الحمد لله الذي أنعم على بني آدم بنعمة العقل والنظر.. وسوى نفوسهم فألهمها فجورها وتقواها فلا يعسر على عقل عاقل تمييز حجة الحق فيما يأتي من الخطاب وما يذر، ثم بعث المرسلين بحجة الحق الناصعة التي لا يتطرق إلى كل عاقل يسمعها سبيل شك ولا ارتياب فيما يعقل البشر..
وصلى الله وسلم على خاتم المرسلين، حجة الحق الظاهر على العالمين، الذي بُعث بالمحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا من كان من الهالكين.

أما بعد فإنه قد تكاثرت في ساحات المنتديات والمدونات في هذا الزمان كما لا يخفى كتابات لبعض شباب المسلمين ممن حسنت نيتهم وقلّ علمهم في باب الرد على شبهات المستشرقين والملاحدة وأعداء الدين. وفي الحقيقة فإن الناظر المحقق في تلك الردود على كثرتها وإسهابها وانتشارها في أنحاء الشبكة العنكبوتية، لا يفوته ملاحظة أن الكثرة الكاثرة منها إنما عدم أصحابها إلى النزول إلى ذات المرتبة من الأدلة التي يستعملها هؤلاء المجرمون في التشغيب على الحق وأهله، ظنا منهم بأن هذا من قبيل التنزل مع المخالف الذي هو طريقة من طرائق الجدل والمناظرة، وبأنه يفضي إلى إبطال الشبهة بما يحسم المسألة وينهي فيها الكلام! وهذا مما يؤسف له في الحقيقة، وهو من تأثر القوم بطرائق كُتاب اللاهوت الدفاعي عند النصارى، لا سيما طرائق النصارى في الرد على شبهات الملاحدة كما سيأتي التمثيل عليها. ولهذا فإنه كان ولا يزال هذا النثار الكثيف من الكتابات في ذلك الباب يأتي بثمار لا تحمد في أكثر الأحايين، من حيث إيهامه – ولو بالإيحاء المجرد - ضعاف العقل والعلم والدين بأن تلك التخرصات والتفاهات التي يثيرها هؤلاء المجرمون على الحق لها حظ من النظر، وبأنها ترقى – بالجملة - إلى منزلة (الإشكال) العلمي الحقيق بالدراسة والنظر، وإلا فلماذا سُودت فيها كل تلك الصفحات من المناقشة والجدل والمجاذبة، تخوض فيها الأقلام من كل حدب وصوب؟ وأقول إن هذا الإيحاء في مجرده إنما هو مغنم عظيم لأصحاب تلك الشبهات عند التأمل! وإلا فهل كان أحد من أهل الإلحاد – على سبيل المثال – يحلم في أي قرن من قرون هذه الأمة قبل زماننا هذا، بأن يصبح في البلاد كاتبا مفوها يقعده الناس في مقعد المناظرة والمناقشة، يرفعونه إلى منزلة المفكر الكذا والكذا، ويتكلف المسلمون عناء الرد عليه؟؟ وهل كانوا يحلمون بأن تفرد صفحات ومؤلفات كاملة للرد على هرائهم المحض وعلى جحودهم البين على نحو ما يرون في هذا الزمان؟؟ وهل كانوا يحلمون قبل هذا الزمان بأن يضطر أقوام من العلماء وطلبة العلم المسلمين – وما أدراك ما العلماء وما طلبة العلم! - إلى الانتصاب للرد على قوم يقول قائلهم: أنا سليل القردة، لم يخلقني خالق ولا أصير بعد موتي إلا عدما؟؟ كلا والله، ولكنه هو ذاك الزمان الفتان الذي أنبأ به سيد المرسلين من قبل، فاللهم سلم سلم!

فلما كان ذلك كذلك، رأيتُ ضرورة تأليف مبحث موجز في بيان أصل الخلل العقلي والنفسي الذي يحمل هؤلاء المجرمين المكابرين على رد حجة الحق من بعد ما قامت عليهم على نحو ما نرى، وعلى التمسك بملل داحضة في موازين العقل وهم يعلمون، ومن ثمّ توجيه شباب المسلمين إلى أقوم السبل وأقصرها وأقربها إلى سبل الأنبياء والمرسلين في دحض ذلك الهراء كله جملة واحدة، وفي إرجاع الأمور إلى نصابها الصحيح، لا سيما لدى المشتغلين بفلسفات العلوم المعاصرة والمهتمين بالنظر في العلوم الطبيعية منها بصفة خاصة. ولسوف يرى القارئ المسلم – بإذن الله تعالى – في أثناء تلك الرسالة أنه لم تحظ أمة من أمم البشرية بما حظيت به أمة الإسلام من أصول عقلية وعلمية تامة الإحكام، للنظر العلمي في نصوص دينها، ولسوف يرى القارئ من أي ملة كان كم هي حاجة فلاسفة العلوم في هذا الزمان – وفي كل زمان – إلى تأسيس بنيانهم على أصول الفقه عند المسلمين والانضباط بها، وأنه لو صدق نفسه وأخلص في طلب الحق لما وسعه أن يماري في شيء مما نقرره عبر تلك الورقات اليسيرات، والله الهادي إلى سواء السبيل.

فأقول ومن الله العون والتوفيق، إن العاقل من عرف مقادير الأدلة وأحسن نصب الميزان لها، فلم يقدم إلا ما حقه التقديم، ولم يؤخر إلا ما حقه التأخير، ولم يرفع ظنا فوق قطع، ولا ساوى بين مختلفين، ولا خالف بين متساويين، ولا قاس بغير علة، ولا أبطل قياسا جليا، ولا رجَّح في محل الجمع، ولا جمع في محل الترجيح، ولم يشتبه عليه دليل لا يختلف العقلاء في ضعفه فقواه، ولا دليل لا يخالف العقلاء في قوته فوهَّاه.. فإنما الحكمة وضع الشيء في موضعه عند حده ومنتهاه، والله الهادي إلى الرشاد لا رب سواه.

إن هذا القدر من التمييز بين مراتب الأدلة لا يختلف فيه العقلاء من أهل صناعات العلوم أيا ما كان موضوعها، سواء الشرعية منها والدنيوية، وهو محل إجماع لا يخرقه من أهل الأرض إلا جاهل أو غوي. فإذا ما تعرض الباحث – في أي حقل من حقول المعرفة الإنسانية - لمسألة يتنازعها من الأدلة ما يتفاوت في قوة الدلالة، فإنه يُعمل من طرائق النظر العقلي والفلسفي ما اتفق عليه أهل صناعات العلوم من تقديم القوي على الضعيف، والمجمع عليه على المختلف فيه، وضرورة العقل على ما دونها، ولا يخالف في ذلك عاقل قد عرف أصول العلوم والعقليات أو تمرس في شيء من ذلك. ولو أنك سألت عالما من أي علم من العلوم البشرية أيا كان، عن قوله في هذا الأصل الأصيل والركن الركين من أركان النظر العقلي، لما خالفك في صحته ولما ظهر لديه أي اعتراض عليه. ولكنّ العبرة بعدُ بالتطبيق والتحقيق، فما أكثر الأدعياء وما أعز البينات!

ولأن حجة الحق إذا ما ظهرت، دمغت وهدمت عروش الباطل وأهله، فقد مضت سنة الله في كونه أن كان أئمة البدعة والانحراف والزيغ في سائر أمم البشر وعبر جميع أعصار المعرفة البشرية قاطبة، يتعلقون ببعض الأدلة ويتركون بعضها، لموافقتها أهواءهم وأغراضهم، يعتقدون أولا ثم يرومون الاستدلال لما اعتقدوه! فلا يسلكون سبيل الحكماء في صنائع العلوم من جمع سائر ما يرقى للدلالة في المسألة المنظورة، للنظر في كيفية استخراج الدلالة من مجموع الأدلة على نحو ما يشهدون على أنفسهم بوجوبه في حق كل ناظر، وإنما يقتصرون على دليل ما أو على فئة من الأدلة بعينها دون غيرها، وقد عرفوا – من بعد جهل أو من بعد إصرار على اتباع الهوى – أن ما معهم من أدلة لا يكفيهم ولا يقيم لهم حجة فيما يدعون. وإنما أصروا على غمط الحق والتنكر لما عند مخالفهم من الأدلة، والعمل على توهينها والتنقص منها بلا بينة ولا برهان، لأنهم عرفوا – بل تيقنوا – أن في تلك الأدلة ما يهدم لهم دعواهم المنحرفة، ويثبت بطلان ما عقدوا لأنفسهم من معاقد الاعتقاد والدين ويذهب ما جمعوا لأنفسهم من ثناء الخلق والتصدر بين العامة والجاهلين.

وقد عرفنا من صنوف ذلك وألوانه في أهل الملل والنحل في هذه الأرض ما تطفح به كتب التاريخ وكتب العقائد والفلسفات، وقد رأينا منه في أمتنا في أهل القبلة كذلك في طوائف أهل البدع، كما جرت سنة الله في سائر الأمم، على درجات ومراتب شتى يعرفها أهل العلم والتحقيق من لحون أصحابها، يميزونها في أقوال الناس كما يميز الصائغ المحنك بخس الجواهر من نفيسها.

فمن ذلك أنك ترى سائر طوائف المبتدعة من أهل القبلة يتمسك كل فريق منهم بشطر من النصوص في باب بدعتهم ويهمل أو يتأول ما سواها على غير وجهه الصحيح، فمنهم من بلغت مخالفته وبدعته أن رد شطرا من مصادر تلقي التشريع التي لا حجة لمن ردها البتة، لأنه لا تستقيم له بدعته إلا بذلك، ولو أنهم تجردوا من هوى النفس لجمعوا سائر أدلة الباب إلى بعضها البعض ولبرأوا من تلك البدع!

ومن ذلك أنك ترى النصارى يفترقون ويختلفون فيما بينهم على ملل وطوائف شتى، يتنازعون في تفاصيل الأقنوم وحقيقته، وفي علاقة الروح القدس بالآب والابن، وفيما إذا كانت الروح قد انبثقت من الآب وحده أم من الآب والإبن جميعا، وفي طبيعة العلاقة بين اللاهوت والناسوت، وغير ذلك مما لا أثارة عليه من دليل أصلا (إلا ما اصطنعوا لأنفسهم من شبهات الأدلة الكلامية)، وهم يتغافلون في ذلك كله – عمدا لا جهلا – ما يضج به العقل السوي من فساد معنى الثالوث نفسه بالأساس!! فما الذي أعمى أبصارهم عن فساد معناه وهو أساس ملتهم، وما الذي حملهم على التعامي عن حجة البطلان العقلي الدامغة لأصول ملتهم والاشتغال بالظنيات في فروعها؟؟ إنه الهوى، لا معبود لهم بحق سواه! وإلا فهل يستقيم – بالعقل المجرد - نصب الدلالة انتصارا لأي من تلك المواقف بإزاء حقيقة الأقنوم وعلاقته بغيره من الأقانيم، والاشتغال بذلك والتنازع فيه، مع تغافل البطلان العقلي البين لمعنى الثالوث نفسه؟ كلا ولا شك، ولكنها الرسوم والتقاليد الكنسية، وحب السيادة والتسلط على الخلق بالمنصب الكهنوتي! يجب أن يكون هذا القدر من الدلالات والتأويلات المتفق عليه بين أتباع تلك النحلة هو الحق ولا حق سواه، ويجب أن يرام التفلسف بشتى ضروبه وصوره ووسائله، لإبطال كل دليل على خلاف ذلك أيا ما كان نوعه، وإن كان من قطعيات وضروريات العقول السوية، وقد ألفوا في ذلك – تماما كما صنع غيرهم - مئات المجلدات عبر القرون، يقولون على الله الكذب وهم يعلمون! أويحسبون أن الله يفلتهم؟

تراهم يختلفون في قضية سلطة الكنيسة التشريعية بين طائفة ترى أن الكنيسة تتحرك بتوجيه خفي من الروح القدس، فكل ما تشرعه من رسوم وتراتيب وشعائر وشرائع إنما هو من الرب، بما في ذلك اختيار النصوص القانونية للكتاب المقدس نفسه، الذي منه يستدل هؤلاء على أن الروح القدس هي التي تحركهم في ذلك كله (وتأمل الدور في الاستدلال)!! وفي المقابل طائفة أخرى تقول إن هذا الزعم إنما هو من تأويلات الكهنة الباطلة وأن الكتاب المقدس يخلو من تلك المناصب والرسوم الكنسية التي اخترعها هؤلاء وتوارثوها جيلا بعد جيل، وأنه بريء من وثنيات التقليد الكنسي وتقديس البشر ورفعهم إلى تلك المراتب التي يرفعونهم إليها وما إلى ذلك! فإذا ما نظرت إلى هذا النزاع لم يسعك إلا أن تتساءل، كيف غفل هؤلاء المتنازعون جميعا عن حقيقة أن ما يسمى بالكتاب المقدس – نفسه – الذي به يستدل كلا الفريقين، إنما قام بتقنين ما فيه من النصوص آباء الكنيسة القدماء بالأساس، تلك الكنيسة نفسها التي ينشق هؤلاء عنها، فإنهم هم الذين نظروا في النصوص وقالوا هذا كلام الله وهذا ليس بكلام الله، وفقا لاعتقاد كانوا قد أبرموا الاتفاق عليه مسبقا كما هو معلوم! فالشاهد أن تلك الطائفة المنشقة من المعترضين (البروتستنت) لو صدقوا في طلب الحق لشهدوا بأن كتابهم الذي بين أيديهم لا يصلح للاستدلال في تلك المسألة أصلا، لأنه من جمع وتقنين مخالفيهم، ولشهدوا – من باب الأولى، وللحجة الأظهر - ببطلان تلك الأسس الفلسفية التي تمسكوا بها في ملة النصرانية نفسها (كالتثليث والبنوة والخطيئة الأصلية والفداء وغيرها)، وبضرورة الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والدخول في دينه، ولكنها الأهواء عند أولئك كما عند هؤلاء!

إنهم يعلمون جميعا أنهم ليسوا على شيء من اليقين، ولكنهم يكابرون! كيف "تستيقن" نفس مستقيمة سوية من ملة تقوم بأكملها على الاعتقاد في أن الواحد هو عينه الثلاثة، والثلاثة (هم/هو) الواحد، وفي أن الرب نزل في رحم امرأة ثم اختار أن يصلب نفسه حتى يغفر للناس خطيئة لم يشهدوها أصلا ولا يد لهم فيها؟؟ لا يمكن أن يقوم في قلوب أتباع تلك الملة يقين ولا قريب منه أصلا! وبعيدا عن الحيل النفسية والتخريجات الشيطانية لتبرير الذات التي يلبس بها كل منهم على نفسه ليقنعها بأنه على الحق، فإن الشاهد هنا أن اليقين لا يقوم عند من يعلمون أن عقيدتهم في الخالق وفي سائر أمر الغيب تقوم على أمثال تلك المعاني الفاسدة! ونقيض اليقين هو الشك، وهو علم الإنسان بأنه لا تستقر نفسه على دليل يرضاه في هذه المسألة أو تلك، أو بعبارة أقرب، هو إدراكه لأن ما معه من الأدلة لا يرقى لتحقيق العلم (أو ما يلزم تحقيقه من الثقة فيما ذهب إليه وقال به). والعبرة في ذلك بالوقوف على ما يكفي من الأدلة لسد باب الشك وتحقيق العلم الموجب للعمل، سواء كان الموقوف عليه دليلا واحدا أو عدة أدلة، وسواء كان الدليل قطعيا أو ظنيا. والنصارى في الحقيقة – وغيرهم من أصحاب الملل الباطلة والمحرفة – منهم من هو متشكك ولكنه يتحايل على ذلك الشك في نفسه بتخريجات تأويلية وأباطيل فلسفية شتى يسعى حثيثا لرفعها في نفسه – وهما وخداعا - إلى درجة ترقى بها لدفع ما هو ظاهر له من بطلان أصول تلك الملة التي هو عليها هو وأهله وجميع من يحبهم من حوله، ومنهم من هو عليم خبير ببطلان تلك الملة ووهاء سائر تلك التأويلات والأباطيل التي يتعلق بها العوام منهم، ولكنه يكابر ويصر على ما هو عليه طمعا في المنصب والمنزلة والوجاهة الاجتماعية.

ولهذا فإنك ترى النصارى إذا ما جادلوا الملاحدة في إثبات وجود الخالق، سرعان ما ينقلب سحر حججهم عليهم، وبعدما تسمع كلاما قويا دامغا في إبطال فلسفات الإلحاد، تنتشي له نفس كل عاقل معافى من داء الجحود والإلحاد، تراهم ينتصرون لملة ظاهرة الفساد، فيظهر عليهم خصومهم حينئذ ويدحضونهم دحضا! فماذا تراهم يصنعون والحالة هذه؟ لا يجدون إلا التكثر من الأدلة الظنية حتى وإن كانت من جنس ما يتكثر منه مخالفهم ليستجمعوا لأنفسهم ما يظهر أنه حجة لهم لا على وجود الخالق – فإن وجوده قطع عقلي لا ريب فيه – وإنما على صحة ملتهم بعينها وكتابهم بعينه! ولو كان دينهم يستقيم له أساس من البرهان القطعي الدامغ لما احتاجوا إلى تلك الألاعيب أصلا! تراهم يستجمعون الأدلة الأركيولوجية – على سبيل المثال - لإثبات وقوع القصص الإنجيلية والتوراتية ويسعون في ذلك سعيا حثيثا، لعلهم تقوم بين أيديهم لكتابهم حجة يرتضونها هم أولا قبل خصومهم! أفلو كانوا يستطيعون إثبات صحة النص المنقول إليهم بطرائق الاستدلال التاريخي المستقيم، بما يدفع أي شك أو احتمال في صحته وأصالته، أفكانوا يلجئهم الحجاج إلى أمثال تلك الطرائق؟ لو كانوا حقا على قناعة بما يزعمونه من كون نصوصهم منقولة إليهم بالتواتر المتصل من زمان نبي الملة نفسه، أفكنت تراهم يضطرون إلى سلوك تلك المسالك على نحو ما يصنعون؟

إن فاقد الدليل القطعي اليقيني – فضلا عمن علم بضرورة العقل بطلان ملته - لا يملك إلا التكثر من كل ما يمكنه جمعه من قرائن أو استدلالات ظنية تعضد موقفه، مهما كان تأويله لتلك القرائن بعيدا وواهيا! ولهذا السبب ظهر عندهم من الأصل ما يسمى بفلسفة اللاهوت، للتكثر من (الأدلة) الفلسفية التي يرجو علماؤهم أن يكون فيها إسكات للعوام وإظهار لما يرجى عند اجتماع بعضه إلى بعض أن يرقى لدفع الاعتراضات العقلية الدامغة على أصول ملتهم!! وهكذا كانوا ولا يزال دأبهم في كل عصر، كلما ظهر لهم ما تظهر فيه شبهة دليل على صحة ملتهم، أفاضوا فيه واعتنوا بإظهاره أشد العناية. وقد كانوا ولا يزالون يستحلون التلاعب بتأويلات نصوصهم إلى حد نسبة جملة كبيرة منها إلى المجاز بغية تحقيق تلك الغاية! لسان حالهم يقول: إن كان الغالب في زماننا فلسفة اليونان وعبدة الأوثان، فلنثبت أن نصوصنا وأصول ملتنا على وئام معها، وإن كان الغالب غير ذلك (وهو العلم الطبيعي في هذا الزمان) فلنطبعها بذاك الطابع! المهم أن يكون لدينا في كل زمان من (الأدلة) على صحة هذه الملة ما يناسبه ويبقي المؤسسة الكنسية فيه حيث ينبغي أن تكون عند الناس!

ولهذا السبب نفسه، اجترأ ملاحدة هذا الزمان – جحودا منهم واستكبارا على قبول القطع العقلي والنقلي الجلي الذي عندنا معاشر المسلمين من بعد ما تبين لهم – على الزعم بأن أهل الدين (بهذا الإطلاق) لا يملكون إلا أدلة ظنية تتنازعها أدلة ظنية مثلها أو أقوى منها، يرتكنون عليها لإثبات صحة عقائدهم وكتبهم، والفرق في زعمهم أن ظنياتهم قد صارت اليوم تقوم عند أهل العلوم المادية على التجريب والحس، بينما ظنيات مخالفيهم من أهل الملل تقوم على الأسطورة والخرافة التي لا يثبتها التاريخ نفسه، فهي مقدمة عليها بإطلاق! ولهذا تشعب النزاع بين النصارى والملاحدة على نحو ما نراه واقعا بين من يسمون بالخلقيين من النصارى ومن يسمون بالداروينيين من الملاحدة (وسائر ملاحدة العصر من هؤلاء). فقد استدرج الملاحدة هؤلاء المساكين إلى دائرة الدلالة الإمبريقية والحسية في أصل النزاع بينهما، حتى صار معنى الخلق نفسه مجرد نظرية من نظريات الأحياء، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!! ومهما صاح الملاحدة في وجوههم بأنه لا يصح إدخال هذا المعنى في دائرة علم الأحياء – وصدقوا، ومثله ينسحب على كل ما يخوضونه هم في الانتصار لإلحادهم بأدلة العلم الطبيعي كذلك – تراهم لا يتنازلون عن ذلك المسلك. وما ذلك إلا لأنهم فاقدون كما أسلفنا لما يستندون إليه من قطعيات دامغة تثبت لهم صحة دينهم (الذي علموا بطلانه في أنفسهم)، وتقطع السبيل على المنازع الجاحد لاتخاذ بطلان الملة تكأة للوصول إلى التشكيك في وجود الخالق نفسه!! ولو أنهم وجدوا عندهم مثل ذلك الدليل القطعي، لاقتضى العقل منهم أن يحسموا به النزاع من أصله، وألا يستدرجوا إلى كل هذا التراشق بالظنيات الواهية التي خاضوا فيها مع خصومهم خوضا كبيرا!

وفي الحقيقة فقد تفطن قليل من عقلائهم من المعاصرين إلى أن ساحة النزال الحقيقية فيما بين الفريقين إنما هي في فلسفة الاستدلال العقلي نفسه وليس في دائرة الأحياء أو الجيولوجيا أو غيرها من الدوائر المعرفية الضيقة! ولكن الشأن أن هؤلاء إن اتُفق لهم أن وُفقوا في إبطال دعاوى الإلحاد بالحجج العقلية، فإنهم بطبيعة الحال لا تقوم لهم قائمة في إثبات صحة ملتهم التي يدينون بها، وعندئذ تدور الدائرة عليهم!

في مناظرة علنية أقيمت في سنة 1998 ميلادية بعنوان (ما الأدلة على/ضد وجود الله)، بين عالم اللاهوت الفلسفي النصراني الأمريكي ويليام لين كريج، وعالم الكيمياء الانكليزي الملحد بيتر أتكينز (وهي منتشرة على مواقع الفيديو على الانترنت كموقع يوتيوب وغيره)، أراد أتكينز التدليل على بطلان وجود الخالق جل وعلا، فعمد إلى الجمع بين دليلين (في زعمه أنهما كذلك)، فقال (وما بين المعقوفين من تعليقي): "لو أننا جمعنا بين حقيقة أن سبب ظهور الإيمان عند الناس (وفقا للتفسير الدارويني) هو أنهم كانوا يحتاجون وبشدة إلى الإيمان بوجود إله، وحقيقة أننا الآن نعلم (وبسبب نظرية داروين أيضا!!) أننا لا نحتاج في الحقيقة إلى الاعتقاد في وجود إله، فإن هذا سيقيم لنا حجة – نوعا ما – ضد وجود الإله!" فيجيبه كريج قائلا: "إن هذا ضرب من ضروب المغالطة الواضحة حيث تزعم أن بمحاولة تفسير كيفية ظهور الإيمان وسببه عند الناس، يمكنك إثبات بطلان الإيمان نفسه"، فيقاطعه أتكينز ويقول: "ولكن هذا ليس إلا شطرا من الحجة! لست أقول إن هذا وحده كافيا، ولا بأن حقيقة كون العلم Science (يعني العلم الطبيعي أو المادي عموما) قادرا على تفسير أي شيء وكل شيء وحدها كافية، ولكن إذا جمعنا بين المعنيين - أي حقيقة أن العلم تام القدرة (أي أنه قادر على تفسير كل شيء) وحقيقة أنني يمكنني أن أفهم لماذا يريد الناس من أمثالك (مخاطبا كريج) وباستماتة أن يتمسكوا بالإيمان بوجود الإله - فإنه تصبح لدينا حجة ظاهرة ضد وجوده!" فيجيبه كريج قائلا: "ولكن لو جمعنا دليلين باطلين إلى بعضهما البعض فإننا لا ننتهي بذلك إلى حجة مستقيمة!" وهنا يقاطعه أتكينز قائلا: "إذن فهل تنكر أن العلم يمكن أن يفسر كل شيء؟" فيجيب كريج: "نعم أنكر هذا" فيقول أتكينز: "فأي شيء هذا الذي لا يمكن للعلم أن يفسره؟" ويجيب كريج: "حسنا، بما أنك أثرت هذا الأمر فقد كان لدي عدد من الأمثلة أريد ضربها على ذلك، فإنني أعتقد أن هناك عدد كبير من الأمور التي لا يمكن إثباتها أو تفسيرها بالعلم الطبيعي ولكنها جميعها صحيحة ومقبولة عقلا، دعني أذكر منها خمسة أمور فقط، أولا: الحقائق المنطقية والرياضية لا يمكن إثباتها بالعلم الطبيعي، وإنما يقوم العلم الطبيعي عليها أصلا، ومن ثمّ فإن محاولة إثباتهما من خلال العلم الطبيعي لا تفضي إلا إلى الدور المنطقي! وثانيا: الحقائق الماورائية كحقيقة أن هناك عقولا أخرى بخلاف عقلي، أو أن العالم الخارجي حقيقي، أو أن الكون لم يظهر في الوجود قبل خمس دقائق فقط، هذه حقائق عقلية لا يمكن إثباتها بالعلم الطبيعي! وثالثا: العقائد الأخلاقية والقيمية ليست خاضعة للبحث من خلال طرائق العلم الطبيعي، فلا يمكنك أن تثبت من خلال العلم الطبيعي أن العلماء النازيين قد قاموا بشيء من أعمال الشر مقارنة بعلماء الديمقراطية الغربيين في زمانهم! ورابعا: الأحكام الجمالية لا يمكن التعامل معها من خلال أداة العلم الطبيعي، لأن الشيء الجميل والشيء الحسن لا يمكن إثبات تلك الصفة فيهما بطرائق العلم الطبيعي. وخامسا وأخيرا، وهو الأهم عندي، العلم الطبيعي نفسه، فإن العلم الطبيعي لا يمكن إثبات جدواه وتبرير وجوده من خلال العلم الطبيعي... !"

وأقول إن جواب كريج جواب جيد لذلك المكابر الجهول كما هو واضح، لا يملك له ردا، وقد أحرجه في تلك المناظرة وأسكته في غير موضع! والحقيقة أنه كان يغنيه عن ذلك كله أن يثبت للملحد وقوع الدور المنطقي في حجته الواهية تلك – فضلا عن المكابرة الواضحة لمضادة ضرورة العقل وقطعيته بمثل هذه الأوهام الداروينية – حيث يشيد حجته كلها على نظرية يفترض أنه في مقام الاستدلال العقلي لها لا بها، إذ هي تحتاج إلى دليل قطعي تام يرفعها لمنزلة مقابلة الضرورة العقلية لوجود الخالق! وعلى أي حال فقد أحسن كريج الجواب كما أسلفنا، ولكن المشكلة تأتي والتناقض يظهر عندما يقال لكريج نفسه: إن كنتَ أيها العاقل على هذا القدر من الإلمام بطرائق الاستدلال العقلي الفلسفي، والإقرار بوجوب احترام ضروريات العقل عند المحاججة الفلسفية وبطلان تقديم الظنون – فضلا عن الأوهام والخرافات - عليها، فبأي حجة من حجج العقل إذن تمسكتَ بخرافة الثالوث – على سبيل المثال – وجئت تدعونا إلى الإيمان بها على ما تضج به من الفساد والبطلان العقلي اللغوي والرياضي المحض؟؟ إن كنت تريد الحق حقا، فكيف لا تجمع – لنفسك في دينك – بين الإيمان بالضرورة العقلية لوجود الخالق (الذي تنافح عنه الآن بحجة ظاهرة لا ناقض لها)، والبطلان الضروري الظاهر لقولهم (ثلاثة) والضرورة العقلية الدامغة لتنزه هذا الخالق – سبحانه - عن الولد وعن الصلب والفداء وغيره مما تقوم عليه تلك الملة التي ارتضيتها لنفسك؟؟ كيف ارتضيت لنفسك في إيمانك الجمع بين هذه المتناقضات؟
فالحاصل أنه هو كذلك من أتباع الهوى، تماما كخصمه الملحد، وإنما انحصر الفرق بينهما في أن أحدهما أقرب إلى الحق من صاحبه، ولله في قلوب عباده شؤون!!

إن الدليل القطعي لا يُنتقض بالدلائل الظنية مهما تراكمت، ولو وقف صاحبها على رأسه وهذا مطرد في سائر صناعات العلم البشرية!
والمعنى الذي ينبغي بيانه في هذا المقام أن اليقين منازل ودرجات، فليس مقصورا حصوله في نفس الإنسان على صنف بعينه من الأدلة، فلا يقال إنه ما لم يكن الدليل قطعيا فإنه لا يحصل منه اليقين! فإن الأدلة الظنية على مراتب، وقد يوصف اجتماع جملة كبيرة من الأدلة الظنية بأنه ظن قوي إلى حد يقترب من القطع (والقطع يورث يقينا لا يتطرق إليه شيء من الارتياب، فقد يقال إن المعنى القطعي هو ما لا يتطرق إليه – عقلا – أدنى احتمال لظهور دليل ينقضه)! وفي لسان العرب: "اليَقِينُ: العِلْم وَإِزَاحَةُ الشَّكِّ وتحقيقُ الأَمر". فبمجرد المعنى اللغوي يقال إنه إذا ما انزاح الشك والارتياب من نفس الإنسان فقد تحقق لديه درجة من درجات اليقين، ولم يسعه البقاء على ما كان فيه من الارتياب أو الشك قبل حدوث العلم لديه. وفي الحقيقة فإن العلم (الموجب للعمل عند كل عاقل) قد يتحقق في بعض الأحيان بدليل واحد ظني، وإن كان ضعيفا، لغياب ما يمكن أن يبطله أو ينقضه في موازين الأدلة! فما حجة من وقف على دليل ظني لا يجد ما يبطله، إن لم يعمل بمقتضى ذلك الدليل؟؟ هذا لا حجة له! فلا يلزم أن يكون الدليل قطعيا يقينيا حتى ينبني عليه العمل.

ولا عبرة بخلاف من خالف فيما إذا كان الدليل الظني يفيد العلم أو لا يفيده، فإنه لا يرتاب العقلاء في أن الدليل الظني يفيد العلم، ما لم يوجد دليل مخالف من طبقته أو فوقها يُبطل الاستدلال به في المسألة المنظورة، أو يغير مسار الدلالة منه. فالواقف على دليل ظني يلزمه أن يعمل به وأن يقول بمدلوله وجوبا عند العقلاء. وهذا مطرد في سائر علوم البشر، الشرعي منها والدنيوي على السواء.

ولهذا نقول إن النظرية العلمية في علوم الطبيعيات تفيد العلم وتوجب العمل حتى وإن كانت أدلتها ظنية عند أدنى مراتب الظن، وفي كثير من الأحيان لا تزيد النظرية على كونها مجرد فرضية تفسيرية يضعها الباحثون لبعض الظواهر ثم يرتكنون إليها لكونها لا ينهض شيء من الأدلة بين أيديهم لإبطالها، بل أدنى من ذلك، تراهم يقبلونها ويعملون بها لكونها لا يظهر من التفسيرات والتأويلات ما يَفضُلها أو يقوم مقامها في توجيه ما اجتمع لهم من القرائن، وهذا كما لا يخفى من أدنى مراتب الاستدلال الظني إن لم يكن هو أدناها. ولذا فإن أمثال تلك النظريات إذا ما ظهر لهم ما يقوى على إبطالها تركوها وقالوا بخلافها، وإذا ما ظهر لهم ما يقويها زاد قبولهم لها، وكلما زاد ذلك، زادت قوة الدليل الظني المطلوب الوقوف عليه لنقضها. ولهذا أيضا نقول إن مرويات التاريخ تفيد العلم حتى وإن كانت ضعيفة – أي تتخلف عن شروط قبول الرواية في علم الحديث – ما لم ينهض من الدلالة ما يفيد بطلانها (كاتهام بعض المؤرخين أو كوقوع الاختلاف بينهم ورجحان القول المخالف لقرائن تقويه، وغير ذلك من مرجحات أصحاب التواريخ). فلا نشترط التواتر حتى نقبل الخبر التاريخي، ولو اشترطناه لأسقطنا من العلم بأخبار السالفين تسعة أعشار ما لدينا! كما لا نشترط الدليل الحسي القطعي حتى نقبل النظرية العلمية، ولو اشترطناه في ذلك لما تطببنا ولا تداوينا!! بل نحن نقبل الدليل الظني ونعمل بمقتضى دلالته كما هو المتبع في سائر العلوم، مع اشتراط عدم المعارض المعتبر الذي يوجب إسقاطه.

ولذلك فإننا نقول إنه كما تعتبر المشاهدة الحسية المباشرة أقوى أدلة العلم الطبيعي على الإطلاق، وهي تفيد القطع واليقين في ذلك، فكذلك يقال في الخبر المتواتر باتصال، في علوم التاريخ والأثر. فالدليل الظني من أي علم من العلوم لا يرقى لنقض الدليل القطعي في أي علم آخر. فلا يمكن قبول نظرية تفسيرية في الفيزياء – على سبيل المثال – تناقض دليلا ظنيا أقوى منها في علم التاريخ، فكيف بما هو معلوم خبره بالتواتر المستفيض؟ وكيفما كان الدليل الذي يقف عليه الإنسان في أي صنعة من صناعات العلوم فإنه مورث للعلم ما لم ينقضه ما هو أقوى منه.

ومن أمثلة تلك المغالطة، قول بعض الباحثين التاريخيين إن قصة مملكة نبي الله سليمان عليه السلام التي قامت عند منطقة البحر الميت، لا يدعمها أي دليل من الدلائل الأحفورية الأركيولوجية التي تم العثور عليها في المنطقة. بمعنى أنهم لا يرون دليلا واحدا من الأدلة الحفرية يوافق – أو يخالف - ما جاء من خبر تلك المملكة العظيمة في كتبهم. هذه الحقيقة يستعملها بعض الملاحدة للتدليل على بطلان هذه القصة رأسا، ونفي وقوعها في تاريخ المنطقة! فهل يصح منهم هذا الاستدلال؟ الجواب لا! إذ كيف يعتبر عدم العثور على الشيء المفقود دليلا على عدم وجوده أصلا؟؟ إن الخبر المنقول بشأن تلك القصة إن كان من ثقة ضابط عن ثقة ضابط، ولو كان النقل من واحد عن واحد مثله إلى نبي ثابت النبوة من الرب الشهيد جل وعلا، فإننا يلزمنا أن نصدقه، فإن العقل يلزم منه ألا يكون أحد أعلم ولا أصدق من الخالق نفسه عندما يخبرنا بأنه قد قامت في هذا المكان فيما مضى مملكة لنبي من أنبيائه وصفها كذا وكذا! ولا نقابله بقول كهذا: إننا لم نجد فيما أجريناه من أعمال الحفر والتنقيب أثرا واحدا لتلك المملكة، وإذن فأنت أيها الناقل لهذا الخبر كاذب وهذه المملكة لم توجد في التاريخ أصلا! هذا باطل، لأننا لو طردناه لقلنا لكل ناقل خبر نعرف عنه صدقه وأمانته وضبطه: إن لم توقفنا من القرائن المادية على ما يصدق كلامك فأنت عندنا كاذب! وإذن لرددنا أخبار الصادقين الثقات لشرط لا يقول به العقلاء، ولما جاز لنا أن نقبل شهادة الشهداء في المحاكم، ولانهدم شطر التاريخ والأثر والسير، ولفسدت على الإنسان حياته كلها كما لا يخفى!!

وبغض النظر عن تحقق هذا الشرط من عدمه (نقل الثقة الضابط عن مثله إلى منتهاه عن نبي ثابت النبوة من رب العالمين) في أخبار أهل الكتاب وما في كتبهم من قصص وروايات، وبغض النظر عن حقيقة عجزهم – اليوم - عن إثبات نبوة أنبيائهم أصلا، فإن ثبوت هذا الشرط في الخبر – من حيث المبدإ العقلي – يرفعه من جهة قوة الدلالة في حقيقة ذلك الأمر الماضي فوق أي جملة من القرائن التي يمكن أن تفسر على وجه دون وجه، إلا ما كان من القرائن التي تدل دلالة قطعية على استحالة وقوع الأمر على هذا النحو المروي، ولا احتمال لتفسيرها على غير ذلك، وهذا لم يقع قطّ فيما أجمع المسلمون على صحته من النصوص، ونحن نتحدى من يخالفوننا بإثبات وقوعه!

فإن قيل إن العدل الصادق قد يكذب في نقل خبر من الأخبار، قلنا هذا احتمال ضعيف للغاية، لأنه معروف بالصدق وهو الأصل المستصحب فيه. وإن قيل قد يخطئ وقد يسهو، قلنا هذا ضعيف أيضا لأنه معروف بالضبط وقوة الذاكرة! بينما في المقابل قد نرى لدى صاحبنا المخالف قرائن حفرية وأثرية فزيقية تحتمل التفسير على أكثر من وجه، والوجه الذي يراه أقواها هو ما يخالف ذلك الخبر المنقول على نحو ما ذكرنا! فكيف يرجح صاحبنا بين المتعارضين هنا (وقد بدا واضحا أنه لا إمكان للجمع بينهما)؟ هل يدفع الخبر ويقدم عليه "نظريته" في تفسير القرائن الأخرى؟ لا يصح له ذلك في أكثر الأحوال، مع أن كلا الدليلين ظني كما ذكرنا! لأن قوة احتمال صحة الخبر تفوق في العادة قوة احتمال صحة هذا التفسير الذي افترضه الناظر لمجموع تلك القرائن، وتدفعه إلى اختيار التفسير الأوفق لما جاءه من خبر الثقة الضابط. فكيف إذا كان الخبر المنقول متواترا، بمعنى أنه قد نقله إلينا الكافة عن الكافة، والكافة: جمع كبير لا يتصور أصلا أن يتواطأ على الكذب؟ فهنا نقول إن الخبر المنقول قطعي الدلالة لأن بطلانه أصبح معدودا من الممتنعات العقلية! بخلاف الخبر الظني الذي انفرد به الواحد أو الاثنان، الذي لا ينفك عن احتمال ضئيل لوقوع الوهم أو الخطأ.

وفي مثالنا سالف الذكر (قصة مملكة سليمان عليه السلام) مثلنا على تقديم خبر الواحد الثقة على التفسيرات المحتملة للقرائن الحسية، فكيف إذا كان الخبر متواترا باتصال تام إلى نبي قد دلت الدلائل القطعية على صحة نبوته، وهو ينقله عن الرب الخالق جل وعلا – كما هو حال تلك القصة عندنا في القرءان – أفيبقى لأمثال هذه الأحفوريات وما في طبقتها من القرائن، أي قيمة أو وزن عند الاستدلال أصلا؟ هذا لا يقول به إلا من كان مغموصا على قلبه في الهوى أو الجهل! فالآن إن كنا نريد أن نعرف هل وقعت تلك القصة في الحقيقة أم لم تقع، فعلينا أن نجمع سائر ما فيها من أدلة، فهل يرتفع من تلك "الأدلة الأركيولوجية" شيء فوق خبر أثبتنا له التواتر المطلق عن الرب الخالق جل وعلا؟؟ لا قيمة لشيء من ذلك في مقابلة خبر كهذا، ونحن نتحداهم أن يأتونا بقرينة حسية قطعية تبطله، ودونهم في ذلك من اليوم إلى قيام الساعة!!

إن عدم علمي بالشيء وعدم وقوفي عليه بالحس والمشاهدة لا يعني عدم وقوعه أو وجوده، ولا يجيز لي رده إن جاءني به خبر صادق! فإن قال قائل إن في بطن المحيط سمكة كبيرة طولها كذا وصفتها كذا، وكان في الخبر ما فيه من الغرابة، فإن كان هذا القائل من المصدوقين الموثوقين عندنا، فإننا يلزمنا أن نسأله من أين جئت بهذا؟ هل رأيته بنفسك أم أخبرك به غيرك؟ فإن كان قد رآه بنفسه ويقول إنني رأيته بعيني فهل نكذبه؟ نقول إن كان في دعواه ما يعارض قطعيات العقل وقطعيات الحس (ما ثبت بالمشاهدة بالطقع الذي لا يتطرق إليه الشك)، أبطلنا كلامه ونسبناه إلى الاختلاط والوهم، وإلا فمجرد غرابة الخبر لا يلزم منها بطلانه! وأما إن كان قد أخبره به غيره، فمن؟ ينبغي أن نعرف! فإن كان ممن يوثقه هو ويثق فيه فإن هذا قد يكفي في علوم التاريخ غالبا، ولكنه لا يكفينا عندما يكون ذلك الخبر المنقول من الدين، حتى نقف على عينه ونعرف من هو، فبما أن الأصل فيمن وثقه من أثق فيه أنه ثقة وإن لم أعرفه، إلا أنه قد يجهل هذا الذي أوثقه أن من نقل إليه ذلك الخبر فيه مطعن ما عند من كان أعرَف بحاله منه وأدرى به، ولهذا كان في علم الجرح والتعديل في علوم الحديث أن المثبت للجرح مقدم على النافي عادة لأن لديه زيادة علم (وهذا بطبيعة الحال ما لم تنهض أدلة أو قرائن أخرى تمنع من إعمال هذه القاعدة على هذه الحالة أو تلك). ولهذا لم يكتف أئمة الحديث في هذه الأمة بقول الراوي إنني أروي عمن أثق فيه، فإن كنت أنا ثقة عندكم فشيخي كذلك ثقة ولابد! وإنما استفاضوا في دراسة سير وتراجم الرجال، وتخصصوا في تدوين ما نقل عنهم من حال ومآل، وتفحصوا في انتقال الروايات بين الرواة وأحوال ذلك الانتقال، حتى كان الراوي يُترك حديثه لجراحات في المروءة لو أجريناها الآن على الناس لما قبلنا من أحد من الخلق خبره ولا شهادته، وكان في تحقيقهم من صنوف علل الأسانيد ما لو طبق على أي رواية مما يعظمه أهل الملل الأخرى في كتبهم لجعلها هباء منثورا!
فالشاهد أن لنقل الأخبار والمرويات عند المسلمين علم محكم متين، يشترك مع علوم التاريخ وأصول التوثيق التاريخي في قواعده العقلية العامة، ولكنه يفوقها بما اختصت به تلك الأمة من تدوين أسانيد الرجال (رواية الراوي عن الراوي وصولا إلى أصل الخبر)، ومن تمحيص في أحوال أولئك الرجال لم تر البشرية مثله! ولهذا نقول - وبكل حزم وثقة - إنه ما من نقل أو أثر يأتينا مسندا بسند صحيح إلا وهو حجة في نفسه لا يرقى لإبطالها شيء من أخبار المؤرخين أو من تأويلات ونظريات تفسيرية للقرائن الأركيولوجية أو ما في طبقتها من الأدلة! فليس كل من جاءنا ببحث (علمي) يقول لنا إنه يتعارض مع حديث من روايات السنة عندكم، رجعنا من فورنا على ذلك الحديث بالنظر في درجة ثبوته وفي كلام أئمة الحديث فيه وكذا، ونحن نرجو في هزيمة وخذلان أن يكون ضعيفا أو مختلفا في صحته حتى لا نعارض به ذلك البحث المزعوم! إنما نبدأ أولا بالنظر في المنهجية الفلسفية التي قام عليها ذلك البحث (العلمي) وننظر في قوة ومنهجية الاستدلال فيه، فما أكثر ما ينشر من أبحاث في الأوساط الأكاديمية وهو في الحقيقة لا يرقى ولا يستحق عناء النظر أصلا!

ليس البحث العلمي في مجالات العلم الطبيعي – أيا كان نوعها وموضوعها – حجة على ما سواه من صنوف الأدلة العلمية لمجرد حقيقة أنه بحث إمبريقي أو أنه مبني على حس ومشاهدة! والذاهبون إلى هذا الزعم من رؤوس الإلحاد المعاصر، هم من السذاجة والجهالة بما يغني عن تكلف الرد عليهم! فإنهم يعلمون أن البحث الإمبريقي لا يأتينا بمشاهدة حسية مباشرة للشيء المراد إثباته إلا في القليل النادر، وغالب ما يجري في معامل البحث الإمبريقي إنما يخضع لطبقات من التأويل النظري والترجيح بين النتائج والمشاهدات والتأويلات النظرية والتحليلات الإحصائية والقياسات والاستنباطات الرياضية، لا يخلو أساسها جميعا من أصول عقلية فلسفية يُرتكن إليها – لزوما – للموازنة والترجيح بغية الخروج بالنتائج والدلائل من تلك الأبحاث والتجارب المعملية. هذه الأصول العقلية نفسها كما تقضي بأن الدليل الظني يتقوى باجتماع مثله إليه من الدلائل والقرائن الظنية لدعم هذه النظرية أو تلك من نظريات التأويل الفزيقي أو البيولوجي أو الجيولوجي أو الأركيولوجي أو غيره، فإنها تشهد هي نفسها – ولا بد – بأن هذه الأدلة الظنية تتفاوت في قوة دلالتها، وأن من الدلائل الظنية ما قد يفوق في قوته تلك الدلائل مجتمعة وإن كثرت، ويرجح حملها على وجه آخر من وجوه التأويل السائغ، فحتى وإن كان ذلك التأويل الآخر أقل احتمالية في تفسير تلك القرائن المتراكمة من ظاهر التفسير الأول، إلا أنه ممكن غير ممتنع، فبالنظر إلى أن العقل المجرد يمنع تعطيل الدليل الظني الأقوى فضلا عن الدليل القطعي، لترجيح هذا التفسير الظني لتلك القرائن، فإنه يتحتم نبذ التفسير الأقوى احتمالا والمصير إلى ما دونه، بغض النظر عن الحقل العلمي أو المعرفي الذي يأتي منه ذلك الدليل، لقوة الدليل المقابل! فالمعيار في ذلك إنما هو قوة الدليل نفسه من حيث إفادته اليقين أو الظن على تفاوت درجاته ومنازله!

والمغالطة الفادحة عند الفلاسفة الماديين إنما هي تقديمهم لدلالة التجريب والمشاهدة الحسية – بهذا الإطلاق – على دلالة العقل والخبر الموثق الصحيح، ونفيهم لدلالة هذا الأخير على ما وراء المحسوسات والمشاهدات، وما ذاك إلا من اتباعهم أهواءهم كغيرهم من أهل الأهواء! وإلا فإنهم يشهدون على أنفسهم بأن كثيرا مما كان بالأمس من المغيبات هو اليوم من المحسوسات، وبأن المشاهدة الحسية لا تقوم بنفسها – أصلا - في الاستدلال العلمي في أي حقل من حقول المعرفة التجريبية والعلم الطبيعي، وإنما تُجرى عليها – ولابد – جملة من الإجراءات العقلية من قياس واستقراء وترجيح بتأويلات واستدلالات من ظن تتفاوت مراتبه بما يجعلها عرضة للنقض بما يعلوها من الأدلة المفيدة للقطع أو الظن القوي متى ظهرت تلك الأدلة! وهم يعلمون علم اليقين أن مجرد القول بتنحية طرائق الاستدلال الفلسفي عن العلم الطبيعي يعني هدمه وإبطاله من أصله! هم يعلمون تمام العلم بأن الرياضيات نفسها لا تستمد دلالتها إلا من القرار على أصول عقلية ضرورية لا تقبل النقاش والنزاع بين العقلاء، تفرعت عليها تلك الوسائل والطرائق القياسية العقلية التي نعرفها اليوم بعلم الرياضيات! ففي أي شيء يماري هؤلاء السفهاء، عندما يقول قائلهم إن العلم (ويقصد به العلم الإمبريقي الطبيعي) يبطل ما يزعمه المسلمون من خبر الغيب؟ على أي قاعدة من قواعد الاستدلال أجريت بحثك هذا يا مسكين وأين أنت من موازنات العقلاء من أصحاب أصول العلوم والفلسفات لمراتب الأدلة، وترجيهم القطع على الظن؟ وما ظنك بأتباع الأنبياء والمرسلين؟ أتحسبهم يغترون بدعواك التي تدري أنت قبل غيرك بطلانها وما يلزم منها من هدم وإتلاف لهذا العلم نفسه الذي تحسب أن فيه حجة لك فيما اتخذته لنفسك دينا؟؟

على نفس تلك الخطى الظلماء يمشي دراونة العصر ممن يؤسسون فلسفتهم الإلحادية على نظرية داروين في علم الأحياء. يقول قائلهم – في سفاهة هو يدري في دفينة نفسه قبل غيره من الخلق أنها الباطل بعينه – كيف يمكننا ترجيح نظرية الخلق على نظرية الارتقاء، وقد اجتمعت آلاف الأدلة على موافقة نظرية الارتقاء، ولم يقم دليل واحد على صحة فكرة الخلق؟؟ هذا سؤال فيه من المغالطات العقلية ما تكفي حكايته لفضحه! فإن هذا المكابر الجاحد، يدري أنه يتكلم بالباطل حين يصف الخلق بأنه نظرية!! الخلق حقيقة عقلية معدودة من ضرورات العقل التي لو فرط عاقل فيها لما ملك أن يثبت وجود نفسه أصلا! إنها حقيقة لا يطالب بالتدليل عليها إلا سفساط من سفاسطة ما بعد الحداثة، ممن بلغ بهم جهلهم الفصل بين الألفاظ ومعانيها، والتشكيك في حقيقة الواقع نفسه وهدم مفهوم الحق نفسه عند كل عاقل!! فأي قرائن هذه التي وقف عليها هؤلاء يمكن أن ترقى في قوة الاحتمال عند أي عاقل، مهما تراكمت ومهما عضد بعضها البعض، لإبطال ضرورة من ضروريات العقل المجرد بأي تأويل نظري يزعمون أن تلك القرائن المشاهدة تخدمه؟ هل يعقل أن يحاول أحد من الناس أن يجمع الأدلة والقرائن والمشاهدات التي تدل على أن وجوده هو نفسه ليس إلا وهما يتوهمه، أو على أن الواقع المشاهد المحسوس لا يمكن الوثوق به؟ هل يعقل أن يعمل أحد الباحثين على جمع القرائن للتدليل على أن الشيء الواحد يمكن أن يوجد في مكانين متباعدين في نفس الوقت (1=2)، أو على أن الكون لا حد ولا نهاية له، أو على أنه لا تعليل لتكونه بعلة أولى ينتهي عندها تسلسل العلل؟ قطعا إن شيئا من هذا لا يقبله العقل، ومع هذا، فقد ذهب إلى أمثال هذه المغالطات العقلية الواضحة أقوام وجهدوا جهدهم في إثباتها، وصاروا يحمدون ويعظمون في بلادهم على أنهم فلاسفة وعلماء مجددون!

ومن هذا الباب من أبواب المغالطة العقلية الفجة أن يقال إن نظرية داروين تفوق في قوة دلالتها (نظرية الخلق)!!
تصور الآن رجلا محققا من محققي المباحث الجنائية، يجمع القرائن الظنية في مسرح الجريمة ثم يقوم ببناء نظريته بالنظر في المشتبهين ودوافعهم وعلاقاتهم وما إلى ذلك، فيظهر له اتهام رجل بعينه، فيعيد تفسير المشاهدات التي يراها من آثار الجريمة بما يعضد نظريته تلك، ثم هو يأتيه - هذا المحقق – رجل آخر غير الذي رجح اتهامه، يشهد على نفسه بأنه هو الفاعل ويعترف بجريمته، أو يأتيه شهود عدول لا يُعرف عنهم الكذب فيشهدون على رجل آخر بأنه هو الفاعل، ومع ذلك تراه يصر هذا الباحث على إلصاق التهمة بمن بنى نظريته على نسبة التهمة إليه، ضاربا عُرض الحائط باعتراف الجاني أو بالدلائل القطعية التي اتفق العقلاء على حسم مبحث كهذا بها، فما قولك في محقق كهذا؟؟!!
إما أنه أحمق مجنون أو صاحب هوى، لديه مطمع وغاية في نفسه من اتهام أحد الرجلين دون الآخر! ليس لحالته تفسير ثالث! فإنه لا يعرض عن الحق الواضح من بعد ما تبين له بالحجة الظاهرة، إلا مجنون أو مكابر!

وفرع على ذلك، تلك المغالطة الفجة التي يلوكها الملاحدة عندما يُدخلون حدث الخلق الأول في جملة ما يوزن بميزان (الاحتمالية الإحصائية) Probability ليوازنوه بعد ذلك باحتمالية نشأة الحياة على الأرض على سلسلة من الصدف المتراكمة كما يدعون! فحتى لو سلمنا لهم على سبيل التنزل بأن حدث الخلق الأول ليس من ضروريات العقل المحضة، وقلنا كما يقولون (مكابرة منهم وجحودا) إنه مجرد ممكن من الممكنات، فإنهم يعترفون بأنه ليس حدثا من جنس ما نشهد من الحوادث في هذا الكون، أو من جنس ما يمكننا عقلا أن نشهده يوما ما، وهم يصفون نشأة الكون – في عدة سياقات علمية طبيعية كعلم الكونياتcosmology - بالحدث الفردي Singularity! فبأي عقل يضعون هذا الحدث الفردي – الخارج بحقيقته المجردة بضرورة العقل عن أي قياس - على ميزان الاحتمالية الإحصائية الذي لا يستعمل إلا في قياس فرصة تكرار نمط من أنماط الحوادث القياسية عند تكرار الظروف المشابهة التي يحتف بها وقوع ذلك الحدث في العادة؟ كيف يقال إن هذا الحدث تقدر احتمالية حدوثه بكذا وكذا؟؟ تالله إنهم قوم لا يعقلون!

والمضحك في الأمر أنهم الآن يتهمون الخلقيين – الذين استدرجوهم من قبل إلى هذا الفخ الفلسفي نفسه حتى صاروا يحاججونهم في حقيقة الخلق باستعمال نظرية الاحتمالات!! – بأنهم لا يفهمون نظرية الاحتمالات ويسيئون تطبيقها عندما ينتصرون بها للخلق!! ولذا فإنني لا أرتضي لأحد من المسلمين أن أراه يجادل ملحدا باستعمال الرياضيات والدلالات الإحصائية، ولا أن أراه يجادل لإثبات الحق الذي عنده بالحفريات والمكتشفات الجينية، فإن هذا المسلك المعيب قد استُدرج الملاحدة إليه أهلَ الكتاب من قبل، حتى صار الخلق نظرية من نظريات العلم الطبيعي يرام إثباتها بالاحتمالية الإحصائية!! إن الملاحدة وحدهم هم المستفيدون من هذا المسلك ولا شك، وكفى به نصرا لهؤلاء الجحدة المجرمين أن يظهروا أمر الخلق على أنه مسألة ظنية يليق بها أن توضع في الميزان مع نظرية داروين، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

ما أسهل إطلاق كلمة (دليل) على شيء بين يدي الواحد من هؤلاء ينتصر به لملته، فإذا ما حوقق في ذلك تبين لكل ذي عينين أنه يكابر، وأنه يدري أنه لو صح اعتبار ما يحتج به دليلا، فإنه لا قيام له بإزاء ما يقابله مما عند خصومه!

ومن أمثلة المغالطات الواضحة كذلك دعوى بعض الملاحدة والمنصرين أن هذا التشريع أو ذاك من شرائع الإسلام فيه ظلم أو فيه وحشية أو كذا أو كذا مما يصفون لعنهم الله! على أي دليل استندتم يا أعداء أنفسكم في إبطال ما جئناكم بقولنا إنه حكم ثابت النسبة إلى رجل ثابت النبوة عن خالقكم سبحانه وتعالى؟؟ تراهم يثيرون غبار الشبهات التافهة من أمثال قولهم إن الإسلام يظلم المرأة والإسلام يظلم الأرقاء ويضيع (الحريات) وحقوق الإنسان ويفعل كذا وكذا!! فعلى أي حجة من حجج العقل والعلم استند هؤلاء إذ عمدوا إلى وصف شرعة من شرائع رب العالمين بالظلم والحيف ونحوه من مستقبح الصفات؟؟ على أي دليل من الأدلة قرروا أن هذا حق من حقوق (الإنسان) وهذا ليس بحق، وأن هذا ظلم وهذا عدل؟ أأنتم أعلم أم الذي خلقكم؟ إنهم يعلمون حق العلم بأن ما جئناهم به لم نزعم أنه من تنظير نبينا وظنه في تلمس الأحكام الأخلاقية والتشريعية المثلى لأمة من أمم البشر، وإنما هو وحي منزل من السماء من خالق البشر عز وجل، فبأي عقل يجترئ هؤلاء المجرمون على الاعتراض على ما هذه صفته عندنا وقد علموا أن هذه هي حجتنا في إيجاب العمل به على الناس وتجريمهم إن اعترضوا عليه، وبأي عقل يتصورون أن ما يطلقونه من اعتراضات أخلاقية على شريعتنا بما يستندون إليه من نظريات أخلاقية وفلسفية منحرفة قد صارت لها الغلبة على مجتمعاتهم اليوم، يمكن أن يرقى شيء منه لأن يكون حجة على هذه الشريعة الربانية، أيا ما كان ذلك الشيء؟؟

إنها المغالطة نفسها التي يرتكبونها مرارا وتكرارا، ولا يتفطن لها عند الرد على شبهاتهم تلك إلا من آتاه الله الحكمة، نسأل الله أن نكون منهم! وكفى به انتصارا لهم أن يتمكنوا من استدراج المسلمين إلى محاولة إقناعهم بأن حد السرقة – مثلا – ليس من الظلم ولا الوحشية كما يزعمون، وأن تشريعات الرق ليست ظلما ولا إهدارا للحقوق وأن الحجاب والقرار في البيت ليس سجنا للمرأة عندنا، إلى آخر ما نجد إخواننا قد استدرجوا للخوض فيه معهم! نعم المرتد عندنا يقتل يا أعداء رب العالمين، ولا تأخذنا به رأفة في دين الله، وهي شريعة محكمة ثابتة بالدلائل القطعية التي لا يتطرق إلى نسبتها لوحي السماء أدنى شك، وهي حكمة رب العالمين ورحمته وهو أعلم بما يصلح عباده وما يفسدهم سبحانه، هو كذلك شئتم أم أبيتم، ولا يأبى إلا من سفه نفسه، ولا يرفع تنظيره وتصوره الفلسفي الظني إلى منزلة المفاضلة والمقارنة بالشرع المنزل من عند خالقه جل وعلا إلا جاحد أو مستكبر!! فلا نحتاج إلى الخوض في لغطهم وجدالهم في كل مرة يخرج فيها أحدهم علينا بأمثال تلك التخرصات والترهات، يعترض بها على شريعة رب العالمين!!

ومن أمثلة المغالطات الاستدلالية الواضحة لدى الملاحدة كذلك اعتراضهم على المعجزات وخوارق العادات، وقولهم إن ميلاد المسيح من أم بلا أب مستحيل في علوم الأحياء! مع أن مفهوم خرق العادة – بمعناه المجرد - لا يحيله العقل بحال من الأحوال، كما هو واضح من مجرد قولنا إنه حدث يخرق ما اعتاده الناس، لأن الناس يقينا لم يعتادوا سائر الممكنات العقلية، وإنما اعتادوا ما شهدوه منها واقعا في دائرة إدراكهم وحسب! ولكنه الكبر والغرور قاتلهما الله! والذي يبث في نفوس الملاحدة تلك الجرأة على نفي هذا الحدث الخارق ونحوه أنهم لا يرون بين أيدي النصارى من الحجة التاريخية ما يثبت وقوع ذلك الحدث بما يقوى – كدليل ظني تاريخي فضلا عن القطعي – لنقض ما دل عليه الاستقراء الناقص لأحوال ميلاد البشر من أنهم لا يولدون إلا من أم وأب معا! وليس هذا عذرا لهم ولا شك فقد قامت عليهم حجة القرءان (هم وخصومهم النصارى على السواء)، وإنما القصد أنهم بما رأوا من تهافت حجة النصارى في الدفاع عن نصوصهم وأصول ملتهم وما فيها من تناقضات، قامت قائمتهم وعلت دعوتهم بين أولئك على نحو ما نرى. فإنهم وإن كانوا لا يقدرون على إقناع عاقل سوي النفس بعدم وجود الخالق، فإنهم – على الأقل – يعتبرونه انتصارا عندما يتمكنون من إقناع النصراني ببطلان ملته وانتزاعه منها! فإذا ما خرج ذلك النصراني من نصرانيته على أثر كلام هؤلاء، رأيته يدخل في معسكرهم اتباعا للهوى، وطلبا في دخول (جنة العلم في القرن الواحد والعشرين)، تماما كما كان يتبع هواه في البقاء على النصرانية من قبل، يتقلب من هوى إلى هوى، ثم إلى الهاوية منقلبه يوم لا يجدي الندم!

وصحيح إن الاستقراء الناقص دليل معتبر من حيث الأصل، ولكنه يبقى دليلا معتبرا في بابه ما لم يقم في مقابلته ما ينقض دلالته! فمن حق قائل أن يقول إن وقوع الحدث (س) في السياق غير وارد احتماليا، أو أن احتماليته ضعيفة إلى حد يقرب من الاستحالة، بالنظر إلى أننا لم نر من قبل إلا بما يمنع وقوع (س). ولكن ما بالكم إن وقع ذلك الحدث (س) بالفعل ورآه بعض الناس؟ هل يرقى هذا الاستقراء – الذي هو ناقص في حقيقته مهما تراكمت مفرداته – لإبطال ما يراه هؤلاء بالحس والمشاهدة؟ كلا ولا شك. ما لم يكن لدينا ما يحملنا على الشك في عقل هؤلاء أو صدقهم أو ضبطهم، فلا نكذبهم فيما شهدوا بأعينهم! ولو أن رجلا صادقا أمينا ضابطا نقل إلينا خبر هؤلاء الذين رأوه، أفنرد خبره ذاك مع أننا نعلم أن ضعف الاحتمالية لا يعني الامتناع العقلي، وأن ما جاءنا به من خبر إنما هو داخل في باب الممكنات العقلية؟ هذا من المكابرة بمكان. ولذا فلما فقد النصارى الدليل التاريخي (خبر الصادق الذي يرتكن عليه في إثبات أمر خارق للعادة على هذا النحو) عجزوا عن مدافعة الملاحدة في هذا الأمر، ولم يبق لهم إلا التعلق بالإمكان العقلي المجرد. ولكن هل يغفل الملاحدة عن حال الخبر بهذه المعجزة في القرءان، وعن قوة التواتر الذي نقل به إلينا هذا الكتاب من نبي من أنبياء الله قد استفاضت الأدلة القطعية على صدق نبوته؟؟ وهل يقوم لدليل كهذا أي معارضة من مثل ما يزعمون؟؟ كلا ولا شك، وإنما هو الجحود والمكابرة المحضة! نقول لهم إن دلالة الاستقراء الناقص تورث العلم وتوجب العمل، لا خلاف في هذا، ولكن أين زعمكم بأنكم تنتظرون ظهور أول بجعة سوداء لتبطلوا مذهبكم الاستقرائي السابق بأن سائر البجع في العالم لونه أبيض؟

إنهم بذلك يخالفون أصلا من أصول العلم الطبيعي، ألا وهو مبدأ الشك Skepticism! إنهم يقولون إن ما معنا من نظريات وظنيات لا يحقق لنا الجزم والقطع، ومع هذا فإنه يلزمنا العمل به حتى يظهر لنا ما يخالفه من الأدلة والقرائن. وهذا الشك عندهم في الحقيقة ليس مفهومه بمعنى الشك المفضي إلى العجز عن الترجيح والتحقيق (الجهل)، وإنما بمعنى الاستعداد لإبطال ما هم عليه من العلم بمجرد أن يظهر ما ينقضه من الأدلة العلمية التي تعلوه في الطبقة وقوة الدلالة. وهذا مقبول منهم ما داموا يعملونه على ما يليق به من النظريات والظنيات. لكن إذا ما جاءوا به يريدون إعماله – أي مبدأ الشك هذا – على أمور هي من ضروريات العقل وقطعياته عند العقلاء، رددناه عليهم وقلنا إن القطعيات لا يتطرق إليها الشك ولا يجوز ذلك! ولو فتح الباب لذلك لضاعت أصول العلوم جميعا ولما بقي للإنسان حجة في شيء مما يُستدل به أصلا! فإن قالوا إن تمسككم بتلك القطعيات إنما هو ضرب من ضروب الإيمان، قلنا نعم هو كذلك، فكان ماذا؟ لا يضيرنا إيماننا ما دام يقوم على قطعيات لا مجال للتشكيك فيها! بل إنه وأيم الله عين المنقبة لصاحبه إذ يوطن قلبه ويعقد نفسه على قطعيات لا يتطرق إليها احتمال النقض (عقلا) ولا غنية له عن التسليم بها والعمل بمقتضاها، فهو يحسن التفريق بين ما هو قطعي يقيني وما هو ظني، يقدر الظن بقدره الصحيح، فلا يتشكك ولا يتوقف في مقام يجب فيه القطع واليقين، ولا يجزم ويصر على يقين قد ظهر له من الدليل ما يبطله، فتراه يدري كيف يقدر الخلاف بين الناس بقدره الصحيح، ويرتب العمل بما معه من معطيات العلم على أساس عقلي متين، يقيم حياته كلها على إرجاع المتشابهات إلى المحكمات، فلا تسيح نفسه في أودية الأوهام ولا تتردى في غيابات الشك والاضطراب! لقد علمنا معاشر المؤمنين أنه لا يرقى ظن محتمل مهما ظهر لصاحبه، لإبطال قطع لا يتطرق إليه احتمال! وإنما يذم المتشكك في مثل هذا، بالعقل والنقل والعرف وسائر ما تقوم عليه معارف البشر!! ويذم كذلك من الإيمان ما يكون قائما على دلالة يغلب الظن – فضلا عن أن يقطع العقل الصحيح – ببطلانها، فكيف بما قام القطع العقلي على فساده (كأصول سائر الملل المخالفة لهذه الملة الحنيفية)؟

ومع أن علماء الطبيعيات من الملاحدة يقرون بهذا المعنى إجمالا، إلا أننا نراهم يلحدون عنه عمدا وينحرفون في إعماله اتباعا للهوى، عندما يتعلق الأمر بعقيدتهم في الغيبيات وفي الخالق. فتراهم يتمارون في أمور هي من قطعيات العقل السوي، يرومون إبطالها بجمع أوهن وأضعف صنوف الظنيات إلى بعضها البعض، بدعوى أن المخالف – أي من أهل الديانات - لا يملك من مثل هذه (الأدلة) ما يرقى لنقضها! وهذا من المغالطة الواضحة! لأن طبقة الأدلة التي بها جزمنا بوجود الخالق جل وعلا، لا يرقى إليها شيء أصلا من ظنيات القوم مهما تراكمت! بل لا يرقى إليها إلا دالالة الحس المباشر (أن يطلعوا على الغيب الماضي أو الغيب الماورائي، اطلاعا مباشرا بالحس والمشاهدة ويرجعوا إلينا بدلالة حسية مباشرة تبطل قولنا بوجود الخالق)، وهذا ممتنع أصلا بضرورة العقل، ولو جاز لانهدمت سائر ضروريات العلوم ولفسد على الإنسان عقله! ولهذا نستسيغ في هذا المقام أن نقول لهم – كما يسمعون منا كثيرا - إن الداروينية هذه "ليست إلا نظرية"، على سبيل التحقير والحطّ من قوتها الاستدلالية، كما يصنع سائر المشتغلين بالرد عليهم من المسلمين وأهل الكتاب وغيرهم، مع أننا – من حيث الأصل – نقبل هذا الصنف من الأدلة الذي ينتحلونه لإثبات الداروينية، ونعمل به في بابه ما لم يظهر له معارض!

ولذا فإننا نقول إذا كان ثبوت وجود الخالق جل وعلا من ضروريات العقل المحضة، وكان ثبوت نسبة القرءان إليه تبارك وتعالى من القطعيات التي لا نكاد نحصي سبل البرهنة عليها، وكانت نبوة محمد عليه السلام ثابتة بطبقات من الأدلة جلها في منزلة القطع اليقيني، ففي أي شيء يتمارى هؤلاء المجرمون، إذا ما قلنا لهم إن نظريتكم هذه أو تلك تخالف ما هو ثابت عندنا من خبر الخلق أو من خبر الغيب السحيق؟ وكيف يتمارون في يقينية هذا الاعتقاد لدينا، ينسبوننا إلى اتباع أساطير الأولين وقد علموا أنه لا مدفع له من عقل ولا حس؟؟ إنه الهوى المحض، والمكابرة مع العلم ببطلان ما هم عليه! لا عبرة بشيء من نظرياتهم الظنية وقد تعمدوا إهمال القطعيات الجلية من أجل إثباتها! فمن جادلهم في تلك الظنيات وغفل عن حجة القطع الدامغة، فقد استُدرج إلى ما وقع في مثله النصارى من قبل، والله المستعان!

إن الظن يتفاوت في مقداره، من حيث قوة احتمال صحته عند المستدل به. فعلى سبيل المثال، يتدرج الحكم على الحديث في علوم السنة على درجات من حيث قوة الظن بسلامته من الشذوذ أو العلة، فترى الحديث الصحيح ثم الصحيح لغيره ثم الحسن ثم الحسن لغيره، وهذه كلها مراتب يحتج فيها بالحديث في العقائد وأبواب الحلال والحرام، وإن كان من أخبار الآحاد! والفرق بين أعلاها وأدناها في القوة أن الحديث الصحيح تتضاءل احتمالية وجود العلل في إسناده والعوارض الموجبة لدفعه إلى أدنى حد، بينما في الحديث الحسن تعلو تلك الاحتمالية إلى أعلى حد دون أن تصل إلى الحد الذي يترجح عنده إعلال ذلك الحديث وتركه! وفي الحديث الحسن لغيره تظهر العلة في السند ولكنها كذلك لا توجب تركه لأنه يتقوى بغيره من الأسانيد لنفس الحديث وإن كان ضعيفا في نفسه. وسواء الصحيح أو الحسن، فكلاهما حجة موجبة للعمل في بابه، ما لم يظهر في الباب من الأدلة ما يعارضه مما هو أقوى منه.

ولهذا نرى وقوع الخلاف العلمي المعتبر في سائر صناعات العلم بلا استثناء. فحقيقة أنه معتبر تعني أن أهل الصنعة (المختصين في فن من فنون العلم) يرونه خلافا مما يعذر به الواقع فيه منهم ولا يشنع عليه، لأن مداره الترجيح بين أدلة ظنية على مراتب متفاوتة تختلف أنظارهم في تقديرها وكيفية الجمع بينها، وذلك بخلاف ما لا يعتبر من الخلاف، كالشذوذ عن معاقد الإجماع المحسوم عندهم، فإن هذا الأخير لا يتوقف أهل الاختصاص – في أي فن من فنون العلم – في رفضه ولا يترددون في رده على صاحبه. وقد قيدت الإجماع هنا بقولي (المحسوم) أو المنتهي لبيان أن المراد به ما لا يقبل أهل الصنعة الخروج عليه البتة، ولا يجيزون احتمال أن يظهر في المستقبل ما يبطله، تمييزا لذلك الإجماع عن صنف آخر غير منتهي، يتفق أهل الصنعة على إمكان خرقه أو انتقاضه في المستقبل (على افتراض إمكان وقوعه ابتداء)! ومثال هذا الأخير في علوم الطبيعيات إجماعهم قبل قرن من الزمان على صحة وكفاءة التصور النيوتوني للكون، فقد انقرض ذلك الإجماع بظهور النسبية العامة وانقلب إلى الإجماع على صحة التصور النسباني للكون، وهو ما قد انخرم في زماننا هذا كما يعلمه أهل علوم الفيزياء والرياضيات. فإن أي نظرية تفسيرية أو استقرائية (من قبيل الاستقراء الناقص) مهما اتفق أهل صنعة من الصناعات على قبولها في زمان من الأزمنة فإنهم يتفقون – كذلك – على لزوم تركها إلى ما هو أفضل منها وأقوم بمجرد ظهوره عندهم.
غير أنه ليس من المعسور على المنتسبين إلى أي صنعة من صناعات العلم أن يدعوا وقوع الإجماع فيما بينهم على نظرية أو مذهب يتعصبون له ويحملهم هواهم على الدفاع عنه والانتصار له، يجعلونه في منزلة الإجماع المحسوم الذي لا يقبل النزاع. وللجواب على هؤلاء فإنه يُنظر في قضيتين:
- هل هذا الصنف من المسائل يصح الاحتجاج بالإجماع فيه على افتراض وقوعه؟ (بمعنى هل هو إجماع منتهي لا يقبل النزاع)
- وإن كان كذلك فهل قد وقع هذا الإجماع حقا؟

ولهذا نقول إنه لا حجة للدراونة في احتجاجهم بإجماع أهل علوم الأحياء على صحة نظرية داروين (مثلا) – لكلا الاعتبارين السابقين جميعا. فإنه لا يمكن أن يثبت إجماع فيها أصلا لأن سائر علماء الأحياء من المسلمين والنصارى واليهود يرفضونها إما إجمالا أو تفصيلا كما يعلم الدراونة ذلك تمام العلم، هذا من جانب، ومن جانب آخر فلأنهم كذلك يقولون إن هذا الصنف من النظريات ليس إلا أقرب التفسيرات المتاحة حاليا إلى موافقة ما تحصَّل لهم من المشاهدات، وهم يتمسكون عند المحاججة بإمكان ظهور ما يبطل ذلك التفسير – من حيث الإمكان العقلي المجرد – ويضع غيره في مكانه، ومن ثمّ فلا عبرة بعدد الموافقين لها اليوم ولا بزعمهم أنها من (الحقائق العلمية) بما يوحي بأنها من القطعيات التي لا يمكن إبطالها أصلا! هذا ولا يخفى على أهل النظر والتحقيق في أصول فلسفة الداروينية ما تقوم عليه من خُلف عقلي وتناقض فلسفي متجذر في أصولها، حيث تروم المراكبة بين مفهوم العشواء ومفهوم الآلية المنظومة المسبوكة في إطار قوانين الطبيعة، على نحو يجمع بين المتناقضين، ويهدم كلا من مفهوم العشواء ومفهوم القانون جميعا! فكيف يعقل أن يقع إجماع على مفهوم طافح بالتناقض العقلي ومصادم لضروريات العقل على هذا النحو؟ هذا ممتنع ولا شك.

لذا فلا حقيقة لدعواهم الإجماع ولا قيمة له في ميزان الحجاج العقلي حتى لو افترضنا وقوعه تواترا فيما بينهم.
والحق أن نظرية داروين سائر أدلتها من قبيل الاستقراء الناقص، ولا يمكنهم أصلا إبطالها يوما ما وإن حرصوا، لأنه لا يمكن أن يظهر من المشاهدات الحسية ما يُقطع معه ببطلانها! هل يمكننا أن نقف على حدث الخلق الأول نشهده بأعيننا كيف كان؟ لا يمكننا ذلك! وإذن فما من سبيل من سبل الاستدلال الحسي أو الإمبريقي يمكن أن يبطلها! ولما سأل أحد المدققين في فلسفة العلوم ذات يوم رأسا من رؤوس التنظير الدارويني "كيف يمكن إبطال نظرية داروين؟"، أجاب متحديا: "أخرجوا لنا أرنبا من طبقة البريكامبريان"! وهو في الحقيقة يغالط مغالطة واضحة لأن هذا الملطوب حتى لو افترضنا أن ظهر في إحدى الحفائر فإنه لا تقوم به الدلالة على إبطال النظرية، لأنهم في الحقيقة لن يعدموا له تأويلا يوافقها، وهم مضطرون إلى ذلك للحفاظ عليها (وهو المسلك العقلي المطروق في ما كانت هذه منزلته من النظريات الظنية في شتى فنون العلم)! فحينئذ سيقول قائلهم – على ذات النسق العقيم في جحد القطعيات العقلية الواضحة التي تهدم الداروينية - إن مئات الآلاف من الحفريات والمشاهدات الحسية لا يمكن إسقاط دلالتها لحفرية واحدة كهذه، وإنما ينصرف العلماء في مثل ذلك إلى تأويلها بما يوافق النظرية لا بما يهدمها! فنحن نقول إنه ما دامت النظرية لا يمكن إبطالها – عقلا – باستخدام وسائل التجريب والحس المباشر (الدلائل الإمبريقية) فهي ليست من نظريات العلم الطبيعي في الحقيقة، وإنما هي نظرية من نظريات الفلسفة الغيبية تتخفى في دثار العلوم الطبيعية!

وفي المقابل – وفي نفس الوقت ولنفس العلة – فإن ما قرره عالم الأحياء الأمريكي مايكل بيهي فيما أسماه بمبدإ التركيب غير القابل للاختزال Irreducible Complexity لا يمكن اعتباره دليلا إمبريقيا أو (علميا طبيعيا) على بطلان نظرية داروين، وإنما هو دليل عقلي فلسفي محض في الحقيقة! فخلاصة هذا المبدإ أنه يقول إن النظام البيولوجي الذي لا يعمل على نحو صحيح إلا باجتماع جملة المكونات التي يتكون منها على النحو الذي هي عليه، لا يمكن أن يكون قد ظهر إلى الوجود مفتقرا إلى شيء منها! وهذا المبدأ صحيح لا يماري فيه إلا من لا يدري يمينه من شماله، ولكنه حجة عقلية (فلسفية) محضة كما أسلفنا، وليس دليلا حسيا ولا من جنس الأدلة التجريبية! فسواء نظرية داروين في أصل الأنواع أو مبدأ بيهي هذا وغيره فيما يسمى بالتصميم الذكي، هذه كلها قضايا فلسفية محضة، وليس من الممكن إثبات أو إبطال أي منها بالحس والمشاهدة، ولا يمكن إخضاعها لمبدإ بوبر في شرطه لنظرية العلم الطبيعي. لا يمكن أن يأتي أحدهم بنظام مكون من أجزاء، لا يعمل على النحو الذي صمم لأجله إلا باجتماعها، ثم ينزع منه جزءا من تلك الأجزاء، ويظل ذلك النظام يعمل على النحو الذي صمم لأجله، فيثبت بذلك بطلان هذا المبدإ! هذه محاججة مدارها ضروريات العقل واللغة كما هو واضح، وليس الحس والمشاهدة! ونحن نقول فليكن أن هذا المبدأ ليس من العلم الطبيعي، فكان ماذا؟ هل يعني هذا بطلانه أو تخلفه عن إبطال خرافة الارتقاء الدارويني؟ كلا! وإنما العبرة بقوة الدليل لا بنوعه أو الحقل العلمي الذي يندرج تحته!

فعندما نقول لهؤلاء المجرمين الجحدة إن القرءان قد قامت له سائر الدلائل القطعية على صحة نسبته إلى خالق السماوات والأرض، ثم يأتي القائل منهم ليرمي علماء المسلمين بالسفاهة عندما يبطلون له نظرية من نظرياته لمعارضتها لما في نصوص الوحي، فإن مجرد تكلف المجادلة والمناقشة مع هؤلاء والتنزل معهم لمستوى المحاججة والمناظرة، فيه حطّ كبير من مقادير أهل العلم والحكمة وتنقص من قوة الحق الظاهر الذي يجحده هؤلاء وهم يعلمون! أي نظرية هذه التي يصفون بها حقيقة الخلق، وما شأننا نحن بقوم من جهلاء النصارى لم يجدوا من سبيل لمقاومة دعاوى الملاحدة سوى موافقتهم على استعمال أدوات العلم الطبيعي فيما لم توضع لأجل أن تستعمل فيه أصلا؟

فالحاصل أن هذه الطرائق في التقديم والتأخير وفق منازل الأدلة، من بعد النظر في آليات الجمع، لا يملك عاقل أن يبطل أصلها العقلي الذي نحن بصدده ههنا، وهي معمول بها في سائر فنون العلم البشري، ألا وهو هذه الثلاثة:
- تقديم القطع على الظن (من بعد تعذر الجمع بين الدليلين في المسألة)،
- تقديم الظن الأقوى على الأضعف،
- العمل بالظن الضعيف (بضوابط) عند عدم ما يخالفه في بابه.

وهذه العلوم في ضبط الدلالات والنظر في موازنة الأدلة العقلية والنقلية والحسية، إنما يقوم فقه المسلمين لدينهم ولخطاب ربهم عليها! وهي عندهم أضبط ركنا وأقوم جانبا من سائر نظريات فلسفة المعرفة عند من تأمل في هذا وذاك ورام المقارنة! فإنما استقى أئمة المسلمين تلك الأصول من نصوص الوحي المطهر، بالاستقراء والتجريد وتحرير القواعد العامة، لا بالتنظير العقلي المجرد المبتور عن حكمة السماء، كما هو شأن الفلاسفة في غيره من المعارف البشرية. ولهذا فما من أصل من الأصول العقلية النظرية التي يتفق عليها عقلاء صنائع العلوم البشرية بشتى مجالاتها وحقولها إلا وترى ما يوافقه في أصول النظر العقلي (أصول الفقه) عند المسلمين، وما من باطل إلا وترى عند المسلمين ما يبطله بالحجه العقلية – فضلا عن النقلية – الدامغة، ولله الحمد والمنة.

وفي الختام أقول، إن الحكمة ضالة المؤمن، أينما وجدها فهو أحق بها. ولهذا فإن علماء الطبيعيات من المسلمين الذين هم على إلمام بأصول دينهم وأصول الفقه في شريعتهم، وأصول الاستدلال والنظر العقلي في صنعة العلم الطبيعي التي يشتغلون بها، هؤلاء قد ملكوا زمام ذلك العلم الدنيوي بحقه، لأنهم يزيدون على نظرائهم من أهل الملل الأخرى بفارق الحكمة المنزلة من رب العالمين! فلا تراهم يضيعون أعمارهم وأوقاتهم في البحث في قضية محسومة مسبقا، ولا يقبلون النزاع في أمور مقطوعة بدليل لا يمكن نقضه، ولا يسمحون بتسخير البحث العلمي لغايات قد قام لديهم الدليل على أن الخالق جل شأنه يمنعها من فوق سبع سماوات! إن مجرد اجتهاد علماء الشرع في تخريج الحكم الشرعي لنظرية من النظريات أو لغاية من غايات البحث التجريبي، هو في ذاته آية من آيات علو ورقي العقل المسلم على سائر عقول التجريبيين وعلماء الطبيعيات وفلاسفتهم من أي ملة كانوا! لأنهم بصنيعهم هذا، يرجعون بالمتشابه إلى المحكم، ويزنون ظنيات العلوم على ميزان الوحي الذي قامت لديهم أصوله على أساس من يقين لا يدفعه دافع عقلي ولا يرقى لإبطاله دليل حسي في الأرض مهما عظم! لا يتغافلون حجة الحق الظاهرة ولا يضعون أدلة العلم الطبيعي في غير موضعها، ولا يطبقون مبادئه في غير ما وضعت له بالأصالة!

إنني أطمع في أن أرى ذلك اليوم – وإني لأظنه ليس ببعيد - الذي يفخر فيه العالم المسلم من علماء الطبيعيات بامتلاء كتاب علم الفيزياء أو الأحياء الذي يدرسه في جامعته بنصوص القرءان والسنة وأخبار الغيب، في محل ما يجهد الملاحدة جهدهم لبلوغ العلم به، من أمور الغيب الماضي السحيق، كما أطمع أن أراه في مواضع التوجيه الأخلاقي لمباحث ذلك العلم وغاياته كذلك. قد كانت لنا هذه الخصلة في قرون خلت، يوم كان ملوك أوروبا يبعثون أولادهم للتعلم في بلادنا، وإن لها لعودة ولو بعد حين!! فإن الحق ظاهر مهما تعامت عنه عيون الجاحدين! إن البشرية لم تر في طول تاريخها وعرضه انحطاطا كالذي رأته على أيدي ملاحدة هذا الزمان، الذين عمدوا إلى تلك العلوم فحولوها إلى أداة لإقامة بنيان ملتهم الفاسدة، حتى صارت تقام الدعاوى القضائية في المحاكم الغربية لمنع تدريس ما يسمى (بنظرية الخلق) في مناهج العلوم الطبيعية للأطفال في المدارس، ولفرض الداروينية في مكانها بدعوى أن هذا هو العلم وهذه من مسلماته، ولا حول ولا قوة إلا بالله!!

إن مشروع تطهير المعرفة البشرية من مغالطات الاستدلال ومن معاندة المكابرين والجاحدين وإعادة نصب بنيان العلوم على قواعد إبراهيم ليس بالعمل الهين، ولكني أراه قريب المنال بعون الله وتوفيقه. إنما يلزمنا – معاشر الموحدين – أن نقيم اليقين في قلوبنا أولا، فإذا ما قامت دولة الحق في قلوبنا أقامها الله بنا على العالمين..
فالله أسأل أن يهدي المسلمين إلى لزوم غراس العلم وأهله، وإلى تسليم نفوسهم من التعرض لشبهات وخرافات الجحدة والمجرمين، وأن يهدي من علم فيهم شيئا من الخير والصدق من غير المسلمين إلى قبول ما عرفوا من الحق المبين، والحمد لله رب العالمين.


كتبه أبو الفداء بن مسعود
وأتمه في العشرين من ذي الحجة، سنة 1431 من هجرة سيد المرسلين، عليه وعلى سائر النبيين صلاة الله وسلامه.