- 1-
من الملفت للانتباه أن القرآن الكريم ،عندما يقارن بكتب الأديان الأخرى كالتوراة والإنجيل نجده يختلف عليهما في الكم الكبير من الاستدلالات على إثبات وجود الله. وهي إذا درسناها بحس موضوعي سنلاحظ أنها من حيث التنويع تشتمل مختلف أنماط البراهين، الأمر الذي يجعل القرآن -في تقديري المتواضع- أثرى كتاب ديني من حيث إثارة التفكير وعرض الاستدلال على حقيقة الوجود من حيث هو مخلوق لأله خالق .
"إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون."
"أفي الله شك: فاطر السموات"(إبراهيم 10)
وغيرها كثير من الآيات .

بينما عند قراءة الإنجيل أو التوراة لن نجد فيهما سوى إشارات عابرة إلى الملحدين ،دون نقد للألحاد و لا استدلال على الإيمان.
ترى ما السبب ؟ ما سبب احتفال القرآن بالبراهين على وجود الله وغيابها في التوراة والانجيل ؟
هل السبب هو كما يقول البعض* وجود ملحدين في زمن نزول القرآن داخل الجزيرة العربية ،وغيابهم من المجتمع الذي تنزلت فيه غيره من الكتب؟
لا أعتقد أن هذا هو السبب ،فالالحاد لم يكن في الجزيرة العربية قد توسع إلى أن يصبح ظاهرة إجتماعية تستوجب اختصاصه بالآيات الدالة على وجود الله. بل السبب هو أن القرآن نزل ليخاطب الوعي الإنساني في مختلف لحظات تطوره المستقبلية ،والقرآن كان بتوكيده على نقد الإلحاد يمثل استحضارا لما سيؤول إليه الوعي البشري بفعل تطورات ثقافية ومجتمعية آلت به إلى الإيغال في الألحاد ونكران الاعتقاد.
ولذا يمكن القول إن الألحاد موقف غير متداول كما هو الحال بالنسبة للأعتقاد والإيمان. فهو موقف هامشي محدود بالقياس إلى المساحة التي شغلها الإعتقاد الديني في تاريخ الإنسان . وهذا ما جعل علماء الأنثربولوجيا يلاحظون أن التدين ظاهرة متداولة في مختلف المجتمعات .
قد يقال :
إن وجود الإعتقاد وندرة الموقف الإلحادي ليس دليلا على صواب الموقف الأول ولا على اختلال وخطأ الموقف الثاني ، فليس المعيار الصائب في قياس الأفكار هو عدد المعتقدين بها. وليس العامة من الناس هو المقياس الواجب استحضاره لمعايرة قيم المعارف والتصورات.
أجل إن هذا الإعتراض صحيح في عمومه. غير أنه في طرحه هنا يخفي مغالطة مكشوفة بقليل من التأمل والتفكير ،ذلك أن هامشية الموقف الألحادي ليست بالقياس إلى الأغلبية التي ندخل فيها العامة من الناس ،بل هو هامشي أيضا حتى بالقياس إلى أهل الأختصاص: فعندما نراجع سير العلماء والفلاسفة سنلاحظ أنهم في الغالب الأغلب مؤمنون معتقدون ،وان اختلفت صيغ الإعتقاد. لكنهم متفقون على رفض الألحاد ،بل ينظر إليه الكثير منهم بوصفه موقفا لاعقلانيا!!
ثم إن معرفة الله وإثبات وجوده كانت حاضرة بقوة في الفكر الإنساني ،فلو رجعنا إلى الفلسفة اليونانية سنلاحظ حضورا كبيرا للأعتقاد بوجود الآلهة ،بل أحيانا نجد اتجاها إلى الإعتقاد بضرورة سبب أول . ومنذ طاليس وأنكسيمندر وأنكسيمنس – أي منذ فلاسفة ملطية الذين ابتدأ بهم فجر التفكير الفلسفي الغربي – وإلى أفلوطين مرورا بأفلاطون وأرسطو ، كان الإستدلال على وجود الإله مبتغى التفكير الفلسفي .وهنا ثمة أيضا أمر ينبغي الإنتباه إليه وهو أن مسألة وجود اله أو حتى الآلهة لم تكن مثار شك ولا حتى مسار تساؤل،أي لم تكن في الثقافة اليونانية ظاهرة إلحادية تستوجب مثل هذا الإيغال في التفكير والاستدلال على الأعتقاد بوجود الأله أو الآلهة.
لذا يجب هنا أن نتساءل :
لماذا انساقت الفلسفة اليونانية إلى بحث هذا الموضوع ؟
هنا أنتقد ضمنيا من يقول: إن وجود الله فرضية غير ضرورية !
فأسأله : إذا كان الأمر كذلك ، لماذا انساق أرسطو إلى الإستدلال على وجود الإله إذن ؟
لم تكن في لحظته التاريخية ظاهرة إلحادية تستوجب مثل هذا الاستدلال. فلمذا استدل أرسطو؟بل وقعد منهجيا لأدلة الاستدلال العقدي ،مثل دليل العلية وبطلان التسلسل الشهير ؟ لماذا كان وجود الله ضرورة عند أرسطو رغم كونه مجرد محرك لا يتحرك ؟ لماذا كان هذا الوجود ضرورة رغم أن الثقافة الفلسفية اليونانية تقول بقدم الهيولى أي قدم مادة الكون ،وهي الفكرة التي اعتقد بها أرسطو وكررها في نظرية " الأشتياق" ؟
أليست فكرة قدم الهيولى كانت مدخلا ضروريا للإعتقاد بالألحاد؟

لنتأمل من جديد هذه الفكرة : إن أرسطو حتى عندما اعتقد بقدم مادة العالم (الهيولى)، فأنه كان على يقين بأن وجود الله حقيقة ضرورية لتقديم تفسير معقول للعالم .
وهنا أتساءل :
إذا كان القائل بقدم الهيولى يرى وجود الله ضرورة ،فكيف بمن يعيش في لحظتنا هذه التي أشار العلم إشارات متعددة إلى حدوث الكون ؟ وابتداء المادة والمكان والزمان؟!!!
قد يقال :إن لحظة أرسطو هي من الناحية العلمية لحظة منخفضة بالقياس إلى مستوى العلم اليوم ،لكن هذا القول هو على شهرته وتداوله بين بعض الملحدين أراه قولا ضعيفا مهزوزا ومختلا ،فلحظة العلم في زمن أرسطو إن كانت قد جعلت القول بوجود الله ضرورة ،فإن لحظة العلم في زمننا الراهن تجعل من هذا القول أكثر ضرورة من ذي قبل.
لماذا ؟
أولا: إن فلسفة أرسطو كان لها من العوامل ما يمكنها من القول بالإلحاد حيث كانت الفلسفة في زمنه تقول بقدم الهيولى. أي قدم العالم. وما أسهل نكران الإله بالقول بقدم العالم.والعلم اليوم لا يطمئن لمقولة قدم العالم بل يقول بالحدوث ،بل يعين حتى توقيتا معينا لأبتدائه (حوالي 15 مليار سنة ،بناء على نظرية الانفجار العظيم ).
ومن ثم جاز قولي السابق : إن لحظة العلم في زمننا الراهن تجعل من وجود الله أكثر ضرورة من لحظة العلم زمن أرسطو.
ثم ثانيا : إنه قال بضرروة وجود الله لما رآه من انتظام في موجودات العالم.
وهنا نقول إن كان العلم في زمن أرسطو كشف عن انتظام العالم وموجوداته ،الأمر الذي جعله يعتقد جازما بضرورة وجود الله ،فإن زمن العلم اليوم يزيد ولا ينقص من هذه الضرورة لأنه يكشف من هذا الإنتظام مقدارا أكبر بكثير مما يجعل في حكم الاستحالة أن يكون هذا الوجود مخلوقا بالصدفة. بل يجعل القول بالالحاد موقفا خرافيا غير معقول ولا مستساغ.وهذا ما جعل نيوتن يؤكد قائلا في رسالة له إلى صديقه بنتلي سنة 1692 :" إن حركات الكواكب الراهنة لا يمكن أن تكون قد انبثقت فقط من علة طبيعية أيا كانت تلك العلة ، بل إن هذه الحركات مفروضة بفعل قوة عاقلة . "وفي ذات السياق نجد في الفزياء المعاصرة أينشتين وكثير غيره من علماء الفزياء يؤكدون وجوب وجود خالق لهذا الكون.
ومن ثم جاز مرة أخرى قولي السابق : إن لحظة العلم في زمن أرسطو تجعل وجود الله ضرورة ،فإن لحظة العلم في زمننا الراهن يجعل هذا القول أكثر ضرورة.