جل الدراسات الأنتروبولوجية الحديثة بُنية على مرجعية مادية
وهي مُقدمة تم على أساسها صياغة جل النظريات وتفسير جل الاكتشافات الأثرية الحديثة
الوثائق والمخطوطات وكذا النقوش هي أشياء ملموسة وقد تقص علينا قصة واقعية (كألواح إبلة التي كانت تقص تاريخها الاقتصادي والإداري ومراسلاتها الدبلوماسية وأحداثها المهمة) وقد تكون قصص خرافية (كالأساطير اليونانية ومجمع الآلهة في جبل الأولمب) وقد تكون قصص واقعية مُزجت بطابع ميثولوجي خُرافي كملحمة جلجامش.
فلنأخذ على سبيل المثال قصة الطوفان
نقرأ في ملحمة جلجامش
إنا مرسلون طوفان من المطر يقضي على بني الإنسان ذلك حُكم وقضاء من مجمع الآلهة أمر آنو وإنليل فنضع حدا لملكوت البشر
هبت العاصفة كلها دفعة واحدة ومعها انداحت سيول الطوفان فوق وجه الأرض ولسبعة أيام وسبع ليال غمرت سيول الأمطار وجه الأرض ... فتح زيوسودرا الملك كوة في المركب العملاق تاركا أشعة أوتو البطل(إله الشمس) تدخل منه، زيوسودرا الملك خر ساجدا أمام أوتو ونحر ثورا وقدم ذبيحة...
ونقرأ في سفر التكوين 7: 1-4
وَقَالَ الرَّبُّ لِنُوحٍ: «ادْخُلْ انْتَ وَجَمِيعُ بَيْتِكَ الَى الْفُلْكِ لانِّي ايَّاكَ رَايْتُ بَارّا لَدَيَّ فِي هَذَا الْجِيلِ مِنْ جَمِيعِ الْبَهَائِمِ الطَّاهِرَةِ تَاخُذُ مَعَكَ سَبْعَةً سَبْعَةً ذَكَرا وَانْثَى. وَمِنَ الْبَهَائِمِ الَّتِي لَيْسَتْ بِطَاهِرَةٍ اثْنَيْنِ: ذَكَرا وَانْثَى وَمِنْ طُيُورِ السَّمَاءِ ايْضا سَبْعَةً سَبْعَةً: ذَكَرا وَانْثَى. لِاسْتِبْقَاءِ نَسْلٍ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الارْضِ لانِّي بَعْدَ سَبْعَةِ ايَّامٍ ايْضا امْطِرُ عَلَى الارْضِ ارْبَعِينَ يَوْما وَارْبَعِينَ لَيْلَةً. وَامْحُو عَنْ وَجْهِ الارْضِ كُلَّ قَائِمٍ عَمِلْتُهُ».
التفاصيل العامة موجودة في كلا النسختين السومرية والتوراتية، غضب الإله (أو الآلهة) اختيار مجموعة من الكائنات للنجاة، ثم عقاب الطوفان الذي يلحق بالبقية
نفس هذه التفاصيل قد نجدها عند حضارات أخرى
لنرجع الآن للتفسير المادي لهذه القصة
التفسير المادي ينطلق من مقدمة أن العالم مادي ولا يوجد شيء غير المادة
وعلماء الأنتروبولوجيا وعلماء الآثار ممن جاءوا بتلك المقاربات كان منطلقهم هو المرجعية المادية التي تُنكر وجود الإله
فلو سلمنا لهم بهذه المقدمة سيعني ذلك أن أصل الخبر يرجع إلى أقدم وثيقة عثرنا عليها، أي ملحمة جلجامش عن الطوفان، وما نعثر عليه من قصص لحضارات وشعوب فيها نفس الإطار العام لقصة الطوفان فهي إذا مُجرد اقتباس من الأصل الأقدم، وهكذا دواليك
يبدو هذا التفسير منسجما ومنطقيا
لكن الغير منطقي والغير علمي أن ننطلق من مقدمة باطلة ونبني عليها نتائجنا
حيث أنهم انطلقوا من إنكارهم لله حتى تستقيم استنتاجاتهم
وكل التفسيرات المادية للتاريخ ولباقي العلوم انطلقت من مُقدمة رئيسة تزعم إنكار وجود الإله وتُعطي المرجعة للمادة.
غير أن هذا الإنكار لم يقم أبداً على دليل،
فالمذهب المادي لم يستطع ولو مرة واحدة أن يُقدم دليلا على عدم وجود الله تعالى، وأما في ما يخص الاعتراضات التي وُجهت للعقيدة الدينية فجُلها كانت اعتراضات على الدين المسيحي واللاهوت الكنسي وإشكالات هي من صميم العقدية المسيحية كعقيدة الخطيئة الأصلية التي كانت الدليل المهم لمُعظم مُعتنقي المذهب المادي.
فمن جهة لم يستطيعوا اثبات دعواهم أن العالم مادي،
ومن جهة أخرى يتعرض التفسير المادي للتاريخ إلى جملة من الاعتراضات كفيلة بنسف هذا التفسير بشكل نهائي
فمُجرد القول بأن الإنسان السامري أو أي إنسان في الشرق الأدنى القديم اختلق قصة تنمي إلى العالم الميتافيزيقي هو قول لا ينسجم أبدا مع المذهب المادي، إذ كيف استطاعت المادة أن تُعطينا أساطير وقصص لا تنمي لعالم المادة،
وقصص الخلق على سبيل المثال، كلها قصص تبحث عن المعنى من وجودنا، وهذا البحث لا يُمكن تفسيره في الإطار المادي، فالمادية من سماتها العدمية والعبيثة واللامعنى، لكن بحث الإنسان عن المعنى يستحيل أن ينشأ عن طريق الطفرة أو عن طريق أي آلية مادية.
وهكذا يتبيّن أن المُقدمة التي اعتمدوها ظنية لا ترقى إلى درجة اليقين، وأي نتيجة بُنيت على جرف هار فسيكون مصيرها السقوط والانهيار.
ما هو إذا التفسير البديل
التفسير البديل والأكثر منطقية هو القول بأن حادثة الطوفان قد وقعت حقيقة، وكل شعب من الشعوب دَوَّنها بطريقته الخاصة ثم جاء الوحي ليقص هذه القصة على نبي من الأنبياء ليتعظ الناس وليُزجروا وليعتبروا،
الأصل إذا ليس لأقدم وثيقة بين ايدينا، وإنما للوحي الذي يقص علينا الحق.
الحضارة السومرية وصل إليها حدث الطوفان إما بالتراث الشفهي ممن عاينوا حادثة الطوفان ونجوا، أو عن طريق أحد الانبياء، ثم تعرضت هذه الرواية للتحريف على مر العصور، لتصل إلينا مدونة على ألواح سومر في ملحمة جلجامش، حيث تم تحريف التوحيد وإبداله بمجمع الآلهة، وتحريف في الشخصيات وبعض الأحداث، وليست قصة الطوفان في التوراة بالتي سلمت من التحريف، فتاريخ تدوين التوراة مر بمراحل يُحتمل ضياع الحدث الأصلي واستبداله بتراث شفهي أو بما علق في الذاكرة
هنا تأتي ميزة الفكر الإسلامي الذي يطرح بديلا لإعادة قراءة النصوص القديمة
وفي نظري فإن هذا المشروع كفيل بأن يُجيب عن العديد من الإشكالات التي لم يستطع علماء الغرب البث فيها
فمقدماتنا كلها بُنيت على أساس متين لا يتزعزع
الله موجود
القرآن كلام الله
والله يقول نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ
القرآن بيّن أن هناك قصص مُتداولة، لكنه يقص علينا أحسنها
فهناك قصة الطوفان بنسخة سامرية ونسخة توراتية، غير أن القرآن يقص علينا الواقعة مُترفعة عن جميع الشوائب.
فوجود القصة الحقيقة القرآنية هو الميزة التي لا تتوفر عند الغرب، إذ أن غياب الأصل الذي يحتكمون إليه، بل فساده وتحريفه (الكتاب المقدس) هو الذي جعلهم يخرجوا بتلك النتائج المُنغمسة في وحل الباطلة.
في هذه المشاركة أخذت كنموذج "قصة الطوفان" وبنفس المنهج مُمكن أن ندرس باقي قصص الحضارات القديمة
فوجود أخبار غيبية (خلق الإنسان، الطوفان، معجزات الأنبياء) في حضارة، ووجود نفس هذه القصص في حضارة أخرى لا يدل ضرورة على اقتباس الحضارة الأحدث من الحضارة الأقدم، بل إن بعض الابحاث الأركيولوجية أكدت عدم وجود أي دليل يُثبت انتقال قصة الخلق والطوفان من الحضارة السومرية إلى الكتاب المقدس، وهو قول جدير بالدراسة ومن شأنه أن يحفز المذهب المادي إلى إعادة النظر في مرجعيته ومسلماته
أخيراً لا أخفي استمتاعي بالقراءة للاستاذ الاصفهاني وكذلك أستاذي الحبيب طالب العفو
Bookmarks