النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: البروفيسور جعفر إدريس يرد على دوكنز ومع مقالة: اضطراب الملحدين 2-4

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2008
    المشاركات
    3,524
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    3

    افتراضي البروفيسور جعفر إدريس يرد على دوكنز ومع مقالة: اضطراب الملحدين 2-4

    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

    وبعد أن عرضتُ المقالة الأولى في هذه السلسلة وهي على الرابط التالي:

    http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=26542


    أتحفنا البروفيسور بمقالةٍ جديدة لرباعيّته الرائعة (اضطراب الملحدين) تناول فيها الرد على دوكينز بما سوف تقرأونه فيما يلي:

    اضطرابهم في نقدهم لأدلة وجود الخالق:

    علَّل بعض الغربيين إنكارهم لوجود الخالق بنقدهم لما سُمي ببراهين وجود الخالق كما وجدوها عند بعض فلاسفتهم وعلماء دينهم. وأكثر هذه البراهين شهرة عندهم هي البراهين المنسوبة إلى قديسهم توما الأكويني Thomas Aquinas الذي عاش في القرن الثالث عشر الميلادي، والذي كان قد تأثر كثيراً بكتابات علماء المسلمين وفلاسفتهم؛ ولا سيما الفقيه الفيلسوف ابن رشد، عليه رحمة الله. والبراهين المنسوبة إليه كانت في جوهرها؛ بل أحياناً في ألفاظها مأخوذة من كتابات المسلمين.

    ومن آخر مَنْ انتقد هذه البراهين الأكوينية وزعم أنها باطلة وجعل بطلانها دليلاً على عدم وجود الخالق: الداروني المشهور ريتشارد دوكنز Richard Dawking في كتابٍ له حديثٍ نال شهرة واسعة. حشد دوكنز في هذا الكتاب كلَّ ما عرف الغربيون من شبهات تشكِّك في وجود الخالق، وكان من هذه الشبهات: الزعم بأن الألدلة العقلية على وجوده أدلَّة باطلة.

    اختار دوكنز ثلاثة براهين لكنني سأختار واحداً منها فقط؛ لأنه انتقدها كلها نقداً واحداً.

    يقول دوكنز مقرراً هذا البرهان الذي أسموه بالسبب الذي لا مسبب له: (لا شيء يكون سبباً لنفسه. كل أثر له سبب سابق، وهكذا نجد أنفسنا مدفوعين إلى تسلسلٍ قَبْلي يجب أن يوقف بسببٍ أوَّل، وهو الذي نسميه الله)[1].

    ويقول دوكنز: (كل هذه الحجج تعتمد على فكرة التسلسل القَبْلي وتلجأ إلى الخالق لينهيه. إنها تفترض افتراضاً لا مسوغ له، هو أن الخالق نفسَه غير خاضع لهذا التسلسل. حتى لو سمحنا بالترف المشكوك في فائدته، ترفِ استحضار قاطعٍ للتسلسل بطريقة تحـكُّمية، وإعطائه اسماً لا لسبب إلا لأننا بحاجة إليه، فليس هنالك سبب على الإطلاق لإضفاء أيٍّ من الصفات عليه التي يوصف بها الله في العادة)[2].

    أقول: إن نقد دوكنز هذا يدل على أنه لم يفهم الدليل؛ ربما لأن تشبثَه بالإلحاد، واعتقادَه أنه لا يمكن أن يقوم دليل على وجود الخالق منعه من أن يتأمله، فتعجَّل في نقده له نقداً جائراً.

    إن جوهر الدليل، هو إثبات أن الكون حادث. وهذا ما كان ليوجد لولا وجود موجِدٍ غير حادث؛ فالدليل يقول: إن الحادث لا بد له من محدِث؛ فإذا كان سبب الحادث حادثاً فلا بد لهذا الثاني من محدِث وهكذا في الثالث والرابع وإلى ما شئت. لكن هذا معناه: أن وجود الحادث معلَّق على عدد لا ينتهي من الأسباب المحدَثة، وهذا معناه: أنه لن يحدث. لا بد لوجود الحوادث إذن من سبب أزلي غير حادث.

    لماذا لا يكون الخالق خاضعاً للتسلسل؟ أي لماذا لا نقول عنه كما نقول عن الحوادث: ما سبب وجوده، وما سبب وجود ما أوجده؟ وهكذا. هذا سؤال أراه في غاية الغباء؛ لكنه سؤال يكرره بعض عِلْيَة القوم المتخصصين بالفيزياء، كما فعل الفيزيائي المعاصر المشهور هوكنج. إنه سؤال في غاية الغباء؛ لأنه ما دام الخالق أزلياً غير حادث، فلا مجال للسؤال عن موجد له. فإذا قيل: من أوجده قلنا: لا شيء أوجده؛ لأنه ظل موجوداً منذ الأزل.

    يقول بعضهم: ما الدليل على أنه أزلي؟ ونقول كما قال من سبقنا من العلماء: إن الدليل على أزليته هو وجود الأشياء الحادثة التي ما كانت لتحدث - كما قدمنا - لو أنها كانت معتمدة في وجودها على حوادث مثلها. فوجود الحوادث هو الدليل على موجدٍ غير حادث.

    وقول دوكنز: إنه لا سبب على الإطلاق لإضفاء شيء من الصفات التي يوصف بها الله - تعالى - على السبب الذي يقطع التسلسل، هو من أعظم الأدلة على أن الكفر يُعمِي قلب الإنسان ويَذهَب بعقله. كيف لا يتصف بشيء من صفات الله، تعالى؟ ألا تدل الحجة على أنه أزلي غير حادث؟ وأليست هذه من أول صفات الخالق التي يعرفها كل مؤمن به؟ ثم إذا كان أزلياً فلا بد أن يكون أبدياً لا يزول، وهذه صفة ثانيةٌ من صفات الخالق، وهما الصفتان المعبَّر عنهما في القرآن بوصف الله - تعالى - بكونه: هو الأول والآخـر. وإذا لـم يكـن حادثاً فإنه لا يُحدِث آثاره كما تُحدِث الأسباب الحادثة آثارها بطريقة طبيعية لا إرادة فيها، بل لا بد أن يكون فاعلاً مريداً. وإذا كان مريداً فلا بد أن يكون حيّاً. وهكذا نستطيع أن ندلل على كثير من صفات الخالق الواردة في الشرع بأدلة عقلية. وهذا أمر قد عرفه كثير من أئمة أهل السُّنة؛ حتى إن بعضهم قال: إن صفة العلو يمكن أن تُعرَف بالعقل؟

    إن حجة التسلسل التي كنا ننصرها حتى الآن حجة صحيحة، لكن الحجة العقلية القرآنية على وجوده - سبحانه - أحسن منها، وأخصر، وأبين، وأبسط. يقول الله - تعالى -: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْـخَالِقُونَ 35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ} [الطور: 35 - 36].

    تقول هذه الآيات للمنكرين لوجود الخالق: إذا لم يكن هنالك خالق؛ فكيف وُجِدتُّم؟ هل جئتم من العدم، أم أنكم أنتم الذين خلقتم أنفسكم؟ ومن الذي خلق هذا الكون؟ هل كنتم أنتم الذين خلقتموه؟ فلا بد أن يكون الذي خلقه هو الله - تعالى - لأنه يستحيل أن يأتي من العدم ويستحيل أن يخلق نفسه.

    هذا الذي قلنا: إنه مستحيل عقلاً، كان أمراً مسلَّماً به عند كل العقلاء؛ من آمن منهم ومن كفر، لكن بعض علماء الفيزياء في عصرنا صاروا يقولون بإمكانه، أتدرون لماذا؟ لأن نظرية الانفجار العظيم أحرجتهم فصاروا مضطرين لأن يختاروا بين القول بوجود خالق للكون أو القول بكونه أوجد نفسه من العدم، فاختاروا هذا المستحيل هرباً من الاعتراف بوجود الخالق. يقول الفيـزيائي هوكنـج في كتـاب له حـديثٍ، كمـا روى عنـه مسـتعرضـو كتابه: (لأن هنالك قانوناً مثل قانون الجاذبية؛ فإن الكون يستطيع أن يوجِد نفسه من العدم، بل إنه سيفعل ذلك... إن الخلق التلقائي هو السبب في أن هنالك شيئاً، وليس لا شيء، وهو السبب في وجود الكون وفي وجودنا. وبناءً عليه فلا داعي للُّجوء إلى الله لجعل الكون يسير)[3]. هذا كلام لو قاله شخص عادي لظن الناس أن في عقله خللاً. أليس قانون الجاذبية قانوناً في داخل الكون؟ كيف يكون إذن سبباً في وجوده؟ ثم ما معنى أن يُخلَق شيء من العدم؟ إن العدم ليس بشيء؛ فكيف يُخلَق منه أو به شيء؟

    ومن الغرائب أنه قبل ظهور نظرية الانفجار العظيم، كان أكثر ما يأخذه علماء الطبيعة والفلاسفة الملحِدون على الدين كونَه يقول: إن الله - تعالى - خلق الإنسان أو الكون من العدم. هذا مع أن فكرة الخلق من العدم - رغم ذيوعها - ليست مما جاء به الدين؛ فلا يوجد في الإسلام نص على خلق شيء من العدم. وكذلك الأمر بالنسبة للكتب (المقدسة) عند النصارى واليهود؛ كما تقول دائرة المعارف الدينية.

    اعترض كثير من الفيزيائيين، بل حتى من الملحدين منهم على كلام هوكنز ذاك فقال بعضهم: إنه حشره حشراً في الموضوع، وقال بعضهم: إنه إذا كانت هنالك مشكلة في وجود الخالق، فإن المشكلات الموجودة في نظرية الانفجار أعظم منها.
    لا يحزنك تهافت الجماهير على الباطل كتهافت الفراش على النار ، فالطبيب الحق هو الذي يؤدي واجبه مهما كثر المرضى ، ولو هديت واحداً فحسب فقد أنقصت عدد الهالكين


    العجب منّا معاشر البشر.نفقد حكمته سبحانه فيما ساءنا وضرنا، وقد آمنا بحكمته فيما نفعنا وسرّنا، أفلا قسنا ما غاب عنا على ما حضر؟ وما جهلنا على ما علمنا؟ أم أن الإنسان كان ظلوماً جهولاً؟!


    جولة سياحية في جزيرة اللادينيين!!


    الرواية الرائعة التي ظلّت مفقودة زمنا طويلا : ((جبل التوبة))

  2. #2

    افتراضي

    اضطراب الملحدين 3-4

    بدأنا هذه السلسلة من المقالات القصيرة بمقدمة ثم ثنَّينا بالتعليق على نقد دوكنز للبراهين العقلية على وجود الخالق، وعلَّقنا على دعوى الفيزيائي الشهير هوكنز في كتابٍ له حديثٍ بأنه ليس هنالك من حاجة لوجود الخالق سبحانه، ونواصل اليوم تعليقنا على هوكنز، ثم نعود إلى دوكنز ودعواه بأن الدارونية تُغْنِي عن وجود الخالق، ثم نتناول في المقال الأخير اضطرابَه وغيرَه من الملحدين في العلاقة بين الإيمان والأخلاق.

    مما قاله هوكنز في الدليل على عدم الحاجة إلى الخالق - سبحانه -: أن القوانين الفيزيائية - ولا سيما قانون الجاذبية - كافية وحدَها لإخراج الكون من العدم إلى الوجود.

    ونقول: إن قانون الجاذبية نفسه يفترض وجود موجودات؛ لأن الجاذبية إنما تكون بين أشياء موجودة؛ فكيف يكون هذا القانون هو الذي يوجد الكون من العدم؟

    ثم نقول: إن القوانين الطبيعية ليست بالشيء الأزلي، وإنما محدَثَة شأنها في ذلك شأن المخلوقات التي تحكمها؛ فكيف تكون هي التي تُحدِثها من العدم؟

    إن مشكلة هؤلاء الملحدين هي أن تصوُّرَهم للخالق تصوُّر في غاية القصور، حتى يمكن للمرء أن يقول: إنه لا داعي لإنكار وجوده؛ لأنه أصلاً شيء لا يمكن أن يوجَد.

    لَـمَّا كانت مهمة الإله في تصوُّر كثير ممن يسمَّون بالمفكرين الغربيين محصورة في أن يبدأ الخلقَ، ثم يتركه بعد ذلك يسير وحدَه بالقوانين الطبيعية، كما يحرك إنسان عجلةً من مكان عالٍ متدحرِج، كان من السهل على رجال من أمثال هوكنز أن يقولوا: إن الكون مستغنٍ عن خالق كهذا؛ لأنه يمكن أن يبدأ سَيرَه مستقلاً عنه.

    هذا مع أن الخالق الحـق هـو خالق لا يكون شيء في الوجود إلا بإذنه وعلمه وقدرته، كما قال - تعالى -: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام: 102]. وكما قال - سبحانه -: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 59].

    مِنْ فَهْمِهِم القاصر للخالق - سبحانه وتعالى - أن الكثيرين منهم ما زالوا يخلطون بين المخلوقية والسببية؛ وهي قضية ناقشها مناقشة مفصَّلة وفرغ منها علماء المسلمين منذ قرون. إنهم يظنون أنه إذا اكتُشف سبب حدوث شيء فذاك يعني أنه ليس مخلوقاً، وأن السبب النهائي لحدوثه هو هذا السبب المشاهَد، وكان كثير من المؤمنين بوجود الخالق يستدلُّون على وجوده بالحوادث التي لم يصل العلم التجريبي إلى اكتشاف أسباب لها؛ لذلك كان الملحدون يسخرون منهم ويسمون خالقهم إلهَ الفجوات، ولا سيما أن العلم الطبيعي كان يسد بعض هذه الفجوات باكتشافه لأسباب الحوادث التي قيل: إنه لا يحدثها إلا الله تعالى.

    الدارونية والإلحاد:

    ذكرنا تعليقات بعض الفيزيائيين على كتاب هوكنز. ونذكر الآن تعليق داعية الإلحاد البيولوجي الداروني دوكنز. لقد استقبل دوكنز الكتاب بفرح شديد، كما هو متوقع، وقال معلقاً عليه في صفاقة: (إن الدارونية ركلت الخالق فأخرجته من الأحياء، لكن الفيزياء ظلت مترددة إلى أن جاء هوكنز فضربه الضربة القاضية)[1].

    لقد رأينا حجة هوكنز وما فيها فَلْنُعد النظر الآن في حجة دوكنز التي زعم أنَّ دارونيته أخرجت بها الخالق من نطاق الأحياء، وأقول دارونيته؛ لأنه ما كل أحيائي، بل ما كل داروني يوافقه على ما ذهب إليه، كما أنه ما كل فيزيائي يتفق مع هوكنز كما رأينا.

    ويزعم دوكنز أن لديه بديلاً أحسن من القول بوجود خالقٍ خلقَ الخلقَ بإرادته وعلمه. ما هذا البديل؟ يقول: (إن أي خلاَّق ذي وعي يكون مـن التعقيد بحيث يستطيع أن يصمم أي شيء، لا يأتي إلى الوجود إلا نتيجة لعملية تطوُّرية طويلة.

    بما أن الوعي الخلاَّق يأتي عن طريق التطور فإنه يكون بالضرورة في آخر الكون، فلا يمكن لذلك أن يكون مسؤولاً عن تصميمه)[2]

    إن حجة دوكنز هذه من النوع الذي يسمى بالمصادرة على المطلوب، وهي أن يجعل الإنسان ما يُطلَب منه برهانُه من مقدمات ذلك البرهان. لقد بدأ حجته بدعوى أنه سيأتي ببديل عن وجود الخالق. والذي يزعم أن بديله هو الأحسن لا بد أن يأتيَ بأدلة مستقلة عن دليله تبرهن أفضليته. لا يمكن أن يدَّعي إنسان - مثلاً - أن الدكتاتورية خير من الديمقراطية، ثم يدلل على ذلك بحجج مبنيَّة على أفضلية الدكتاتوري. لكن هذا بالضبط هو الذي فعله دوكنز. لقد افترض أنه لا يوجد موجود ذو وعي إلا إذا كان مثل الكائنات الحية التي يتعامل معها علم الأحياء، والتي تنطبق عليها قوانين الدارونية. هذا مع أن خصمه يزعم أن هذه الأحياء التي تتحـدث عنها الدارونية ما كانت لتـوجد لولا وجود خالق ليس هو من نوعها، خالقٍ لا يصدق عليه وصفُه بأنه لا يأتي إلى الوجود إلا نتيجة عملية تطورية طويلة.

    إن نظرية دوكنز التي جعلها بديلاً عن القول بوجود الخالق لا تحل أهم إشكال يحله القول بوجوده - سبحانه - وهو أن النظر في طبيعة هذه الكائنات يدل كما قلنا من قبل على أنها ليست أزلية، وأنها لا يمكـن أن تكـون قد جاءت من العـدم، ولا يمكن أن تكون هي الخالقة لنفسها؛ فلا بد لها لذلك من خالق. وكما أن هذا يقال عن الكائنات الكبيرة المشهودة، فإنه يَصْدُق أيضاً على الكائنات الصغيرة التي زعم دوكنز أن كائنه الواعي الخلاَّق تكون منها.

    إن العلماء الطبيعيين من أمثال هوكنز ودوكنز بدؤوا يفتنون الناس في بلادهم وفي غيرها من البلاد التي يُتَأثَّر فيها بفكرهم، وما أكثرها! بدؤوا يصوِّرون لهم الإلحاد على أنه هو المعتقد الصحيح الذي يدل عليه علمهم ويدعمه.

    إن ثقة الناس الشديدة بالعلوم الطبيعية هي التي تجعلهم يعتقدون صحة كل ما يقال لهم: إن هذا العلم يدل عليه. وقد علمت علماً مباشراً بتأثُّر بعض شباب العالم الإسلامي، بل العربي منه بهذه الفتنة. ولعل من أسباب ذلك أن الدارسين منهم لفروع هذه العلوم لا يعرف - حتى المتدين منهم - ما يتعلق بهذه القضايا في دينه، فيكون مثله في ما يتعلق بها كمثل زميله الغربي، ولعل من أسباب ذلك أيضاً قلة ما يسمى بالثقافة العلمية بين المتخصصين بما يسمى بالعلوم الشرعية. لا أحد بالطبع يتوقع أن يكون كل من جعل همه دراسة التفسير أو الحديث أو الفروع الفقهية أو اللغة العربية متبحراً في العلوم التجريبية، كما أنه لا يُتوقَّع من كل متخصص بفرع من العلوم التجريبية أن يكون إلى جانب ذلك متبحراً في الدراسات الشرعية. بل إنه لا يُتوقَّع ممن تخصص بفـرع من العلوم التجـريبية أن يكون عالماً بها كلها؛ فمن تخصص بالفيزياء لا يكون عالماً بالأحياء كعلم المتخصص بها... وهكذا؛ فكيف يُطلَب ذلك من المتخصص بفرع من العلوم الشرعية؟

    ولذلك فإننا إنما نتحدث عن الثقافة العلمية التي تؤهل كلَّ مثقف أن يكون ملمّاً بنتائج تلك العلوم، عارفاً بالقضايا العامة التي تثيرها، أعني القضايا التي يسميها القوم بالفلسفية.

    وكذلك صاحب العلوم الطبيعية بالنسبة للعلوم الشرعية. إن المطلوب منه أن يعرف أمور دينه معرفة عامة وأن يكون ذا صلة مستمرة بكتاب الله - تعالى - حتى يبني تصوُّره العام عليه، بل لا بد له من أن يعرف بقدر من التفصيل بعض ما يتعلق بقضـايا علمه من مسـائل العقيدة؛ لا بد له من معرفة التصور الصحيح لصفات الخالق، تصوُّرِ أئمة أهل السُّنة الذي ربما كان هو السبب الأساس في إنقاذ المسلمين من الإلحاد.

    كيف ذلك؟

    لقد انقسم خصوم أهل السُّنة في هذه المسألة إلى فريقين فريق الجهمية الذين لا يكادون يُثبتُون لله صفة، وفريق المجسِّمة الذين يشبهون الخالق بمخلوقاته مع فارق واحد هو كونه أكبر منها. ولذلك لخص أئمة أهل السُّنة هذين المذهبين بقولهم: الجهمية يعبدون عدماً والمجسمة يعبدون صنماً.

    واضح أن الانتقال من إله الجهمية إلى الإلحاد أمر في غاية الاحتمال. إن المفكر الذي يأخذ اعتقاد الجهمية مأخذ الجد يوشك أن يقول لنفسه: ما الفرق بين أن أقول: إنني مؤمن بشيء لا يوصف بصفة من الصفات، وأن أقول: إنني لا أؤمن بشيء؟ كذلك الانتقال من التجسيم إلى إنكار وجود الخالق؛ فقد يقول الإنسان لنفسه: إذا كان الدليل على وجود الخالق هو كون هذه المخلوقات تحتاج بطبيعتها إلى من يخلقها، وكان هذا الذي يقال إنه خالق هو مثلها مع فارق الحجم، فإنه أيضاً يحتاج إلى خالق؛ لأن الحجم لا تأثير له في كونه محتاجاً إلى خالق.

    إن اهتمام بعض المسلمين بهذه القضايا سيكون فيه بإذن الله - تعالى - هداية للناس المعرَّضين للتأثُّر بمثل هذا النوع من الدعاوى التي تربط بين العلم الطبيعي والإلحاد.

    ذلك أن التصور الصحيح لصفات الخالق هو الذي يثبت لله - تعالى - كل صفات الكمال وينفي عنه كل صفات النقص ويقول مع ذلك: إنه ليس كمثله شيء. هذا التصور - وهو تصور أهل السُّنة المبني على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم - هو الذي سيعصم الناس - بإذن الله تعالى - من الوقوع في شَرَك الإلحاد مهما كانت أنواعها.

  3. #3

    افتراضي

    اضطراب الملحدين 4- 4

    اضطرابهم في العلاقة بين الإيمان ومكارم الأخلاق:



    أودُّ قبل الدخول في هذا الموضوع أن أقول كلمة قصيرة عن المفهوم العربي الإسلامي للأخلاق: الخلق (بضم الخاء واللام) في الاستعمال العـربي هو الطريقة التي يعامِل بها الواحد غيرَه. وبما أنه لا بد لكل أحد من التعامل مع غيره، فلا بد إذن أن يكون لكل أحد خُلُق. وهذا أمر يشمل حتى بعض الحيوانات؛ فعندما بركت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في طريقهم إلى مكة في غزوة الحديبية، قال بعض أصحابه: «خلأت القصواء»، فأجابهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله كما في صحيـح البخـاري: «ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق».

    وبما أن المعاملة لا تكون إلا حسنة أو سيئة، فإن الخُلُق لا يكون إلا حسناً أو سيئاً؛ ولذلك تجد الخُلُق في التعبير العربي وفي الشرع الإسلامي لا يكون إلا موصوفاً بالحُسْن أو السوء. من ذلك وَصْفُه - تعالى - رسولَه الكريم بأنه على خُلُق عظيم، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذى رواه مالك في الموطأ: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». ومَدْحه في أحاديث كثيرة لحُسْن الخلق، وذمُّه لسوئها. لكننا صرنا الآن نقول للسلوك الذميم: إنه سلوك لا أخلاقي؛ ترجمة للكلمة الغربية immoral، وهو تعبير لا معنى له في اللسان العربي؛ لأنه ما من سلوك - حسناً كان أم سيئاً - إلا وهو خُلُقي كما رأينا.

    نعود إلى موضوعنا: ما العلاقة بين الإيمان ومكارم الأخلاق: كالصدق والأمانة والوفاء؟

    هنالك طرفان ووسط في الإجابة عن هذا السؤال:

    طرف يقـول: إن مـن لا يؤمـن بالله لا يلتزم بشيء من مكارم الأخلاق، بل ربما قال: إنه لا يعرف لها معنى.

    وطرف مقابل يقول: إنه لا علاقة ألبتة بين الإيمان بالله ومكارم الأخلاق.

    أما الوسط - وهو الصواب - فيقول: إن مكارم الأخلاق لها أصل في فطرة الإنسان؛ ولهذا يقول ردّاً على الطرف الأول: إن معرفة هذه المكارم واعتبارها شيئاً حسناً أمر يبني عليه الدين مخاطبتَه للإنسان. فكما يفترض الدين أن من يخاطبه مخلوق له عقل، فهو يفترض أيضاً أنه مخلوق يعرف معنى المكارم والمساوئ الخُلُقية؛ فالدين يدعو الإنسان إلى عبادة الله - سـبحانه وتعالى - ويعلل هذا الطلب بأن الله - سبحانه وتعالى - هو المنعـم على الإنسان بكل أنواع النعم. وجوهر العبادة هو الشكر. فإذا كان المرء لا يعرف للشكر معنى، فإنه لن يعقل لخطاب الوحي معنى؛ فالله - تعالى - يقول مثلاً: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 21 الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21 - ٢٢]. إذا كـان المخـاطَــب لا يعرف للشكر معنىً، فربما قال: إنني معترف بأن الله - سبحانه وتعالى - هو الذي أنعـم عليَّ بكـل هـذه النعم ولكن ما معنى كوني أشكره وأعبده؟

    وإذا قال الله - تعالى - في أول آيات من وحيه يخاطب بها الإنسان: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ١ خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ٢ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ٣ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ٤ عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: ١ - ٥]، فربما قال - إذا لم يكن لمكارم الأخلاق أصل في قلبه -: إنني معترف بأن الله - تعالى - هو الذي خلق الإنسان من علق، ولكن ما معنى كونه الأكرم، ولماذا يكون خَلْقُه لي سبباً لعبادتي له؟

    ولكن إذا كان لمكارم الأخلاق هذا الأصل الثابت في الفطرة البشرية، فإنه لا يعني أنه ليس بينها وبين الإيمان بالله - تعالى - صلة كما يدَّعي الملحدون من أمثال دوكنز؛ وذلك أنه:

    أولاً: إذا كانت مكارم الأخلاق في أصل الفطرة، فإن الإيمان بالله - تعالى - هو الآخر في أصلها، بل في أصل أصلها؛ ولهذا فإنه مما يقويها ويثبِّتها؛ فكلما قوي الإيمان بالله - تعالى - كانت هذه المكارم أحيا في قلب الإنسان وكانت مراعاته لها أشد.

    ثانياً: المـؤمـن باللـه تعـالى يعلم أنه - سبحانه - يحب هذه المكارم فهو يحبها بحبه لله، تعالى.

    ثالثاً: كما أنه يحبها بحب الله - سبحانه وتعالى - لها، فإنه يحبهـا ويحـاول الاسـتمسـاك بها بحب رسل الله لها واستمساكهم بها كما قال الله - سبحانه وتعالى - عن رسوله الكريم: {وَإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: ٤].

    رابعاً: إذا كان الإنسان يعلم بفطرته مبادئ الأخلاق الفاضلة، فإنه لا يعلم كلَّ مقتضياتها، الوحي هو الذي يهديه إلى كثير من هذه المقتضيات. إن الإنسان يعلم بفطرته - مثلاً - أن العدل شيء حَسَن، ولكـن هـل يصـل علمـه به إلـى ما وصفه الوحي بمثل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135]؟

    وإذا كان الإنسان يعلم أنه من الخير للناس أن يعيشوا متحابين؛ فهل يعلم كل ما يتنافى مع هذا الهدف، وهل هو مستعد لأن يخالف داعية هواه ليحققه؟ {إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْـخَمْرِ وَالْـمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة: ١٩].

    ينقل دوكنز في إعجاب عن آينشتاين قوله: «إذا كان الناس إنما يكونون خيِّرين لأنهم يخشون العقاب ويرجون الثواب فإننا أمة يرثى لها»(1) .

    فهل تدرون كيف كانت الحياة الشخصية لهذا الفيزيائي الشهير قائل هذا القول؟ أنجب أوَّل طفل له من امرأة قبل أن يتزوجها! ثم لَـمَّا تزوجها وأنجب منها طفلين طلقته بسبب الخيانة الزوجية(2)! . أما زوجته الثانية التي كان عمرها اثنتين وأربعين سنة، فقد رضيت بالأمر الواقع وعاشت معه، رغم اعترفه لها بأن له علاقة بست نساء غيرها!

    خامساً: يكاد المفكرون الغربيون يُجمِعون على أن طلب الجزاء على عمل الخير مما يتنافى مع القيم الخُلُقية، ويرون لذلك أن من شرط العمل الخُلُقي أن لا يكون عليه جزاء. لكن الدين الحق يقرر أن جزاء الإحسان بالإحسان هو نفسه أمر يقتضيه الإحسان: {هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إلاَّ الإحْسَانُ} [الرحمن: 60].

    نعم إن طلب الجزاء الدنيوي على الإحسان أمر يتنافى مع مكارم الأخلاق، لكن هذا لا يعني أن كل جزاء على الإحسان يتنافى معها وإلا كان عمل الخير عبثاً، وكان مَثَله كمثل من يلقي بماله في البحر أو يحرقه؛ لأنه لا معنى للعبث إلا أن يعمل الإنسان عملاً لا يحقق له أي نوع من النفع؛ ولذلك كان من الأدلة على وجود الخالق ضرورةً وجود دار آخرى يثاب فيها المحسِن ويعاقب المسيء، وإلا كان المحسن هو الخاسر؛ ولذلك قال - تعالى -: {أَفَنَجْعَلُ الْـمُسْلِمِينَ كَالْـمُجْرِمِينَ ٥٣ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35 - 36].

    هل معنى ذلك أن الملحد لا يمكن أن يُحسِن أبداً؟ كلا. لكنه إذا أحسن فإن إحسانه لا يكون مبنياً على إلحاده وإنما على دوافع أخرى؛ فقد يصدق لأن من مصلحته أن يفعل ذلك في موقف معيَّن؛ ولذلك فإن أبا سفيان - رضي الله عنه - علل صدقه لهرقل بقوله كما في صحيح البخاري: «فو الله لولا الحياء من أن يأثروا عليَّ كذباً لكذبت». فأبو سفيان الذي لم يكن ملحداً ولكنه كان مشركاً لم يعلل امتناعه عن الصدق اعتماداً على شركه، وإنما اعتماداً على مصلحته؛ لأنه كان يعيش في مجتمع يرى رغم شركه أنه من العيب أن يكذب رجل من سادة قومه. وكذلك الملحد قد يصدق؛ لأن الصدق في مصلحته الدنيوية، ولأن الكذب أو السرقة أو الخيانة تعرِّضه لإشانة السمعة أو للعقوبة أو لأي نوع من أنواع الخسارة المادية. ألا يمكن أن يصدق الملحد لأنه بشر يجد حُسْن الصدق في فطرته؟ نعم قد يصدق إذا لم يكن الصدق ضاراً به كما قلنا. أمَّا أن يصدق رغم أن الصدق يكلفه نوعاً من التضحية، فإنه إن صدق يكون قد فعل فعلاً يتنافي مع معتقده. إن فطرته قد تقول له: اصدق رغم أنك إذا صدقت تخسـر ألف دولار مثـلاً، لكن فكره الإلحادي - إذا كـان واعيـاً به ومنطلقـاً منه - يقول له: إنك تكـون حينئـذٍ مغفَّلاً لا عقل لك. إنك تؤمن بأن هذه الحياة هي فرصتك الوحيدة للاستمتاع بما فيها من لذات؛ فلماذا تضحي بها إذن؟ إن مشكلة الذي لا يؤمن بالله ولا بالدار الآخرة أنه يجد في نفسه نزاعاً بين فطـرته (إذا كان ما يزال محتفظاً بشيء من نقائها) وبين معتقداته؛ ففطرته تدعوه لفعل الخير وإن كان يقتضي شيئاً من تضحية، لكن معتقده يجعل هذا الفعل فعلاً غير عقلاني. وإذن فلا يغرنك عمل خير يصدر عن ملحد أو عن منكر لوجود الآخرة؛ فتظن أن عمله دليل على صحة معتقده أو على أنه لا منافاة بين هذا المعتقد وبين فعل الخير.

    قد يقال: إذا كان الملحد لا يلتزم دائماً بمكارم الأخلاق، فإن المؤمن أيضاً قد يرتكب ما يتنافى معها؟ الفرق بين الاثنين أن الملحد حين يفعل فعلاً يتنافى مع مكارم الأخلاق لا يكون قد فعل فعلاً يتنافى مع معتقده، بل ربما كان معتقده هو الذي يسوغ له هذا الفعل. أما المؤمن فإنه إذا ما وقع في مثل هذا الفعل، فإنه يعلم أنه أذنب؛ ولذلك فإنه - إذا كان صادق الإيمان - يحزن ويستغفر ويتوب، ويعزم على أن لا يعود.

    سادساً: إذا كانت مكارم الأخلاق من الفطرة، فما كل ما في الفطرة مما يظل الإنسان له ذاكراً، وإذا كان الإنسان محتاجاً إلى أن يُذكَّر بالله، فمن باب أَوْلى أن يكون محتاجاً إلى أن يذكَّر بمكارم الأخلاق ويُحَثَّ على الاستمساك بها. وهذا الذي يفعله الدين الحق؛ إذ يذكِّره بالعلاقة القوية بينه وبين دينه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين} [التوبة: 119].

    «البر حُسْن الخُلُق»(3) .

    «إن من أحبِّكم إليَّ وأقربكـم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً»(4) .
    «إياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتَب عند الله كذاباً. وعليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً»(5) .

    ومما استدل به دوكنز على عدم الفرق بين المؤمن بالله والمنكر لوجوده في مسألة الأخلاق تجربةٌ قال: إنه أجراها شخصان: أحدهما عالم أحياء، والآخر فيلسوف أخلاق، ملخصها: أنهما جمعا عدداً من المواطنين من المؤمنين بوجود الله والمنكرين لوجوده وسألاهم أسئلة افتراضية، وطلبا منهم أن يجيبوا عنها بمعايير خُلُقية فيختاروا ما إذا كان العمل المفترض واجباً فعله، أم مباحاً، أم ممنوعاً. وهذا ملخص الأسئلة ونتائجها:
    • قطار إذا تُرِك يسير في خطه المعتاد قتل خمسة أشخاص، وإذا ما حُوِّل قتل شخصاً واحداً؟ أجاب تسعون بالمئة بأنه يجوز تحويله لإنقاذ الخمسة والتضحية بالواحد.

    • ترى طفلاً يكاد يغرق في بركة لكنك إذا أنقذته خسرت بنطالك؟ أجاب سبعة وتسعون بالمئة بأن إنقاذه واجب.

    • خمسة أشخاص في مستشفى يحتاج كلٌّ منهم لعضو لإنقاذ حياته، وهنالك شخص سليم في حجرة الانتظار؛ فهل يُقتَل وتؤخذ أعضاؤه لإنقاذ الخمسة؟ أجاب سبعة وتسعون بالمئة بأنه يُمنَع قتله.

    قال اللذان أجريا هذه التجربة: إنهما لم يجـدا فرقاً كبيـراً في الأجـوبة بين المؤمنين وغير المؤمنين؛ فاستنتجا من ذلك: أنه لا علاقة للإيمان بمسألة الأخلاق.
    لكن على هذه التجربة وما استنتجه اللذان أجرياها ملاحظات، منها:

    أن كون غير المؤمن له معرفة ببعض مكارم الأخلاق وتطبيقه لها أمر لا يحتاج إلى تجربة كما قررنا من قَبْل.

    ومنها: أنه من السهل على الإنسان مؤمناً كان أم غير مؤمن أن يلتزم بالمعيار الخُلُقي الكريم إذا لم يقتض منه تضحية. والأسئلة التي سألها أصحاب التجربة كلها من هذا النوع ما عدا قصة البنطال الذي كان يمكن أن تضحي به حتى بعض الحيوانات. ماذا لو تضمَّنت الأسئلة سؤالاً، مثل:

    إذا اتُّهم شخصان بسرقة شيء وكان أحدهما بريئاً وكنتَ تعلم أن المجرم هو ابنك؛ فهل تشهد بأنه هو السارق؟
    إذا ارتكبت جرماً يعرضك للحبس أو الغرامة الكبيرة وقال لك محاميك: إنه لا مخرج لك إلا أن تكذب؛ فهل يجوز لك ذلك، أم يجب، أم يمنع؟
    ومنها: أن الآثار السلوكية والخلقية الحسنة للإيمان بالله لا تكون بمجرد الإيمان بوجوده. لقد كان العرب في جاهليتهم يؤمنون بوجود الخالق، بل بكونه هو الذي يحي ويميت ويرزق وينجي لكن بعضهم كان مع ذلك يئد البنات. إن الإيمان الحق هو الإيمان بخالق متصف بصفات الكمال، وبأنه يبعث الناس ويحاسبهم، وبأنه يرسل رسلاً وينزل كتباً لهدايتهم.

  4. #4

    افتراضي

    شكرا جزيلا على اكمال المقالات اخي الكريم
    حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أم ماذا كنتم تعملون

    http://hamzatzortzis.blogspot.com/

  5. #5

    افتراضي

    دوكينز انسان يقول انه يحارب التعصب وهو متعصب لفكره
    انظر لهذا الفيديو كيف يسخر من الفتاة المسكينة ويحور كلامها تعصب وتكبر
    http://www.youtube.com/watch?v=xyusSZ5Z1ek

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. تنبيه: اضطراب الملحدين للبروفسيور جعفر إدريس
    بواسطة مجرّد إنسان في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 01-24-2011, 06:34 PM
  2. تحريم الشيوعية... أ.د.جعفر شيخ إدريس
    بواسطة الفرصة الأخيرة في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 10-23-2007, 10:28 PM
  3. مفهوم العقل ... أ.د جعفر شيخ إدريس
    بواسطة الفرصة الأخيرة في المنتدى قسم الحوار العام
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 03-02-2006, 03:38 PM
  4. مفهوم العقل .. د.جعفر شيخ إدريس
    بواسطة الفرصة الأخيرة في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 12-22-2005, 03:02 AM
  5. موقع (د. جعفر شيخ إدريس)
    بواسطة أبو عبيدة في المنتدى المكتبة
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 09-25-2004, 03:54 PM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء