النتائج 1 إلى 15 من 15

الموضوع: فكر حركة الاستنارة وتناقضاته .. د.عبدالوهاب المسيري.

  1. افتراضي فكر حركة الاستنارة وتناقضاته .. د.عبدالوهاب المسيري.

    يسرنا أن نقدم لكم كتاب (فكر حركة الاستنارة .. وتناقضاته) من تأليف د.عبدالوهاب المسيري، على ملف وورد، نسأل الله أن ينفع به السائلين، وييسر عمل الباحثين.

    الملف في المرفقات:
    الملفات المرفقة الملفات المرفقة
    اللجنة العلمية بمنتدى التوحيد

  2. افتراضي

    مصطلح «الاستنارة» في الخطاب الفلسفي العربي


    أصبحت كلمة «استنارة»، مؤخراً، كلمة محورية في الخطاب السياسي والفلسفي العربي. وقد يكون من المفيد أن نُعلق على ما حدث للمصطلح في السياق العربي . ولنا أن نلاحظ ما يلي:

    1 _ تعريفات الاستنارة في الأدبيات العربية تعريفات عامة للغاية مثل « حق الاجتهاد والاختلاف»، و«شجاعة استخدام العقل»، و «لا سلطان على العقل إلا سلطان العقل»، و «الاستخدام العام لعقل الإنسان في جميع القضايا ».

    وتقتبس كثير من الدراسات العربية في الاستنارة كلمات كانط الشجاعة مثل « كن جريئاً في أعماق عقلك» دون أن تربطها بمعجم كانط الفلسفي المركب . وقد عرف أحد المعاجم «الفلسفية» حركة الاستنارة بأنها «حركة فلسفية في القرن الثامن عشر تتميز بفكرة التقدم ، وعدم الثقة بالتقاليد ، وبالتفاؤل والإيمان بالعقل ، وبالدعوة إلى التفكير الذاتي والحكم على أساس التجربة الشخصية» ثم توقف المعجم عند هذا القدر، أي أنه ساوى بين «تعريف حركة الاستنارة» والأماني الشجاعة الساذجة التي عبر عنها دعاة هذه الحركة ، وكأن الأماني هي التعريف ، وكأن المتتالية المثالية المفترضة هي ذاتها المتتالية المتحققة .

    ولا بد أن هناك تعريفات أكثر عمقاً وتركيبة من هذه ، ولكن المشكلة أن التعريفات النبيلة السهلة هي التي كُتب لها الذيوع ، وهى التي أصبحت إطار الحوار بخصوص هذه الحركة الفلسفية الغربية . وكل ما تدعو إليه هذه التعريفات نبيل للغاية ولا يمكن للإنسان أن يختلف معها ، فمن ذا الذي يرفض حق الاجتهاد والاختلاف وتحكيم العقل في جميع القضايا . فالمشكلة لا تكمن في استخدام العقل أو عدم استخدامه وإنما في نوع العقل الذي يُستخدم (عقل مادي أداتي أم عقل قادر على تجاوز المادة) وفى الإطار الكلى الذي يتحرك فيه هذا العقل والمرجعية النهائية التي تصدر عنه. (يُلاحَظ أنه ثمة ترادف بين كلمتي «استنارة» و «علمانية» ، بل بين كلمتي «استنارة» و «مادية» ، على الرغم من أن النزعة العقلية ليست بالضرورة مادية ، والنزعة المادية ليست بالضرورة عقلية ، والسوفسطائيون ونيتشه وفكر ما بعد الحداثة شاهد على ذلك) .


    2_ ومن الواضح أن صورة النور المجازية هذه ليست من إبداع العقل العربي العلماني ، إنما هي صورة استعيرت من التراث الغربي لا بالمعنى المجازى وحسب وإنما بمعنى أنها قد «أخذت» أو «اقتُبست» (كما نقول «استعرت الكتاب» ) وإن كانت «الاستعارة» تعنى أن ما أُخذ يُردُّ ، ففي حالة الاستنارة هي مجموعة من الأفكار اقتبست ولن تُرد بأية حال، فهي معنا باقية ،

    وصورة الأنوار المجازية جزء من المعجم الفلسفي والحضاري الغربي . ولا بأس أن نستعير من حضارات الآخرين ، إذ كيف يمكن أن يتسع أفقنا المعرفي وندرك ما أبدعته يد الإنسان في أماكن أخرى وفى أزمنة مغايرة؟ ولكننا سنلاحظ أن الفكر العلماني العربي ، حينما يقتبس من الغرب ، فإنه على ما يبدو يتجاهل حقيقة أن مصطلحات الآخر ليست جزءاً من معجمه اللغوي وحسب وإنما هي جزء من معجمه الحضاري أيضاً . ففكر الاستنارة وعصر النهضة يوضع عادةً في الأدبيات الغربية مقابل عصر الظلمات الوسيط ، ولنا أن نسأل : هل العصر العباسي الأول (الذي يتزامن مع العصور الوسطى المظلمة في الغرب) هو أيضا عصر ظلمات بالنسبة لنا يتبعه عصر نهضة ثم عصر استنارة ؟ إن اقتباس الصور المجازية على هذا النحو أمر فكاهي يدل على أن بعض الإخوة العلمانيين غير عقلانيين في إيمانهم بالغرب حتى أنهم ينساقوا للنقل بهذا الشكل دون تحكيم العقل.

    3_ تُقدِّم حركة الاستنارة إلى القارئ العربي على أنها مجموعة من الأفكار الجيدة التي سيؤدى تبنيها إلى إصلاح حال البلاد والعباد . ونحن نفرق بين الفكر والأفكار ، ونذهب إلى أن العقل العربي ينقل أفكاراً لا فكراً أو منظومات فكرية ، فكلمة «فكر» تفترض وجود منظومة مترابطة من الأفكار التي يوجد بينها وحدة ما ، ونموذج معرفي واحد ، وحينما يتم نقل الأفكار دون إدراك للنموذج الكامن وراءها ، فإنه يتم تجاهل إبعادها المعرفية «الكلية النهائية» ومن ثم يختفي المنظور النقدي وتتعايش الأفكار المتناقضة جنباً إلى جنب ولا يمكن التمييز بين الجوهري منها والهامشي .


    4_الفكر العلماني العربي ليس منفتحاً بما فيه الكفاية على كل الحضارات الأخرى ، فالحضارة «العالمية» بالنسبة للمثقف العربي تعنى عادة إنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة والفكر الليبرالي والفكر الماركسي . وإن اتسع أفقه ، ضم إلى ذلك إسبانيا وبولندا وروسيا ، وإن كد وتعب تعرف على إيطاليا واليونان وهكذا ، ولكنه لا يغادر نطاق العالم الغربي إلا فيما ندر . فحدود العالم ـ بالنسبة له ـ تنتهي عند العالم الغربي ، ولذا فهو لا يعرف شيئاً عن الاستنارة في الصين (وبالمناسبة فإن مصطلح «استنارة» له امتداد تاريخي عريق في التراث الصيني ).


    5_ابتدع العقل الغربي صورة الاستنارة المجازية في القرن الثامن عشر حينما كان العلم الحديث لا يزال غضاً وليداً ، فقد ساد الوهم لدى العلماء بأن العلم سينير المجهول (المُظلم) ليصبح معلوماً منيراً ، وأن هذه العملية تدريجية ، بمعنى أن رقعة المعلوم ستتزايد على مر الأيام ورقعة المجهول ستنكمش إلى أن تصل إلى نقطة تختفي فيها الأسرار ونتحكم فيها في الواقع وقوانينه ونصلح البيئة ، بل وربما النفس البشرية ذاتها.

    وبعد أربع قرون من الاستنارة ، اكتشف الإنسان الغربي أن الأمور ليست بهذه البساطة ، لأنها لو كانت لكنا قد قضينا على الشر والأشرار (أو على معظمهم على الأقل) منذ زمن بعيد ، ولما ظهرت في العالم الغربي (الذي طبق مُثُل الاستنارة منذ أمد بعيد) حركة عنصرية كاسحة في القرن التاسع عشر ، وتشكيل إمبريالي شرس أباد الشعوب وأذلها ، ولما اندلعت حربان عالميتان (غربيتان) ، ولما ظهر الحكم الإستالينى والنازي اللذان لم يدمرا العقل وحسب بل دمرا الروح والجسد، ولما ظهرت حركات ثورية تدافع عن الإنسان وتحولت إلى حكومات إرهابية تبيد الملايين ، ولما وجدنا أنفسنا في مدن إيقاعها لعين نسير في طرقاتها نتلفت من حولنا ، ولما استيقظنا في الصباح نسأل عن أخبار التلوث والانفجارات النووية والتطهيرات العرقية والرشاوى وعمولات السلاح والفساد والإباحية والإيدز وأخبار النجوم وفضائحهم ومعدلات تفكك الأسرة ومدى نهب الشمال للجنوب وحسابات حكام العالم الثالث في بنوك سويسرا ، ولما ظهرت حركات عبثية لا عقلانية تناصب العقل العداء وتعلن بفرح وحبور تفكيك الإنسان ونهاية التاريخ، ولما شعرنا بالاغتراب حتى أصبح رمز الإنسان في الأدب الحداِثي هو«سيزيف الذي يحيا حياة لا معنى لها» وأصبح رمز العصر الحديث هو الأرض الخراب ، ولما قضى الإنسان الحديث وقته في انتظار جودو الذي لن يحضر .

    إن ثمرة قرون طويلة من الاستنارة كانت إلى حدِّ ما مظلمة ، ولذا راجع الإنسان الغربي كثيراً من أطروحاته بخصوص الاستنارة بعد أن أدرك بعض جوانبها المظلمة وتناقضاتها الكامنة وخطورتها على الإنسان والكون.

    ومع هذا ، يقوم الفكر العلماني العربي بنقل أطروحــات الاستنارة من الغرب بكفاءة غير عادية تبعث على التثاؤب والملل أحياناً ، وعلى الحزن والغم الشديدين أحياناً أخرى ، فهو ينقل دون أن يُحوِّر أو يُعدِّل أو ينتقد أو يُراجع.
    اللجنة العلمية بمنتدى التوحيد

  3. افتراضي

    أصول فكر حركة الاستنارة

    كلمة «استنارة» مأخوذة في اللغة العربية من الفعل «استنار» المشتق من كلمة «نور» وهى ترجمة لعدة كلمات في اللغات الأوربية مثل «إنلايتنمت Enlightenment» الإنجليزية ، وهى مشتقة من كلمة «لايت Light» بمعنى «نور» (التي هي بدورها ترجمة للكلمة الألمانية). ويقال لفكر الاستنارة أحياناً «فلسفة الأنوار» أو«فلسفة التنوير». و «النور» في الوجدان الإنساني هو عكس الظلام تماماً، كما أن الخير هو عكس الشر . ومن ثم فإن كلمة «الاستنارة» (بمعنى الفكر الشبيه بالنور الذي يبدد الجهل الشبيه بالظلام). لا تختلف كثيراً عن صور الخطاب السياسي والفلسفي المجازية الشائعة والذي يجنح إلى رؤية العالم من خلال مجموعة من الثنائيات الصلبة المتعارضة البسيطة مثل حمائم / صقور ـ مدني / ديني ـ آلي / عضوي ، وهى ثنائية صلبة تعكس الثنائيات المتعارضة التي يتوهم البعض وجودها في الطبيعة ، والتي تعبر عن نفسها في الرمزين الرياضيين سالب / موجب.


    ويُشار أحياناً لــ «عصر الاستنارة» باعتباره «عصر العقل» (مقابل عصر اللاعقل) . ولكن هناك من يستخدم عبارة «عصر العقل» للإشارة إلى تلك الحقبة في التاريخ الفكري لأوربا في القرن السابع عشر وبدايات القرن الثامن عشر التي انتشرت فيها الفلسفات العقلية والرؤية العلمية والمادية الآلية بين أعداد كبيرة من الجمهور المتعلم وفى أوساط بعض أعضاء النخبة الثقافية والسياسية ، وقد أخذ هؤلاء يدعون بشكل واع لأفكار عصر العقل ابتداءً من القرن الثامن عشر . يشار إلى هؤلاء الدعاة بكلمة «المستنيرين» ، ويشار إلى هذه الحقبة من تاريخ أوربا الفكري بتعبير «عصر الاستنارة» . ولكننا لا نأخذ بهذا التمييز ونشير إلى كلتا المرحلتين بعبارة «عصر الاستنارة» . وكان من بين دعاة الاستنارة بعض ملوك أوربا المطلقين وأعضاء الجمعية الملكية البريطانية (1662) وأعضاء الأكاديمية الفرنسية للعلوم (1666) وأعضاء المحافل الماسونية وجماعات الإليوميناتى والروزيكروشيان السرية.


    ويعتقد البعض أن فكر عصر العقل يعود بجذوره إلى كتابات فرانسيس بيكون ، وخصوصاً كتابه نوفوم أورجانوم Novum Orgunum (1620) ، أي المنهج الجديد ، وإلى كتابات توماس هويز (1588-1679) بماديتها الصارمة ، وإلى عقلانية رينيه ديكارت (1596-1650) وإلى حلولية باروخ إسبينوزا (1632-1677) الواحدية المادية، وإلى إمبيريقية جون لوك (1632-1704) ، وإلى رؤية إسحق نيوتن (1642- 1726) الآلية للكون ، وإلى أفكار لايبنتس (1646- 1716) . ويضم الجيل الأول من المستنيرين في فرنسا جان جاك روسو (1712- 1778) وفرانسوا فولتير (1694-1778) ومونتسكيو (1689-1755) ، أما الجيل الثاني فيضم دنيس ديديرو (1733-1784) الذي نشر أول جزء من موسوعته عام 1751 ، وإيتان بونيه دى كونديلاك (1715-1780) وجوليان دى لامتيرى(1709-1751) وكلود هلفتيوس (1715-1771)

    وبول هنري هولباخ (1723-1789) ، وفى ألمانيا ، ضمت قائمة المستنيرين كلاً من كريستيان وولف (1679-1754) وجتليب باومجارتن (1714-1792) والمفكر الألماني اليهودي موسى مندلسون (1729-1786) ولسنج (1729- 1781) وعمانوبل كانط (1724-1804) ويوحنان هردر (1744-1803) ، أما في إنجلترا ، فإن أهم تجلِّ للاستنارة هو حركة الربوبية ، ومن أهم مفكري الاستنارة فيها جوزيف بريستلى (1733-1804) وجريمي بنتام (1748-1832) وآدم سميث (1723-1790) وإدوارد جيبون (1737-1794) ووليام جودوين (1756-1816) ، ومن أهم مفكري الاستنارة فى الولايات المتحدة توماس بين (1737-1809) وتوماس جيفرسون (1743-1826) وبناجمين فرانكلين (1706-1790). وتجمع كتب التاريخ على أن كلاً من الثورة الأمريكية والثورة الفرنسية هما نتاج عصر الاستنارة ، وأن عصرنا الحديث هو ابن عصر الاستنارة.
    اللجنة العلمية بمنتدى التوحيد

  4. افتراضي

    فكر حركة الاستنارة وبعض مصادرها الأساسية

    يؤكد مؤرخو حركة الاستنارة أهمية كل من جون لوك ونيوتن في وضع أسس فكرها ، فلوك زوِّد دعاة الاستنارة برؤية مادية بسيطة للعقل ولآليات تكون الفكر ، وقد دعمها نيوتن برؤية مادية بسيطة للكون وآليات حركته ، فكأنه قد تم إدخال الماكروكوزم والميكروكوزم (الكون الأكبر والأصغر) في دائرة التفسيرات البسيطة الواضحة. وقد شبه تلقى كتابات لوك في القارة الأوربية بتلقي القانون الروماني في المقاطعات الألمانية في بداية العصور الوسطى . كما أن أعمال نيوتن ترجمت بعد صدورها بمدة وجيزة إلى الفرنسية. ويُعد نيوتن من أوائل العلماء الذين توصلوا إلى نظرياتهم العلمية في عصر يؤمن بوحدة العلوم ، ومن ثم ليس مستغرباً أن تعتبر نظريته ذات فعالية لا في عالم الأجسام المادية المتحركة وحسب وإنما في عالم العقول البشرية ، أي في عالم الأشياء والإنسان . وهو بهذا يُعد أول عالم طبيعي في خط طويل من العلماء تتحول نظرياتهم من مجرد رؤية جزئية في عالم الطبيعة إلى رؤية شاملة للكون(مثل داروين وأينشتاين) .


    ونـحن نذهب إلـى الاستنـارة هي ببسـاطـة شـديـدة ( لكـنهـا غير مخلة) رؤية مادية عقلانية تدور حول رؤية محددة للعقل وعلاقته بالطبيعة / المادة وتتفرع عنها رؤية للتاريخ وللأخلاق والجمال ..الخ . وتدور أي منظومة فلسفية حول ثلاثة محاور: الإنسان والطبيعة والإله ، وفى الاستنارة يحل العقل محل الإنسان في الثالوث.


    1_عقل الإنسان :



    الفكر الاستنارى فكر عقلاني يؤكد المرجعية الإنسانية ومركزية العقل الإنساني ويعطى صورة مشرفة للعقل ، فمصدر المعرفة الوحيد هو العقل (الذي لا يقبل إلا البديهيات الواضحة وما يتفق مع قواعد المنطق) والحواس (التي لا تقبل إلا ما يقاس) والتجريب (الذي تخضع له كل الموجودات) ، ويندرج تحت التجريب التاريخ ، فهو تجربة الإنسان في الماضي . وكل ما هو مطلوب من الإنسان العاقل (المزود بالعقل وبالحواس والمنطق والمعرفة المتراكمة التاريخية والعلمية) أن يقوم عقله برفض أي حقائق متجاوزة للواقع المادي المحسوس مثل الأساطير والأوهام والغيبيات والتخيلات والحجج التقليدية والعقائد والمسلمات. ولكن العقل في واقع الأمر يظهر في صورتين:

    (ا) العقل الفعال : العقل ـ حـسب تصـور كانطـ ـ كـيان فعـال فـُطرت فيه بعض الأفـكار والمقـولات التحليلية (مثل السببية والقـوانين المنطقية والرياضية ومـقولات الزمان والمكان وأحـيانا الحـس الخلقي والإحساس بالجمـال والأبدية !) ، أي أن هذه الأفـكار الفـطرية الكـامنة هـي التي تـقـوم بتحويل الأحاسيس (الطبيعية والمادية) المتناثرة إلى مدركات حسية وإلى مفاهيم كلية ، فالحواس تقوم برصد التفاصيل والظواهر المختلفة للعالم الطبيعي المادي بتجرد كامل (بأمانة كاملة) وتدركه كمجموعة من التفاصيل المادية ، ولكن العقل الفعال المبدع هو الذي يجردها وبربط فيما بينها ويضيف السببية ومفاهيم الزمان والمكان ، ومن ثم تتحول الحقائق (المادية) إلى حقيقة وكليات.


    (ب)العقل السلبي المتلقي :العقل، حسب تصور جون لوك وبعض الفلاسفة الموسوعيين(في فرنسا)ـوهم من أهم واضعي أسس النظرية الاستنارية للعقل ـ إن هو إلا جزء لا يتجزأ من الطبيعة / المادة (مادة في حالة حركة أو مجرد شكل راق من أشكال المادة. ولذا،فهو كالصفحة البيضاء التي تسجل كل ما ينطبق عليها من أحاسيس مادية، بشكل مادي كـمي آلي، يوما بعد يوم. ولا يوجـد في العقل شيء إلا وقد سبق وجوده في الحس (باللاتينيـة:نيهيل إن إنتليكتو كوود نان بريوس إن سنسو nihil in intellectu quod non prius in sensu).والأفكار الكلية المجردة في التحليل الأخير معطيات جزئية حسية (مادية)تراكمت على سطح العقل وأصبحت من خلال عملية التراكم الآلية والتلاحم الآلي فيما بينها ومن خلال قوانين الترابط(الآلية)أفكاراً أكثر تركيباً.وهذه الأفكار المركبة تتلاحم وتتفاعل وتترابط بدورها إلى أن تصل إلى الأفكار الكلية.فالأفكار الكلية هي- في التحليل الأخير ـ أفكار جزئية ، والأفكار المجردة أفكار حسية ، وما المعرفة إلا نتاج الإدراك الحسي المادي، وما الحقيقة سوى مفاهيم نجردها من جماع إدراكاتنا الحسية المختلفة ، وفى هذا الإطار تصبح العقلانية المادية أكثر تبلوراً ووضوحاً ومادية.

    وسواء كان العقل فعالاً يقوم بصياغة المعطيات الحسية داخل القوالب المفطورة فيه أو متلقياً للمعطيات الحسية التي تتشكل بشكل آلي ومن تلقاء نفسها ، فإن العقل ، في جميع الأحوال، أداة كافية لإدراك الواقع . وتستمر العمليات الإدراكية التي يقوم بها على مستويات مختلفة حتى يصل الإنسان إلى ما يشبه الحقيقة الكلية وإلى قوانين الواقع ذات الطابع العام القابلة للتطبيق والاختبار التجريبي . ومن خلال هذه المعرفة وتراكمها عبر الأجيال ، يمكن للإنسان التحكم في الواقع والهيمنة عليه وتوظيفه والتوصل إلى نظم معرفية وأخلاقية وسياسية رشيدة ، وتتزايد مقدرته على التمييز بين ما هو رشيد وغير رشيد ، وبين ما هو حقيقي وزائف ، وبذا يحقق الإنسان لنفسه السعادة الأرضية . وهذه رؤية للواقع تولّد في نفس صاحبها تفاؤلاً عميقاً وتحرر الإنسان من مخاوفه وتضعه في مركز الكون وتنصبه مرجعية نهائية ، فالعقل هنا هو بديل الإله في النظم الدينية وله أسبقية على كل الموجودات ويتمتع باستقلالية كاملة عن الطبيعة / المادة، بل ويعنى أيضاً استقلال كل فرد عن الكل الإنساني إذ أنه يصبح لكل إنسان مقدرته العقلية وإبداعه الخاص وطريقته الخاصة للوصول إلى المعرفة ولكنها معرفة لا تتناقض مع المعرفة التي يتوصل إليها الآخرون.


    2- الطبيعة :


    آمن دعاة الاستنارة بأن الطبيعة لها قوانينها الثابتة المطردة المعقولة وأنها كل مادي ثابت متجاوز للأجزاء له غرض وهدف، ولذا فهي مستودع القوانين المعرفية والأخلاقية والجمالية، ومنها يستمد الإنسان معياريته. وقد فرق دعاة الاستنارة بين الخارق للطبيعة وغير الطبيعي، أما الخارق للطبيعة فلا وجود له، محض خيال، أما غير الطبيعي فهو موجود، ويشكل انحرافاً عرضياً عن جوهر الطبيعة. فالتأنق الزائد ، على سبيل المثال ، والعادات غير العقلانية والتقاليد المتراكمة عبر التاريخ والكهنوت وكل الجرائم تشكل انحرافاً عن الطبيعة.

    والطبيعة هي مـستودع القوانين المعرفية والأخلاقية والجمالية ومـا دام الإنسان مرتبطاً بالطبيعة مـهتدياً بهديها ، فإنه سيصل إلى الطـريق المـستقيم ويصل إلى المـنظومات المـعرفية والأخـلاقية التي تخـدم صالحه وتحـقق التقـدم اللانهائي وتعمل على ضبط المجتمع وتـرشيد السـلوك الإنـساني . ولذا تـم تأسـيس مـفاهيـم مـثل الحـقيقة والحق والخير والجمال انطلاقاً من مفهوم الطبيعة / المادة باعتبار أنها الـركيزة الأساسية . وقـد تفـرع عن هـذا رؤيـة فـي دور الدولة التي تهـتدي بهـدى الطـبيعـة والعقـل وتُـطبـق القــوانيـن عـلى الـمجـتمع وتعـيد صياغتـه ، ورؤية في الأخـلاق باعتبارها تعـبيراً عن الاتجـاهات الطبيعية في الإنسـان والتي يمكـن ضبطهـا أيضـاً مـن خلال عـملية ترشيد عقلانية مـادية ، فظهر الإنسان الطبيعـي والحقـوق الطبيعيـة والدين الطبيعي والأخلاق الطبيعية .


    3-الإله :


    يتـأرجح الفكـر الاســتنارى بين الإلحــاد الصـريح والربوبية ، ولكن سواء كان الإله موجوداً أو غير موجود فهذا أمر هامشي لأنه إن وجد فلا له علاقة له بمنظومات الإنسان المعرفية والأخـلاقيــة والجــمــالـيـة (التي تسـتنـد إلـى الـطـبيـعـة / الــمادة) ، فالإله بالتالي ، شأن خاص .


    ولم يكن فكر حركة الاستنارة في جميع الأحوال مادياً واحدياً بسيطاً دائماً ، فكانط ، على سبيل المثال ، كان يعتبر نفسه ممثلاً لحركة الاستنارة وفكرها ، كما أن روسو بعاطفته المشبوبة قد يعطى انطباعاً بأنه أبعد ما يكون عن العقلانية المادية . ومع هذا ، فإننا نذهب إلى أن الاستنارة وصلت لحظتها النماذجية المادية العقلانية الواحدية في فكر مدرسة الفلاسفة أو الموسوعيين فى فرنسا ، ولذا فإن تناول أفكارهم قد يوضح لنا بشكل متبلور طبيعة الرؤية الاستنارية كمشروع وكمتتالية مثالية متوقعة على أن نتناول إشكاليات الاستنارة وتناقضاتها فيما بعد .

    يُعد فـولـتير بلا منـازع فيلـسـوف الاستنـارة الأكـبـر . وقـد تعـاون مـع دنيس ديدرو في إعداد الموسوعة . وقد تأثر فولتير بأفكار الفيلسوف الإنجليزي جون لوك ، وكان يؤمن مثل معظم مفكري عصره بالرؤية النيوتونية الواحدية الآلية . فالطبيعة تتحرك حسب قوانين آلية صارمة أزلية ، ولكنه كان ربوبياً يؤمن بأن الإله هو المحرك الأول ، وأن ثمة علة نهائية وعقلاً أعلى ومهندساً أسمى في الكون . والإله ليس جوهراً مستقلاً وإنما هو حال في الطبيعة جزء لا يتجزأ منها وتنكمش إرادته وتتقلص لتصبح هي مبدأ الحركة الأولية في الطبيعة . وكان فولتير يقرن بين الإله والطبيعة وانتقد بحدة ثنائية الروح والجسد ، والوعي والحركة ، فالروح ليست شيئاً مستقلاً عن المادة ، والوعي هو الآخر من خصائص المادة التي توجد في الأجسام الحية (ولكنه ، انطلاقاً من إيمانه الربوبى بالإله كمحرك أول ، «أضاف» أن الإله هو الذي وضع خاصة الوعي في المادة) . وقد رفض فولتير فكرة الأفكار الكامنة المفطورة في العقل ، فمصدر المعرفة الوحيد هو الملاحظة والتجربة . وفلسفة فولتير في التاريخ تنبع من منظومته المعرفية المادية (ويُقال إنه هو صاحب اصطلاح «فلسفة التاريخ») ، فكان يؤمن بأن ما يحرك التاريخ هو فكرة التقدم دون تدخل من الإله ، وأن الهدف من دراسة التاريخ ليس إِشباع الفضول وإنما البحث عن المُثُل التي تساعد على التحكم في المستقبل . وكان فولتير من مؤيدي الملكيات المطلقة المستنيرة ، ولكنه كان في نهاية حياته يميل نحو الحكم الجمهوري .

    ويُلاحظ تصاعد معدلات الواحدية بين مفكري الاستنارة والعقلانية المادية والتراجع التدريجي لأي فكرة عن إله مفارق للمادة حتى ولو اسماً وتراجع تدريجي للعقل الفعال وتزايد مركزية العقل المتلقي . فجوليان دى لاميترى الذي ألف كتاباً بعنوان التاريخ الطبيعي للنفس (1745) وآخر بعنوان الإنسان آلة (1748) ، تأثر بالجانب المادي الآلى في فلسفة ديكارت وأسقط تماماً الجانب الميتافيزيقي . والفكرة المحورية في كتاباته أن الكون آلة تحكمها قوانين الحركة، والإنسان مثل الحيوان تماماً والحيوان بدوره مثل الآلة، ولذا فإن أفعالهما متشابهة، وحالات الروح تماثل حالات البدن وكلاهما تحكمه قوانين الحركة الآلية. والإنسان يأتي بنفس الأفعال التي تأتى بها الحيوانات ، ولا تختلف أفعاله عن أفعال الحيوان إلا في الدرجة (وهذا هو الأساس الفلسفي لما يُسمى«وحدة[أو واحدية] العلوم») . إذا كان الأمر كذلك، فما الداعي لوضع نفس روحية في الإنسان ، وحتى إذا افترضنا وجود نفس فسنكتشف أنها ليست إلا تكراراً للجسم . ولكل هذا ، فإن افتراض وجود الإله «افتراض لا لزوم له»ـ وهو بالفعل كذلك إذا كان الإنسان مادة محضة ؛ آلة . ( ومن الطريف أنه يُقال إن دى لاميترى مات من التخمة ، أي بسبب مادي تماماً ، ولعله قد أكل بطريقة واحدية مادية حيوانية آلية ولم يدرك حدود جسده).

    وقد زعم دنيس ديدرو انطلاقاً من واحديته المادية أن المادة حية بذاتها ، وأن الحركة باطنة في المادة وفى جميع الكائنات ، وبالتالي فإن جميع الأجناس يسرى بعضها في بعض (أي ثمة جوهر واحد) فكل حيوان هو إنسان إلى هذا أو ذاك الحد ، وكل معدن هو إلى حد ما نبات ، وكل نبات هو إلى حد ما حيوان . وليس في الطبيعة شيء معين على وجه الدقة ، فكل شيء هو إلى حد ما ماء أو هواء أو نار ، وهو إلى حد ما من أصل أو من آخر ، فكأنه عاد بالفلسفة إلى مرحلة ما قبل سقراط . والعقل إن هو إلا عضو مادي من أعضاء الجسم شديد التعقيد والتخصيص. وبعد مرحلة من الإيمان بالربوبية ، مثل فولتير ، اقترب من فكرة أن الإله قد مات باعتبار أن الإله حالّ في عالم الكون وأصابه ما يصيب المخلوقات الأخرى من فساد ، أي أن الإله في منظومته الحلولية الكمونية هو مثل الأعشاب والحيوانات والإنسان !

    وقد كتب كلود أدريان هلفتيوس كتابيه عن الروح (1758) وعن الإنسان (1773) وهو يذهب فيهما إلى أن سلوك الإنسان يستند إلى الحساسية الفيزيقية فالذاكرة هي أحاسيس دائمة خافتة ، وهى آلية من آليات المعرفة ، والفكر هو مجموعة حواس ترد الذات برمتها إلى البيئة الخارجية ، فيقول : «نحن من صنع الموضوعات المحيطة بنا ، ليس إلا».

    وأكد بول هنري هـولباخ في أهم كتبه نظام الطبيعة (1770) أن الإنـسان ابـن الطـبيعـة ، وأنه لا وجـود لشيء فـيهـا اسـمـه الــروح ، وأن الأخلاق والأفكار مصدرها الأحاسيس وأن الطبيعة مادة وحركة ، والحركة هي حركة آلية بسيطة للأجسام ، والعالم المادي من صنع نفسه ، وكل شيء يحكمه قانون الضرورة وشبكة السببية الصلبة المطلقة . وقد هاجم الدين بضراوة في عدد من الكتاب .

    وتتوج هذه الواحـدية المادية السوقية الكاملة التي لا ترى سوى جـوهراً واحـداً مادياً فـي العـالـم وتصل لحـظتها النماذجية في أعـمال بيير كـابانيـس (1757 - 1808 ) الطـبيب الـذي كـان يؤمـن بـأن الإنسـان سـيد مـصيره وأن عـنده مـقدرة لا حد لها على التطـور بما يستقر لديه من وسائله الخاصة. وهذا التفـاؤل الشامل مـرده إيمان كابانيس الذي لا يتزحـزح بأن الإنسان مـادة مـحضة يمكن اختزاله إلى عمليات بيئية وكيميائية وفسيولوجية ويمكن تحليله كما تـُحلل المعادن والخضروات ويُحلل فكره كما تُحلل العناصر الكيميائية وتُرد جميع أحواله النفسية إلى العوامل المادية المختلفة (البيئة والغذاء ومزاج الجسم) . ولذا ، قصر كابانيس دوافع السلوك على الأنانية وعلى تحصيل السعادة واللذة ، وقال ببراءة مادية رائعة :«إن الدماغ يفكر كما تهضم المعدة وكما تفرز الكبدة الصفراء»وأكد بكل شجاعة أن «المعنوي هو المادي». ولذا، يجب أن يحل محل الواعظ القديم الطبيب الإخصائي. وقد قال كابانيس بتحسين السلالات الإنسانية بانتقاء الصفات الوراثية وبإمكانية تحسين وضع الإنسان إذا استطعنا فهم الإنسان فسيولوجياً .

    وفلسفة كابانيس سطحية مادية ، مدهشة في سطحيتها وماديتها ، وهى مع هذا رؤية نماذجية ، ظهرت فيها كل الموضوعات الأساسية في الفلسفات الواحدية المادية . ويحدد كتابه العلاقات بين الطبيعي والمعنوي في الإنسان (1820) كثيراً من مقولات الماديين فيما بعد ذلك عن علاقة البناء التحتي (المادي) بالبناء الفوقي (المعنوي) . (يُلاحظ أن أفكار كابانيس بدأت في وقت متأخر من حياته تتحول باتجاه أكثر روحانية ، فهو يتأرجح بين المادية والمثالية في إطار من الواحدية).

    وكان الماركيز جان أنطوان نيكولاس دى كوندورسيه (1743-1794) ـ أصغر الموسوعيين - رياضياً فرنسياً ومؤرخاً للعلوم ومصلحاً اجتماعياً ويؤمن إيماناً كاملاً بوحدة العلوم وبأن العلوم الطبيعية والنماذج الرياضية قادرة على أن تنير سلوك الإنسان، ولذا ، طالب بتطبيقها على دراسة الظاهرة الإنسانية، وقد كان كوندورسيه يرى أن قانون حساب الاحتمالات هو الحلقة الأساسية التي تصل بين العلوم الطبيعية وعلم الإنسان ، فكل حقائق التجربة احتمالية . ودرجة الاحتمالية في الظاهرة الإنسانية أعلى منها في الظاهرة الطبيعية. ومع هذا، يمكن التعبير عن كل درجات الاحتمالية من خلال نظرية الاحتمالات، ومن ثم يمكن التوصل إلى درجات اليقين الرياضية بخصوص كل الظواهر.وقد حاول كوندورسيه أن يطور ما سماه «الرياضيات الاجتماعية» باعتبارها علم السلوك
    الذي سيشكل الأساس الفلسفي لمجتمع ديموقراطى رشيد (الأمر الذي يذكر المرء بفيزياء كونت الاجتماعية) . وإن طبق الإنسان الرياضيات الاجتماعية على كل مجالات حياته ، واستخدم لغة علمية دقيقة رشيدة ، فسيكون بوسعه أن يُسقط أشكال التفكير العادية والغريزية التقليدية ويحل محلها التقييم الدقيق والحساب الرشيد وتسود إمبراطورية العقل ، أي أن الرياضيات الاجتماعية هي الحلقة الأساسية بين التقدم العلمي والتقدم الأخلاقي.

    وهذه الرؤية هي الأساس الفلسفي لكل اليوتوبيات التكنوقراطية . وبالفعل يطرح كوندورسيه رؤيته في التقدم في كتابه مخطط لصورة تاريخية لتقدم العقل البشرى(1797) . والهدف من هذا الكتاب هو إظهار تاريخ انعتاق الإنسان التدريجي من بيئته الطبيعية ثم من الحدود التاريخية والحضارية التي فرضها هو على نفسه . ويستند إيمان كوندورسيه بالتقدم إلى إيمانه بالإنسان الطبيعي الذي تستند حقوقه إلى حقائق طبيعية حسية وبمقدرته على مراكمة الأفكار والأحاسيس التي ترضيه وتخدم مصلحته بشكل آلي . وهذه المقدرة توجد في كل من الإنسان الفرد والجنس البشرى بأسره ، وهى عملية شاملة تبدأ من أبسط الأحاسيس وتنتهي في أكثر الأفكار تركيباً ، وهى تكشف منطق المصلحة الإنسانية بشكل آلي . ومن ثم ، فإنه يمكن المساهمة في عملية التقدم عن طريق تحرير الإنسان الطبيعي من القيود ، وهذا سيؤدى إلى التقدم الحتمي اللانهائي .

    وقد أدرك كوندورسيه المشكلة الكامنة في رؤيته للتاريخ، فجعل التقدم يستند إلى الإنسان باعتباره جزءاً من الطبيعة / المادة ، ومن ثم فإن التقدم يتحقق بمقدار إذعان الإنسان للقوانين الطبيعية وينكر على الإنسان إرادته ، وقد حاول كوندورسيه أن يفلت من قبضة الحتمية الصارمة هذه فطرح تصوراً مفاده أن الفرد قد يكون خاضعاً كفرد للقوانين الطبيعية ، ولكن الجنس البشرى ككل يمكنه التحرر من الطبيعة إذ أن الطبيعة منحت الإنسان القدرة على أن يتعلم منها ، أي أنه يمكن تحقيق التجاوز من خلال المادة . ولكن الحضارة ذاتها هي نتاج الطبيعة ، ومن ثم فإن قوانين الحضارة هي أيضاً قوانين الطبيعة / المادة ، أي أن نسق كوندورسيه يسقط دائماً في الحتمية المادية .

    ولعل الطريقة التي انتهت بها حياة كوندورسيه لها دلالة رمزية عميقة، فهذا المفكر الذي قضى حياته داعية للتقدم اللانهائي الحتمي الذي يعبر عن القانون الطبيعي، عاش ليرى حكم الإرهاب (وانتصار الموضوع الكامل على الذات، والعام على الخاص، والكل على الجزء، والدولة على الإنسان، والطبيعة/المادة على كل الأشياء). وقد فر في هذه الفترة واختبأ من ممثل القانون الطبيعي/المادي، أي الدولة العلمانية الشاملة المطلقة، ولكنه اكتُشف أمره حينما ذهب إلى أحد الفنادق الصغيرة وطلب أومليت (قرص بيض) وأخطأ في عدد البيضات إذ طلب قرصاً مكوناً من اثنتى عشرة بيضة وهو أمر غير عادى وخاص جداً وغير مألوف وغير رشيد ويتجاوز القانون العام، فقُبض على هذا المسكين الذي كان يبشر بحماس بالغ بالرياضيات الاجتماعية وبضرورة استخدام لغة محايدة دقيقة،وألقى به في غياهب السجن حيث قضى نحبه في أول ليلة بسبب إرهاقه الشديد (ويُقال أن ممثل الحركة الثورية دس له السم في طعامه) ، أي أن عدم انصياعه الكامل لنموذج الأرقام والذرات الطبيعية /المادة (فالخطأ أمر إنساني) وعدم استخدامه للغة محايدة رياضية دقيقة أودى به . والشيء بالشيء يذكر ، يتحدث أحد مفكري ما بعد الحداثة عن الإنسان باعتباره أومليت Homelette ، وهى كلمة معناها "قرص بيض" ولكنها من خلال اللعب بالألفاظ يمكن أن تصبح «الإنسان الصغير» (Hommelette) في ذات الوقت ، فهو إنسان صغير يتضاءل تماماً بجوار الطبيعة /المادة ، وهو أيضاً قرص بيض ، أي كيان لا هوية له ولا حدود ، بل هو نتيجة عملية تفكيكية إذ أن صنع قرص البيض (المسطح) السائل يتطلب تكسير البيض المستدير المتماسك . وقد صرح هرتزل ذات مرة أنه يود تأسيس الدولة اليهودية دون أن يلحق أي أذى بالعرب ، فعلق على قوله هذا أحد المؤرخين بقوله أنه يود أن يصنع أومليت دون أن ينكسر البيض ، أي أنه يود ممارسة العنف الصهيوني بدون تفكيك العرب .


    ويمكن القول بأن جان جاك روسو الذي ساهم ببعض مداخل الموسوعة الفلسفية يمثل تمرداً على هذه المادية،ولكن تمرده في واقع الأمر ليس على وحدة الوجود المادية وإنما على جانبها العقلي وحسب ، فهو يؤمن بحالة الطبيعة وبأن الإنسان ابن الطبيعة ، فهو إنسان طبيعي له حقوق طبيعية تستند إلى وجود جسده الطبيعي / المادي . وما يسميه البعض «الومضات الإلهية» أو الهجوم على المادية في كتاباته إنما هي مقطوعات غنائية شعرية تعبر عن رغبة عارمة في الذوبان في الكل الطبيعي الأعظم،وما يبعث على التأمل العقلي
    البارد الجامد في أسبينوزا يبعث على العواطف الدافئة الدفاقة في روسو ، وتظل بنية الوجود المادي كما هي وتظل علاقة الإنسان بهذا الوجود كما هي (علاقة تبعية وإذعان وعدم تجاوز).

    وهكذا يرى روسو أن حالة الطبيعة (الجنينية) هي الحالة المثلى للإنسان ؛ هي الخير الأسمى (باللاتينية : سوموم بونوم sumum bonum) على عكس حالة الحضارة والتاريخ (وهى المجال الذي يحقق الإنسان فيه جوهره الإنساني المتميز عن الطبيعة / المادة ، حيث يعيش داخل الحدود فتظهر له هوية مستقلة ويحمل مسئولية وجوده الإنساني هذا) فهي حالة فساد ولا حل لفساد الكون إلا بالعودة للطبيعة ، إلى نقطة الصفر قبل أن يدخل الإنسان عالم الحضارة . ولكن العودة للرحم الطبيعي مسألة مستحيلة ، ولذا يقترح روسو «العقد الاجتماعي» باعتباره أقرب النقط إلى حالة الطبيعة ، فالعقد الاجتماعي هو تعبير عن «الإرادة العامة»حيث يصبح كل البشر متساوين أمامه وعليهم الإذعان الكامل له ، وستفرض عليهم المساواة فرضا إن رفضوها ولذا فهم يتنازلون أمام الإرادة العامة عن إرادتهم الخاصة . وبذلك تكون هذه الإرادة الكلية العامة صادقة دائماً في جميع أحكامها، فترقى إلى مستوى الإله. فكأن روسو كان يدعوا إلى إقرار دين طبيعي يقوم على تألية المجتمع ، أي أن المجتمع سيصبح هو المطلق الواحدى المادي العلماني الشامل الجديد الذي يحل محل المطلق اللاهوتي القديم . (وفيما بعد ، أصبحت كثير من أطروحات روسو أساساً للفكر المعادى للاستنارة الذي لا يختلف في بنيته المادية عن الفكر الاستنارى) .
    اللجنة العلمية بمنتدى التوحيد

  5. افتراضي

    بعض التناقضات الكامنة في فكر حركة الاستنارة

    يشكل فكر حركة الاستنارة نسقاً فكرياً متكاملاً يستند إلى ركيزة أساسية . وقد وصفنا هذا النسق (بشيء من التبسيط غير المخل) بأنه «مادة عقلانية» تُعد تجلياً للنموذج الحلولى الكموني الواحدى في صيغته المادية . ولأول وهلة يبدو الأمر وكأن هذا النسق الفكري متسق مع نفسه، ويجيب على كل الأسئلة التي تواجه الإنسان بطريقة واحدة وبسيطة. ولكن النظرة الفاحصة تبين أنه يحتوى على كثير من التناقضات التي تتبدى في مجالات مختلفة على النحو التالي :

    أولاً : في مجال نظرية المعرفة :


    فكر حركة الاستنارة ، باعتباره فكراً عقلانياً مادياً ، يصدر عن رفض فكرة المركز المتجاوز للنموذج والواقع ، والإصرار على أن المركز موجود (حال) فى المادة ذاتها . ومن ثم أصبحت الحقيقة أمراً ليس مفارقاً للعالم (الطبيعة والإنسان) وإنما كامناً فيه، أي في طبيعة الأشياء (وليس مرسلاً من إله).

    وفى داخل هذا النظام الواحدى الحلولى الكموني المادي ، طرح الفكر الاستنارى فكرة أن العالم يتبع قوانين مطردة ثابتة وأن العقل الإنساني أداة كافية ، يمكن للإنسان أن يدرك من خلالها الواقع الذي يحيط به . ولكن ثمة إشكالية أساسية كامنة في المنظومات المعرفية التي تدور في إطار المرجعية المادية الكامنة هي إشكالية علاقة العقل الإنساني بالطبيعة / المادة وأيهما هو موضع الكمون (وهذه الإشكالية تتعلق بعلاقة الجزء بالكل والخاص بالعام) . وتتبدى الإشكالية في الصراع بين النموذج الواحدى المادي المتمركز حول الذات والذي يفترض أسبقية الإنسان على الطبيعة / المادة والنموذج الواحدى المادي المتمركز حول الطبيعة /المادة ويفترض أسبقيتها على الإنسان . ولذا، نجد أن فكر حركة الاستنارة انقسم إلى قسمين يتبدى من خلالهما الصراع بين النموذج المتمركز حول الإنسان وذلك المتمركز حول الموضوع. فليس هناك مفهوم واحد للعقل وللإنسان والطبيعة وإنما مفهومان متناقضان متصارعان يؤديان إلى ظهور نوعين من أنواع الفكر ، كلاهما يُصنّف على أنه «عقلاني»: قسم يمنح أولوية للعقل على الطبيعة /المادة (التمركز حول الإنسان) ، وقسم يمنح الطبيعة /المادة أولوية على الإنسان (التمركز حول الطبيعة) . فالقسم الأول يرى أن العقل الإنساني عقل فعال يدرك الطبيعة وهو الذي سيصوغها ويستخلص منها القوانين ويؤسس النظم المعرفية ويصبح الإنسان والكون بديلاً للإله . أما القسم الثاني فيرى أن عقل الإنسان عقل سلبي وأن الأولوية للطبيعة وأن مهمة العقل الإنساني تتحدد في تلقى قوانين الطبيعة واتباعها والإذعان لها وكفى .


    وبذا ، نكون قد عدنا للإشكالية القديمة التي واجهتها الفلسفة المادية عبر تاريخها ( منذ ظهور الفكر الفلسفي قبل سقراط) وهى مشكلة تحديد مركز الكون : هل هو الطبيعة /المادة أم الإنسان ، وأيهما له الأسبقية على الآخر؟ إذ لا يمكن أن يوجد مركزان في الكون . ولا بد من حسم هذا الصراع . وهو أمر يحسم عادةً لصالح النموذج المتمركز حول الطبيعة / المادة ، فهي الأصل في بداية الأمر وهى أيضاً المآل في نهاية المطاف وفى التحليل الأخير . أما العقل الإنساني فهو العنصر الأضعف ، فهو يدرك العالم من خلال الحواس (المادية) ، وهو ذاته إن هو إلا مادة في حالة حركة ، جزء لا يتجزأ من الطبيعة ويُرد إلى المبدأ الواحد الدافع للأشياء من خارجها الكامن داخلها . والعقل لا يمكن الوثوق به، فإذا كانت الأفكار الكلية هي نتيجة تراكم الأحاسيس وكان ترابطها يتم بشكل آلي (أو حتى إبداعي) في عقولنا، فهذه الأفكار الكلية هي مجرد وهم من أوهامنا، فهي نتاج حواسنا. أما السببية الكامنة في الطبيعة فهي قد تكون عادة من عاداتنا العقلية ، مجرد خرافة إنسانية غائية يفرضها العقل الإنساني على واقع حسي مادي غير متماسك حتى يُدخل الإنسان على نفسه الأمن والطمأنينة (وهى قيم إنسانية غير علمية لا علاقة لها بعالم العلم والأشياء والطبيعة /المادة) .


    والإنسان مستوعب تماماً في الطبيعة ، لا يمكن أن يكون له قوانينه الإنسانية الخاصة ولا يمكن أن يتمتع باستقلال عما حوله ، فهو يتبع قوانينها الثابتة الآلية الرياضية الشاملة الضرورية الحتمية المطردة التي تسوى بينه وبين الأشياء ، فهو يتحرك حسبما تحركه هذه القوانين ؛ إنه جزء متسق مع النظام الطبيعي ، خاضع تماماً (بما في ذلك عقله) للقانون الطبيعي الآلي العام (وهذا ما دعمته اكتشافات نيوتن بشأن الحركة الآلية للكون واكتشافات هارفى الخاصة بالحركة الآلية للدم) . والطبيعة وحركتها وبنيتها لا تقع خارج نطاق الوحي الإلهي وحسب، وإنما تقع خارج نطاق الوعي الإنساني والإرادة أو الرغبة أو الغائية الإنسانية، أي أن الطبيعة لا علاقة لها لا بالإله ولا بالإنسان، فهي متجاوزة لهما. وحتى داخل النموذج الأول ، نجد أن قواعد العقل (رغم استقلاليته) تشبه قوانين الطبيعة ، وأن حركة الفكر تشبه الطبيعة ، وأن الجزء يتلاقى مع الكل والذات مع الموضوع .


    ومن ثم، وبعد أن يقوم الفكر الاستنارى بتأكيد أهمية العقل الإنساني ومركزية الإنسان فإنه ينتهي إلى تفكيك العقل ورده إلى المادة والقوانين العامة للحركة بحيث يصبح العقل مادة طبيعية متلقية (سلبية وغير فعالة) للمعطيات المادية الحسية وتصبح مهمته هي رصد الطبيعة بأمانة شديدة واكتشاف ما فيها من توازن دون أي تدخل، ومن ثم يفقد الإنسان مركزيته (التي اكتسبها بسبب عقله الفعال). وتكمن حرية الإنسان الرشيد صاحب هذا العقل (أو الدماغ) السلبي في مدى انصياعه لقوانين الضرورة (المادية الآلية). ويحقق هذا الإنسان الرشيد سعادته بمقدار انصياعه لقوانين الطبيعة وذوبانه فيها ، أي أن مركزية العقل الإنساني يتم تصفيتها ويحل محلها مركزية الطبيعة المادية الصلبة . وقل نفس الشيء عن الإنسان ، فقد بدأ المشروع الهيومانى (الإنساني) والاستنارى بتهميش الإله باسم الإنسان ومركزيته ، ولكننا بعد قليل نكتشف أن هذا مجرد قول إذ أن منطق البنية المادية ذاتها قد همَّش الإنسان (ككائن متميز عن الطبيعة) ثم استوعبه تماماً في النظام الطبيعي الذي يتجاوز غاياته وأغراضه . وبذا يُصفِّى الإنسان ويسقط الجميع في أحضان المادية الواحدية الجنينية المريحة (فالواحدية الكمونية المادية تعنى العودة للرحم ولعالم البساطة الأولى الذي لا ثنائيات فيه ولا جدل ولا تدافع ولا مسئولية خلقية ولا قرارات أخلاقية تتطلب الاختيار الحر بين الخير والشر) . (ومع هذا ، لابد من القول إن انتصار النموذج المتمركز حول الطبيعة / المادة ليس نصراً نهائياً ، إذ أن النموذج المتمركز حول الإنسان لا يلبث أن يحاول تأكيد نفسه) .


    والواقع أن تأكيد المركزية الإنسانية وأسبقية العقل الإنساني على الطبيعة ثم تصفيتها لصالح المركزية الطبيعية المادية ، وتأكيد أسبقية الطبيعة /المادة على العقل الإنساني (التمركز حول الذات ثم انتصار الموضوع) ، هو نمط يتكرر في كل أرجاء المنظومة الاستنارية (وكل المنظومات الحلولية الكمونية الواحدية المادية). وتاريخ الفلسفة الغربية منذ عصر النهضة في الغرب ، هو ذاته تاريخ الصراع بين النزعة نحو إنكار الكون وتأليه الإنسان والنزعة المضادة نحو تأليه الكون وإنكار الإنسان . وقد نحت أحد مؤرخي الفلسفة الغربية اصطلاح «الاستنارة المظلمة» تمييزاً لها عن «الاستنارة المضيئة». ونحن نرى أن «الاستنارة المظلمة»التفكيكية التي تقضي على الإنسان ، كمقولة مستقلة عن الطبيعة ، كامنة تماماً في مقولات «الاستنارة المضيئة» ، فهي فلسفة عقلانية مادية يُرد فيها كل شيء إلى المبدأ المادي الواحد، والعقل ذاته يستمد حقيقته ووجوده من ماديته ومن مقدرته على التعرف على قوانين المادة ، والإنسان لا وجود له خارج قوانين المادة . ولذا ، وعلى الرغم من أن هيجل يذهب إلى أن الحقيقي هو العقلي (الإنساني) وأن العقلي هو الحقيقي ، فإن بنية منظومته الاستنارية ذاتها (وكذلك كل المنظومات العلمانية) تؤكد على أن الحقيقي هو المادي (الطبيعي) والمادي هو الحقيقي . وعلى كلِّ ، فإن منظومة هيجل تلتقي فيها الذات بالموضوع والروح بالمادة ويتعانقان ويتحدان ، وهى وحدة لا يمكن أن تكون الغلبة فيها إلا لقوانين المادة الصارمة ولعالم الواحدية المادية ، أي أن تصفية الإنساني لصالح الطبيعي (والكوني والمادي) أمر حتمي وكامن في بنية المنظومات المعرفية المادية رغم كل ما قد يصاحب ذلك من أقوال رائعة عن الإنسان وعن عقله وحريته .
    اللجنة العلمية بمنتدى التوحيد

  6. افتراضي

    ثانياً: الخاص والعام (والجزء والكل):



    تتبدى المركزية الإنسانية وأسبقية العقل على الطبيعة في تأكيد استقلالية الخاص عن العام والجزء عن الكل . ولكن كما صُفِّيت المركزية الإنسانية لصالح الطبيعة /المادة ، فإن استقلالية الخاص والجزء تصفى لحساب العام والكل (فالمادة ، في نهاية الأمر وفى التحليل الأخير ، لا تكثرت بالخاص أو بالجزء) . ويمكن القول بأن تأكيد استقلالية الخاص في الفكر الاستنارى أساسه أن :

    1- التجريب لا بد أن يجرى على المتعين والمحسوس والملموس والمباشر والحاضر ، إذ لا يمكن إجراء تجارب على الغيب واللا محدود وغير المنظور وما لا يقاس .

    2- حاول الفكر التجريبي المستنير أن يجد في الظاهرة نفسها قوانين حركتها وكل ما يلزم لفهمها ، إذ لا يمكن الالتفات إلى ما هو خارجها على الإطلاق (فمركز العالم يوجد في داخله) .

    3-المعرفة البشرية مصدرها العقل والحواس، ولا يمكن أن تُجرى التجارب إلا داخل العالم المادي، داخل الزمان والمكان الذي يعيش داخلهما الإنسان الفرد.

    4-وتعمقت هذه النزعة التخصيصية بسبب الإيمان بأن كل فرد يصل إلى الحقيقة بمفرده من خلال العقل النقدي الفعال الحر دون تأثر بأي أوهام أو تقاليد . والعقل الفعال هو القادر على ربط العام بالخاص .


    هذا هو الاتجاه الأول في الفكر الاستنارى. ولكن ثمة نزوعاً نحو العام في منظومة الاستنارة الفكرية :

    1-العقل باعتباره جزءاً من الطبيعة يتسم بكفاءة غير عادية في رصد العام والواضح والبسيط والمتواتر والمتشابه والمتماثل والمكرر وما هو خاضع للقياس ومشترك بين الموجودات ، أما الجوانب المبهمة والفريدة فلا يكترث بها العقل ، وكل ما يستعصى على القياس يظل بمنأى عنه . فالواقع الذي ينتجه العقل واقع عام لا قسمات له، لأن العقل لا يجد شيئاً سوى نفسه في الطبيعة. وهو لا يرى العالم إلا باعتباره مادة استعماليه تبادلية عامة، تُوظِّف. وكما قال أحد دعاة فن المعمار الوظيفي «إذ بنينا بإخلاص، فإن الكاتدرائية لا ينبغي أن تكون مختلفة عن المصنع» تماماً كما أن الإنسان ليس مختلفاً عن الطبيعة.

    2-الملاحظة غير العلمية وحدها هي التي تقنع بسطح الأشياء ولونها والمنحنى الخاص للظاهرة وبما هو محسوس ومتعيِّن ، إذ يجب أن ينفذ العقل الفاحص من خلال هذا السطح ليجرد الظاهرة من خصوصيتها وتفردها لينيرها ويصل إلى قانونها العام والمجرد ، فما هو محدود بالزمان والمكان ومقصور على بعض الناس غير طبيعي وغير عقلي – فالطبيعة لا تعرف التمايز ولا الخصوصية.

    3-والإنسان الفرد قد يصل إلى الحقيقة بنفسه . ولكن، إن قام عدة أفراد بتجارب مادية وعقلية على حدة، فإنهم لا بد أن يصلوا إلى نفس القانون (المادي الطبيعي) العام (فعقل الإنسان يتطابق مع الطبيعة، وعقول البشر جميعاً متطابقة).

    4-ثم تظهر مشكلة الانتقال من الخاص إلى العام، ومن الجزء إلى الكل، وكيفية الربط بينهما وكيف يتوافقان. ومرة أخرى ، نجد أن الفكر الاستناري يذهب إلى أن عملية الانتقال والربط عملية آلية إذ أن الجزء والخاص لا يختلف بتاتاً عن الكل والعام ، وإلى أنه يمكن الوصول إلى التوافق بشكل آلي.


    وهكذا نجد أن استقلالية الخاص عن العام (والجزء عن الكل) ليس لها أساس حقيقي ، إذ أنه يتم في نهاية الأمر تغليب الجانب المادي ، الأقوى ، وهو الجانب العام الذي يجسد قوانين الحركة . وهكذا، مثلما ذاب العقل في الطبيعة، يذوب الخاص في العام ويذوى الاهتمام بالخاص والفردي ويفقد الإنسان خصوصيته، فليس هناك ما يُميزه عن بقية الكائنات. وبدلاً من الإنسان المليء بالأسرار ، الفردي المتفرد ، صاحب العقل والمركزية ، يظهر الإنسان الذي يجسد القوانين التي يمكن رصدها ومعرفتها والتحكم فيها (التمركز حول الذات الذي يؤدى إلى انتصار الموضوع) .

    وهذه الإشكالية ليست إشكالية نظرية منطقية ، فهي تترجم نفسها على مستوى تاريخي واجتماعي متعيِّن . ففي بداية الأمر، ظهر في المجتمعات الحديثة الاهتمام بالخاص وبالإثنية وبعض صفات الشعوب وتواريخها ، كما ظهرت الفردية الفلسفية ونزعة المركزية الإنسانية والاهتمام بجسد الإنسان واللون المحلى والفاوستية والخيال والعاطفة في الأدب ، وهى كلها تؤكد ما هو خاص على حساب ما هو عام .

    وفى هذا الإطار ، ظهر الفكر القومي العلماني ، فأي مشروع قومي علماني ينطلق عادةً من الإيمان بخصوصية الذات القومية وأهميتها وحقها في التعبير عن نفسها من خلال أبنية ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية تجسد هذه الخصوصية وتطورها وتنميها. والدولة القومية تستمد شرعيتها من الأمة مصدر السلطات ، فكأن السيادة القومية تستند إلى فكرة الخصوصية القومية . ولذا ، نجد أن الدولة القومية تحدد حدودها بصرامة وتُوحّد السوق وتعيد كتابة التاريخ القومي وتشيِّد المتاحف وتنمى الفنون الشعبية والطرز المعمارية المحلية حتى تزداد الذات القومية (مصدر السلطات وأساس السيادة) إحساساً بخصوصيتها (وهو اتجاه يأخذ أحياناً شكلاً هستيرياً يصل إلى حد النازية والفاشية والصهيونية وكل القوميات العضوية التي تستند إلى فكرة الشعب العضوي المتفرد في خصوصيته [الفولك]) .


    ولكن، من خلال التطورات الثقافية والاقتصادية في الحضارات العلمانية المستنيرة، بدأت رقعة العام (والحياة العامة) تتسع،
    وبدأت آليات السوق تكتسح الجيوب الخاصة ، وأخذت الحركة الآلية في المجتمعات تقوض كل الإبداعات الفردية . وقد انعكس هذا على الفكر القومي العلماني، فهو فكر يدور في إطار مادي عقلي، والمادة أمر كئيب يتسم بالعمومية. ولذا، بدأ كثير من القوميين العلمانيين يشيرون إلى أن الحديث عن الخصوصية أمر رومانسي وتعبير عن الماضي يتنافى مع التقدم . خذ مثلاً فكرة المصلحة الاقتصادية . فكثيراً ما يتنافى الصالح الاقتصادي مع الخصوصية ومع الحفاظ عليها، وفى معظم الأحوال يُضحِّى بالخصوصية في سبيل التقدم! فالخصوصية أمر يتعلق بالإحساس والإدراك، أما التقدم الاقتصادي فأمر يتعلق بالحواس. وما بين الإحساس والحواس بون شاسع ، والنموذج الاستنارى المادي يقف إلى جانب الحواس ضد الإحساس ، ففي داخل الإطار الواحدى المادي لا بد أن ينتصر المادي على غير المادي ، ومن ثم يكتسح العام كل الخصوصيات .

    من هنا يتراجع الإنسان القومي المتعين المرتبط بزمان ومكان محددين والذي يأكل الأطعمة التقليدية ويرتدى الملابس الوطنية ويعمل في خدمة الوطن ويعبِّر عن روح أمته وتاريخها ، ويظهر الإنسان الطبيعي أو العالمي أو المادي (الإنسان المتشيىء ذو البعد الواحد) الذي يوجد خارج أي سياق تاريخي أو اجتماعي (أو هكذا يُظن) لا خصوصية له (بما في ذلك الخصوصية الإنسانية) .


    وهو إنسان يأكل الهمبورجر ويرتدى التيشيرت ويجرى كالآلة في أي اتجاه ، يستهلك كل السلع النمطية حسب آخر الموضات والصيحات ، ويتمتع ببرامج تليفزيونية لا تقل عنها رتابة ونمطية ، ويستمع إلى أحدث الأغاني ، ويغير قيمه بكفاءة منقطعة النظير حسبما تملى الظروف . وهذا أمر ليس بغريب ، فالمنظومة الواحدية المادية التي يتحرك في إطارها التي تصدر عن مفهوم الإنسان الطبيعي الذي لا يتمتع بمركزية خاصة في الكون ، وهو جزء من نظام طبيعي شامل يخضع للقوانين الطبيعية العامة وليس له قوانين خاصة مقصورة عليه .


    وقد ترسخ هذا الاتجاه مع اتساع نطاق الاستهلاكية العالمية التي تعمل على تنميط الطعام والأزياء والأذواق والأحلام. وبظهور السوق العالمية الجديدة والنظام العالمي الجديد، يكون قد تحقق جزء كبير من حلم حركة الاستنارة الخاص بترشيد الواقع وتنميطه وسيادة الإنسان الطبيعي (وهو حلم يرى البعض أنه في واقع الأمر كابوس) .


    وهناك كثيرون من مثقفي العالم الثالث في الوقت الحاضر (ممن كانوا في السابق يدافعون عن عدم الانحياز ويقفون ضد التبعية) يتحدثون الآن عن حقيقة أن أساس الصراع بين الدول هو صراع حول المصالح الاقتصادية (العامة) وأن حسمها بالتالي يتم داخل هذا الإطار المادي العام دون اكتراث بأية هوية أو خصوصيات . ومن هذا، فإنهم يذهبون إلى أن أي حديث عن التنمية المستقلة مسألة مستحيلة ومكلفة ولا ضرورة لها، وإلى أن الهوية عبء لابد من التخلص منه. وقد زاد الحديث مؤخراً عن «العولمة» باعتبارها المثل الأعلى الآخذ في التحقق ، وباعتبارها أيضاً الحتمية التي لا راد لقضائها! ولعل انفراط عقد القومية العربية في الآونة الأخيرة هو ذاته تعبير عن تزايد معدلات الاستنارة والعلمنة والعولمة ، بحيث يقوم كل فرد بطرح فرديته وهويته جانباً ، كما تترك الأمم خصوصيتها ، وتتجاوز كل القيم الرومانسية الخاصة بالشخصية القومية لتدخل إلى عالم العمومية الرائع الرهيب الأملس ، وهذا هو الطريق الذي سيجعل من بلادنا نسخة باهتة من سنغافورة حيث الأوطان فنادق والمنازل بوتيكات والفردوس هو سوبر ماركت ضخم يحوى كل السلع الضرورية والتافهة .
    اللجنة العلمية بمنتدى التوحيد

  7. افتراضي

    ثالثاً: الفرد والدولة:

    يتبدى الصراع بين النموذجين (المتمركز حول الإنسان والمتمركز حول الطبيعة /المادة) في مفهوم الفرد والدولة. فالفكر الاستنارى يبدأ من الإيمان المطلق بمقدرات الإنسان الطبيعي الكامنة فيه ، فهو كائن اجتماعي بطبعه ، وأكبر تعبير عن هذا الجانب من وجوده أن اللغة ملازمة له ولا يمكن تخيل الجنس البشرى بدونها ، فهي تعبير عن النزعة الاجتماعية الطبيعية عند الإنسان (ولنلاحظ التناقض في العبارة) . وهو بسبب عقله الراجح وغرائزه السليمة قادر على تأسيس نظم سياسية رشيدة تستند إلى العقل والتجربة ويسود فيها التسامح والتعددية .


    وقد قام هذا الإنسان الطبيعي الرشيد بعملية حساب دقيقة ورشيدة لحسابات المكسب والخسارة والمنفعة واللذة الناجمة عن التخلي عن حالة الطبيعة ، فوجد بعقله الراجح وبكامل إرادته أن من صالحه أن يتنازل عن جزء من حريته ولذته نظير أن يقوم المجتمع (متمثلاً في الدولة) بضمان أمنه ؛ فوقع عقداً اجتماعياً هو الذي يربط بين الأفراد بعضهم بالبعض الآخر داخل المجتمع الواحد ، وهو الذي يربطهم جميعاً بالمجتمع والدولة . فالتضامن الاجتماعي يستند إلى عملية عقلانية تعاقدية يمكن فضها. (من الناحية النظرية على الأقل) إذا شاء الإنسان . والمجتمع، لهذا، هو مجموعة من الأفراد المترابطين بشكل تعاقدي والذين يشبهون الذرات المتجاورة (وليسوا كياناً متماسكاً بشكل عضوي). وانطلاقاً من فكرة القانون الطبيعي والحقوق المتساوية للأفراد (فالطبيعة لا تعرف التفاوت)، ثم رفض الحق الإلهي للملوك، وظهرت فكرة المساواة الكاملة بين الأفراد وفكرة حقوق الإنسان والمواطن وكل الأفكار الليبرالية الديمقراطية الحديثة.


    وانطلاقاً من هذه الرؤية الطبيعية التعاقدية ، ومن الإيمان بالقانون الطبيعي وبمقدرات الإنسان الطبيعي، أكد المستنيرون على ضرورة فصل الدين عن الدولة وعن رقعة الحياة العامة التي يمارس فيها المواطن حقوقه وحرياته والتي يحتكم فيها إلى عقله وحسب (التمركز حول الذات) .


    وهنا يظهر النموذج المتمركز حول الطبيعة /المادة (وإن كانت الدولة المطلقة العلمانية هي التي ستحل فيه محل الطبيعة /المادة كمركز مطلق)، فالدولة العلمانية تعبِّر عن فكرة القانون الطبيعي وتستمد شرعيتها منه. وهى ، شأنها شأن الطبيعة /المادة (وشأن السوق المصنع) ، غير خاضعة لأي مطلق ديني أو أخلاقي أو إنساني خارج عنها ، ومنفصلة عن أية أهداف أخلاقية أو أغراض إلهية، فسيادتها ذاتها هي المطلق الوحيد ومصلحتها هي الهدف الوحيد الأسمى . والدولة مثل الطبيعة كُل شامل متصل لا تتخلله ثغرات أو فراغات ، ولذا فإنه لا بد أن يتزايد نفوذها وتتدعم قبضتها على كل مناحي الحياة ، وزيادة قوة الدولة أو نفوذها هي ما ينبغي أن يسعى إليه الحاكم والمحكوم ، وقد تبدى هذا في تزايد سلطة الدولة بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ الإنسان ، حتى أصبحت الدولة هي المرجعية الأخلاقية والفلسفية والسياسية النهائية للإنسان الغربي ، لا يمكن استئناف أحكامها عن طريق الإهابة بمجموعة من القيم الأخلاقية التي تقع خارج نطاقها .


    ويلاحظ أن الدولة المطلقة (بالمعنى الفلسفي الذي تشير إليه) هي في العادة دولة قومية مركزية تدير المجتمع بأسره من نقطة مركزية واحدة هي العاصمة ومركز السلطة. وهذه المركزية تتطلب أن يصبح الواقع متجانساً نمطياً شبيهاً بالآلة. (ساعة نيوتن الرتيبة) إذ أن الدولة المركزية لا يمكنها أن تتعامل إلا مع وحدات متشابهة قياسية (مثل تلك الوحدات التي ينتجها العقل المادي). ويلاحظ أن فكرة الفرد والمساواة (والمركزية الإنسانية) ظهرت معها فكرة الدولة المطلقة (المركزية الطبيعية المادية) التي تبتلع كل الأفراد والمصادر الطبيعية ـ فكأن الشيء ونقيضه قد ظهرا في ذات الوقت. وغنى عن القول أن الصراع هنا، كما هو الحال دائماً، قد صُفِّى عادةً لصالح الكل المادي الأكبر، أي الدولة المطلقة.


    وتظهر مشكلة أخرى ، هي : ماذا لو رفض الإنسان الحرية (أو ما يتصوره المستنيرون الحرية)؟ وماذا لو وجد الفرد (الحر المستقل) أن صالح الدولة (أو المجتمع) ليس في صالحه أو لا يروق له ؟ هنا لم يتوان المستنيرون عن تصفية الفرد لحساب الدولة (وتصفية الخاص لصالح العام والإنساني لحساب المادي). فالحرية أمر طبيعي، ولذا يجب إرغام الناس على أن يكونوا أحراراً فهذا تملية الطبيعة. وصالح الدولة هو تجسيد للقانون الطبيعي، ولذا فإنه لا بد أن تطلق يدها. والدولة لا تعرف صالح الفرد وحسب وإنما تعرف أيضاً صالح الجماهير (من خلال مؤسساتها التكنوقراطية المتخصصة الرشيدة) . ولذا، كثيراً ما يتم الإصلاح من أعلى (ديكتاتورية البروليتاريا والنخبة الثورية الطليعية الرائدة والحكومات المطلقة التي تعبر عن «الإرادة العامة» ـ عبارة روسو الشهيرة) . وعلى عكس ما يتصور الكثيرون ، لم يتعاون مفكرو حركة الاستنارة مع الملكيات المطلقة ضد الكنيسة وحسب ، بل تعاونوا أيضاً معها ضد كل من
    وقف ضد الفكر الاستنارى ، فإيمانهم بالطبيعة وبالدولة كان إيماناً دينياً مادياً متعصباً يتسم بالشمولية الكاسحة وبالإيمان العلمي الراسخ وبرفض المركزية الإنسانية .
    اللجنة العلمية بمنتدى التوحيد

  8. افتراضي

    رابعاً: النظام الاقتصادي:


    ويتبدى نفس النمط في النظام الاقتصادي . فالنظم الرأسمالية نظم تدعى أنها تسمح بالتعددية وبنمو الفروق بين الأفراد وتحقيق حرية الإنسان ورفاهيته (المركزية الإنسانية). ولكن القانون الطبيعي/المادي يعبر عن نفسه في عالم الاقتصاد من خلال حركة البيع والشراء وحرية الإنتاج والاستهلاك وعدم تدخل الدولة ، فقوانين العرض والطلب قوانين حتمية طبيعية (يد آدم سميث الخفية) ، وعلى الجميع عدم التدخل لتعديلها وعليهم الانصياع لها إذ أنها ستحقق الخير للجميع بشكل آلي . والفكر الاشتراكي يذهب إلى أن من الضروري تحقيق حرية الإنسان ورفاهيته (المركزية الإنسانية) . ولكن ما يحدد وجود الإنسان وسلوكه هو انتماؤه الطبقي وعلاقات الإنتاج وأدوات الإنتاج المحيطة به، وقد نادى الفكر الاشتراكي بضرورة تدخل الدولة في كل شيء يتعلق بالتخطيط والتنمية وعمليات الضبط الاجتماعي والأمني.

    ويد آدم سميث الخفية هي، في حالة النظم الاشتراكية ، الدولة التي تتدخل في كل شيء يتعلق بالتخطيط والضبط ، ولجان الحزب المسلحة بالرؤية العلمية الرشيدة والتي تخطط وتقوم بتهذيب وإصلاح من يقف في طريقها . ولعل الاختلاف الوحيد بين النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي أن اليد الخفية تستخدم الإعلانات التليفزيونية (الخفية) لإقناع الجماهير ، أما لجان الحزب فتستخدم الشرطة السرية (الخفية العلنية) لتطويع الجماهير ـ وبطبيعة الحال ، ثمة فارق جوهري بين إعلانات التليفزيون (ذات الأثر الجواني) والشرطة السرية (ذات الأثر البرانى) . ولكن الهدف من هذه الآليات المختلفة واحد وهو سيادة القانون العام (العلمي ـ الطبيعي ـ الآلي .. الخ) على الإنسان.
    اللجنة العلمية بمنتدى التوحيد

  9. افتراضي

    خامساً العلم والتكنولوجيا:


    يتبدى نمط الصراع بين النموذجين (المتمركز حول الإنسان والمتمركز حول الطبيعة/المادة) ، مع تصفية الأولى لحساب الثاني ، في علاقة الإنسان بالعلم والتكنولوجيا وبالعلوم الإنسانية التي تستند إلى نماذج تحليلية مستمدة منها . فالرؤية الاستنارية لا تقبل إلا بالقوانين التي يتوصل إليها العقل الإنساني استناداً إلى حقائق الطبيعة/المادة وترفض أي غائيات . ومن هنا، رفض المستنيرون الفلسفات المدرسية اللاهوتية التي تطرح أسئلة غائية مثل : لماذا خلق الله العالم؟ ولم يقنعوا بالتفسيرات الغائية التقليدية . وأصبح السؤال هو كيف خلق الله العالم، وكيف يسيره؟ ثم تصاعدت معدلات الاستنارة والعلمنة وتراجعت الغائية وأصبح السؤال هو: ما هي بنية الكون؟ وما هي آلياته وحركياته؟ وما هي القوى التي تدفعه من داخله؟ أي أنه ألغيت أي نقطة مرجعية خارجة عن المادة .

    لكل هذا، «تحرر» العلم تماماً من أي أعباء أخلاقية أو فلسفية، وانطلق انطلاقته الهائلة فعرف كثيراً من أسرار المادة وآليات الظواهر التاريخية والاجتماعية، وتزايدت نجاحاته بشكل لم يعرفه البشر من قبل. وحققت العلوم الإنسانية (التي تستند إلى المناهج العلمية المادية الدقيقة) قفزات هائلة، وأصبح الأمل كبيراً في أن يحقق الإنسان لنفسه السعادة الأرضية والمركزية الإنسانية. وهنا يبدأ النموذج الثاني (المتمركز حول الطبيعة/المادة) في تأكيد نفسه، وتُطرح الأسئلة التالية:

    1- الحديث عن السعادة هو شكل من أشكال الغائية الإنسانية (التي تعبر عن المركزية الإنسانية) ، ومن ثم فهو شكل من أشكال الغرور الإنساني (بل إن القول بالغائية، في نهاية الأمر ، هو قول بالعناية الإلهية) ، فكأن الإنسان يعتقد أن له مكانة خاصة في الكون وأنه جزء من متميِّز عن الكل الطبيعي له قوانينه الخاصة. ولذا ، كان لا بد من إلغاء الغائية الإنسانية ذاتها ، وكان لا بد من إعادة تعريف السعادة لتصبح «تحقق القانون الطبيعي وانصياع الإنسان له» ، إذ لا يمكن افتراض وجود غائية إنسانية مستقلة عن الغائية (أو اللاغائية) المادية الكونية .

    2- لا بد من تطبيق المناهج العلمية على الإنسان حتى تصبح العلوم الإنسانية في دقة العلوم الطبيعية (ذلك لأن ثمة قانوناً واحداً يسري على الطبيعة والإنسان). وهذا يعني، في واقع الأمر إخضاع الإنسان نفسه للتجريب العلمي دون غاية إنسانية أو هدف أخلاقي، حتى يتم إنارته تماماً واكتشاف قوانينه ومن ثم التحكم فيه، الأمر الذي يؤدي إلى القضاء على الإنسان كما نعرفه ككائن مركب متجاوز لقوانين الطبيعة. وهذا يعني اختزال حياة الإنسان الثرية الجوانية إلى مظاهرها الخارجية البرانية وحسب، من خلال نماذج تحليلة كمية تفتت الحقائق النفسية والحياتية الجوهرية. وكما يقول علي عزت بيجوفتش «وهكذا رأينا علم الاجتماع الديني يقضي على الجوهر الأساسي للدين، وعلم النفس يقضي على النفس، وعلم الأنثربولوجيا يقضي على الشخصية الإنسانية، وفقد التاريخ معناه الإنساني الجواني، وبيِّن علم الأخلاق أن الذي نحسبه أخلاقاً هو مجرد نوع من الأنانية المستنيرة، أي أن الأخلاق نفي للأخلاق، بل إن علم البيولوجيا قرر أن الإنسان ليس في الحقيقة إلا حيوان وأن الحيوان في حقيقته شيء، وأن الحياة في نهاية الأمر مجرد آليات بلا حياة»!


    3-وجه مفكرو مدرسة فرانكفورت نقدهم لما يسمونه العقل الأداتي (نتاج فكر حركة الاستنارة). فالعقل كلما حقق انتصاراً على الطبيعة زاد من درجة قمعه للجوانب التلقائية والعاطفية والإنسانية في الإنسان، وهو ما يؤدي إلى انفصال الإنسان عن الطبيعة وعن إمكانياته الحقيقية الكامنة. وينتهي الأمر بأن يهتدي العقل بالعلم الطبيعي وحسب ويحول الإنسان والطبيعة إلى مجرد مادة استعمالية، وبالتدريج تنفصل النزعة، التجريبية (المادية) عن النزعة العقلية (الإنسانية) ويصبح التجريب نهاية في حد ذاته.


    ولعل الأساطير التي أفرزها عقل الإنسان الغربي تعبر عن خوف الإنسان من العلم ومن طريقته الجذرية في تصفية الغائية والعقلانية الإنسانية لصالح التجريب (المادي) المطلق. فأول الأساطير هي أسطورة بروميثيوس الذي سرق النار من الآلهة وأعطاها للإنسان (بهدف الاستنارة بطبيعة الحال ، وهذه هي الأسطورة العلمانية الكبرى) . ثم تلتها أسطورة فاوستوس الذي باع روحه للشيطان في سبيل المعرفة الكاملة التي تمكنه من التحكم في الواقع والزمان (أو هكذا كان يظن) . ومع بداية القرن الثامن عشر ، تظهر أسطورة فرانكشتاين ، هذا الكائن القبيح الذي خلقه عالم مستنير يؤمن بالعلم وبمقدراته ليسخره في خدمته (المركزية الإنسانية) ، ولكن المخلوق يقتل خالقه بعد قليل وينطلق حراً ليعيث في الأرض فساداً وفي الناس قتلاً (انتصار الموضوع) ، أي أن ثمرة العلم الإنساني هي قتل الإنسان ، ونتيجة العلم الإنساني لا إنسانية ، ففرانكشتاين إنسان طبيعي آلي يتحرك في إطار قوانين الطبيعة الآلية . ثم تظهر بعد ذلك أساطير مثل دكتور جيكل ومستر هايد وغيرهما لتدل على خوف الإنسان على ذاته الإنسانية المتعينة من عقله المجرد الذي يتحرك في إطار القوانين العلمية والمعادلات الرياضية اللا إنسانية . وهكذا، بعد أن سرق بروميثيوس كرة النار من الآلهة بثقة بالغة لينير للإنسان طريقه وعالمه ، وقف حائراًَ لا يعي من أمره شيئاً إذ رأى ثقوب الأوزون والتلوث وتآكل الأسرة واجتثاث أشجار غابات المطر الاستوائية وازدياد غاز ثاني أكسيد الكربون ، فاكتشف أنه لا يساعد الإنسان وينير طريقه بل على العكس وجد أنه يساهم في هلاكه وحرقه وتصفيته .
    اللجنة العلمية بمنتدى التوحيد

  10. افتراضي

    سادساً: التاريخ:


    ويعبر موقف حركة الاستنارة من التاريخ عن نفس الصراع بين النموذجين -المتمركز حول الإنسان والخاص من ناحية والمتمركز حول الطبيعة والعام من ناحية أخرى- وانتصار الثاني على الأول. فالتاريخ هو نشاط إنساني وهو ذاكرة الإنسان ومستودع حكمته. ولذا، أظهر فكر حركة الاستنارة اهتماماً بالغاً بالتاريخ. وبدلاًَ من الغائية التقليدية التي ترى أن التاريخ يسير بتوجيه إلهي، طُرحت فكرة غائية جديدة تماماً وهي التقدم الذي يشكل التجسد التاريخي للقانون الطبيعي العام وتزايد المعرفة عند الإنسان ، ومن ثم تزايدت الاستنارة وتزايد تطبيق معايير العقل بهدف زيادة التحكم . وقد وضع كوندروسيه مخططاً بسيطاً لتقدم العقل البشري بيِّن فيه أن قانون التقدم اللانهائي هو خير مبدأ لتفسير التاريخ . ومن هنا ظهرت فكرة المراحل التاريخية التي سيطرت على الفكر الغربي ، وهي مراحل في جوهرها تشكل ابتعاداً عن الغائيات التقليدية وتحققاً للغائيات الحديثة : المرحلة اللاهوتية – المرحلة الميتافيزيقية – المرحلة العلمية وسيطرة القانون الطبيعي ، وهذا هو قمة التقدم وغايته . وقد اتسم التفكير التاريخي الاستناري بالتفاؤل الزائد وبالإحساس بأن الإنسان يتقدم نحو تحقيق ذاته .

    ولكن الاهتمام بالتاريخ باعتباره المجال الذي يعبر فيه الإنسان عن مركزيته الإنسانية في الطبيعة وعن مقدراته العقلية اللامتناهية، لم يكن الاتجاه الوحيد ، إذ ظهرت معه رؤية متمركزة حول الطبيعة/المادة معادية للتاريخ ومعادية للإنسان ومعادية للعقل ، فالطبيعة/المادة رابضة دائماً وأبداً ، تطل بوجهها الرمادي الكالح بعد فترات قصيرة من الحرية والتوهج الإنساني ، وتؤكد هذه الرؤية على ما يلي :


    1- التاريخ هو تجسيد للقانون الطبيعي، الأمر الذي يعني أسبقية الطبيعة على التاريخ (مثل أسبقية الطبيعة/المادة على الإنسان وعقله). ومن ثم ، كان يُنظر للتاريخ أحياناً باعتباره مجرد تراكم لمعلومات وحقائق حضارية مصطنعة تُبِعد الإنسان عن حالة الطبيعة الأولى (المرجعية النهائية) . وهنا يصبح التقدم اغتراباً عن جوهر الإنسان (الطبيعي) ، وتُطرح أفكار معادية للتاريخ مثل النزعة البدائية التي تطالب بالعودة للطبيعة وللإنسانية البدائية (المرحلة الشيوعية الافتراضية قبل أن تسود الحضارة وينتشر عدم التفاوت بين الناس) . وظهرت نظريات للتاريخ تبين أن مسار التاريخ إنما هو تعبير عن التدهور المستمر للإنسان، وبدأت أفكار نهاية التاريخ تظهر، كما ظهر الفكر الثوري ذو النزعة الجذرية التي يحاول نسف التاريخ تماماُ بهدف إصلاحه وتغيير مساره! والأمر لا يختلف كثيراً مع دعاة المدينة الفاضلة المؤسسة على قواعد العلم (اليوتوبيا التكنولوجيا التكنوقراطية) .فهؤلاء قد أخضعوا التراث التاريخي لمحك العلم (بسبب أسبقية الطبيعة/المادة على التاريخ) فما يتفق مع المقاييس العلمية أبقوه، وما لا يتفق معها كان لا بد من استبعاده.

    2- التاريخ تعبير عن القانون الطبيعي، وما يحرك التاريخ (باعتباره جزءاً من الطبيعة/المادة أو لصيقاً بها) ليس الإرادة الإنسانية وإنما العناصر المادية مثل وسائل الإنتاج ورغبة الإنسان الطبيعي في التملك أو القتال. وعلى الإنسان أن يخضع لمسار التاريخ الصارم باعتباره تعبيراً عن القانون العام الذي يحكم الإنسان والطبيعة والكون. ومن هنا، شاع الحديث عن «الحتمية التاريخية» وعن «روح التاريخ»وعن «قوانين التاريخ»الصارمة.

    3- التقدم هو عملية تراكمية آلية تتم حسب قوانين طبيعية عامة كامنة في العملية التاريخية ذاتها وليس لها غرض إنساني أو إلهي. فالتاريخ، مثله مثل الاقتصاد والسياسة والإنسان، يتحرك مثل تلك الساعة النيوتونية المادية الآلية الرتيبة، وعملية التقدم حتمية، تماماً كما هو الحال مع الطبيعة. ويبدو أن عملية التقدم التراكمية ستصل إلى منتهاها يوماً حين يسود العقل تماماً ويتحكم الإنسان في المادة وفي نفسه، فيسيطر على الطبيعة المادية ويصلح الطبيعة البشرية ويصل إلى الحكم التكنوقراطي الرشيد، أي نهاية التاريخ. وعلى هذا، فإن التطور التاريخي يؤدي إلى إلغاء التاريخ، وإلغاء التاريخ يؤدي إلى إلغاء ظاهرة الإنسان تماماً – أو ليس الإنسان ظاهرة تاريخية فقط كما تعلمنا من مفكري عصر الاستنارة؟ ولذا، كان تفاؤل المستنيرين الخاص بتطور التاريخ ينقلب إلى تشاؤم عميق، وكان التبشير به يتحول إلى تحذير منه، ذلك لأنهم أدركوا أنه تطور قد يؤدي إلى تصفية الإنسان الفرد لصالح حركة التاريخ الحتمية وتقدمه المادي اللامتناهي!
    اللجنة العلمية بمنتدى التوحيد

  11. افتراضي

    سابعاً: النظرية الأخلاقية:


    وحينما نصل إلى مجال النظرية الأخلاقية، يتبدى الصراع بين النموذجين بكل حدة ثم يحسم بكل سرعة. فالفكر التنويري يرى أن الإنسان لا يضمر أي شر، فهو خيِّر بطبيعته ويطمح إلى الخير والجمال والحق بشكل تلقائي طبيعي، فالشر ليس جزءاً أصيلاً من الطبيعة أو من النفس البشرية في حالتها الطبيعية الأولى، وهذا الإنسان الخيَّر يبحث عن مصلحته ولكن بطريقة مستنيرة بحيث لا
    تتناقض مع مصالح الآخرين (بالإنجليزية: إنلايتيند سلف إنترست enlightened self – interest). والأفكار الدينية المختلفة (مثل فكرة السقوط والخطيئة الأولى ووجود الشر) لا تستند إلى أي أساس طبيعي مادي محسوس، وما نرتكبه من آثام وكل ما نقابله من شرور في المجتمع الإنساني إن هو إلا نتاج شيء مادي براني مثل البيئة الاجتماعية أو الجغرافية أو التاريخية أو المادية أو العناصر الوراثية، فالإنسان في داخله خيِّر (المركزية الإنسانية). ولكن من الواضح تماماً أن الإنسان الجواني يتأثر تماماً بهذه العناصر المادية الطبيعية/المادية البرانية ، فهي التي تصوغه وتشكله ولا يصوغها هو ولا يشكلها. وامتداداً لهذه الأطروحة، ظهرت الفلسفة النفعية للتعبير عن هذه النزعة الطبيعية الحسية المادية. وقد أعطت هذه الفلسفة للإحساسات الفيزيائية الأسبقية على المفاهيم الأخلاقية بل والمفاهيم العقلية والإنسانية، فالأخلاق لا علاقة لها بالفضيلة أو الاحتياجات الروحية أو المعنى وإنما لها علاقة بالسعادة (اللذة) والمنفعة، فعُرِّف الخير والشر تعريفاً مادياً كمياً، فالخير هو ما يدخل السعادة (اللذة) على أكبر عدد من البشر وما يحقق لهم المنفعة والشر هو عكس ذلك (أي ما يسبب الألم والضرر). والعواطف الإنسانية إن هي إلا تعبير عن حركة المادة، فالرغبة إن هي إلا التحرك نحو الشيء المرغوب فيه، والكره إن هو إلا التحرك بعيداً عنه. ولا توجد أسئلة أخلاقية كبرى أو نهائية، فكل الأمور مادية نسبية متغيرة. كما أن الإنسان، مدفوعاً بحب الذات وببحثه الدائب عن السعادة واللذة، وبما يتراكم لديه من معرفة حسية مادية، سيختار حتماً ما يراه نافعاً له وما يدخل السعادة على قلبه (فهو إنسان طبيعي رشيد تحكمه القوانين الفسيولوجية الصارمة). وجماع الاختيارات الفردية سيؤدي حتماً وبشكل آلي تلقائي إلى سيادة نفع الأغلبية وسعادتها. فالنظرية الأخلاقية هنا ذرية كمية تماماً مثل رؤية العقل، ومن خلال إصلاح البيئة البرانية (الاجتماعية والمادية)، وتطبيق الأخلاقيات المادية الرشيدة وآخر الاكتشافات العلمية، يمكن استئصال شأفة الشر بل إصلاح الطبيعة البشرية ذاتها (أو ليس الإنسان مجرد جزء من كل طبيعي مادي أكبر؟). ولكل هذا، كان فلاسفة العقل والتنوير فلاسفة متفائلين يؤمنون إيماناً قاطعاً بمقدرة الإنسان على إصلاح ذاته وعلى الوصول إلى حلول كاملة ودائمة لكل المشاكل التي تواجهه (المركزية الإنسانية) من خلال استسلام الإنسان الكامل للقوانين الطبيعية (مركزية الطبيعة).

    ويتبدى الصراع بين النموذجين في التناقض بين الخاص والعام على المستوى الأخلاقي، فماذا لو أصر الإنسان الطبيعي المدفوع بالحب الطبيعي للذات على اختيار ما يضر الجماعة؟ وماذا لو اختارت الجماعة ما يضر بها وبالآخرين؟ وعادةً ما يحسم الصراع لصالح العنصر المادي الأقوى، ولذا قيل إن الطبيعة هي التي أوجدت الإنسان في المجتمع، ولهذا فإن المجتمع عليه أن يُرغم الفرد على أن ينشد السعادة التي يقررها له المجتمع، ومن ثم أصبحت القيمة مسألة اجتماعية، أي أن المجتمع هو الذي ينتج القيمة، وليست القيمة هي التي تحكم المجتمع. وقد نتج عن ذلك عدة أشياء لعل من أهمها ما يلي:


    1- حررت كثير من المجتمعات العلمانية الأخلاق من هيمنة علماء الدين، ولكنها في ذات الوقت أخضعتها لعلماء النفس والاجتماع والهندسة الاجتماعية والوراثية وشركات الإعلان التليفزيونية وسجلات أخبار النجوم وفضائحهم وصناعة الإباحية واللذة.


    2- أصبحت الأخلاق مسألة اجتماعية نسبية (فالأخلاق هي تجارب بعض الناس)، ومن ثم فهي لا تتمتع بأية مطلقية أو ثبات ويجب أن تخضع دائماً للتقييم والتفاوض المستمر، الأمر الذي يجعل التمسك بها أمراً صعباً بعض الشيء، وخصوصاً إن تم تغيير القيم بمعدلات عالية (والحداثة كما عرفها أحدهم هي القدرة على تغيير القيم بعد إشعار قصير).


    3- أصبحت مسئولية الفرد تنحصر في طريقة الأداء، فإن أدى واجبه على أكمل وجه فهو مواطن خيِّر صالح جيد (حتى ولو كان هذا الواجب هو إبادة المعوقين والمرضى والعجزة وأعضاء الأقليات)، وإن تقاعس في الآداء وانخفضت الكفاءة فهذا هو
    الشر (وهذا ما يُسمى الترشيد الإجرائي أو الأداتي : أي أن نوجه السؤال العلمي : كيف؟ ولا نوجه السؤال الديني الإنساني الغائي : لماذا؟). وهذا يثير في الواقع قضية المسئولية الأخلاقية للإنسان الفرد، إذ أن هذه الرؤية تحوله إلى كائن سلبي مفعول به يعكس بيئته ويتبع القيم الاجتماعية التي أنتجها المجتمع، أي أنه أصبح موظفاً وبيروقراطياً كاملاً يشبه وكلاء الوزارات أو رؤساء المصالح الذين يقضون سحابة يومهم في تنفيذ التعليمات الصادرة لهم من أعلى، أي من سعادة الوزير! (انتصار الموضوع على الذات). وقد كان هذا هو محور دفاع أيخمان عن نفسه إبان محاكمته في إسرائيل، إذ أعلن أنه مواطن عادي لا يؤمن بأي دين، كل همه هو أن يطيع الدولة وأن ينفذ أوامرها . وقد أمرته الدولة بترحيل أعضاء إحدى الأقليات (اليهود) وقد فعل ما فعل، انصياعاً لأوامر رؤسائه وتعبيراً عن ولائه للمجتمع والدولة وللقيم الأخلاقية السائدة في المتجمع النازي.


    4- ثم نأتي لمشكلة الشر، أصله وتفسيره وكيفية محاربته (وهي نفس الأسئلة التي تطرحها العقائد الدينية) :

    ( ا ) الإنسان الذي لا يعرف الشر ولا يختاره، ولا يعرف الخير ولا يختاره، هو إنسان مسلوب الإرادة ومسلوب الحس الأخلاقي وليس عنده وعي خاص، فهو إنسان طبيعي. كما أن الإنسان الذي لا حدود لطاقاته إن هو إلا جزء من الطاقة الكونية الكبرى، ليس له هوية محددة أو شخصية منفردة. فما يحدد إنسانية الإنسان وفرديته هو اختياره الحر، وما يحدد أي ظاهرة هو الحدود المفروضة عليها، أي الاتجاه نحو إلغاء ظاهرة الإنسان كامن في النظرية الأخلاقية التي تستند إلى القانون الطبيعي.


    (ب)الشر هو انحراف عن الطبيعة وخروج على حالة الطبيعة. وكما يقول روسو إن أول إنسان سقط من حالة الطبيعة هو الإنسان الذي جاء إلى قطعة أرض وقال «هذه أرضي». وهنا نطرح السؤال التالي : ما الذي دفع بهذا الإنسان الطبيعي إلى أن يفعل ما فعل؟ ما الذي يسبب هذا الانحراف؟ لماذا يقتل الإنسان (الطبيعي) أخاه الإنسان (الطبيعي)؟ أليست الطبيعة كلها خيراً ومن ثم فالإنسان الطبيعي خيِّر بطبيعته؟ وقد بيِّن الماركيز دي صاد (وهو من أهم مفكري عصر الاستنارة ومن المنادين ـ مثل روسو ـ بالعودة للطبيعة) أن الطبيعة زودت الإنسان (ضمن ما زودته به من مقدرات) كماً هائلة من الغرائز والشهوات والرذائل ، فالطبيعة قوة لا شخصية (وهذا أمر أقره عليه الجميع). ولكنه أضاف أنها تبرر أعمال العنف والقسوة ـ فماذا يمنع من أن نربط بين الجمال والشر والحق والقوة أو بين أي شيء وأي شيء آخر؟ أو ليست كل الأمور نسبية؟ وقد رفض كثير من المستنيرين هذه النتيجة المنطقية المظلمة الكامنة في
    المقدمات الاستنارية المضيئة ربما بسبب أنهم لم يمكنهم التخلص من بعض المفاهيم الأخلاقية التقليدية التي ورثوها من مجتمعاتهم قبل أن يشع عليهم نور الاستنارة، أو لعلهم أصروا على التحرك داخل إطار النموذج المتمركز حول الإنسان دون أساس فلسفي.


    (ج)ثم نأتي لمشكلة المشاكل : كيف يمكن للعقل في إطار العقلانية المادية أن يفرق بين ما هو أخلاقي وبين ما هو غير أخلاقي؟ فالعقل، إن كانت مرجعيته النهائية هي الطبيعة/المادة، قادر على اكتشاف مبدأ السببية العامة في الأشياء والدوافع الغرائزية في الإنسان التي تؤكد الحتميات المادية الخارجية، وتنكر من ثم (ضمناً) استقلالية الإنسان وحريته. والعقل المادي المحض يوجد داخل حيز التجربة المادية وحسب، وقد وصفه أحد المفكرين بأنه لا يشع نوراً وإنما هو موصل جيد للنور أو الظلام، فهو مثل الكمبيوتر يتعامل مع المعلومات، يوظفها ويرتبها ولكنه لا ينتجها ، ولذا، فإن العقل إن أعطيته حقائق صماء ومتغيرات رصدها وأجرى عليها تجارب ثم أعطانا حقائق صماء ومتغيرات لا علاقة لها بالقيمة. فهو أداة كفأة قادرة على الملاحظة والتجريب والتفكيك ورصد ما هو كائن، ولكنه يقف عاجزاً عن أن يزودنا بما ينبغي أن يكون، وعن التمييز بين الخير والشر، فمرجعيته النهائية هي الطبيعة، والطبيعة محايدة حياداً رهيباً، بل قد تكون شريرة، فالخير حقيقة والشر أيضاً حقيقة، والحقائق، الخيرة والشريرة على السواء، حقائق. خذ، على سبيل المثال، إبادة العجزة وأعضاء الأقليات والمعوقين، وهي مسألة تحرمها كل الأديان السماوية الغيبية. ماذا لو حدث وأثبت أحد العلماء المستنيرين الجدوى الاقتصادية المادية للقضاء على هذا الفائض البشري الذي لا فائدة (مادية) ترجى منه؟ ماذا لو بين أحد بالبراهين والأدلة المقنعة أن إبادتهم تشكل عنصراً من عناصر التقدم وعلاجاً فاجعاً لمشكلة تزايد السكان ومحدودية المصادر الطبيعية؟ ألا يمكن تحديد النسل بل تحسينه من خلال إبادة المرضى؟ ألا يمكن أيضاً تحسين الإنتاج وحل مشكلة الزيادة السكانية من خلال إبادة المعوقين والعجزة باعتبارهم يوسليس إيترز useless eaters (على حد قول العلماء النازيين) يستهلكون ولا ينتجون؟ إن إبادة مثل هؤلاء من منظور الإنسان الاقتصادي الطبيعي (المحايد) أمر مفهوم تماماً، فمرجعيته الوحيدة هي الطبيعة المحايدة. والطبيعة لا تحابي أحداً، وكل الحيوانات تترك المسنين والمعوقين من جنسها، ولا تحملهم معها كما يفعل هذا الحيوان اللاعقلاني المسمى بالإنسان. وماذا يمكن للعلم أو للعقل أن يفعل مع هذا العالم الألماني النازي الذي أثبت بالمنطق الرياضي الصارم وبالتجربة (أي بالعقل والحواس والمنطق المادي) أن قتل العجزة والمعوقين وجرحى الحرب واليهود والغجر سيوفر الكثير للاقتصاد الألماني (مئات الآلاف من أطنان المربى التي حُسبت كميتها بدقة علمية بالغة)؟ وماذا يمكنه أن يفعل، مع هذا العالم النازي الذي التزم بالمنطق العلمي المحايد الصارم وأجرى تجارب على التوائم لا تعرف الرحمة أو الشفقة، فكان يضع طفلاً في حجرة ويضع شقيقه التوأم في حجرة أخرى، ويخضع الأول لأشكال من التجريب العلمي المختلفة مثل تعذيبه أو تسخينه أو تبريده أو تجميده ويقوم بقياس الحالة النفسية لأخيه؟ وهل يختلف هذا عن التجارب النووية وتجارب الأمصال الجديدة التي تُجرى على البشر (دون علمهم) من أجل صالح العلم ومستقبل البشرية؟ وقد تراكم كم هائل من المعلومات من خلال التجارب النازية. ويُطرح الآن تساؤل بخصوص مدى مشروعية استخدام مثل هذه المعلومات التي تم الحصول عليها بطريقة شيطانية؟ وتختلف الإجابات ولكنها كلها ليس لها أساس علمي، فالعلم لا يعرف سوى التجريب المحايد.

    بل ماذا يمكن للعقل أن يفعله مع النظريات العرقية التي تنكر المساواة بين البشر وتأتي بمعادلات رياضية عن معدلات الذكاء ورسوم بيانية عن حجم الجمجمة ومدى كفاءة عرق ما في إدارة الصراع مع الطبيعة ومع الإنسان؟ هل يمكن للعقل أن يستمر في الإصرار على ضرورة المساواة بين البشر (بعد أن أنكر أصلهم الرباني)؟

    أليس هذا نوعاً من الغيبية؟ ولذا فإن على العقل أن يدخل المعركة مسلحاً بمزيد من المعادلات الرياضية والرسوم البيانية التي يمكن لها إثبات أي شيء. وماذا يمكن للعقل أن يفعل مع العقلية الإمبريالية التي تقبل بنسبية الأخلاق وبحتمية الصراع كشكل أساسي في الحياة، وانطلاقاً من هذا تصرع الآخرين وتدمر الأرض؟

    (د) والعقل الحر المستقل الذي لا تحده أي حدود أخلاقية أو إنسانية يسخر العالم لمصلحته ويلتهمه ويبدده، فهو عقل أداتي لا يدرك ماضياً ولا مستقبلاً ولا يعرف غاية ولا هدفاً.

    (هـ) وهناك أخيراً مشكلة علاقة المعرفة بالأخلاق. فمعرفة الفرق بين الخير والشر مختلفة تماماً عن فعل الخير وتحاشي الشر، فالمعرفة لا تتضمن عنصر الإرادة الحرة، أما الفعل الأخلاقي فهو وحده الذي يستند إلى مثل هذه الإرادة. ومن ثم ، بعد أن يعرف الإنسان الفرق بين مصلحته الشخصية الضيقة والمصلحة العامة، وبعد أن يعرف أن تركيزه على مصلحته الضيقة يمكن أن يودي بالمجتمع ككل، بل به هو نفسه كفرد: كيف يمكن أن نقنعه بالانتقال من المعرفة إلى الفعل الخلقي؟ (تلك هي المشكلة الهوبزية التي لا إجابة لها داخل المنظومة المادية).
    اللجنة العلمية بمنتدى التوحيد

  12. افتراضي

    خـاتـمة


    هذه هي بعض الإشكاليات التي طرحتها حركة الاستنارة، والتي لا يزال بعض المفكرين الغربيين يتأملون فيها ولا يجدون لها إجابة شافية (على عكس دعاة الاستنارة عندنا الذين يبشرون بأفكار الاستنارة بشجاعة بالغة ساذجة قد تدل على طيبة قلوبهم وعقولهم، ولكنها تدل أيضاً على أنهم لم يتأملوا الأمر بما فيه الكفاية من كافة جوانبه). ويجدر بنا أن نتوقف قليلاً أمام أسطورة فرانكنشتاين وتآكل الأسرة وتسلع الإنسان وشمولية الدولة الحديثة ومؤسساتها الضارية. لابد أن نتوقف قليلاً أمام سيزيف المسكين الذي يدفع بحجر ضخم إلى أعلى حتى يصل إلى قمة الجبل، ولكنه حينما ينجح في ذلك ويصل إلى بغيته ينزلق الحجر منحدراً إلى أسفل الجبل مرة أخرى ليقوم بدفعها مرة أخرى نحو القمة ، المرة تلو المرة، في حركة دائرية لا متناهية. وهذه صورة رائعة لعملية الصراع بين النموذجين (المتمركز حول الإنسان والمتمركز حول الطبيعة/المادة).


    فسيزيف رمز لإنسان يصر على تأكيد إرادته الإنسانية أمام ما يراه من عبثية الطبيعة (قانون الجاذبية الذي يدفع الصخرة مرة أخرى نحو الأرض فيفكك كل إنجازاته الإنسانية). ويمكننا أن ننظر لسيزيف من منظور النموذج المتمركز حول الطبيعة/المادة، وأن نتسلح بآراء الاستنارة وبمفاهيم الترشيد الأداتي، ونحن لو فعلنا لحكمنا على سيزيف من منظور جودة الأداء والسرعة والمدخلات والمخرجات وتناسب القوة العضلية المبذولة مع حجم الحجر، والعائد المادي لعملية دفع الحجر، أي لحكمنا عليه بمقاييس عقلية مادية طبيعية موضوعية صارمة ـ ولكننا إن نظرنا إليه من منظور النموذج الواحدي المادي المتمركز حول الإنسان لأدركنا تماماً «عبثية»حياة سيزيف، وافتقارها إلى المعنى.

    ولو دققنا قليلاً لاكتشفنا أننا بذلك نكون قد استدعينا مجموعة من القيم غير المادية غير الطبيعية غير العقلية، فالمعنى لا وجود له في عالم المادة، والغاية لا وجود لها في عالم الطبيعة إذ لا يوجد فيها سوى الحركة، فالمعنى والغاية أمور إنسانية ؛ لا بمعنى أن الإنسان كائن طبيعي/مادي وإنما باعتباره كائناً غير طبيعي/ ، متميِّزاً عن بقية المخلوقات، مختلفاً عنها . وهو لن يحقق لنفسه هذا التميز إن خضع لنداء غدده وجسده (كما يقول السلوكيون والطبيعيون)، وإن أنشأ علاقة عضوية حميمة مع القردة العليا (كما يقول دعاة وحدة العلوم)، وإن صدِّق أن خصائصه التشريحية هي قَدَره (كما يقول فرويد)، وإن آمن أن تطور وسائل الإنتاج هي محرك التاريخ (كما يقول بعض الماركسيين).

    فهو لا بد أن يكون على علاقة بمركز ما أو قوة جذب ما خارج النظام المادي الطبيعي، ولا بد أن يكون مستخلفاً من قبَل الله (كما يقول المسلمون) أو خُلق على صورته (كما يقول المسيحيون). حينئذ تستند مركزية الإنسان في الكون إلى أرضية ثابتة ولا يمكن للإنسان أن يغوص في حمأة المادة ويذوب في القانون الطبيعي المادي وينسى نجوم السماء ليعانق القردة العليا، كما تتعانق الروح المطلقة مع الطبيعة ، والذات مع الموضوع في منظومة هيجل وكثير من المنظومات الفلسفية العلمانية الأخرى. والله أعلم.
    اللجنة العلمية بمنتدى التوحيد

  13. افتراضي

    الكتاب مصورًا:


    فكر حركة الاستنارة وتناقضاته


    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
    اللجنة العلمية بمنتدى التوحيد

  14. #14

    افتراضي

    جزاكم الله خيرًا..

  15. #15

    افتراضي

    بوركت جهودكم وجزيتم خيرا،
    ونفع الله بكم.

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. التيارات الفكرية - محاضرة نادرة للدكتور عبدالوهاب المسيري
    بواسطة د. هشام عزمي في المنتدى الصوتيات والمرئيات
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 02-27-2014, 11:55 PM
  2. حلم الدولة العلمانية وتخاريف السيد يسين وتناقضاته وارهابه وجزعه!
    بواسطة طارق منينة في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 09-30-2012, 07:21 PM
  3. محاضرات عن حياة الشيخ محمد بن عبدالوهاب
    بواسطة المستمع في المنتدى الصوتيات والمرئيات
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 03-19-2012, 11:22 PM
  4. شروح جديدة لرسائل لشيخ الاسلام ابن عبدالوهاب
    بواسطة السالم في المنتدى قسم العقيدة والتوحيد
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 11-18-2009, 05:21 AM
  5. مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 05-11-2007, 02:17 PM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء