النتائج 1 إلى 1 من 1

الموضوع: المقاصد والمناورة العلمانية

  1. افتراضي المقاصد والمناورة العلمانية

    المدخل المقاصدي والمقاربة العلمانية: نصوص الوحي*

    أحمد إدريس الطعان
    عضو الهيئة التدريسية في كلية الشريعة بجامعة دمشق
    ahmad_altan@maktoob.com



    تمهيد :
    تتناول هذه الدراسة إحدى القضايا ذات الأهمية الخاصة التي يحاول الخطاب العلماني أن يتسلل من خلالها [لخلخلة] الثوابت الإسلامية، متقنعاً بثوبٍ إسلاميٍ يمكِّنه من ذر الرماد في العيون ، إنه مبدأ المقاصد ذلك المبدأ الذي اتفق المسلمون على أنه مبدأ أساسيٌّ في فهم الشريعة واستنباط الأحكام من نصوصها ، فالشريعة بالاتفاق جاءت لتحقيق مقاصد سامية في حياة الإنسان والمجتمع والأمة ، ولكن مقاصد من ؟!
    هل هي مقاصد الله عز وجل وعلى صعيد الدارين الدنيا والآخرة ؟ أم مقاصد الإنسان الغارق في دنيويته المحضة ، ويريد تطويع كل شيء لخدمة هذه الدنيوية ؟
    وكيف نصل إلى هذه المقاصد ؟
    هل يتم ذلك عبر القراءة المتدبرة للنص والتي تريد معرفة مراد الخالق عز وجل منه ؟ أم عبر القراءة المستَلبَة للواقع والمصلحة ، والتي لا تقبل من النص أي قولٍ خلاف ذلك ، فإن أراد النص أن يُقوِّم مرادات الإنسان وأهواءَه ، ويُهذِّب واقعَه وسلوكَه فإن النص يُلوى عنقه عبر ذريعة المقاصد ، ويُحرَّف مضمونه عبر وسائل القراءة كـ الهرطقة أعني الهرمينوطيقا (1) لكي يستجيب لما تمليه عليه إرادة القارئ .
    وقد اعتمدت في هذا البحث على المصادر الأساسية والمباشرة للخطاب العلماني وحرصت على أن أترك النصوص هي التي تتكلم ، وأن يكون منهجي هو المنهج الوصفي الكشفي التركيبي الاستنتاجي حتى لا أُتهم بالتجني والتحامل .
    وها هنا ملاحظة مهمة أود أن ألفت النظر إليها لعلها تجنبني الكثير من النقد وسوء الفهم وهي أنني في هذه الدراسة لم أتعامل مع الخطاب العلماني كأشخاص وأفراد متمايزين مختلفين ، وإنما تعاملت معه كمنظومة فلسفية تنتهي إلى جذور واحدة وتستند على أسس متقاربة ، ولذلك تجنبت ذكر الأسماء غالباً في متن الدراسة ، وأحلت إليها في الهوامش ، ولذلك أيضاً كنت أنتقل من نص إلى نص دون اعتبار لقائله ما دام يتكامل مع غيره في داخل السياج الأيديولوجي العلماني .
    لقد أراد البحث إذن أن يكشف عن الوحدة المتخفية وراء التنوع والاختلاف في المنظومة العلمانية ، وأن يصل إلى الجذور الكامنة وراء الأغصان والفروع ، فالتيارات والمدارس العلمانية الليبرالية والماركسية والحداثية والعدمية على الرغم من اختلافها إلا أنها تتفق إلى حد كبير كلما حاولنا الحفر في الأعماق للوصول إلى الجذور المادية والدنيوية التي تغذيها ، ويكون الاتفاق أكثر وضوحاً حين يتعلق الأمر بالدراسات الإسلامية عموماً ، وذلك بسبب التضاد المطلق بين هدف الرسالة الإسلامية وهدف العلمانية عموماً في التعامل مع أسئلة الإنسان الكبرى وقضاياه المصيرية .
    أما ما يبدو في البحث على أنه نزعة عدوانية متشنجة تجاه الخطاب المدروس فيمكن أن يفهم على أنه صراحة شديدة لم تستطع التقنع بالدبلوماسية البحثية ، كما أنها لم توفر جهداً في عرض النصوص مهما كانت صادمة وذلك لفضح التنكر والمناورة .
    وقد جاءت هذه الدراسة في مبحثين وخاتمة :
    المبحث الأول : القضية المقاصدية كما يتداولها الخطاب العلماني .
    المبحث الثاني : مراجعة نقدية .
    الخاتمة : النتائج .

    المبحث الأول
    القضية المقاصدية كما يتداولها الخطاب العلماني العربي

    أولاً - كلمات حق يراد بها باطل:
    يتداول العلمانيون في خطابهم مفاهيم متعددة مثل : المقاصد (2) والمصالح (3) والمغزى والجوهر والروح(4) والضمير الحديث(5) والضمير الإسلامي والوجدان الحديث(6) والمنهج(7) والرحمة(8).
    وهي كلمات حق يراد بها باطل لأن بينها مفاهيم إسلامية يراد بها استئناس الضمير الإسلامي ، مثلها مثل الكلمات التبجيلية التي يتداولها العلمانيون أثناء الحديث عن القرآن الكريم تمهيداً لإقصائه عن الحياة والتشريع وذلك كقولهم :
    - "" القرآن كتاب هداية وبشرى ، يقول كل شيء ولا يقول شيئاً ""(9).
    - القرآن كتاب هداية وإقحامه في كل أمورنا الحياتية ليست من تخصصه إنه ليس كتاباً في الطب والفيزياء(10).
    - "" والخطاب القرآني خطاب تثقيفي تربوي من أوله إلى آخره ""(11).
    - "" القرآن كتاب هداية وبشرى ورحمة ، وليس كتاب قانون تعليمي ""(12).
    - "" القرآن ليس كتاب علم ، وإنما خطاب ديني روحي أخلاقي كوني ""(13).
    - "" القرآن كتاب دين وإيمان وليس كتاب تقنين وتشريع بعكس التوراة ""(14). - "" شريعـة موسى الـحق ، وعيسى الحب ، ومحمـد  هي الرحمة "" (15).
    وعلى هذا السبيل تُستخدم المقاصد والمصالح والتأويل وعلوم القرآن كما سنرى .

    ثانياً - إبراز الشاطبي وتصفية الشافعي :
    لقد أخذ الجابري على الأصوليين اهتمامهم الشديد بالمباحث اللغوية والمسائل النحوية ، واعتبرهم غفلوا عن المقاصد الشرعية ، وصنع من ذلك إشكالية جعلها محور دراسته وهي إشكالية اللفظ والمعنى(16) فقال : "" إن أول ما يلفت الانتباه في الدراسات والأبحاث البيانية سواء في اللغة أو النحو أو الفقه أو الكلام أو البلاغة أو النقد الأدبي هو ميلها العام الواضح إلى النظر إلى اللفظ والمعنى ككيانين منفصلين ، أو على الأقل كطرفين يتمتع كل منهما بنسبة واسعة من الاستقلال عن الآخر ""(17).
    وحَكَم الجابري على علم الأصول منذ الشافعي إلى الغزالي بأنه كان يطلب المعاني من الألفاظ (18) "" فجعلوا من الاجتهاد اجتهاداً في اللغة التي نزل بها القرآن ، فكانت النتيجة أن شغلتهم المسائل اللغوية عن المقاصد الشرعية ، فعمقوا في العقل البياني وفي النظام المعرفي الذي يؤسسه خاصيتين لازمتاه منذ البداية : الأولى هي الانطلاق من الألفاظ إلى المعاني ، ومن هنا أهمية اللفظ ووزنه في التفكير البياني ، والثانية هي الاهتمام بالجزئيات على حساب الكليات - الاهتمام باللفظ وأصنافه الخ - على حساب مقاصد الشريعة ""(19)، وهو ما سبب مشاكل من التأويلات المتعارضة والمتناقضة التي وظفت حسب المذاهب المختلفة(20).
    والبديل لديه هو مقاصد الشريعة كما مهد لها ابن حزم ثم ابن رشد ثم ابن خلدون(21) ثم الشاطبي الذي دشن نقلة إبيستمولوجية " معرفية " في علم المقاصد(22).
    وهـكذا حظي الشاطبي بكثير من الإطـراء والثناء على حساب الشافعي وغيره من الأصوليين(23)، واعتُبر مؤسس علم المقاصد وقواعده الكلية(24)، واعتبرت نظريته في المقاصد "" جديدة كل الجدة ""(25)، وقيل بأن الجديد فيها أنها تجعل المقاصد حاكمة على الوسائل(26)، وأن العبرة – على ذلك - ليست بخصوص السبب ولا بعموم اللفظ وإنما بالمقاصد(27)، بل وصل الأمر إلى حد القول بان مقاصد الشريعة الشاطبية تقدم المصلحة على النص(28).
    كانت هذه الإشادة بالشاطبي تتوازى مع نقدٍ شديد للإمام الشافعي الذي وُصِم بأنه مكرس "" الإيديولوجية العربية "" !(29) "" إن الشافعي وهو يؤسس عروبة الكتاب ... كان يفعل ذلك من منظور أيديولوجي ضمني في سياق الصراع الشعوبي الفكري والثقافي ... لقد انحاز إلى العروبة فقط بل إلى القرشية تحديداً ""(30).
    ولأن الشافعي رفض الاستحسان اعتُبر بأنه كان يناضل "" للقضاء على التعددية الفكرية والفقهية وهو نضال لا يخلو من مغزى اجتماعي فكري سياسي واضح ""(31)، و""استطاع الشافعي عن طريق هذا الأسلوب البسيط في تركيب الحقائق أن يُعمم الصيغ والقوالب التيولوجية الشعبوية العنيدة والرازحة ويجعلها فاعلة ومؤثرة حتى يومنا هذا ""(32)، وهو الذي ابتدأ في احتكار الوظيفة القانونية والتشريعية ومن بعده أجيال العلماء التقليديين(33)، وأصّل بذلك لهيمنة الدين والعقيدة على كل مجالات الحياة(34)، لأنه بمنهجه الأصولي كان محكوماً بهاجس "" توسيع مجال النصوص لتضييق مجال الاجتهاد العقلي""(35) ، وهو ما أدى إلى "" إغلاق باب العقل والرأي والاجتهاد بذرائع شرعية ومقولات إسلامية ، وبهذا يكون العقل الإسلامي فيما يتعلق بالفقه والتشريع قد ضُرب تماماً ، وأُغلق بصورة شبه نهائية ، فشروط الشافعي أغلقت باب الاجتهاد فعلياً منذ عهده ""(36)، وليست رسالته إلا "" الحيلـة الكبـرى التي أتـاحت شيـوع ذلك الوهـم الكبـير بأن الشـريعـة ذات أصل إلهي ""(37) " فكان منظّر المنهجية التقليدية بقوله : "" جهة العلم الخبر ""(38). وكان يستخدم طريقة ملتوية في فهم الآية  وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ  (39) (40).
    ذلك "" من تسميه التقاليد إماماً مجتهداً ""!!(41) كان هو"" المشرع الأكبر للعقل العربي "" (42)، لأنه جعل "" النص هو السلطة المرجعية الأساسية للعقل العربي وفاعلياته، وواضح أن عقلاً في مثل هذه الحالة لا يمكن أن ينتج إلا من خلال إنتاج آخر ""(43).
    ولذلك فمن غير المقبول اليوم أن نتمسك بمنهج الشافعي الأصولي، إذ فهم الكتاب والسنة على نحو فهم الشافعي وتأويله لا يؤديان إلا إلى مأزق منهجي لا عهد للأسلاف به(44).
    هذه بعض النماذج لمـوقف الخطاب العلماني من الإمام الشافعي وهناك نماذج أخرى(45).

    ثالثاً - الطوفي ومصلحته :
    كما أبرز العلمانيون الشاطبي ومقاصده إبرازاً فكرانياً كذلك يبرز الطوفي ومصلحته ويتم التأكيد على أن الطوفي من القائلين بتقديم المصلحة على النص في حال تعارضهما(46)، وأنه يتصور إمكانية التعارض بين النص والمصلحة فيقترح التوفيق بينهما ولكن "" على وجه لا يخل بالمصلحة ولا يفضي إلى التلاعب بالأدلة أو بعضها ""(47)، كما يرى تقديم المصلحة المقطوعة على النص القطعي إن تعذر ذلك التوفيق(48)؛ لأنه يعتبر المصلحة أصلاً مستقراً يحكم على الأصول الأخرى برمتها بما فيها الكتاب والسنة(49)، وإن كان يفرق بين جانبين فيرى التعويل على النصوص والإجماع في العبادات والمقدرات، وعلى اعتبار المصالـح في المعاملات وباقي الأحكام(50).
    وخلاصة رأي الطوفي - كما يرى الخطاب العلماني - أنه يقول بنسخ النصوص وتخصيصها بالمصلحة ، لأنه يعتبر المصلحة أقوى وأخص أدلة الشرع(51) يقول الطوفي : "" قد قررنا أن المصلحة من أدلة الشرع ، وهي أقواها وأخصها فلنقدمها في تحصيل المصالح ""(52) ويُعتبر كلام الطوفي هذا فتحاً عقلياً عظيماً(53)، لأن المصلحة أساس التشريع(54) والنص تابع لها لأن النص ثابت والمصلحة متغيرة(55). ""وهذا هو عين الصواب وأقرب الكلام من حقيقة الأحكام القرآنية ومن روح الإسلام""(56).

    رابعاً – توظيف المنهج كبديل للفهم السلفي للقرآن :
    بدلاً من مفهوم المقاصد والمصالح تُطرح قضية المنهج وهي الرؤية التي صاغها أبو القاسم حاج حمد وتتمثل بولادة جديدة للإنسان العربي ""وليست عودة إلى عنعنات ابن كثير وإلى ما ثبت وما لم يثبت من أحاديث الرسول ""(57) الكريم عليه الصلاة والسلام . إذ "" العالمية الثانية والجديدة ليست تجديداً للأولى بأي حال من الأحوال ، وإنما هي تاريخ حضاري جديد متواصل ، والعالمية في نشوئها وتكوينها تستمد من القرآن ولأول مرة منهجه الكلي بكافة الشمولية والاتساع كما يستطيعها الإنسان ""(58).
    وهي - أي العالمية الثانية - لا ترث عن العالمية الإسلامية الأولى مفهومها السلفي والتطبيقي للقرآن، ولا ترث عنها مفهومها التأويلي بل تستعيض عن السلفية التطبيقية والتأويلية الباطنية بمفهوم منهجي جديد للقرآن في وحدته العضوية ودلالاته الكونية ، وهذه الاستعاضة تأتي من قبيل التجاوز التاريخي للمرحلة البدوية العربية المتخلفة(59).
    ومن هنا فإن "" التبصر بالمنهج القرآني الكلي يدفع بنا عميقاً إلى المكنونات ، ويكشف لنا عن أن الكيفية التي فُهم بها القرآن في مرحلة تاريخية معينة لا تعني أن الفهم كان خاطئاً بالقياس إلى تلك المرحلة ، فذلك حظهم من القرآن ضمن خصائص واقعهم وأبعاده التاريخية ، ولكن الخطأ في تطبيق مفهومية التجربة السلفية على خصائص واقع مغاير بأبعاد تاريخية مغايرة. وتحسباً لهذه المتغيرات التاريخية في الواقع، مع بقاء القرآن كما هو مستمراً وخالداً، فقد جعل الله عز وجل المنهـج مـرادفاً للقدوة النبوية، وجعل النفاذ إلى المكنون بالمنهج هو البديـل عن الفهم السلفي للقرآن ""(60).
    "" فهي ليست رسالة ثانية(61) كما ادعى بعضهم ، وإنما عالمية ثانية تأخذ محتواها الجديد لا من تطبيقات سلفية ومفهوم سلفي ، ولكن من تجريد منهجي قرآني يهيمن على معاني التطبيق في المرحلة السابقة ""(62). لأن هذا التجريد المنهجي يعلو على كل الخصائص المحلية ، والتجربة النبوية تأتي في إطار المراعاة الكاملة لخصائص المرحلة الموضوعية تاريخياً واجتماعياً وفكرياً، لأنه ما من مرحلة تستطيع أن تحتوي تطبيقياً وبالوعي الكامل المنهج الإلهي، فإن المنهج يرقى على النبوة لأن القرآن محتوى هذا المنهج(63).

    ولكن ما هو هذا المنهج ؟
    إنه بنظر حاج حمد "" الناظم المقنن لإنتاج الأفكار ذات النسق الواحد "" أو "" خروج العقل من حالة التوليد الذاتي للمفاهيم إلى اكتشاف النسق المرجعي ""(64). هذا هو المنهج الحاج حمدي بشكل عام أما المنهج القرآني الحاج حمدي فهو تركيبة تتكون من "" المعنى القرآني + المنهج + الخصائص العالمية ""(65).
    ومن هنا نتبين – بنظر الخطاب العلماني (**) - نسبية التشريع المنزل تبعاً للحالات التاريخية والأوضاع الاجتماعية المختلفة ، فعقوبات مثل القطع والرجم كانت سارية المفعول في ذلك العصر التاريخي بسبب ملاءمتها للأحوال الاجتماعية آنذاك(66)، حيث المجتمعات بدوية بدائية متنقلة فلا توجد سجون ولا جدران وإنما خيام ، فكيف يسجن السارق ؟ وكيف تحفظ الأموال؟ لا بد من عقوبة تميز السارق وتجعل الناس يحذرون منه أما اليوم فقد تغير الحال(67).
    وما دام القرآن يوضح لنا نسبية التشريع في علاقته مع بيئته التاريخية الحاملة له بقوله : ""  لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا(68) فإن الثابت إذن هو مبدأ العقوبة أو الجزاء ، أما الأشكال التطبيقية لهذا المبدأ فموكولة إلى كل عصر حسب أوضاعه وأعرافه وقيمه ، وبذلك تظل التشريعات تفاصيل تطبيقية مشدودة إلى كلية المنهج(69). وبهذا يستوعب القرآن متغيرات العصور ، ويبقى كما أراد الله صالحاً لكل زمان ومكان(70).
    هذا المنهج الحاج حمدي يختلف مع منهج العشماوي في الوسائل والمقدمات ولكنهما يؤولان إلى نفس المآل إذ "" الإسلام يُعنى بالإنسان ولا يهتم بالنظم والنظريات ""(71) "" وإن ما تفردت به الشريعة حقيقة ليس الأحكام التي نصت عليها ، ولا القواعد التي استخلصت من هذه الأحكام ، وإنما المنهج الحركي القادر على التجديد الدائم والملاءمة المستمرة ""(72). وإن الذي أفسد المسلمين هو استبدالهم للقواعد والنصوص والأحكام بالمنهج والروح ، فتركوا الأصل واستبدلوه بالفرع(73).
    والمنهج هو الشريعة ، والشريعة هي المنهج ، لأن معنى الشريعة في القرآن هو المنهج والمدخل والسبيل ، وليست الشريعة القواعد والأحكام التفصيلية(74)، ذلك لأن (75) المنهج قادر على الحركة الدائمة مع الواقع أما الأحكام التفصيلية فهي نسبية مرتبطة بظروفها(75)، ولذلك يخطئ الكثيرون عندما يظنون أن تطبيق الشريعة يعني تطبيق أحكامها وتفاصيلها ، والحق أنه تطبيق روحها(76)، وروحها هو المنهج الذي يتقدم باستمرار(77)، أما تفاصيل المعاملات وغيرها فليست هي الشريعة ، وإنما هي أحكام الشريعة(78).
    إن تطبيق الشريعة يعني إعمال الرحمة في كل شيء(79) لأن القرآن يقوم على منهج الرحمة أو التجديد والمعاصرة(80)، ومن هنا ما دامت الرحمة هي المنهج ، والمنهج هو الرحمة، فـإن القانون المصري بكـل فروعه المدنية والتجارية الآن موافـق لشريعـة الإيمان وروح القرآن(81). ونظام الربا في الإسلام يؤكد ذلك فقد تغير الحال ولم يعد الأمر كما كان استغلالاً لحاجة المدين يؤدي إلى إعساره وإفلاسه(82)، ولم يعد ثمة نظام للربا وإنما نظام لحساب الفوائد على الديون في مجتمع يقوم فيه المشرع بدور الرقابة على المعاملات ، ويحدد الفائدة بحيث لا تغني الدائن ولا تستغل المدين(83).
    ونظام الحدود في الإسلام يؤكد ذلك أيضاً فالشروط التي وضعها الفقهاء لإدانة السارق أو الزاني وإقامة الحد عليه يصعب أن تتحقق(84)، كما أن تطبيق حد الرجم يبدو أنه من خصوصيات الرسول الله  (85)، وأيضاً فإن هذه العقوبات لا تتفق مع روح الإسلام وأحكامه ، لأنها تقرنه بالعنف والتشدد والقسوة أمام الرأي العام العالمي(86)، ولذلك فتطبيق هذه العقوبات باسم القرآن خيانة له(87)، وأقوم الطرق أن نبحث عن الجوهر(88)، إذ لا يجب التمسك بحرفية النصوص وإنما بروحها ومغزاها ومقاصدها ، وهو ما يكفل لنا الحفاظ على مصداقية الإسلام(89) وصلاحه لكل زمان ومكان ، ووفائه لمقتضيات الضمير الحديث(90)، والوجدان الحديث(91)، دون خوف من معارضة المسلمات بدعوى أنها من المعلوم من الدين بالضرورة ، ما دام الوفاء لجوهر الرسالة المحمدية قائماً(92)، وما دام "" التشبع بروح الإسلام "" حاصلاً(93).

    خامساً- توظيف أفعال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : في مثل السياق الذي تحدثنا فيه " المقاصد – المصلحة – المنهج " يوظف العلمانيون اجتهادات سيدنا عمر رضي الله عنه للقول بأن المقاصد أو المصالح هي الحاكمة على النص القرآني ، وأن النص يدور معها وجوداً وعدماً ، أو يُوقف أو يُعطّل إذا حصل تعارض بينهما ، وأن الاجتهادات الجريئة التي صدرت من عمر في القضايا المستجدة أبلغ دليل على ذلك ، مثل إيقافه لحد السرقة عام الرمادة ، وإيقافه لسهم المؤلفة قلوبهم ، وإمضائه الطلاق الثلاث في مجلس واحد ثلاثاً . ونشير هنا إلى بعض ما يقوله الخطاب العلماني في ذلك :
    - لقد فعل عمر ذلك عملاً بنور العقل المنهجي(94).
    - عمر ألغى بعض الفرائض ، وأوقف بعض الأحكام(95).
    - ألغى عمر حصة المؤلفة قلوبهم اتباعاً لمقاصد الشرع(96).
    - عمر أوقف العمل بنصوص ثابتة(97).
    - يمكن للاجتهاد المطلق أن يخصص العام ، ويقيد مطلقه ، وأن يوقف العمل بنصوص ثابتة ، وقد فعل عمر ذلك(98).
    - لقد أبطل عمر القطع عام المجاعة ، وقطع سهم المؤلفة قلوبهم ، وأبطل قول المؤذن الصلاة خير من النوم(99).
    - ألغى عمر حد السرقة ، وسهم المؤلفة قلوبهم(100).
    - حَكَم عمر بما لا يطابق النص القرآني(101).
    - أصبح عمر أكثر مرونة في التعامل مع النصوص(102).
    - لقد أوقف عمر بن الخطاب حد السرقة ، وسهم المؤلفة قلوبهم(103).
    - وعمر لم ينصع للآيات في سهم المؤلفة قلوبهم ، وحد السرقة(104).
    - عمر أبطل مفعول آيتين من القرآن ، وهو موقف مستنير(105).
    - خرج عمر إلى المسلمين بتأويل في قضية الزواج بالكتابيات وأحله محل التشريع(106).
    - لقد غير عمر شرائع ثابتة في القرآن والسنة مثل حد الخمر وحد السرقة وسهم المؤلفة قلوبهم(107).
    - - الخطاب الديني يتجاهل مقاصد الشريعة كما جاءت في أفعال عمر بن الخطاب عندما ألغى حد السرقة وسهم المؤلفة قلوبهم وهي ثابتة بالنص(108).

    - أوقف عمر حد السرقة عام المجاعة ، وسهم المؤلفة قلوبهم مع أن النصوص ثابتة لم تنسخ(109).

    المبحث الثاني
    مراجعة ونقد
    التعميم ، التلفيق ، المغالطة ، المجازفة والارتجال(110) ممارسات تغلب على الخطاب العلماني ، ولا يكف عن تعاطيها في أكثر الأحوال ، والمفاهيم التي نحن بصددها من أبرز الأمثلة على ذلك .

    أولاً - المقاصد :

    1 – الشاطبي والأصوليون قبله :
    هل كان الشاطبي مُبدعاً في قضية المقاصد ؟ وهل كان متفرداً في ذلك ؟
    إن قول الجابري بأن ما جاء به الشاطبي كان جديداً كل الجدة – كما سبق ورأينا – نوع من المجازفة والارتجال ، لأن الشاطبي –لاشك – كان له إضافات مهمة في علم المقاصد ولكنه كان يبني على أسس وقواعد أسّسها وقعّدها السلف والأصوليون والعلماء قبله ، وهو ما يعتز به الشاطبي نفسه لأن هذا يعني بنظره أنه متبع وليس مبتدعاً ، ولذلك فإنه يرى أن ما جاء به "" أمر قررته الآيات والأخبار ، وشد معاقله السلف الأخيار ، ورسم معالمه العلماء الأحبار، وشيّد أركانه أنظار النظار ""(111).
    ويأتي في طليعة هؤلاء أصحاب رسول الله  "" الذين عرفوا مقاصد الشريعة فحصلوها وأسسوا قواعدها وأصَّلُوها ""(112)، ثم الأصوليون كالجويني والغزالي اللذَين قسما المصالح إلى خمس ضرورية : الدين ، والنفس ، والعقل ، والنسل ، والمال(113). ويبدو الغزالي من أكثر الأصوليين الذين يذكرهم الشاطبي في كتابه الموافقات(114)، فقد ذكره أكثر من أربعين مرة في أغلبها موافقاً ومؤيداً ومستدلاً بآرائه ، ومحيلاً إلى كتبه(115). كما استفاد كثيراً من الرازي والعز بن عبد السلام والقرافي(116).
    ولا بد أيضاً من الإشارة هنا إلى أن علم مقاصد الشريعة كان مستعملاً قبل الشاطبي بحقب طويلة(117) لفظاً ومضموناً عند الحكيم الترمذي " أبو عبد الله محمد بن علي ، " والماتريدي ت : 333 هـ وأبو بكر القفال الشاشي " القفال الكبير " ت : 365 هـ وأبو بكر الأبهري ت : 375هـ والباقلاني ت : 403 هـ والجويني ، ت : 478 هـ، والغزالي ت : 505 هـ والرازي ت : 606 هـ والآمدي ت : 631هـ وابن الحاجب ت : 646 هـ والبيضاوي ت : 685هـ والإسنوي ت : 772هـ وابن السبكي ت : 771 هـ وعز الدين بن عبد السلام ت: 660هـ وابن تيمية ت : 728 هـ(118).
    والإمام الجويني هو صاحب الفضل والسبق في التقسيم الثلاثي لمقاصد الشارع إلى ضروريات وحاجيات وتحسينيات كما أنه من ذوي السبق في الإشارة إلى الضروريات الكبرى في الشريعة(119). وقد كشف الباحثون عن أوجه الإبداع والاتباع في نظرية المقاصد الشاطبية بما فيه كفاية فلا نطيل هنا(120).

    2 – الشاطبي والشافعي :
    ولكن السؤال : هل أحدث الشاطبي كما يزعم العلمانيون "" قطيعة إبيستمولوجية حقيقية مع طريقة الشافعي والأصوليين الذين جاؤو من بعده "" ؟(121).
    في الواقع إن "" الشاطبي لا يقوم ولا يقعد ولا يقدم ولا يؤخر إلا بأمثال الجويني والغزالي وابن العربي وابن عبد السلام والقرافي ""(122)، وكل العلماء الأصوليين والسلف الصالح كما ذكر الشاطبي نفسه(123)، فإذا كان الشافعي قال : "" ليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها ""(124). وقال بأن استنباط الأدلة يكون إما بنص قرآني أو سنة نبوية أو ما فرض الله على خلقه من الاجتهـاد وفي طلبه(125)، فإن الشاطبي يقـول : إن القـرآن فيه بيان كل شيء من أمور الدين "" والعالم به على التحقيق عالم بجملة الشريعة ، ولا يعوزه منها شيء ""(126) "" وعلى هذا لا بد في كل مسألة يراد تحصيل علمها على أكمل الوجوه أن يُلتفت إلى أصلها في القرآن ""(127).
    وقال : "" وأيضاً فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها المعنوية وجدناها قد تضمنها القرآن على الكمال وهي الضروريات والحاجيات والتحسينيات ""(128)، وقال مستشهداً بقول ابن حزم : "" كل أبواب الفقه ليس منها باب إلا وله أصل في الكتاب والسنة نعلمه والحمد لله .. ""(129).
    وظل الشاطبي يلح ويؤكد دائماً على أن العقل تابع للنقل بعكس ما يريد العلمانيون ، أو بعكس ما يتجاهلون فيقول : "" إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعاً ، ويتأخر العقل فيكون تابعاً ، فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرحه النقل ""(130). "" والعقل إنما ينظر من وراء الشرع ""(131) ويقول في الاعتصام : "" فالعقل غير مستقلٍ ألبتة ، ولا ينبني على غير أصل ، وإنما ينبني على أصل متقدم مسلم على الإطلاق … ولا أصل مسلم إلا من طريق الوحي ""(132) "" لأن العقل إذا لم يكن متبعاً للشرع لم يبق له إلا الهوى والشهوة ""(133). ويضيف الشاطبي "" وإذا ثبت هذا وأن الأمر دائر بين الشرع والهوى تزلزلت قاعدة حكم العقل المجرد فكأن ليس للعقل في هذا الميدان مجال إلا من تحت نظر الهوى فهو إذاً اتباع للهوى بعينه في تشريع الاحكام ""(134).

    3 – الشاطبي والأزمة البيانية :
    هل كان الشاطبي يشعر بأزمة بيانية أصولية تتمثل في الإشكالية التي صاغها الجابري بين اللفظ والمعنى ؟ بمعنى آخر : هل تجاوز دلالات الألفاظ العربية بناء على نظريته في المقاصد ؟ أو بعبارة أخرى : كيف يمكن الوصول إلى المقاصد عند الشاطبي ؟ وكيف تتم معرفتها ؟ أبنفس طريقة الأصوليين البيانية أم أن له منهجاً مختلفاً ؟
    يجيب الشاطبي نفسه فيقول :
    "" إن هذه الشريعة المباركة عربية لا مدخل فيها للألسن العجمية ... والمقصود هنا أن القرآن نزل بلسان العرب على الجملة فطلب فهمه إنما يكون من هذا الطريق خاصة لأن الله تعالى يقول  إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ  (135) وقال  بلسان عربي مبين  (136) ... فمن أراد تفهمه فمن جهة لسان العرب يُفهم ولا سبيل إلى تطلب فهمه من غير هذه الجهة "" (137). إن مقارنة هذا النص مع أطروحة الجابري تبين أنه ينقضها تماماً!!.
    ثم ينقل – الشاطبي - الأصول التي قررها شيخه الشافعي في الرسالة فيقول : فإن العرب "" فيما فُطرت عليه من لسانها تخاطب بالعام يُراد به ظاهره ، وبالعام يراد به العام في وجه والخاص في وجه ، وبالعام يراد به الخاص ، والظاهر يراد به غير الظاهر ، وكل ذلك يُعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره . وتتكلم بالكلام ينبئ أوله عن آخره، أو آخره عن أوله ، وتتكلم بالشيء يعرف بالمعنى كما يعرف بالإشارة ، وتسمي الشيء الواحد بأسماء كثيرة ، والأشياء الكثيرة باسم واحد ، وكل ذلك معروف عندها لا ترتاب في شيء منه هي ، ولا من تعلق بعلم كلامها ، فإذا كان ذلك فالقرآن في معانيه وأساليبه على هذا الترتيب ، فكما أن لسان بعض الأعاجم لا يمكن أن يفهم من جهة لسان العرب كذلك لا يمكن أن يفهم لسان العرب من جهة لسان العجم لاختلاف الأوضاع والأساليب . والذي نبه على هذا المأخذ في المسألة هو الشافعي الإمام ""(138).
    وهو يعيد التأكيد على احترام والتزام قواعد اللغة العربية في فهم مقاصد الشارع "" لأن لسان العرب هو المترجم عن مقاصد الشرع ""(139).
    ومن هنا فإن الشريعة "" لا يفهمها حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم ، لأنهما سيان في النمط ... فإذا فرضنا مبتدئاً في فهم العربية فهو مبتدئ في فهم الشريعة ، أو متوسطاً فهو متوسط في فهم الشريعة ، والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية ، فإن انتهى إلى درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة، فكان فهمه فيها حجة كما كان فهم الصحابة وغيرهم من الفصحاء الذين فهموا القرآن حجة ، فمن لم يبلغ شأوهم فقد نقصه من فهم الشريعة بمقدار التقصير عنهم ""(140). "" فعلى الناظر في الشريعة والمتكلم فيها أصولاً وفروعاً ... أن لا يتكلم بشيء من ذلك حتى يكون عربياً أو كالعربي ""(141).
    بل إن الشاطبي خلافاً لجمهور الأصوليين يتشدد في هذه المسألة على عكس التوظيف الجابري فيرى أن المجتهد في الشريعة يجب عليه "" أن يبلغ في العربية مبلغ الأئمة فيها كالخليل وسيبويه والأخفش والجرمي والمازني ومن سواهم "" (142).
    ويقول في نص كأنه يخاطب فيه الجابري وغيره من العلمانيين بأن على الناظر في القرآن أن يسلك في "" الاستباط منه والاستدلال به مسلك كلام العرب في تقرير معانيها ، ومنازعها في أنواع مخاطباتها خاصة ، فإن كثيراً من الناس يأخذون أدلة القرآن بحسب ما يعطيه العقل فيها ، لا بحسب ما يفهم من طريق الوضع ، وفي ذلك فساد كبير ، وخروج عن مقصود الشارع "" (143). نعم إن طريقة الجابري وغيره في تحييد العربية تؤدي إلى فساد كبير وإن نظام الخطاب الإلهي هو الموجِّه لنظام العقل البشري إذا أراد أن يسلم من الأهواء .
    إذن لم يخرج الشاطبي عن النظام الأصولي البياني ما دام يعتبر العربية هي الأساس الأول في معرفة المقاصد ، وما دام الجابري يعتبر علم الأصول البياني قائماً على العربية ونظام الخطاب ، وليس على نظام العقل ، "" كيف نفهم الخطاب ، وليس كيف نفكر "" !!
    فالشاطبي يقتدي بشيخه الشافعي حين قال : "" القرآن نزل بلغة العرب ولسانهم ، وإنما بدأت بما وصفت من أن القرآن نزل بلسان العرب دون غيره ، لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب ، وكثرة وجماع معانيه وتفرقها ، ومن علمه انتفت عنه الشبهة التي دخلت على من جهل لسانها ""(144). وحين قال : "" إن الله سبحانه وتعالى إنما خاطب بكتابه العرب بلسانها على ما تعرف من معانيها ،وكان مما تعرف من معانيها اتساع لسانها ، وأن فطرته أن يخاطب بالشيء منه عاماً ظاهراً يُراد به العام الظاهر ، ويستغني بأول هذا منه عن آخره ، وعاماً ظاهراً يراد به العام ويدخله الخاص ، فيستدل على هذا ببعض ما خوطب به فيه ، وعاماً ظاهراً يراد به الخاص ، وظاهراً يُعرف في سياقه أن يراد به غير ظاهره ، فكل هذا موجود علمه في أول الكلام أو وسطه أو آخره ""(145).
    ويقتدي بشيخه الرازي أيضاً حين قال : "" لما كان المرجع في معرفة شرعنا القرآن والأخبار وهما واردان بلغة العرب ونحوهم وتصريفهم ، كان العلم بشرعنا موقوفاً على العلم بهذه الأمور ، وما لا يتم الواجب المطلق إلا به وكان مقدوراً للمكلف فهو واجب "" (146).

    4 - ضوابط المقاصد :
    ولكن هل المقاصد هي بهذا الشكل العبثي الذي يطرحه الخطاب العلماني ؟ هل هي مرنة بغير حدود وبغير ضوابط ؟ وما هي المعايير التي تحدد المقاصد ؟ وكيف يمكن الوصول إليها ؟ وما المرجعية في ذلك ؟
    إن الفارق الأساسي بين العلماء المسلمين وأقطاب الخطاب العلماني في البحث عن المقاصد أن الأولين يبحثون عن مقاصد الشارع سبحانه وتعالى ومراده من النص ، أما الآخرون فيبحثون – فيما يبدو - عن مقاصد أنفسهم ، ومرادات عقولهم ، ومطالب أيديولوجياتهم ، هذا فارق أساسي له صلة بالتأويل تناولناه في دراسات أخرى(147).
    إن المقاصد ليست كلمة تقال أو شعاراً يرفع وإنما هي مبدأ أصولي له ضوابطه ومعاييره التي تحكمه حتى لا تصبح ذريعة يُتوسَّل بها إلى " تورخة النص "(148) وإلغائه وتمييعه ، فإن تحديد مقاصد الشارع لا ينبني على ظنون وتخمينات غير مطردة(149). إن الشاطبي الذي اعتبره العلمانيون مؤسس علم المقاصد وأشادوا به هو نفسه الذي يحدد هذه الضوابط فهل يلتزم العلمانيون بذلك؟ .
    ومن أبرز هذه الضوابط أن :
    1 - الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبد دون الالتفات إلى المعاني ، والأصل في أحكام العادات الالتفات إلى المعاني(150).
    2 - المقاصد العامة للتعبد هي : الانقياد لأوامر الله عز وجل وإفراده بالخضوع والتعظيم لجلاله والتوجه إليه(151).
    3 - المقصد الشرعي من وضع الشريعة هو : إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد الله اضطراراً(152).
    4 - وُضعت الشريعة على أن تكون أهواء العباد تابعة لمقصود الشارع فيها ، وقد وسع الله على العباد في شهواتهم وتنعماتهم بما يكفيهم ولا يُفضي إلى مفسدة ولا إلى مشقة(153).
    5 - مشقة مخالفة الهوى ليست من المشاق المعتبرة ولا رخصة فيها ألبتة(154).
    6 - العزيمة أصل والرخصة استثناء ، ولهذا فالعزيمة مقصودة للشارع قصداً أصلياً ، أما الرخصة فمقصودة قصداً تبعياً(155).
    7 –لم يقصد الشارع إلى التكليف بالشاق والإعنات فيه(156) ولا نزاع في أن الشارع كلف بما يلزم فيه كلفة ومشقة ما، ولكنه لا يقصد نفس المشقة ، بل يقصد ما في ذلك من المصالح العائدة على المكلف(157).
    8 - إذا كانت المشقة خارجة عن المعتاد بحيث يحصل للمكلف فساد ديني أو دنيوي فمقصود الشارع فيها الرفع على الجملة(158).
    9 - من سلك إلى مصلحة غير طريقها المشروع فهو ساع في ضد تلك المصلحة(159).
    تلك بعض القوانين والقواعد التي تضبط المقاصد ولكن كيف يتم الوصول إلى المقاصد أو معرفتها ؟ هذه أيضاً بعض القوانين لذلك :
    1 – الاحتكام إلى لغة النص وقوانين خطابه ، وأصول المواضعة التي تعاهد عليها الذين نزل هذا النص بلغتهم وهم العرب وقد رأينا التأكيد على هذا الضابط لدى كل من الشافعي والشاطبي(160).
    2 - أن يوافقك القرآن كله على تفسير بعضه فإن القرآن كله كالآية الواحدة فلا يحكم ببعضه دون بعض(161).
    3 - الأمر بالفعل يستلزم قصد الشارع إلى وقوع ذلك الفعل ، والنهي يستلزم القصد إلى منع وقوع المنهي عنه(162).
    4 - الدلالة الصريحة الواضحة التي لا تحتمل وجهاً آخر في القرآن الكريم مثل قوله تعالى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون (163) وقوله :  وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (164) وقوله :  وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ(165).
    5 - السنة المتواترة ويظهر ذلك جلياً في حالتين :
    - التواتر المعنوي الحاصل من مشاهدة عموم الصحابة لعمل النبي  فحصل لهم بذلك علم بتشريع ذلك وإليه يرجع قسم المعلوم من الدين بالضرورة .
    - تواتر عملي يحصل لآحاد الصحابة من تكرار مشاهدة أعمال رسول الله (166).
    6 - علل الأحكام تدل على قصد الشارع فيها فحيثما وجدت اتُّبعت(167).
    7 - كل أصلٍ ملائم لتصرفات الشارع ، وكان معناه مأخوذاً من مجموعة أدلة حتى بلغ درجة القطع يبنى عليه ويُرجع إليه ولو لم يشهد له نص معين(168).
    8 - إذا سكت الشارع عن أمر مع وجود داعي الكلام فيه دل سكوته على قصده إلى الوقوف عند حد ما شرع(169).
    9 - الاستقراء من خلال مجموع أدلة الشريعة كتاباً وسنة ، وهو يفيد القطع لأن كليات الشريعة لا تستند إلى دليل واحد بل إلى مجموعة أدلة تواردت على معنى واحد فأعطته صفة القطع ، وتخلُّفُ بعض الجزئيات عن مقتضى الكلي لا يخرجه عن كونه كلياً(170). وقد اعتبر ابن عاشور الاستقراء المسلك الأول من مسالك إثبات المقاصد(171). وهذا طريق مهم لمعرفة المقصد ولضبطه أيضاً ، فإن الكتاب يجب أن يشهد لبعضه ، ويجب أن يوافقك القرآن كله على بعضه ، وبعضه على كله .
    وفي ذلك أبلغ رد على الخطاب العلماني الذي يريد منا - كما قرأنا - أن نتخلى عن جزئيات الشريعة وتفاصيلها ودقائقها حفاظاً على روحها أو مغزاها أو مقاصدها أو جوهرها كما يقولون فإن الأجزاء مرتبطة بالكل والكل يشهد للأجزاء وهو ما يوضحه الشاطبي أجلى توضيح بقوله : "" كما أنه إذا ثبت في الشريعة قاعدة كلية في الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات فلا ترفعها آحاد الجزئيات كذلك نقول : إذا ثبت في الشريعة قاعدة كلية في هذه الثلاثة أو في آحادها فلا بد من المحافظة عليها بالنسبة إلى ما يقوم به الكلي ، وذلك الجزئيات ، فالجزئيات مقصودة معتبرة في إقامة الكلي أن لا يتخلف الكلي فتتخلف مصلحته المقصودة بالتشريع … فلا بد من صحة القصد إلى حصول الجزئيات ، وليس البعض في ذلك أولى من البعض ، فانحتم القصد إلى الجميع وهو المطلوب ""(172). "" لا بد من اعتبار خصوص الجزئيات مع اعتبار كلياتها وبالعكس وهو منتهى نظر المجتهدين بإطلاق وإليه ينتهي طلقهم في مرامي الاجتهاد ""(173).
    ويؤكد ذلك مرة أخرى - وكأنه يخشى من العبث العلماني - حين يقول : "" فمن أخذ بنص مثلاً في جزئيٍّ معرضاً عن كلية فقد اخطأ ، وكما أن من أخذ بالجزئي معرضاً عن كلية فهو مخطئ ، كذلك من أخذ بالكلي معرضاً عن جزئيه … وهذا كله يؤكد لنا أن المطلوب المحافظة على قصد الشارع ، لأن الكلي إنما ترجع حقيقته إلى ذلك ، والجزئي كذلك أيضاً فلا بد من اعتبارهما في كل مسألة ""(174).
    وبذلك يظهر أن المقاصد عند الشاطبي لضبط الاستدلال وليس لتمييعه ، وأن اعتبار الكليات لا يجب أن يفضي إلى إهدار الجزئيات كما يرغب بذلك الخطاب العلماني ، ولكأني بالشاطبي يخاطب العلمانيين عموماً والجابري تحديداً لأنه يريد توظيفه توظيفاً مغرضاً حين يعتبره مؤسساً لنظام العقل بدلاً من نظام الخطاب وذلك حين يقول : ""إن عامة المبتدعة قائلة بالتحسين والتقبيح فهو عمدتهم الأولى وقاعدتهم التي يبنون عليها الشرع فهو المقدم في نحلهم، بحيث لا يتهمون العقـل وقـد يتهمون الأدلة إذا لم توافقهم في الظاهر…وليس كـل ما يقضي به العقـل يكون حقاً""(175).
    ومن هنا فإن الخطاب العلماني حين يتجاهل هذه القوانين والضوابط التي وضعها أهل المقاصد فإنه ليس من حقه أن يتكلم باسم المقاصد ، لأن هذا لون من الهزلية أو المراوغة ، إذ أن الذي ينضوي تحت شعار ليس من اختراعه عليه أن يلتزم بقوانين ذلك الشعار حتى يُعد من أهله ، كما أن من انضم في معمعة من المعامع إلى أهل راية عليه أن يعرف إشاراتهم ومواضعاتهم وقوانينهم ونظامهم حتى لا يقتلونه .
    لو راعى العلمانيون نظام المقاصد وقواعدها وقوانينها لما خرجوا بارتجالات عبثية ينسبونها إلى دين الله عز وجل وكمثال على ذلك : لو أن نصر حامد أبو زيد تعلم ضوابط المقاصد لما قال بتساوي المرأة مع الرجل في الميراث في هذا العصر انطلاقاً من المغزى فالمرأة على حد قوله كانت لا تعطى شيئاً في الجاهلية ، ثم جاء الإسلام فأعطاها نصف الذكر وهو ما يفهم من ظاهر الآيات وهذا هو المعنى ، أما المغزى فهو تعليم لنا وإشارة أن نعطيها في المستقبل مثل حظ الذكر(176).
    لو قرأ ما قاله الشاطبي آنفاً من ""أن سكوت الشارع عن أمر مع وجود داعي الكلام يدل على قصده إلى الوقوف عند حد ما شرع ""(177) لما قال ما قال ، ولوقف عند حدود الله سبحانه تعالى ،لأن الشارع لم يترك أي قرينة أو إشارة أو دلالة تفيد المغزى الذي يزعمه ، ولو علم محمد شحرور أن من مقاصد الشارع الأصلية حفظ الأعراض ، وصيانة الأبضاع ، ومن مقاصده التبعية التي تخدم تلك تَصوُّن المرأة وتسترها لما قال بأنه يجوز للمـرأة أن تخـرج عـارية إلا من شريط يستر سوأتها(178). وكثير مثل هذا لدى إخوانهم .
    ولذلك فإن توظيف المقاصد دون ضوابط أو معايير ما هو إلا وسيلة لهدم الشريعة ، وإقصاء القرآن الكريم عن القيادة والمرجعية ، وتبرير للحلول التي تمليها المناهج الحديثة ، وتمرير للقيم التي تتطلبها المعقولية الحديثة(179). وهو ما يعبر عنه علي حرب بكل صراحة حين يقرر : "" فالقراءات المهمة للقرآن ليست هي التي تقول لنا ما أراد النص قوله ، وإنما التي تكشف عما يسكت عنه النص أو يستبعده أو يتناساه ""(180). وأيضاً : "" القراءة الخلاقة هي التي تتجاوز المنصوص عليه والمنطوق به "" (181).
    وبذلك يتبين لنا أن الشاطبي لم يحـدث قطيعة أبيستمولوجية مع أصول الشافعي كما قال الجابري(182) وأيده باروت(183) بل هو يتـرسم خطـاه ويبني على قواعـده وأصوله، ويعتز باقتفاء أثره .

    ثانياً - المصالح :
    إذا كانت المقاصد التي يُنظر فيها أصلاً إلى مراد الشارع ، ويُتحرى فيها رضاه سبحانه وتعالى أراد العلمانيون أن يجدوا من خلالها مدخلاً للتنصل من المرجعية القرآنية ، فإن المصالح التي يُنظر فيها أصلاً إلى حال الإنسان وما يلائمه وما يصلحه أدعى لأن يبحث فيها هؤلاء الناس عن ذلك المدخل .
    إن المشكلة ليست في ضرورة اعتبار المصلحة فالكل متفق على أن المصلحة هي مناط التشريع ، ولكن المشكلة أي مصلحة نعني ؟ ومتى نعد الشيء مصلحة ، ومتى نعده مفسدة ؟ ومتى نعده نفعاً ، ومتى نعده ضرراً ؟ ومتى نعده مصلحة راجحة ، ومتى نعده مصلحة مرجوحة ، ومتى نعده مصلحة حقيقية معتبرة ، ومتى نعده مصلحة وهمية متروكة(184).
    وما هو المعيار الذي يحكم المصالح ؟ لأن ما يكون مصلحة لشخص قد يكون ضرراً لشخص آخر ، وما يكون مصلحة لشخص في زمن قد يكون ضرراً له في زمن آخر ؟
    ثم المصالح منها ما هو ضروري ومنها ما هو تحسيني ومنها ما هو حاجي ، وقد تتعارض أو تتداخل وقد يدق الفرق فتختلف التقديرات ، فلا بد من وضع هذه الاعتبارات جميعاً في مراعاة المصلحة ، حتى يمكن أن نحقق هذه المصلحة(185). ثم هل النص معيار المصلحة والحاكم عليها ؟ أم المصلحة هي معيار النص والحاكمة عليه ؟ وهل تتعارض المصلحة مع النص ؟ وإذا تعارضت فما الحل ؟
    لقد زعم الطوفي أن المصلحة يمكن أن تتعارض مع النص في أمور ما سوى العبادات ، وفي هذه الحالة يجب الأخذ بالمصلحة لأنها قطعية ، وهي المقصودة من سياسة المكلفين(186). ولكن الطوفي "" لم يأت ولا بمثال واحد حقيقي يدل على التعارض الذي افترضه بين النص والمصلحة فبقي رأيه مجرد افتراض نظري ""(187).
    ويضرب الدكتور الريسوني ثلاثة أمثلة لدعوى بعض أصحاب الخطاب العلماني بتعارض النص مع المصلحة ويناقشهما مناقشة رصينة ولذا رأيت من الضروري أن ألخصها هنا :

    المثال الأول : ذهب الرئيس التونسي السابق بورقيبة إلى أن صيام رمضان يسبب تعطيل الأعمال وضعف الإنتاج ودعا العمال سنة 1961م إلى الإفطار حفاظاً على الإنتاج الذي يدخل ضمن الجهاد الأكبر(188).
    ثم خرج فيما بعد من يُنظِّر لدعوة الرئيس ويبحث لها عن منافذ مشروعة لكي تتمكن من التسلل إلى ضعاف العقول وضعاف الإيمان فقال عبد المجيد الشرفي بعدم فرضية الصيام وتمحل لذلك بعض الأدلة(189).
    فهل الصيام حقاً يتعارض مع مصلحة الإنتاج ، ومصلحة النهوض الاقتصادي ؟
    إن الصوم يلغي وجبتين غذائيتين تقعان في وقت العمل هما وجبة الإفطار والغداء(190) والصوم يوفر على الموظفين وقت هاتين الوجبتين، وهو وقت يمكن الاستفادة منه لصالح العمل والإنتاج، ثم إن الصوم يمنع الموظفين عن التدخين ومعلوم أن التدخين يأخذ من صاحبه دقائق متكررة على مدى اليوم كله قد تستغرق ساعة من ساعات العمل . هذا بالإضافة إلى ما يسببه التدخين عموماً من هدر كبير في القدرات والأوقات في غير رمضان بسبب أضراره المادية والصحية والنفسية فلماذا لا يُنظر إلى هذه الآفات التي يخفف منها شهر الصيام . ولماذا لا ينظر إلى الفوائد الروحية والتربوية والسلوكية والصحية التي تعود على المواطنين من الصيام وبالتالي على المصلحة العامة(191).

    المثال الثاني : يرى عدد من المعاصرين أن الحجاب لم يعد ملائماً للعصر ، ولا لمكانة المرأة وتحررها واقتحامها لكافة مجالات الحياة العامة من مدراس وجامعات ومعامل وإدارات وأسفار وتجارات ، لأن هذا الحجاب يعوق حركة المرأة ويعرقل مصالحها(192).
    فهل هذه الدعوى صحيحة من جهة تحقق المصلحة أو عدمها ؟
    يجيب الدكتور الريسوني :
    "" إذا تجاوزنا الخطابات المبهمة والشعارات التحديثية ذات التأثير الإشهاري الجذاب ، فإننا لا نجد أي مصلحة حقيقية راجحة يعوقها الحجاب ويفوتها . وأحسب أن الواقع المعيش والمشاهد في العالم كله الإسلامي والغربي أصبح اليوم يشكل أبلغ رد على كل ما يقال عن السلبيات المدّعاة للحجاب ، فلم يعد الحجاب قريناً للجهل والأمية والخنوع والتخلف ، بل أصبح في حد ذاته رمزاً للتحرر والتمسك بالحقوق والمبادئ ، ورمزاً للصمود والمعاناة في سبيلها ، وهي رمزية لم تكن له فيما سلف يوم كان شيئاً عادياً يقبله الجميع ويسلم به الجميع . وهذا فضلاً عن كون ذوات الحجاب يوجدن اليوم بجدارة وكفاءة في كل موقع من مواقع العلم والعمل الراقية المتقدمة ، ولا يختفين إلا من المواقع التي يُمنعن منها أو لا تليق بكرامتهن وخلقهن ""(193).
    ثم يضيف د . الريسوني "" إن الحجاب تظهر قيمته ومصلحته اليوم أكثر من أي وقت مضى ، وبيان ذلك أن المرأة اليوم تنجرف مع تيار كاسح يكاد يختزل المرأة وقيمتها ودورها في الجسد المزوّق المنمق المعروض في كل مكان ، والمرأة -على نطاق واسع وعت أو لم تع قصدت أم لم تقصد - واقعة هي أيضاً في فتنة الجسد وفي فتنة اللباس ، أو بعبارة القرآن الجامعة في فتنة التبرج ، وجميع المتبرجات -من حيث يدرين أو لا يدرين – هن عارضات أزياء وعارضات أجسام ، وكثيرات منهم يعشن يومياً - وكلما خرجن إلى العموم - في منافسة استعراضية لا تنتهي في الشوارع والإدارات ، في الشواطئ والمنتزهـات ، وفي المدارس والجامعات في المناسبات والحفلات ...
    وكمن يصب الزيت على النار يقوم عدد لا يحصى من الرجال بالإغراء والتشجيع ، وتقوم مؤسسات تجارية وإعلامية وسياحية بتغذية هذا التوجه وتأطيره والمتاجرة به بشكل مباشر أو غير مباشر ، وهكذا تدخل المرأة - الضحية الأولى في هذا المنزلَق - في دوامة تنحط فيها كرامتها وقيمتها ، وتنحط فيها اهتماماتها وانشغالاتها ، حيث تستهلك قدراً كبيراً من وقتها ومالها(194) لتدبير شؤون جسدها ولباسها ومظهرها . والحقيقة أن الذي أصبح يعوق المرأة عن رقيها وتحررها وعن دراستها وعملها ليس هو الحجاب، بل الانغماس في التبرج والتزين، والهواجس الاستعراضية … هذا هو الواقع الرديء الذي تنجرف إليه المرأة انجرافاً يخرج بها - أو يهبط بها - من التكريم إلى التجسيم هو الذي يقف اليوم في وجهه اللباس الإسلامي الذي يمنع المرأة من الانزلاق في المنحدر المذكور، ويمنعها من أن تصبح مفتونة أو فاتنة بجسمها وأعضائها أو بلباسها وحليها ، أو بأصباغها وعطورها، أو بمعاملاتها وعلاقاتها . إن اللباس الجدي الساتر المتعفف المعتدل المتواضع أصبح اليوم ضرورة لوقف انحدار المرأة ، ومساعدتها على الرفع من قيمتها وهمتها ، وعلى استعادة كرامتها وتوازنها وتلك هي المصلحة حقاً ""(195).

    المثال الثالث : يرى بعض العلمانيين المتطرفين أن قطع يد السارق من العقوبات المتخلفة البدائية الهمجية التي لا تليق بهذا العصر المتحضر(196)، ويلجأ آخرون إلى تحريف النص القرآني المتعلق بحد السرقة تحت مسمى التأويل(197)، بينما يختار فريق ثالث أن القطع عقوبة مرتبطة بظروفها التاريخية ، وأنه كان يحقق المصلحة في الظروف العربية البدوية حين نزل النص بسبب عدم وجود السجون ، وعدم إمكانية وجودها في بيئة يعيش أهلها على الحل والترحال ، أما اليوم فلم يبق له ما يسوغه بسبب تغير الحال والظـروف ، وتوفر السجون فلم يعد الحد " القطع " يحقق المصلحة المرجوة(198).
    وأصحاب الاتجاهات الثلاثة مجمعون على أن العقوبة فيها قسوة وعنف من منظورنا المعاصر ، وأن هذه القسوة وهذا العنف إذا كان ملائماً لذلك المجتمع البدوي القاسي ، فإنه لا يليق بالمجتمعات المتحضرة اليوم .
    يجيب الدكتور الريسوني بقوله : "" إن العقوبات المنصوصة في الإسلام تتسم بقوة الزجر، وسهولة التنفيذ ، فهي زاجرة إلى أقصى الحدود للجناة ولغيرهم ، ومن حيث التنفيذ لا تكلف ميزانية ضخمة ولا جهازاً بشرياً واسعاً ولا وقتاً طويلاً كما هو الشأن في عقوبة السجن . فإذا جئنا إلى حد السرقة وهو القطع وجدناه محققاً مقصوده ومصلحته بدرجة عالية ، والحق أن مجرد الإعلان عن إقرار عقوبة القطع يؤدي إلى زجر عدد واسع من السراق … وإراحة المجتمع من سرقاتهم ومحاكمتهم وحراستهم وإطعامهم في سجونهم ، ويتحقق هذا بدرجة أوسع وأبلغ حين يُشرَع فعلاً في تنفيذ العقوبة ولو على أفراد معدودين ، فإقرار عقوبة القطع والشروع في العمل بها [قد] يخفض جرائم السرقة إلى العشر أو أقل، وهذا هو عين المصلحة وأقصى درجاتها في موضوعنا الذي هو صيانة الأموال وأصحاب الأموال من العدوان والخوف . بقي أن يقال : إن هذه العقوبة شديدة وفادحة وقد أصبح بالإمكان اليوم الاستعاضة عنها بغيرها . وأقول : إن شدة هذه العقوبة تخف وتهون بعدة أسباب : الأول : هو ما تحققه من المصلحة العامة الواسعة مما سبقت الإشارة إليه . والثاني : هو القلة المتزايدة في حالات القطع بمجرد الأخذ به والمضي في العمل به ، والثالث : هو كثرة الشروط التي يلزم توافرها للحكم بالقطع ، وهي شروط مبسوطة في كتب الفقه لا يتسع المجال لذكرها ، ولكن المهم هو أن تلك الشروط تُضيِّق جد اً من الحالات التي يُطبَّق فيها القطع ، والسبب الرابع هو قاعدة " ادرؤوا الحدود بالشبهات ""(199).
    ثم يضيف د. الريسوني "" ومعنى هذا أننا سنكون أمام مصالح عظمى سيجنيها الأفراد والمجتمع والدولة ومؤسساتها وميزانيتها، مقابل أفراد قلائل سيتضررون بما كسبوه ظلماً وعدواناً . وإذا كان قطع بعض الأيدي يسبب تعطيلاً جزئياً لأصحابها في عملهم وإنتاجهم، فإن في سجن الألوف من السراق لشهور وسنوات تعطيلاً لهم ، يضاف إلى ذلك أن السجن يشكل - في كثير من الحالات - مدرسة ممتازة لتعليم الإجرام، وربط العلاقات بين المجرمين ، فهاتان مفسدتان لا بد من وضعهما في الميزان، فهل إذا نظرنا إلى المسألة من مختلف وجوهها المصلحية - مما ذكرت ومما لم أذكر - يبقى مجال للظن بأن حد السرقة لم يعد ملائماً للمصلحة ولظروفنا الحالية ؟ ""(200).
    ويمكن أن نضيف هنا أن الرحمة تختلف من فهم إلى فهم ، والعلمانيون الذين يرفضون الحد بدعوى الرحمة يقدمون مصلحة الفرد على مصلحة المجتمع ، وينظرون إلى حال شخص ويغفلون عن حال أمة . إن الطبيب قد يلجأ إلى قطع بعض الأعضاء المريضة في الجسم حتى يسلم الجسم كله من المرض ، والقطع فيه قسوة ، ولكنه يُفعل رحمة بالجسم ، والأب يضرب ولده تأديباً وفي ضربه نوع قسوة، ولكنه يضربه رحمة به لكي يُقوِّم اعوجاجه ، وفي الحياة أمثلة كثيرة لذلك كلها يستفاد منها أن الضرر الأشد والأعم يزال بالضرر الأخف والأخص ، ويُختار دائماً أهون الشرين ، ومثل ذلك حد السرقة يتضرر الفرد – بما جنت يداه - رحمة بالمجموع .
    ولكن الإشكال كما يبدو ليس في انعدام الرحمة وإنما في أمر آخر يلفت النظر إليه الدكتور الريسوني وهو "" أن هذه العقوبة وما شابهها من العقوبات البدنية المعمول بها في الشريعة الإسلامية ليست مُعتمَدة لدى الدول الغربية المتقدمة ، بل أصبحت في نظر أهلها عقوبات مستهجنة ومستنكرة، إلى درجة أصبح معها عسيراً على كثيرٍ من المسلمين -ومن مثقفيهم خاصة - استساغة هذه العقوبات والنـظر إليها بتجرد وعقلانية . ولذلك فأنا يراودني السؤال بعفوية وصدق : ترى لو كانت الدول الأوربية أو بعضها أخذت بعقوبة قطع يد السارق هل كان السياسيون والمفكرون والقانونيون في العالم الإسلامي سيجدون غضاضة أو حرجاً في تبني هذا الحكم وتفهم مصالحه وفوائده ؟ اعتقادي أن الضغط الجاثم على النفوس والعقول له دور حاسم في تكييف النظرة وتوجيهها إلى كثير من القضايا التي استقرت عند العالم الغربي " النموذجي " على نحو مخالف لما في شريعتنا ""(201).
    لقد عرضنا هذه النماذج الثلاث التي اختارها د . أحمد الريسوني لصلتها الوثيقة بهذا البحث، ولأنها تتناول مسائل ساخنة وخصوصاً المسألتين الأخيرتين اللتين تمثلان نموذجين لموقف العلمانيين من قضايا المرأة ، ومسائل الحدود بشكل عام ، ولأن النقاش أيضاً اتجه إلى تحقيق مناط الحكم وهو محـل الخلاف في أغلب الأحيـان بين الإسلاميين والعلمـانيين المعتـدليـن على الأقل(202). بل إن النقاش اتجه إلى تحقيق المناط الخاص(203) للقضايا المذكورة وصلتها بالواقع المعيش اليوم ، وهي قضية في غاية الأهمية يجب أن لا نتغافل عنها.
    بقي أن نشير إلى أن أستاذنا الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي ذكر للمصلحة خمسة ضوابط :
    الأول : اندراجها ضمن مقاصد الشرع .
    الثاني : عدم معارضتها للكتاب .
    الثالث : عدم معارضتها للسنة .
    الرابع : عدم معارضتها للقياس .
    الخامس : عدم تفويتها مصلحة أهم منها .
    وكل واحد من هذه الضوابط يحتاج إلى شرح وتفصيل ليس هنا محله(204).

    ثالثاً – الضمير :
    يرى عبد المجيد الشرفي أنه كلما كان التناغم بين ضمير المسلم وواقعه قائماً أدى الدين دوراً إيجابياً وكلما انفصل أحدهما عن الآخر كان الدين مجرد تعبير عن الأمل والحنين(205). ذلك لأن ضمير المسلم هو الحكم الأول في مدى الاستجابة للتوجيه الإلهي وعلى ذلك "" فلا يضير المسلم أن لا يرى فيما فرض من تفاصيل العبادات والمعاملات متى وجدت وهي قليلة جداً سوى أثراً لمقتضيات الاجتماع في عصر الرسول وفي البيئة الحجازية "" (206).
    والسؤال الذي يرد هنا هو نفس السؤال الذي ورد أثناء الحديث عن المقاصد ما هو الضمير ؟ هل هو الضمير العام ؟ أم الضمير الخاص ؟ أقصد هل هو الضمير الجماعي أم الضمير الفردي ؟ وهل هو الضمير بالمعنى الفلسفي أم هو الضمير الشعوري النفسي الذي يتجلى في الشعور بالراحة والرضا ؟ وعلى كل الأحوال فالضمير هنا ليس له مفهوم محدد متفق عليه بين الباحثين أو الفلاسفة أو الناس عموماً فهو مفهوم غائم ملتبس مختلف من شخص إلى آخر وليس له معايير يمكن أن تضبطه أو توجهه .
    إن الارتياح النفسي المتمثل في القبول بما هو سائد في المجتمع من أعراف وهو ما يسميه التناغم أو التلاؤم مع العصر لا يدل على الصدق إلا على المستوى النفسي السطحي من السلوك المباشر الخالي من امتحان الضمير الذي هو شرط كل التزام خلقي ، فلا بد من التناسق العقلي بين المبادئ والالتزام والاستعمال العملي للعقل الذي يقتضي التحرر من الدوافع النفسية والاستناد إلى القواعد الشكلية في نقد العقل العملي كما أشار" كانط " والتي تشترط لقبول قواعد السلوك التحرر من الدوافع النفسية .
    إن الضمير كما يتبادر معناه من استخدام الخطاب العلماني يجعل السلوك أمراً كيفياً ولا يبقى أي من الناس أمام مسؤولية خارج عن تصوراته الشخصية ، المهم أن يكون مرتاح النفس لسلوكه وكم من المجرمين ليسوا مرتاحين فقط لارتكاب جرائمهم بل يشعرون بالنشوة والسعادة ويفلسفون تصرفاتهم(207).
    ولو افترضنا أن طرح المؤلف لقضية الضمير مقبول فهل يمكن لصدق الأمس أن يطابقه صدق الغد إذا كانت علامة الصدق هي الراحة النفسية ؟ وهل هناك تقلب يفوق هذا النوع من الضمير وهل يمكن بناء قواعد أخلاقية ثابتة أو التزام خلقي على ذلك ؟ ثم إذا كان هذا هو المعيار فإن من يعيب عليهم تصورهم للدين وآلية أدائه هم الأكثر راحة للضمير بل لا يعيشون أي قلق اتجاه رفض الواقع لهم فلهم واقعهم الخاص يتناغمون معه إن الضمير الذي يعبر عنه المؤلف ضمير ساذج وهو في حقيقته قناع للهروب من التكاليف وتبعات الأحكام(208).

    رابعا : المنهج : لقد عرضنا الرؤية الحاج حمدية للمنهج من واقع نصوصه وهي لا تحتاج إلى تعقيب في ضوء الهدف الذي يرمي إليه هذا البحث . ومثله المنهج العشماوي فكلاهما ينطوي في معنى المقاصد والمصالح وينسحب عليهما ما قلناه فيهما.

    خامساً - أفعال سيدنا عمر :
    لقد عرضت بإيجاز بعض كلمات العلمانيين فيما يخص اجتهادات الفاروق رضي الله عنه لأن هناك دراسات كثيرة تعالج هذا الموضوع نكتفي بالإحالة إليها(209). كما أن مناقشتها تنطوي في كثير من صورها تحت معنى المقاصد ، وتحقيق المناط .

    الخاتمة :
    لقد رأينا كيف أن الكلمات التمجيدية التي تُقال في حق القرآن الكريم من قبل أقطاب الخطاب العلماني لا تعدو كونها رشوة للضمير الإسلامي لكي يستعد لتقبل الحد من دائرة الحاكمية القرآنية للنشاط الإنساني والحياة الإنسانية، والسبيل الذي سلكه إلى هذه الغاية هو إبراز المفهوم الشائع في ترثنا الأصولي وهو المقاصد أو المصالح أو بعض المرادفات الأخرى والتشبث به كنظام منهجي للتفكير والاستنباط بدلاً من نظام اللغة المحنط حسبما يرى هذا الخطاب.
    ولكن المشكل أن الخطاب العلماني يتجاهل أن قضية المقاصد قضية جوهرية في الفكر الأصولي منذ لحظاته الأولى، وأن الاتفاق قائم بين الخطابين الأصولي قديماً وحديثاً من جهة ، والعلماني من جهة ثانية حول مركزية المقاصد وأهميتها ، ولكن هذا الاتفاق حول هذه النقطة بالذات لم يثمر على الصعيد الفكري والعملي، لأن الإجابة على الأسئلة المهمة في هذه القضية محور خلاف شديد بين الخطابين الإسلامي والعلماني، لأن كل خطاب تنبع إجاباته من همومه وإشكالياته .
    - فما هي المقاصد ؟
    - ومقاصد من ؟
    - وكيف يتم الوصول إليها ؟
    ثلاثة أسئلة جوهرية والإجابة عنها لا يمكن أن تنفصم عن القضايا الكبرى التي تؤرق الإنسان منذ أن وجد على ظهر هذه الأرض. فالخطاب الإسلامي لا يبت في هذه الأسئلة إلا من خلال الأبعاد الغيبية "الميتافيزيقية" المقترنة في الوقت ذاته بالبعد الحياتي المعرفي والعملي المنظور، ولا يمكن للخطاب الإسلامي وهو يجيب عن الأسئلة السابقة أن يحيد إيمانه بما وراء المادة، أو أن يكف عن تطلعه إلى المستقبل الآخر بعد هذه الحياة .
    ولذلك فالمقاصد بنظره هي تلك التي تحقق له التوازن بين آفاقه الحياتية القريبة المعاشة وآماله أو رجاءاته الغائبة، بين عالمه المنظور الذي يعيشه ويمارسه؟ وبين العالم الآخر الذي ينتظره وسيعيشه .
    ومن هنا يبحث الخطاب الإسلامي في الوحي عن مُرادات الخالق عز وجل ومقاصده لأنه هو [الذي خلق فسوى ، والذي قدر فهدى] وهو الذي خلق الإنسان ويعلم [ما توسوس به نفسه] ولذلك فهو أدرى بما يصلحه وينفعه في عاجله وآجله .
    ولكي يصل الإنسان إلى مقاصد الخالق عز وجل لا بد أن يفهم خطابه ، ولكي يفهم خطابه لا بد أن يكون ضليعاً في لغة هذا الخطاب ، ومن هنا جاءت الإشارة مراراً في القرآن الكريم للتأكيد على هذه اللغة والتمنن بها على أهلها ، وحين انطلق الأصوليون من قوانين اللغة ونظامها البياني لم يكن ذلك إلا ترسماً للهدي القرآني ، وتمثلاً لتوجيهاته ، ولم يكن ذلك بنزعة عنصرية أو شعوبية كما يحلو للبعض أن يقول .
    أما في الخطاب العلماني فإن المقاصد هي تلك التي تحقق للإنسان التواءم مع واقعه الذي يعيشه أياً كان هذا الواقع ، ولعلها تلك التي تستجيب للمعقوليات والضمائر الحديثة ، وتُصالح الإنسان مع المجتمع الذي يعيش فيه أياً كان هذا المجتمع ، وبذلك يخرج الإنسان من دائرة الغربة إلى فضاء الانسجام، ويتخلى عن استراتيجية الرفض والممنوع ، والحلال والحرام [ ذهنية التحريم ] (210) لينخرط في دوامة الحياة كما هي بدون تشنج أو تردد ، وينفرط نظام خصوصيته ، وقوام شخصيته في عولمتها الصاخبة الجارفة .
    ومن هنا فإن الحديث عن مقاصد الله عز وجل في النص أمر بعيد المنال ، وخارج حدود الوسع البشري ، ولذلك يجب التوجه للبحث في النص عن مقاصد القارئ أو المتلقي ، أو بعبارة أخرى عن تبرير لمقاصده . إن القرآن الكريم يقول كل شيءٍ ولا يقول شيئاً بنظر الخطاب العلماني، أي لا يقول شيئاً يحد من إرادة الإنسان، ويقول كل شيءٍ يبرر أهواءه ورغباته وقناعاته . ولكي يُقوّل القرآن ذلك يتم حشد كل الوسائل الممكنة من فلسفات ، ومناهج لسانية ، وبنيوية ، وتفكيكية دون اعتبارٍ لقائل النص أو لغته أو حضارته أو مقاصده .
    وفي هذه الحالة لم تعد هناك حاجة للنص أصلاً إلا حين يستدعى ليكون غطاءً للتبرير ، ورداءً للمشروعية ، لقد تحول النص كما أراد الخطاب العلماني فعلاً إلى أيديولوجية تسويغية أو تسويقية وظيفتها تكريس حاكمية الإنسان في هذا الكون .
    وبذلك يبدو لنا أن المفاهيم الأصولية المعلنة كالمقاصد والمصالح والمغزى ليست إلا شعارات مُفرَغة من مضامينها يراد لها أن تحقق غايات فكرانية (211) مسبقة تم الاتفاق عليها في الخطاب العلماني ، ويُتوَسَّل في تمريرها إلى العقل الإسلامي بأن تُقنع بأردية إسلامية . في حين أن المقاصد في ميزان الإسلام تابعة للنص وخاضعة له ولكل توابعه كالسنة والإجماع والقياس والاستحسان وغير ذلك ، بالإضافة إلى كونها محكومة برؤية أخروية غيبية ، أما في الخطاب العلماني فإن المقاصد عبارة عن الأهواء والأغراض والشهوات وكل ما يحقق للإنسان دنيويته المحضة .
    -------------------------

    ملاحظة : لقد تم نقل هذا الموضوع عن موقع الملتقى الفكري للإبداع
    التعديل الأخير تم 08-31-2005 الساعة 10:05 PM السبب: خطأ

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 06-12-2011, 11:21 PM
  2. الفوائد في اختصار المقاصد كتاب الكتروني رائع
    بواسطة Adel Mohamed في المنتدى المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 02-13-2008, 08:49 PM
  3. المقاصد والمناورة العلمانية
    بواسطة د. أحمد إدريس الطعان في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 05-07-2005, 12:07 AM
  4. المقاصد والمناورة العلمانية
    بواسطة د. أحمد إدريس الطعان في المنتدى المكتبة
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 05-06-2005, 02:53 AM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء