أضعاف أضعاف آلامها، وما ينالها من المنافع والخيرات أضعاف ما ينالها من الشرور والآلام، فسنة الله في خلقه وأمره هي التي أوجبها كمال علمه وحكمته وعزته، ولو اجتمعت عقول العقلاء كلهم على أن يقترحوا أحسن منها لعجزوا عن ذلك، وقيل لكل منهم ارجع بصر العقل فهل ترى من خلل (ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير) فتبارك الذي من كمال حكمته وقدرته أن أخرج الأضداد من أضدادها، والأشياء من خلافها، فأخرج الحي من الميت، والميت من الحي، والرطب من اليابس،واليابس من الرطب، فكذلك أنشأ اللذات من الآلام والآلام من اللذات؛ فأعظم اللذات ثمرات الآلام ونتائجها، وأعظم الآلام ثمرات اللذات ونتائجها.
وبعد فاللذة والسرور والخير والنعم والعافية والصحة والرحمة في هذه الدار المملوءة بالمحن والبلاء أكثر من أضدادها بأضعاف مضاعفة، فأين آلام الحيوان من لذته ؟ وأين سُقمه من صحته؟ وأين جوعه وعطشه من شبعه وريه ؟ وتعبه من راحته ؟ قال تعالى: (فإن مع العسر يسراً، إن مع العسر يسراً)، ولن يغلب عسرٌ يسرين، وهذا لأن الرحمة غلبت الغضب، والعفو سبق العقوبة، والنعمة تقدمت المحنة، والخير في الصفات والأفعال، والشر في المفعولات لا في الأفعال، فأوصافه كلها كمال، وأفعاله كلها خيرات، فإن ألم الحيوان لم يعدم بألمه عافيةً من ألم هو أشدُّ من ذلك الألم، أو تهيئة لقوة وصحة وكمال، أو عوضاً لا نسبة لذلك الألم إليه بوجهٍ ما، فآلام الدنيا جميعها نسبتها إلى لذات الآخرة وخيراتها أقل من نسبة ذرةٍ إلى جبال الدنيا بكثير، وكذلك لذات الدنيا جميعها بالنسبة إلى آلام الآخرة، والله سبحانه لم يخلق الآلام واللذات سُدى، ولم يقدرهما عبثاً، ومن كمال قدرته وحكمته أن جعل كل واحدةٍ منهما تثمر الأخرى، ولوازم الخلقة يستحيل ارتفاعها كما يستحيل ارتفاع الفقر والحاجة والنقص عن المخلوق، فلا يكون المخلوق إلا فقيراً محتاجاً ناقص العلم والقدرة، فلو كان الإنسان وغيره من الحيوان لا يجوع ولا يعطش ولا يتألم في عالم الكون والفساد لم يكن حيواناً، ولكانت هذه الدار دار بقاء ولذة مطلقة كاملة، والله لم يجعلها كذلك، وإنما جعلها داراً ممتزجاً ألمها بلذتها، وسرورها بأحزانها، وغمومها وصحتها بسقمها، حكمةً منه بالغة.
فإن قيل: فما الحكمة في كون الكفار أكثر المؤمنين، وأهل النار أضعاف أضعاف أهل الجنة، كما قال تعالى: (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) وقال: (وقليل من عبادي الشكور) وقال: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم) وقال: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) وبعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون وواحد إلى الجنة، وكيف نشأ هذا عن الرحمة الغالبة وعن الحكمة البالغة، وهلاّ كان الأمر بالضد من ذلك ؟ قيل: هذا السؤال من أظهر الأدلة على قول الصحابة والتابعين في هذه المسألة، وأن الأمر يعود إلى الرحمة التي وسعت كل شيء وسبقت الغضب وغلبته، وعلى هذا فاندفع السؤال بالكلية. ثم نقول: المادة الأرضية اقتضت حصول التفاوت في النوع الإنساني كما في المسند والترمذي عنه صلى الله عليه وسلم: "أن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فكان منهم الخبيث والطيب والسهل والحزن"، وغير ذلك، فاقتضت مادة النوع الإنساني تفاوتهم في أخلاقهم وإراداتهم وأعمالهم، ثم اقتضت حكمة العزيز الحكيم أن ابتلى المخلوق من هذه المادة بالشهوة والغضب والحب والبغض ولوازمها، وابتلاه بعدوه الذي لا يألوه خبالاً ولا يغفل عنه، ثم ابتلاه مع ذلك بزينة الدنيا وبالهوى الذي أمر بمخالفته. هذا على ضعفه وحاجته، وزيَّن له حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ، وأمره بترك قضاء أوطاره وشهواته في هذه الدار الحاضرة العتيدة المشاهدة إلى دار أخرى غايته إنما تحصل فيها بعد طي الدنيا والذهاب بها، وكان مقتضى الطبيعة الإنسانية أن لا يثبت على هذا الابتلاء أحد، وأن يذهب كلهم مع ميل الطبع ودواعي الغضب والشهوة فلم يحل بينهم وبين ذلك خالقهم وفاطرهم، بل أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وبين لهم مواقع رضاه وغضبه، ووعدهم على مخالفة هواهم وطبائعهم أكمل اللذات في دار النعيم، فلم تقو عقول الأكثرين على إيثار الآجل المنتظر بعد زوال الدنيا على هذا العاجل الحاضر المشاهد، وقالوا: كيف يباع نقد حاضر وهو قبض اليد بنسيئة مؤخرة وعدنا بحصولها بعد طي الدنيا وخراب العالم، ولسان حال أكثرهم يقول:
خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به
فساعد التوفيق الإلهي من علم أنه يصلح لمواقع فضله فأمده بقوة إيمان وبصيرة رأي في ضوئها حقيقة الآخرة ودوامها وما أعد الله فيها لأهل طاعته وأهل معصيته، ورأى حقيقة الدنيا وسرعة انقضائها وقلة وفائها وظلم شركائها، وأنها كما وصفها الله سبحانه لعب ولهو وزينة وتفاخر بين أهلها وتكاثر في الأموال والأولاد، وأنها كغيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً، فنشأنا في هذه الدار ونحن منها وبنوها لا نألف غيرها، وحكمت العادات وقهر سلطان الهوى، وساعده داعي النفوس وتقاضاه موجب الطباع، وغلب الحس على العقل، وكانت الدولة له، والناس على دين الملك، ولا ريب أن الذي يخرق هذه الحجب، ويقطع هذه العلائق، ويخالف العوائد، ولا يستجيب لدواعي الطبع، ويعصي سلطان الهوى لا يكون إلا الأقل، ولهذا كانت المادة النارية أقل اقتضاءً لهذا الصنف من المادة الترابية، لخفة النار وطيشها، وكثرة نقلتها وسرعة حركتها وعدم ثباتها .
فلو كان أهل الإيمان والخير هم الأكثرين الغالبين لفاتت مصلحة الجهاد وتوابعه التي هي من أجل أنواع العبودية، وفات الكمال المترتب على ذلك، فلا أحسن مما اقتضاه حكمة أحكم الحاكمين في المخلوق من هذه المواد، ثم إنه سبحانه يُخلِّصُ ما في المخلوق من تينك المادتين من الخبث والشر ويمحصه، ويستخرج طيبه إلى دار الطيبين، ويلقي خبيثه حيث تلقى الخبائث والأوساخ، وهذا غاية الحكمة كما هو الواقع في جواهر المعادن المنتفع بها من الذهب والفضة والحديد والصفر، فخلاصة هذه المواد وطيبها أقل من وسخها وخبثها، والناس زرع الأرض والخير الصافي من الزرع بعد زوانه وقصله وقصفه وتبنه أقل من بقية الأجزاء، وتلك الأجزاء كالصور له والوقاية، كالحطب والشوك للثمر، والتراب والحجارة للمعادن النفيسة.
قولهم : وأي حكمة في تسليط أعدائه على أوليائه يسومونهم سوء العذاب، فكم لله في ذلك من حكم باهرة. منها حصول محبوبه من عبودية الصبر والجهاد، وتحمل الأذى فيه والرضى عنه في السراء والضراء، والثبات على عبوديته وطاعته مع قوة المعارض وغلبته وشوكته، وتمحيص أوليائه من أحكام البشرية ودواعي الطباع ببذل نفوسهم له وأذى أعدائه لهم، وتمييز الصادق من الكاذب، ومن يريده ويعبده على جميع الحالات ممن يعبده على حرف، وليحصل له مرتبة الشهادة التي هي من أعلى المراتب، ولا شيء أبرُّ عند الحبيب من بذل محبة نفسه في مرضاته ومجاهدة عدوه، فكم لله في هذا التسليط من نعمةٍ ورحمة وحكمة، وإذا شئت أن تعلم ذلك فتأمل الآيات من أواخر آل عمران من قوله: (قد خلت من قبلكم سنن) إلى قوله: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين) إلى قوله: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب) فكان هذا التمييز من بعض حكم ذلك التسليط، ولولا ذلك التسليط لم تظهر فضيلة الصبر والعفو والحلم وكظم الغيظ، ولا حلاوة النصر والظفر والقهر، فإن الأشياء يظهر حسنها بأضدادها، ولولا ذلك التسليط لم تستوجب الأعداء المحق والإهانة والكبت، فاستخرج ذلك التسليط من القوة إلى الفعل ما عند أوليائه، فاستحقوا كرامتهم عليه، وما عند أعدائه فاستحقوا عقوبتهم عليه، فكان هذا التسليط مما أظهر حكمته وعزته ورحمته ونعمته في الفريقين، وهو العزيز الحكيم.
قولهم : وأي حكمة في تكليف الثقلين وتعريضهم بذلك للعقوبة وأنواع المشاق ؟ فاعلم أنه لولا التكليف لكان خلق الإنسان عبثاً وسدى. والله يتعالى عن ذلك، وقد نزَّه نفسه عنه كما نزه نفسه عن العيوب والنقائص. قال تعالى (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون) وقال (أيحسب الإنسان أن يترك سدى) قال الشافعي "لا يؤمر ولا يُنهى"، ومعلوم أن ترك الإنسان كالبهائم مهملاً معطلاً مضاد للحكمة، فإنه خُلق لغاية كماله، وكماله أن يكون عارفاً بربه محباً له قائماً بعبوديته، قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) وقال (ولتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً) وقال (ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم) فهذه المعرفة وهذه العبودية هما غاية الخلق والأمر، وهما أعظم كمال الإنسان، والله تعالى من عنايته به ورحمته له عرضه لهذا الكمال وهيأ له أسبابه الظاهرة والباطنة، ومكّنه منها، ومدار التكليف على الإسلام والإيمان والإحسان، وهي ترجع إلى شكر المنعم، كلها دقيقها جليلها منه ، فتُذكر آلاؤه وتُشكر فلا يكفر، ويُطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا ينسى، هذا مع تضمن التكليف اتصاف العبد بكل خُلق جميل، وإثباته بكل فعل جميل وقول سديد، واجتنابه لكل خُلق سيء وترك كل فعل قبيح وقول زور، فتكليفه متضمن لمكارم الأخلاق، ومحاسن الأفعال، وصدق القول، والتنـزه عنها، مع تعريضه بذلك التكليف للثواب الجزيل الدائم، ومجاورة ربه في دار البقاء، فأي الأمرين أليق بالحكمة، هذا أو إرساله هملاً كالخيل والبغال والحمير يأكل ويشرب وينكح كالبهائم؟ أيقتضي كماله المقدس ذلك؟ (فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم) وكيف يليق بذلك الكمال طيُّ بساط الأمر والنهي والثواب والعقاب وترك إرساله الرسل وإنزال الكتب وشرع الشرائع وتقرير الأحكام؟ وهل عرف الله من جوز عليه خلاف ذلك؟ وهل ذلك إلا من سوء الظن به؟ قال تعالى: (وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء) فحسن التكليف في العقول كحسن الإحسان والإنعام والتفضل والطول، بل هو من أبلغ الإحسان والإنعام، ولهذا سمّى سبحانه ذلك نعمة ومنة وفضلاً ورحمة، وأخبر أن الفرح به خير من الفرح بالنعم المشتركة بين الأبرار والفجار. قال تعالى (ألم ترَ إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً) فنعمة الله ها هنا نعمته بمحمد صلى الله عليه وسلم وما بعثه به من الهدى ودين الحق. وقال (لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) وقال تعالى (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) وقال (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) وقال (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ مما يجمعون) وقال (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) وقال (واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به) وقال (واعلموا أن فيكم رسول الله لو يُطيعكم في كثيرٍ من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون، فضلاً من الله ونعمة والله عليم حكيم) وقال لرسوله (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً) وهل النعمة والفضل في الحقيقة إلا ذلك وتوابعه وثمرته في القلوب والأبدان في الدنيا والآخرة؟ وهل في العقول السليمة والفطر المستقيمة أحسن من ذلك وأليق بكمال الرب وأسمائه وصفاته ؟ ) .